للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

[يا فوكوياما! نحن مع التحديث وأبعد الله التغريب]

أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]

إنَّ أمر بعض الكتاب الغربيين لعجب. إنهم يعترفون بأن بلادهم تعاني من

مشكلات أخلاقية واجتماعية توشك أن تهوي بها في مكان سحيق؛ لكنهم يودون مع

ذلك من كل عباد الله في سائر بلاد الله أن يتبنوا قيمهم التي توشك أن توردهم موارد

الهلاك، وإلا كانوا أعداء للحداثة مكتوباً عليهم أن يعيشوا ويموتوا متخلفين. إن

توهم اللزوم بين القيم الغربية في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع الذي بدأ

يشيع في عصرنا منذ زمن طويل، والذي جعل بعض المفسدين ينادي بأخذ كل

شيء من الغرب حتى الديدان التي في بطونهم! إن هذا التوهم أسطورة تقوم على

عدم التمييز بين الأسباب الفاعلة والملابسات العارضة، كالذي يقول لك إنك لا

يمكن أن تأخذ التقنية منهم وتترك رقصهم وأغانيهم وتحريمهم الزواج بأكثر من

واحدة، وينسى أو يتناسى أن هذه كانت سيرة القوم قبل أن يكون لهم علم طبيعي أو

تكون لهم تقنية، فلا علاقة لهذا بذاك ولا بالعصر الذي نعيش فيه.

لقد كتب فوكوياما كتاباً أسماه بـ (الانفراط العظيم) ذكر فيه كما قلت في

تلخيص له بهذه المجلة المباركة أن الدول الصناعية كلها تعاني من تفكك اجتماعي

عزا معظمه إلى تفكك في الأسرة، وذكر أن من أسباب تفكك الأسرة اختلاط النساء

بالرجال في أماكن العمل، وانتشار حبوب منع الحمل، ونظريات جعلت الإباحية

تحرراً، وأن هذا كله أدى إلى ازدياد في معدلات الخيانات الزوجية، ومعدلات

الطلاق. وأن تفكك الأسرة أدى إلى سوء تربية الأطفال، وإلى نقص في ما يسمونه

بالرأسمال الاجتماعي: نقص في الثقة في الزعماء السياسيين، ورجال الدين،

وازدياد في معدلات الجريمة، وتعاطي المخدرات.

أَلِمِثْلِ هذا يدعونا فوكوياما اليوم إذ يدعونا إلى تبني القيم الغربية، وإذ يزعم

أن دعوته هذه ليست ناتجة عما يسمى بالعمى الثقافي؛ وإنما لأن القيم الغربية هي

القيم العصرانية الصالحة لأن تكون عالمية، وأننا إذا لم نأخذ بها فلا أمل لنا في

تحديث مجتمعاتنا؟ إن لم يكن هذا عمى ثقافياً فلست أدري ما العمى الثقافي؟ !

ولكن ماذا نقول لفوكوياما؟ نقول:

أولاً: إن التحديث في جوهره إنما هو الأخذ بكل الوسائل العلمية والتقنية

والإدارية التي يتطلبها العصر والتي لا تكون الأمة بغيرها أمة قوية في اقتصادها

وسلاحها وإعلامها؛ فهل وجد فوكوياما في الإسلام ما يتناقض مع شيء من هذا؟

ألم يأخذ المسلمون في تاريخهم بكل ما تطلَّبته عصورهم المختلفة في هذه المجالات

حتى صاروا إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي القوة العالمية الأولى في مجال

التقدم العلمي والتقني والسلاح البري والبحري؟ فإذا كانوا قد حققوا كل هذا في

الماضي مع استمساكهم بدينهم فما الذي يمنعهم من تحقيقه تارة أخرى من غير ترك

لهذا الدين؟ إن تخلف المسلمين المعاصر في هذه المجالات إن عزي إلى أي شيء

فلا يمكن أن يعزى إلى دينهم؛ إذ ما الذي يجعلهم يَعْمَوْنَ فجأة عن حقيقة دينهم

فيرونه متناقضاً مع أمور كانت من أسباب قوتهم واستعلائهم؟

لكن فوكوياما كأمثاله من الغربيين والمستغربين يريد أن يقول لنا إن للتحديث

شرطاً آخر ضرورياً يتناقض مع ديننا: إنه العلمانية، فصل الدين عن الدولة،

وجعل الدين أمراً فردياً خاصاً.

ثانياً: إن فصل الدين عن الدولة في بلادكم شيء اخترتموه طائعين، لم

يفرضه عليكم أحد. ونحن اخترنا غير ما اخترتم. فلماذا تريدون أن تفرضوا علينا

ما لا نريد؟

ثالثاً: إن اختياركم كان لظروف خاصة بتاريخكم وطبيعة دينكم والحروب

التي نشأت بينكم، ومنها الحرب التي تذكرونها دائماً أعني حرب الثلاثين عاماً

ونحن أصحاب تاريخ مختلف عن تاريخكم، ودين مختلف عن دينكم ولم يحدث

عندنا ما حدث عندكم.

رابعاً: إنكم تقولون إن السلم المدني لا يتأتى إلا في نظام علماني لا يكون

للدين فيه نصيب. لكن تاريخكم يحدثنا بأن العلمانية لم تحقق هذا السلم على

المستوى العالمي، بل إن أول حربين عالميتين في تاريخ البشرية حدثتا عندكم وبين

بلاد علمانية، ونتج عنهما من الضحايا البشرية والدمار والفساد ما لم يكن له مثيل

في تاريخ البشرية.

خامساً: إنه إذا كان دينكم لا يقبل العيش مع الأديان الأخرى، فإن ديننا يقبل

مثل هذا التعايش ويعطي غير المسلمين من حرية العبادة وتسيير شؤونهم الخاصة ما

لا تعطيه العلمانية. نعم إن هنالك مناطق مستثناة من هذا التعايش، لكن ليس من

شرط التعايش أن تفتح أراضي المسلمين كلها لغير المسلمين. فالقول بأن

«التسامح» لا يتحقق إلا في دولة علمانية دعوى لا سبب لها إلا العمى الثقافي.

سادساً: وإذن فالقول بأن مشكلة المسلمين مع الحضارة الغربية هو تسامحها

الديني، أو ديمقراطيتها ليس بصحيح. لماذا يعادي المسلمون نظاماً يسمح لهم بأن

يدعو إلى دينهم؟ لماذا ودينهم بسبب تلك الحرية هو أكثر الأديان نمواً في

الولايات المتحدة؟ ليس المسلمون هم الذين يكرهون هذا ويريدون إيقافه،

وإنما هم المتعصبون المتشنجون من بعض المتدينين وبعض الملحدين؛ فرجاء لا

تخلطوا الأوراق كما يقولون.

سابعاً: إن كثيراً من الغربيين أنفسهم يرون أن العلمانية سبب أساس إن لم

تكن السبب الأول لتلك الأمراض التي ذكر فوكوياما أن المجتمعات الصناعية كلها

تعاني منها، والتي سرت عدواها إلى العالم كله بما فيه عالمنا الإسلامي بسبب

إصرار بعضنا على التقليد الغبي لكل ما هو غربي.

ثامناً: عجباً لأمر الغربيين الذين يقولون إن ديننا هو سبب ضعفنا وتخلفنا.

أفتراهم حريصين على أن نكون أقوياء؟ كيف وهم يعدوننا العدو الأول بعد سقوط

الشيوعية؟ كيف وهم يرون أن الصدام بين الحضارات قادم لا محالة؟ أفيريدون

لعدوهم أن يملك من القوة ما يملكون؛ ولذلك فهم ينصحونه أن يأخذ بأسبابها التي

منها إقصاء الدين؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

تاسعاً: إن فصل الدين عن الدولة لا يكون إلا بتحريف الدين أو عدم الإيمان

بشيء منه. لكن الكفر بشيء مما أنزل الله هو كفر بالله؛ لكنه مع ذلك أمر مرد

عليه اليهود والنصارى منذ أزمان سحيقة؛ فلا عجب أن يسهل عليهم اليوم وهم

يقرؤون كتباً دلتهم دراساتهم الحديثة أنها ليست قطعاً بالكتب التي أنزلها الله على

رسله، وبرهنت لهم أن فيها أقوالاً مخالفة للحقائق التي اكتشفتها العلوم التجريبية.

بل إن المتحررين منهم وهم الأغلبية الآن يعتقدون أنه إنما كتب هذه الكتب بشر

عاديون، وأنهم تأثروا في كتابتها بالظروف الثقافية السائدة في عصورهم، وأنه ما

دامت ظروفنا الثقافية اليوم مختلفة عن ظروفهم فلا يلزمنا أن نلتزم بكلام كتب في

زمان غير زماننا. وهم لهذا السبب يبيحون أموراً كالشذوذ الذي تعده كتبهم من

الجرائم.

لكننا - نحن المسلمين - مختلفون عنهم في هذا كله؛ فنحن موقنون بأن

الكتاب الذي بين أيدينا هو كلام الله الذي أنزل على رسولنا، نقرؤه بلغته التي أنزل

بها ولا نجد فيه رغم تطاول الزمن ما يخالف حقيقة من ملايين الحقائق العلمية التي

اكتشفت بعد نزوله. بل إننا لنرى في كل يوم مصداق ما به أخبر، والحكمة في ما

عنه نهى أو به أمر؛ فلماذا نترك حقنا لباطلكم؟

أقول هذا مع أنني أعلم أن أمثال فوكوياما لا يمثلون رأي المتدينين في تلك

البلاد، بل إن فيهم من يخالفه خلافاً جوهرياً في أساس منطلقاته التي لا تعطي للدين

اعتباراً.

هذا، وسيرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.


(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.