للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[الإسلام والغرب تعاون أم مواجهة؟]

د. محمد مورو

هناك الآن أكثر من اتجاه بشأن العلاقة بين الإسلام والغرب، أو الإسلام

وأمريكا باعتبارها الممثلة الكبرى للحضارة الغربية.

فهناك الغرب وأمريكا وبعض القوى المحلية عندنا تدعونا إلى الالتحاق

بالركب الحضاري الغربي، والاندماج في الحضارة الغربية والتخلي عن ديننا

وحضارتنا وقيمنا، أو على الأقل قصر علاقتنا به على العبادة الفردية ودعوى

الضمير، وهؤلاء يقولون إنه قد ثبت أن الحضارة الغربية حضارة عظيمة ويجب

أن تسود العالم، أو يقولون إنه لا أمل ولا فرصة للمواجهة ومن الأفضل أن ننصاع

لها، وهؤلاء فيما أحسب مخادعون؛ فلا الحضارة الغربية حضارة عظيمة، ولا

هي حضارة ذات أخلاق، ولا هي قدر مقدور لا يمكن الفكاك منه، فهؤلاء بالتحديد

يدعوننا إلى الاستمرار في أداء دور الضحية والذبيحة؛ وخاصة بعد أن شحذ

الجزار سكينه وأصيب الآكلون بنهم شديد، وفضلاً عن أننا سنكون مجالاً للنهب

فإنهم يطلبون منا أن نتخلى عن قيمنا وذاتيتنا ومبادئ ديننا وحضارتنا؛ وهذا بالطبع

مرفوض.

واتجاه آخر يقول إن الحضارات تتفاعل بعضها مع بعض أو تتزاوج، وإن

الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية؛ أي أنها استفادت من كل

الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة

الإنسانية كلها، وهذا الرأي خطير وبراق ولكنه خطأ، ولكي نعرف أنه خطأ ينبغي

علينا أن نفرق بين أمرين أحدهما «التفاعل والتزاوج» والآخر «التعاون» ؛

فالتفاعل والتزاوج لا يتم إلا بين حضارات أو إبداعات حضارية من عائلة واحدة

مثل الحضارة الرومانية واليونانية والإغريقية والجرمانية والسكسونية وهكذا..

وهذا التفاعل والتزاوج لا يتم بين حضارات من عائلات مختلفة؛ أي مختلفة نوعاً

وكماً، فلا يمكن مثلاً الحديث عن تمازج وتزاوج حضاري بين حضارة تقوم على

الوثنية كالحضارة الغربية وأخرى تقوم على التوحيد كالحضارة الإسلامية، والأمر

هنا أشبه بعمليات التطعيم التي تتم في النباتات، فلا بد لكي تنجح عملية التطعيم

هذه أن تكون بين أنواع معينة من النباتات تنتمي إلى عائلة واحدة، أو عائلات

متقاربة، ولكن هذا التطعيم يخفق تماماً إذا ما تم بين شجرتين لا تنتميان إلى عائلة

أو عائلات نباتية متقاربة.

وفي الحقيقة فإن إمكانية التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة

الغربية أمر مستحيل؛ لأن أي دراسة متعمقة للأساسات التي قامت عليها كل من

عائلة الحضارة الإسلامية وعائلة الحضارة الأوروبية لا تترك مجالاً للشك في أن

لكل منهما طريقاً مختلفاً وسياقاً خاصاً؛ ولهذا يهدف الحديث عن التواصل

الحضاري أو التفاعل أو التزاوج الحضاري إلى الإلحاق والتبعية الحضارية

باعتباره جزءاً أساسياً في عملية الإلحاق الاقتصادي والثقافي والسياسي والسيطرة

العسكرية.

وينبغي في هذا الصدد أن نلتفت إلى مجموعة من النقاط؛ فالداعون إلى

الاندماج في الحضارة الغربية ينسون نقطة أساسية، وهي أن الحضارة الغربية لن

تقبل الاندماج بها، وأن يصبح غيرها جزءاً منها يستمتع بالحقوق الحضارية معها،

إنهم فقط يعنون بالاندماج أن نظل تابعين، وأن نظل مجالاً للنهب دون مقاومة،

ففرنسا مثلاً التي أدمجت الجزائر فيها وجعلتها جزءاً من فرنسا لم تقبل أن تعطي

الجنسية الفرنسية للجزائريين مثلاً، ولم تقبل أن يكون لهم حقوق الانتخاب نفسها

التي للفرنسي مثلاً!

والداعون إلى التزاوج والتفاعل الحضاريين مع الحضارة الغربية ينسون

الظروف المشبوهة التي ظهرت فيها مثل هذه الدعوة، فهذا الموضوع لم يطرق

بعيداً عن غايات ذات علاقة بالصراع الدائر بين القوى الاستعمارية والشعوب

المقهورة والمستضعفة، فعندما طرح منظرو أوروبا هذا الموضوع كانوا في أغلبهم

يرمون إلى سيادة الحضارة الأوروبية على العالم بكل ما تحمل من فلسفات وقيم

ومعايير ومفهومات؛ وذلك من خلال الترويج للحضارة الأوروبية وضرب

الحضارات الأخرى، أو طمسها، أو الإنقاص من قدرها أو خلطها بما يلغيها،

وهو أمر يؤدي بالشعوب إلى فقدان هويتها ومقومات شخصيتها الأساسية، وإلى

ضرب عوامل وجودها المادي والثقافي المستقل، فتصبح مكشوفة أمام طغيان

المستعمرين ثم تتحول إلى تابع ذليل تلتقط الفتات، وتقف على العتبات دون السماح

لها بالدخول إلى صدر البيت.

والشيء الوحيد الممكن في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية

ولو من الناحية النظرية هو «التعاون» على أساس استقلال كل منهما، وعلى

أساس انفراد كل منهما بخصائصها الذاتية المتميزة دون أن تحاول السيطرة أو ظلم

أو نهب الأخرى، والإسلام بالطبع يرحب بالتعاون ويدعو إليه في إطار الاحترام

المتبادل والعلاقات المتكافئة، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية التخلي عن النهب

والظلم والعنصرية والعنف من أجل هذا التعاون؟ !

لنأخذ مثلاً مجال العلوم الطبيعية، وهذه الأطروحة تنقسم إلى قسمين: قسم

خاص بالحقائق العلمية والمكتشفات العلمية، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في

اتجاه معين؛ أي لإنتاج سلعة ضرورية مثلاً أو كمالية؛ للقضاء على مرض أو

لنشر مرض، لإنتاج أدوات تسعد الإنسان أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، لإصلاح

البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها.

أي أن هناك شقاً علمياً وشقاً قيمياً، والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت

متقدمة علمياً، كانت توجه هذه العلوم لإسعاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر، بل

كانت تسعى سعياً لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين؛ لأن حبس العلم جريمة في

الفقه الإسلامي. أما الحضارة الغربية فإنها عندما تقدمت علمياً استخدمت منجزات

العلم في تحقيق أكبر وسائل النهب وقهر الشعوب الأخرى وظلمها، بل إنها أيضاً

تحجب العلم عن الشعوب الأخرى، بل تحاكم من يجرؤ على نقل شيء منها لبلاده

«قضية الدكتور المهندس عبد القادر حلمي مثلاً» ، بل تغتال كل من ينجح علمياً

في البلاد الأخرى.

على أي حال من الناحية النظرية يمكن التعاون في الاستفادة من العلوم

الطبيعية ونقلها، دون ربط ذلك بغايات وأهداف استخداماتها؛ أي في الشق العلمي

دون الشق القيمي، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية ذلك وهي التي تغتال العلم،

وتحرم نقل العلم وتحاكم من يفعل ذلك، بل تضرب أي نهضة علمية في أي مكان

خارج دائرتها الحضارية؟ !

نؤكد مرة أخرى أن الإسلام يحض على التعاون، ويحرص عليه، ولكن

التعاون ليس الاندماج والتزاوج والإلحاق، التعاون يقوم على استقلال حضاري

كامل؛ فالحضارة الغربية عندما نقلت العلوم الطبيعية من الحضارة الإسلامية أخذتها

دون شقها القيمي، أخذتها وهضمتها ووجهتها وفقاً لمعاييرها الحضارية، وجهتها

للتدمير والتلويث والإفساد وتحقيق أكبر قدر من آليات النهب، أما نحن فمن

المفروض أن نأخذ العلوم الطبيعية من الغرب دون شقها القيمي فنهضمها، وتصبح

جزءاً من شخصيتنا الحضارية المستقلة فنوجهها طبقاً لمعاييرنا وقيمنا الحضارية في

إسعاد الإنسان وتحقيق الرفاهية لكل البشر وليس لنا وحدنا.

هل هناك فرصة للتعاون مع الغرب؟

قلنا: إنه لا يمكن ولا نقبل لا الإلحاق الحضاري مع الغرب، ولا التزاوج

والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية؛ لانتمائهما إلى عائلتي

حضارتين مختلفتين، ولأن هذا في النهاية يعني التحول إلى تابع ذليل يظل خاضعاً

للنهب والسيطرة. وقلنا إن العلاقة الصحيحة بين الحضارة الإسلامية والحضارة

الغربية هو التعاون على أساس الاستقلال الحضاري الكامل والشخصية الحضارية

المستقلة؛ ولكن هل هناك فرصة للتعاون؟ هل يقبل الغرب هذا التعاون؟ هل

تاريخنا معه يسمح بذلك؟ وهل تركيبة الحضارة الغربية تسمح بذلك؟

إن تركيبة الحضارة الغربية تقوم على النهب والقهر والعنصرية، ورخاء

ورفاهية أهل الحضارة الغربية جاء من نهب ثروات الشعوب الأخرى واسترقاق

أهلها، ولكي تستمر هذه الرفاهية لا بد أن يستمر النهب والقهر، فهل أهل

الحضارة الغربية مستعدون للتوقف عن النهب والقهر؛ والعنصرية؟ هل هم

مستعدون للتخلي عن رفاهيتهم القائمة على ثروات الآخرين من أجل التعاون معنا أو

مع غيرنا؟

أعتقد أن ذلك صعب، بل يبدو مستحيلاً، ومن ثم فإمكانية التعاون بشروطها

الصحيحة صعبة أيضاً، بل تبدو مستحيلة، حتى إذا حدثت المعجزة وتخلى أهل

الشمال عن القهر والعنف والعنصرية؛ فماذا يبقى من الحضارة الغربية؟ إنهم

يسقطونها تماماً، إنهم يفقدونها سماتها الأساسية؛ أي يقبلون الاندماج في نمط

حضاري آخر، وفي حالة دخولهم في النمط الحضاري الإسلامي مثلاً، فإننا لن

نعاملهم معاملة التابع، بل معاملة الإسلام التي تقول إنهم أصبحوا مثلنا تماماً لهم ما

لنا وعليهم ما علينا.

وإذا كانت تركيبة الحضارة الغربية لا تسمح بالتعاون إلا بانتفاء خصائص

الحضارة الغربية ذاتها، ومن ثم فالتعاون هنا صعب ويكاد يكون مستحيلاً، ورأي

أهل الحضارة الغربية فينا وموقفهم منا لا يسمح بقيام مثل هذا التعاون؛ فهم

ينظرون إلينا نظرة صليبية عنصرية حاقدة لا تقبل بأقل من تدمير حضارتنا تماماً.

وفي قول لا يخلو من الدلالة يقول المعلق السوفييتي فاسلييف: «إن أمريكا الآن

تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه إمبراطورية الشر الجديدة التي حلت محل الاتحاد

السوفييتي السابق الذي كان إمبراطورية الشر القديمة، والتي تركزت كل الجهود

الأمريكية خلال أكثر من أربعين عاماً للقضاء عليها» .

وهذا المعلق السوفييتي فاسلييف استخدم في الحقيقة المصطلح المستخدم دائماً

من قبل الأوروبيين والأمريكيين تجاهنا؛ فالبابا أوربان الثاني الذي فجر الحروب

الصليبية قال في مجمع كلير مونت في سنة ١٠٩٥م: «إن إرادة الرب تحتم على

المسيحيين تخليص بيت المقدس من أيدي إمبراطورية الشيطان» ، وعندها خر

الكهنة الحاضرون راكعين تحت قدمي البابا!

والبارون دي كارافو يقول: «أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق

العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات

السياسية والعرقية، دعونا نمزق الإسلام بل نستخدم من أجل ذلك الفِرَق المنشقة

والطرق الصوفية، وذلك لكي نضعف الإسلام؛ لنجعله عاجزاً إلى الأبد عن صحوة

كبرى» [١] .

ويقول بوجين روستو اليهودي: «إن الحوار بين المسيحية والإسلام كان

صراعاً محتدماً على الدوام، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب؛ أي

خضعت الحضارة الإسلامية للحضارة الغربية، والتراث الإسلامي للتراث المسيحي،

وتركت هذه آثارها البعيدة في المجتمعات الإسلامية» [٢] .

يقول لورانس براون: «لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار

لم نجد مسوغاً لهذا الخوف، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر

الأصفر وبالخطر البلشفي إلا أن هذا التخويف كله لم نجده كما تخيلناه، إننا وجدنا

اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهِد لهم عدونا اللدود، ثم رأينا

البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر» الصين، اليابان «فإنها ليست خطيرة

لهذه الدرجة، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع

والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي» [٣] .

ويقول مورو بيرجر في كتابه «العالم العربي» : «لقد ثبت تاريخياً أن قوة

العرب تعني قوة الإسلام؛ فليدمروا العرب ليدمروا بتدميرهم الإسلام» [٤] .

ويضيف مورو بيرجر: «إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية

ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل بسبب الإسلام، ويجب

محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب؛ لأن قوة

العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره» [٥] .

ويقول ج. سيمون: «إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر

وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية» [٦] .

ويقول سالازار دكتاتور البرتغال السابق: «إن الخطر الحقيقي على

حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم» ! ولما سأله

أحد الصحافيين: ولكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم عنا، أجابه: «أخشى أن

يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا» [٧] .

ويقول ريتشارد هرير دكمجيان: «إن قلة فقط خارج نطاق العالم الإسلامي

كانت قادرة على توقع انبعاث إسلامي في البيئة المعاصرة، وإن ضعف البصيرة

في مجال التصور الذي أحدثته المادية الغربية والماركسية قد أعمى بقوة كل العلماء

ورجال الدين الذين مالوا إلى استبعاد قوة الإسلام أو التقليل من شأنها» [٨] .

ويحذِّر المفكر الألماني باول شمتز قائلاً: «سيعيد التاريخ نفسه مبتدئاً من

الشرق، عوداً على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في

الصدر الأول للإسلام، وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته

العسكرية، وستثبت هذه القوة وجودها، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها

والاستفادة منها، وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها

من تيارات القوى العالمية» [٩] .

ويقول المفكر الإنجليزي هيلد بيلوك: «لا يساورني أدنى شك في أن

الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين، وتتماسك أطرافها تماسكاً قوياً، وتحمل

في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضاً

خطراً على أعدائه» [١٠] .

وما بين الحقد على الإسلام، وكراهيته، والدعوة إلى تدميره والقضاء عليه

أو التخويف منه ومن خطره التي تسود الروح الفكرية الأوروبية على اختلاف

مدارسها؛ هل هناك فرصة للتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية؟

الإجابة: هذا صعب بالطبع.

وإذا تركنا كل ما سبق والتفتنا قليلاً إلى التاريخ، نجده مفعماً بالصراع الدامي

الذي خاضته الحضارة الأوروبية ضد الإسلام للقضاء عليه، وخاضه الإسلام دفاعاً

عن نفسه، ونشراً لقيمه، وإنقاذاً للعالم من الظلم والطغيان.

خاض الإسلام معارك شرسة ضد الحضارة الأوروبية المتوحشة منذ اللحظة

الأولى، واستطاعت جيوش الإسلام أن تنتصر في اليرموك وعمورية

وحطين، ثم بدأت أوروبا تستعيد المبادرة فظهرت الحروب الصليبية بدءاً من سنة

١٠٩٥م وحتى ١٢٩٤م في المشرق العربي، أما في المغرب العربي فإن الإسلام

استطاع أن يفتح إفريقيا والأندلس.

واستمرت المعارك مع الحضارة الغربية في الأندلس ثمانية قرون، وفي بلاد

المغرب العربي ألف عام [١١] قبل دخول الأندلس وأثناء الحكم الإسلامي للأندلس

وبعد سقوط الأندلس، ولم يتوقف الصراع مع الحضارة الغربية لا في الشرق ولا

في الغرب، ففي الشرق ظهرت الخلافة العثمانية واستطاعت أن تنقذ العالم

الإسلامي من السقوط، ودخلت في معارك طاحنة مع أوروبا انتهت بفتح

القسطنطينية ١٤٥٣م على يد محمد الفاتح، وانتشرت جيوش الإسلام في أوروبا

مرة أخرى تعاود الهجوم، وتعرضت الخلافة العثمانية إلى ضغط رهيب انتهى

بسقوطها، وقبل ذلك بقليل بدأت أوروبا حملتها الصليبية الثانية على العالم والمسماة

باسم الاستعمار بدءاً من هجوم نابليون ١٧٩٨م وانتهاء بسقوط معظم بلاد العالم

الإسلامي في قبضة الاحتلال الأوروبي، وفي المغرب العربي ظلت أوروبا ترسل

حملاتها الصليبية إلى المغرب بعد سقوط الأندلس، فتعرضت الجزائر وحدها إلى

١٠٠ حملة صليبية في أقل من ٣٠٠ عام؛ بعضها برتغالي والآخر فرنسي أو

إنجليزي أو إسباني أو ألماني أو بلجيكي بل وأمريكي، وانتهى الأمر بسقوط

الجزائر في يد الاستعمار الفرنسي عام ١٨٣٠م، ثم تبعها المغرب وتونس.

إذن فبرغم أننا لا نرفض التعاون مع الحضارة الأوروبية في إطار الاستقلال

الحضاري لكل منا، فإنه لا التركيبة الحضارية الغربية تسمح بذلك، ولا رأي

قادتها فينا وأهدافهم تجاهنا تسمح بذلك، ولا تداعيات التاريخ القديم والحديث تسمح

بذلك؛ وعليه لكي نعيش، ولكي لا نخضع ونذوب وننتهي لا بد من المواجهة.

حرب شاملة في مواجهة حرب شاملة:

إذن فالمعركة حتمية، ولا سبيل هناك إلا المواجهة، أو الموت، حتى

المواجهة مع الهزيمة ربما تعطينا الفرصة في الصمود والحفاظ على البذور صالحة

تحت التربة؛ لتعود من جديد لتثمر في مرحلة أخرى، ولكن الانصياع والخضوع

لا يعني فقط خسائر هائلة في الحاضر بل يعني تدمير المستقبل؛ لأنها تطال البذور

الكامنة تحت التربة.

والمعركة هنا معركة حضارية شاملة، أي سياسية واقتصادية واجتماعية

وعسكرية وثقافية، والغرب يستخدم معنا كل الوسائل السياسية والعسكرية،

والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية أيضاً، وما دام الغرب يشن علينا حرباً شاملة

فلا بد من مواجهته بحرب شاملة: نواجهه بالكفاح؛ حتى إذا سلمنا بصحة مقدمة

هؤلاء وهي أن الغرب وأمريكا أقوياء بدرجة لا يمكن مواجهتها، فإن النتيجة التي

توصلوا إليها خطأ؛ لأن معنى مثل هذه القوة الهائلة للغرب وأمريكا أن الخضوع

لهم سيؤدي إلى النهاية والموت والاندثار، وأن الخضوع لن ينقذنا ولن يحقن دماءنا،

بل إن الخضوع سيتسبب في خسائر أكثر من المواجهة حتى لو كانت غير متكافئة،

على الأقل فالمواجهة سوف تقلل الخسائر، وسوف تسمح للبذور الكامنة تحت

التربة بالبقاء بعيداً عن يد الغرب؛ فتعود لتثمر في فرصة أخرى مستقبلية.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارة الغربية تحمل في داخلها الكثير من نقاط الضعف

التي ينبغي الصمود واستثمارها أو الصمود وانتظار أن تؤدي تلك المواقع الضعيفة

في جسد الحضارة الغربية إلى انفجار داخلي، فالإنسان في الحضارة الأوروبية مثلاً

يفتقد التوازن بين حاجاته المختلفة، ويفتقد التوازن في علاقاته مع الجماعة، وهذا

يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية، والجريمة، والانحراف والشذوذ الجنسي،

وزيادة استهلاك الخمور والمخدرات إلى حدود أصبحت تهدد حياة مئات الملايين من

سكان أوروبا وأمريكا، وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط أو الطويل إلى

انهيار الحضارة الغربية من داخلها.

أضف إلى ذلك أن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من النهب وعدم التورع عن

استعمال أقصى قدر من العنف، ومع تزايد قوة الأسلحة الفتاكة يجعل العجلة

العسكرية تدور بلا توقف؛ مما يجعلها في النهاية قابلة للانفجار من داخلها أو

بالتصادم بعضها مع بعض، وإذا كانت الحرب العالمية الثانية التي نشأت بسبب

التنافس على الربح بين دول كلها تنتمي إلى الحضارة الغربية إذ كانت قد أدت إلى

قتل ٦٢ مليون إنسان معظهم من الأوروبيين؛ فكم يا ترى سوف يقتل في المعركة

المسلحة والحرب الشعبية؟

وعلينا أن نواجهه بالوسائل السياسية، ونواجهه برفض الخضوع لوسائل

النهب التي يمارسها من خلال بناء نمط اقتصادي مستقل وغير تابع يعتمد على قوانا

الذاتية، ويقطع تماماً خيوط التبعية مع الغرب، ونواجهه أيضاً بتصفية كل مراكز

الثقافة المغتربة وكل أشكال الاختراق الثقافي، ونواجهه بثورة ثقافية شاملة تعتمد

على تأكيد قيمنا الحضارية، ونواجهه بالوحدة ورفض التجزئة التي فرضها علينا،

ونواجهه بتعبئة شعبية شاملة، ونواجهه بحرب حضارية شاملة في مواجهة حرب

حضارية شاملة.

ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة خطيرة، وهي أن أخطر هذه المواجهات هي

على الجانب الثقافي؛ لأن الاختراق الثقافي يدمر حياتنا من الداخل، ويقلل قدرتنا

على المواجهة، ويضرب فينا قيمنا الإيجابية مثل الجهاد والوحدة والرفض،

ويجعلنا عاجزين عن المواجهة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولا

بد أن ننتبه إلى أنه ما دامت الحرب حضارية وشاملة فليس من المعقول مثلاً أن

نستخدم قيماً ووسائل واستراتيجيات مستمدة من الغرب لمحاربته بها، ومهما كانت

برَّاقة فإنها لن تجدي في مواجهته، فكيف أواجهه على أرضيته الثقافية والحضارية؟

لا بد أن أواجهه بأساليب وتكتيكات وقيم ووسائل واستراتيجيات مستمدة من ذاتنا

حتى تظل قادرة على الاستمرار.

هناك من يروجون أنه لا قدرة ولا سبيل إلى مواجهة الغرب وأمريكا، وأن

توازن القوى مختل تماماً لصالحهم، وأنه لا داعي للمواجهة لأنها لن تفيد، وأنه من

الأفضل الخضوع أو البحث عن سبيل للتفاهم، وإذا كنا ندرك أنه لا سبيل للتفاهم

فإن المتاح وفقاً لمنطق هؤلاء هو الخضوع فقط، مع العلم أن القدرات التدميرية

لتلك الدول أصبحت هائلة بالمقارنة بمثيلتها أثناء الحرب العالمية الثانية، وبالإضافة

إلى ذلك فإن الرغبة في الربح دون وازع أخلاقي ولا مراعاة للتوازن البيئي يمكن

أن تؤدي إلى كارثة تهدد كوكب الأرض بأكمله.

ويلخص الأستاذ منير شفيق في كتابه: «الإسلام في معركة الحضارة» نقاط

الضعف في الحضارة الغربية كما يلي:

«١ - التطور العام غير المتوازن بالنسبة إلى مختلف المجالات؛ فقد تكثف

في المجالات المادية، واختل على مستوى العلاقات الإنسانية والأخلاقية؛ مما

يؤدي في النهاية إلى الإسراع بسقوطها؛ لأن حالها يصبح كحال الذي يقف على قدم

واحدة، فمهما بلغت قدمه من القوة إلا أنها ضعيفة حين يتعرض الجسد كله إلى هزة

قوية.

٢ - اتسعت الهوة بين أصحاب تلك الحضارة والغالبية العظمى من شعوب

العالم؛ مما دفع بها إلى مواجهة قوى لا قبل لها بها، فالأقلية الظالمة مهما قويت

وتمكنت تظل ضعيفة أمام قوة الأغلبية المظلومة صاحبة الحق، فالتضاد مع حقوق

غالبية الشعوب ومصالحها يؤدي إلى انهيار تلك الحضارة مهما طال الزمن.

٣ - التآكل الداخلي يشكل سمة أساسية مميزة لمجتمعات الحضارة الفرنجية

سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع منفرداً أم على مستوى صراع تلك المجتمعات

فيما بينها، إن الصراع على امتلاك القوة والسيطرة والتنازع لامتلاك الثروة يؤديان

بالإسراع بعملية التآكل الداخلي.

٤ - إن إطلاق الغرائز والنزعات البهيمية وانتشار الفساد والانحلال قد يصل

في تلك الحضارة إلى ضعف داخلي شديد يجعلها غير قادرة حتى على الاستفادة من

قوتها المادية؛ مما قد يكرر صورة الجندي الروماني الذي ربط بالسلاسل لكي لا

يفر في معركة اليرموك، على الرغم من الكثرة العددية للرومان في تلك المعركة،

وقوة دروعهم، وطول رماحهم، ومضاء سيوفهم، وفراهة خيولهم.

وقد يقول قائل: إن الحضارة الغربية يمكن أن تعالج نقاط ضعفها أو تتخلص

منها ومن ثم تجدد نفسها، وهذا القول يعكس جهل أصحابه بطبيعة الحضارة الغربية

وجوهرها، وطبيعة نقاط الضعف فيها وجوهرها؛ لأن نقاط الضعف هنا هي من

صميم الحضارة الغربية وجوهرها وليس عارضاً عليها ولا ناشئاً من عوامل جانبية

أو إهمال من القواد أو غيرها؛ إنها تنبع من داخلها ومن صميمها بطريقة تلقائية

وحتمية؛ بحيث إنه من المستحيل عليها معالجتها أو التخلص منها، وإذا حاول أهل

الحضارة الغربية التخلص من تلك العيوب فإنهم سيتخلصون من الحضارة الغربية

ذاتها.

فمثلاً إن السعي لتحقيق أقصى درجات القوة العنيفة المادية من أجل السيطرة

على العالم ونهب ثرواته بلا حدود يجعل تلك الحضارة تدوس على كل القيم

والمعايير التي تتعارض مع هذا السعي، أو بتعبير آخر إن ذلك السعي يسخر كل

شيء من أجله، وهذا في حد ذاته يسمح بالتفوق في مجالات محدودة، وهذه نقطة

قوة أساسية في الحضارة الغربية، وهي أيضاً سبب انهيارها المتوقع في مجالات

أخرى، المجالات الأخلاقية والنفسية والإنسانية واندلاع أشد الصراعات الداخلية

والخارجية؛ مما يشكل بدوره نقطة الضعف المركزية في هذه الحضارة. إن نقطتي

القوة والضعف المتولدتين عن تلك السمة الأساسية في الحضارة الغربية سيصلان

في نهاية المطاف إلى تدميرها إن لم يعرضا مستقبل الإنسانية كلها إلى خطر قريب

من شبه الإبادة الجماعية» [١٢] .

ومثل آخر إنه إذا حاول نظام حكم عنصري التخلص من عنصريته، فإنه في

الحقيقة يتخلص من نفسه؛ لأن العنصرية هنا هي التي شيدت بناءه، وهي التي

تسمح له بالاستمرار، فلولا النهب والاسترقاق والفصل العنصري لما كان هذا

النظام العنصري قد نشأ، ولما كان حقق لنفسه هذا الرخاء، ولما استطاع أن

يستمر لحظة بعد التخلص من العنصرية.


(١) الدراسات الاستعمارية في الإحياء الإسلامي في القرن الـ ١٩ مروان بحيري.
(٢) أمتنا والنظام العالمي الجديد، عبد الوارث سعيد.
(٣) التبشير والاستعمار، د مصطفى الخالدي، ود عمر فروخ.
(٤) قادة الغرب يقولون، جلال العالم، المختار الإسلامي.
(٥) قوى الشر المتحالفة، محمد محمد الدهان، دار الوفاء.
(٦) د عمر فروخ، مرجع سابق.
(٧) جلال العالم، مرجع سابق.
(٨) الأصولية في العالم العربي، ريتشارد هربر، وكمجيان، ترجمة عبد الوارث سعيد، دار الوفاء.
(٩) أمتنا والنظام العالمي الجديد، باول شمنز، نقلاً عن عبد الوارث سعيد.
(١٠) المرجع السابق، نقلاً عن عبد الوارث سعيد.
(١١) يطلق عليها أهل الغرب حرب الـ (ألف عام) .
(١٢) الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر، منير شفيق.