للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات إعلامية

[نحن والمكر الإعلامي]

خالد أبو الفتوح

في مقال سابق نشر بعنوان (هنا واق الواق) [١] كنت قد استعرضت صورة

من صور المكر الإعلامي المنتشرة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ثم

ذيلت المقال بشهادة لأحد المفكرين الغربيين على افتقار أجهزة الإعلام الغربي إلى

الحياد والنزاهة، موجهاً كلامي إلى المخدوعين بهذا الإعلام من المصابين بداء

التلقي من الغرب والثقة العمياء به.

منذ ذلك الحين وصور هذا المكر تشاغبني بين الفينة والأخرى آبية ألا أهنأ

بسلامة صدر تجاه وسائل الإعلام التي تصدر عنها هذه الصور، ولا تجاه القائمين

عليها ومن خلفهم من علمانيين ومتغربين مجاهرين أو مستترين.

ومنذ ذلك الحين أيضاً بدا لي أن (مساحة) المخدوعين بهذا الإعلام ممتدة

أكثر من مدى الواق ع الافتراضي (في ذهني على الأقل) ؛ حيث تبين أنها

تتجاوز دائرة (المصابين بداء التلقي من الغرب والثقة العمياء به) لتتعداهم إلى

أفراد يفترض أنهم محصنون ضد الحمَّى الإعلامية الخبيثة.

مكر أم مؤامرة؟

وقبل أن أستعرض بعض نماذج لصور هذا المكر وأساليبه أطرح تساؤلاً يثار

كثيراً في مثل هذه الموضوعات، وفحواه يقول: ألا يمكن أن يكون هذا (المكر

الإعلامي) ما هو إلا نتاج خيالات ذهن الكاتب الذي قد تؤثر عليه تفسيرات نظرية

المؤامرة؟

وبداية أستطيع القول: إن نفي وجود المؤامرة على الإسلام وأهله كليةً هو

نوع من المؤامرة، وإن من الوعي المتقدم الانتباه إلى ما يحيكه ويخطط له أعداء

دين الله.. ولكن في الوقت نفسه فإن تحول هذا (الوعي!) إلى نوع من الأوهام

والهواجس المحضة التي لا تؤسس على حجج عقلية أو قرائن مادية، والتي لا

ينظمها إطار منطقي.. هو نوع من المرض الذي قد يصيب هذا الوعي في مقتل.

والقرآن الكريم يسجل لنا رسوخ المؤامرة في سلوك النخب الكفرية، ليس

فقط تجاه المسلمين بل حتى تجاه أقوامهم وأتباعهم، وهذا ما ينطق به مستضعفو

الكافرين عندما يتبرأ منهم مستكبرو قومهم في الآخرة بقولهم لهؤلاء المستضعفين:

[أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ] (سبأ: ٣٢) ؛

فيلمس المستضعفون الحقيقة بعد فوات الأوان: [بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا

أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا] (سبأ: ٣٣) .

فهذا المكر الذي نسميه (المؤامرة) صفة ثابتة راسخة في هذه النخب:

[وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ]

(إبراهيم: ٤٦) ، [وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً] (نوح: ٢٢) ، [قُلْ سِيرُوا فِي

الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ * وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي

ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ] (النمل: ٦٩-٧٠) ، وقد يخرج هذا المكر في صورة

خطط وأعمال فعلية كيدية: [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً] (الطارق: ١٥-

١٦) ، [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]

(آل عمران: ١٢٠) .

إدارة الكذب والتضليل:

ويشهد التاريخ القديم والحديث والمعاصر أن هذه النخب لم تتخل يوماً عن

الانخراط في مؤامرة لتحقيق مآربها، ولم تخلع عنها يوماً رداء ذلك المكر.. ومن

أقرب ما قرأناه حول ما نحن بصدده (المكر الإعلامي) ما سبق أن نشرته وسائل

الإعلام [٢] حول تشكيل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) مكتباً باسم (مكتب

التأثير الاستراتيجي) ، وهو مكتب أنشئ بعد أحداث سبتمبر في أمريكا، ويحيط به

الغموض والسرية، وقد قدرت ميزانيته بمئات الملايين من الدولارات (يدخل فيها

بالطبع شراء ذمم إعلامية) ، ومهمته كما ذكرها مسؤولون أمريكيون: «تزويد

وسائل الإعلام الأجنبية بالأنباء؛ حتى لو كانت كاذبة، وذلك كجزء من حملة جديدة

للتأثير على المشاعر العامة وصناع القرار! في الدول الصديقة! وغير الصديقة

على حد سواء» .

وكان هذا المكتب قد بدأ توزيع مقترحات سرية تدعو إلى حملات شرسة لا

تقتصر فقط على استخدام وسائل الإعلام الأجنبية والإنترنت وإنما تشمل كذلك

(العمليات السرية!) ، وأحد هذه المقترحات كان ينص على دس المواد الإخبارية

وإرسالها إلى وسائل الإعلام الخارجية عبر جهات أخرى لا صلة لها بالبنتاجون!

وقد أثارت (التسريبات) التي نشرت عن هذا المكتب حفيظة بعض الصحفيين

والمسؤولين الذين أطلقوا عليه اسم: (مكتب التضليل الإعلامي) أو (مكتب

استراتيجية تخطيط الكذب) ، كما اتهم المعهد الدولي للصحافة في تقرير أعد في

فيينا أمريكا بالتلاعب بالأنباء، وحذر من قيام النظم الديمقراطية باستغلال حرب

مكافحة الإرهاب من أجل كَمِّ أفواه وسائل الإعلام؛ مما حمل وزير الدفاع الأمريكي

في النهاية على الإعلان عن إغلاق هذا المكتب لاحقاً، وهو الإعلان الذي عده

بعض المراقبين جزءاً من إجراءات سرية المكتب الغامض.

بالطبع فإن الكذب والتضليل الإعلامي لم يكن معدوماً قبل الإعلان عن وجود

هذا المكتب، ولم يتوقف بعد الإعلان عن إغلاقه، ولكن مغزى وجود هذا المكتب

هو أن دفق الكذب والتضليل بلغ حداً في هذا الظرف استلزم معه أن تتفرغ جهة

موحدة ومتخصصة لإدارة تلك الأكاذيب وتنظيمها؛ حتى تصب بفاعلية لتحقيق

الهدف المنشود للطاقم السياسي الأمريكي.

فن تزييف الحقائق:

هذا على مستوى المصدر الأول للمادة الإخبارية الإعلامية، فإذا ما افترضنا

أن هذه المادة خرجت بدون تزييف، فإن المكر الإعلامي لا يختفي؛ حيث تتولى

وسائل الإعلام المشبوهة انتقاء المادة المعروضة على جمهورها، أو إعادة صياغة

هذه المادة، أو إبراز بعض الجوانب فيها والتركيز عليها، أو إهمال جوانب أخرى

وتهميشها، أو استخدام صور فوتوغرافية ذات دلالة واضحة أو خفية للتأثير على

المتلقي ... وغيرها من أساليب إعلامية معروفة؛ لتوجيه هذا المتلقي وجهة محددة،

والتأثير عليه في توجهاته وقناعاته، بل وحتى في انفعالاته وقراراته.

ويحسن في هذا المقام إيراد بعض النماذج لهذه الأساليب الشائعة، انتقيت جلها من

اجتهادات صبيان الإعلام الغربي في بلادنا، محاولاً التركيز على إحدى قضايانا

المركزية، وهي قضية فلسطين، ليتضح كيف يمكن للإعلام أن يتلاعب بقضايا

الأمة في مكر وخبث:

* في صدر الصفحة الأولى نشرت إحدى الصحف (غير الصفراء) خبراً

بعنوان: (دارين أبو عيشة الفدائية الفلسطينية الثانية.. فقدت شقيقها وخطيبها

برصاص الإسرائيليين) .. بالطبع فإن خبر العنوان صحيح، ولكن لماذا تبرز

الجريدة هذا الخبر وتلفت النظر إليه وتغفل الإشارة إلى معطيات أخرى لـ (دوافع)

دارين في قيامها بعمليتها، تلك المعطيات التي تظهر جلية في صورتها وهي

رافعة إصبعها بعلامة التوحيد، والحجاب الذي يلف وجهها، والعصابة التي تحيط

بها رأسها مكتوباً عليها (الشهيد عز الدين القسام) ؛ وهو رمز لجهاد اليهود من

منطلق إسلامي؟

الهدف من ذلك الإبراز واضح في تصوير هذه العمليات على أنها عمليات

انتقامية ضمن إطار (العنف المتبادل) وليست بدافع إسلامي ولا حتى بحس وطني،

ومع تكرار مثل ذلك التوجيه الخفي ينصرف ذهن القارئ (غير المنتبه) عن

حقيقة الصراع في فلسطين، ويتهيأ نفسياً لقبول حلول (تعايشية) إذا خفتت جذوة

الانتقام في نفوس هؤلاء المظلومين على أيدي (حكومة متطرفة غاشمة!) .

* وقد اعتاد الإعلام العربي غالباً على إطلاق وصف (عملية) أو (هجوم)

على مثل تلك الأفعال، مع إلحاق وصف (استشهادي) أو (فدائي) أو (انتحاري)

حسب موقف كل نظام بالوصف الأول، ولكني سمعت وصفاً فريداً غريباً في

إحدى نشرات أخبار إذاعة عربية مهاجرة (إلى العرب!) ، حيث وصفت إحدى

العمليات بأنها (اعتداء استشهادي) .. والمعنى واضح أن هذه العمليات هي اعتداء

(غير مشروع) ولكنه بطريقة (استشهادية) لا يملك الفلسطينيون غيرها، وذلك

في مقابل (اعتداء) اليهود عليهم بالدبابات والطائرات وسائر العمليات الحربية،

فهو اعتداء مقابل اعتداء، يستوي الطرفان في حقيقة الجرم وإن اختلفا في طريقة

التنفيذ.

* وفي عنوان صحفي لصحيفة مهاجرة (إلى العرب أيضاً! !) جاء على

النحو التالي: (حكومة شارون تبت الأحد قرار السماح لليهود بدخول الأقصى) ..

المفترض أن شارون هذا لا يملك (شركة سياسية) أطلق على مجلس إدارتها اسم

(حكومة) ، ولكنه جاء إلى موقعه هذا لأن (شعب إسرائيل) انتخبه ديمقراطياً

ليكوِّن له (حكومة دولة إسرائيل) ، فالأفعال والقرارات التي تصدر عن هذه

الحكومة تصدر عن حكومة إسرائيل، فلماذا تتلاعب الصحيفة بالمسميات وتزيف

الحقائق؟ .. المغزى واضح، وهو نسبة هذه التصرفات إلى شارون (المتطرف)

وحكومته (اليمينية) وليس إلى الشعب اليهودي ولا الدولة الصهيونية.

ومع التكرار (والتكرار يعلم الشطار كما يقولون) يرسخ في ذهن القارئ

(الشاطر) أن المشكلة تكمن في (شارون وحكومته) ، فإذا ذهبوا تنفس هذا القارئ

ارتياحاً، وحمد الله على زوال الهم، وانتظر الفرج من (حكومة شالوم) !

أطلب من القارئ بعد انتهائه من قراءة الفقرة الحالية أن يصمت قليلاً، ثم يقرأ

العنوان المقترح التالي ويقارنه بعنوان الصحيفة الأصلي، ويلحظ مدى الفرق في

أثره على نفسه ... (حكومة العدو الصهيوني تبت الأحد قراراً يمكِّن اليهود من

دخول الأقصى الشريف) .

* وفي نطاق آخر نشرت الصحيفة نفسها العنوان التالي: (السودان وحركة

قرنق يوقعان اتفاقاً لوقف النار في جبال النوبة) .. (السودان) اسم لدولة وليس

اسماً لحزب ولا لحركة ولا لجبهة ولا حتى لحكومة (فالسودان لا يمثل حكومة

ولكن الحكومة قد تمثله) ، و (حركة قرنق) حركة تمرد مسلح خارجة على النظام

السوداني والحكومة السودانية، وهي في حقيقتها حركة انفصالية تريد اقتطاع أجزاء

(الجنوب) من الوطن الأم والانفراد بحكمه وإدارته أو الاستقلال به..

والمفترض أن كلمة (السودان) لا تطلق إلا على المستوى الدولي الخارجي نظيراً

لدول أو منظمات دولية خارجية تكافئها في هذه الصفة، فبدهي لا يصح القول مثلاً

في أخبار السودان الداخلية: (السودان وحزب الأمة يتفاوضان على كذا) أو

(نقابات العمال تطالب السودان بكذا..) ؛ لأن الطرف الآخر هو (حكومة

السودان) وليس (السودان) الذي ينضوي فيه هذا الحزب وتلك النقابات.

فصياغة العنوان على النحو الذي أوردته هذه الجريدة يضفي الصفة

الانفصالية المغايرة عن دولة السودان على حركة قرنق، ويجعل هذه الحركة في

مصاف الندِّية الدولية للسودان؛ أي أن العنوان يحمل في طياته جراثيم اعتبار

انفصال جنوب السودان (حركة قرنق) عن دولة السودان أمراً واقعاً، ويرسخ في

شعور القارئ هذا المعنى.

* نعود إلى القضية الفلسطينية مرة أخرى: على إحدى صفحات الموقع

الإنترنتي لصحيفة يديعوت أحرنوت (الإسرائيلية) جاء خبر بالعنوان التالي:

(عرفات أصدر تعليمات لشن موجة عمليات إرهابية غير مسبوقة) .. إذا تجاوزنا

مغزى حرص اليهود على وضع ياسر عرفات موضع العدو لهم وغير المرضي عنه

منهم رغم كل الخدمات التي أسداها إلى (القضية الصهيونية) فإن العنوان ليس فيه

ما يلفت النظر، وكلمة (إرهابية) متسقة مع كون الصحيفة (إسرائيلية) ، ولكن

الموقع أرفق مع الخبر صورة صغيرة لياسر عرفات.. كان المنتظر أن تكون هذه

الصورة محايدة تظهر وجه عرفات مثلاً، أو تكون لمناسبة العنوان تظهره في

صورة (ثورية) من تلك الصور الدعائية الكثيرة له التي يحمل فيها

السلاح.. ولكن الصورة لم تكن هذه ولا تلك، بل كانت صورة دعائية أخرى

لياسر عرفات وهو يرفع يديه بالدعاء! ! ..

والمغزى واضح، وهو ربط (الإرهاب) بـ (الإسلام) ، فكلما اقترب

الشخص من (الإسلام) اقترب من الإرهاب، وعليه فإن التخلي عن الإرهاب

والتقدم في طريق السلام مرهون بالتخلي عن الإسلام ومحاصرته، وهذا هو

المطلوب من عرفات وسلطته.. (شغل يهود! !) .

لا تنقضي صور المكر الإعلامي، ولا نستطيع تتبعها وذكرها جميعاً.. ولكن

المقصود أن المتلقي من وسائل الإعلام هذه مستهدف بالتأثير والتشكيل، وإذا لم

ينتبه إلى ما يقرؤه أو يسمعه أو يشاهده فإن وعيه يتشكل من غير شعور منه وقد

يكون على غير إرادة منه.

الدعاة على الخط:

لم يقف المكر الإعلامي عند حد التضليل والتزييف بشتى الطرق، بل تعدى

ذلك إلى محاولة استخدام بعض المشايخ والدعاة والرموز السياسية الإسلامية

للمشاركة في تشكيل الرأي العام بالصورة التي يريدها هذا الإعلام الماكر على

حساب الصورة الدعوية التي يريدها هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز، وعلى

حساب صورتهم هم ومرجعيتهم هم بالنسبة لأتباعهم ومريديهم.

ولا أقصد هنا المشايخ الرسميين الذين يطلقون الفتاوى المفصلة على مقاس

رغبات النظم العلمانية لتسويغ مواقفها وسياساتها وتوجهاتها، فهؤلاء أمرهم

معروف، وهم (محروقون) على مستوى أجهزة الإعلام العلمانية نفسها،

ولكني أقصد التوجه إلى الزج بدعاة ورموز لهم رصيدهم المعروف من

الاستقلالية والأتباع المخلصين في معترك المنظومة الإعلامية العلمانية بـ

(فتح) المجال أمامهم للحديث عن قضايا عامة في منابر إعلامية رسمية أو

مشبوهة.

وقبل أن أسطر وجهة نظري في جانب المكر في هذا التوجه الإعلامي أحب

أن أوضح بعض الحقائق:

أولاً: أن جل الخطاب الدعوي كان إلى حد ما خطاباً نخبوياً في رسالته

الإعلامية وفي الشريحة المستهدفة منه، وفي الغالب لم يحدث أن انفتحت الحركة

الإسلامية بخطابها الدعوي والسياسي على جميع شرائح المجتمع وجميع فئاته؛

وذلك فيما عدا بعض فصائل هذه الحركة التي تبذل جهداً مشكوراً في هذا الانفتاح،

ولكنها للأسف تتسم بضعف وقصور في الوعي يؤثر على رسالتها التي تنفتح بها

على فئات المجتمع العامة.. ولا شك أن هذه النخبوية صفة سلبية في خطابنا

الدعوي العام.

بالطبع هناك أسباب داخل الحركة وأسباب خارجها أدت إلى اكتساب هذا

الخطاب هذه الصفة (النخبوية) ، ولكن الحاصل أن هذا الواقع يطرح على أي

غيور على دينه حريص على مجتمعه التفكير في وسائل جديدة يمكن من خلالها

الوصول إلى أكبر عدد من أفراد المجتمع.. ومن هنا بدت إتاحة المجال لاستخدام

وسائل الإعلام العامة فرصة ذهبية لتحقيق هذا الهدف.

ثانياً: أن الوسائل الدعوية ما زالت تتقلص بصفة مستمرة في وجه هؤلاء

الدعاة والرموز، فمن مصادرة المساجد والمنابر، إلى تعطيل الصحف والمجلات،

إلى إيقاف الدعاة والعلماء، إلى التضييق على الشريط الإسلامي.. ما زالت هذه

الوسائل تتقلص غالباً في معظم البلدان، خاصة بعد أحداث سبتمبر الأخيرة،

وباستثناء مجال الإنترنت (وهو مجال نخبوي) لم تشهد وسائل الدعوة انفراجاً

حقيقياً في السنوات الأخيرة؛ لذا: كان إتاحة الفرصة بالظهور في منابر إعلامية

عرضاً مغرياً لأي صاحب هم دعوي.

ثالثاً: ظهرت في الأفق بعض الدراسات التي تتناول الثوابت والمتغيرات

للصحوة الإسلامية بحسب اجتهاد أصحاب تلك الدراسات، ولكننا لم نعلم بمحاولات

لرصد ودراسة الثوابت والمتغيرات لدى الأطراف الأخرى، وفي الواقع فإن

متغيرات محلية وأخرى دولية طرأت على الموقف تجاه الدعوة، ولا شك أن علينا

مواكبة هذه المتغيرات سلباً أو إيجاباً، إقداماً أو إحجاماً، توسعاً أو تقلصاً، وفي

نظري فإن تحديد الموقف تجاه تلك المتغيرات ينبغي أن ينبني على عدة عوامل

ومعطيات، منها: الفهم الدقيق للثوابت والمتغيرات لدى جميع الأطراف.

رابعاً: أن كل جهاز إعلامي له رسالته المحددة وأهدافه الواضحة في ذهن

القائمين عليه والموجهين له، كما أن له خططه طويلة المدى وقصيرة المدى التي

يحقق من خلالها هذه الأهداف، وعلى أساس هذه الرسالة وهذا الهدف وتلك الخطط

ترسم الخطوط العامة للبرامج والأساليب وأحياناً المواد التي ينبغي أن يراعيها

المنفذون والعاملون في هذا الجهاز أو تلك الوسيلة الإعلامية، وليس بالضرورة أن

يدرك هؤلاء المنفذون والعاملون أبعاد تلك الخطط أو كل تفاصيلها، بل قد يكونون

على المستوى الشخصي لا يتفقون مع هذه الأهداف ولا يوافقون على تلك الخطط

إذا علموا بجميع تفاصيلها، ولكن مع ذلك يشاركون في تنفيذها بكفاءة ونجاح

بحسب المطلوب منهم، وبحسب إمكاناتهم التي تهيأت أو هيئت لهم وفق الآلية

الإدارية التي تحكمهم وتسيرهم.. وهذا ما نجده في أي منشأة ذات إدارة منظمة.

والمقصد: أنه ينبغي علينا ألا ننخدع بآراء أو توجهات المنفذين الشخصية،

ويغيب عنا وضع تصور ولو تقريبياً لأهداف القائمين على هذا الجهاز أو تلك

الوسيلة والموجهين لها وخططهم التنفيذية لتحقيق تلك الأهداف.

فإذا ما فرغنا من ذكر تلك الحقائق يبرز سؤال جدير بالنقاش: هل أتاح

القائمون على هذه الأجهزة الإعلامية العلمانية والمشبوهة الفرصة لبعض الدعاة

والمشايخ والرموز الإسلامية بالظهور في تلك المنابر من أجل الخروج بالدعوة من

نخبويتها بمخاطبة أكبر قطاع من الأفراد، ومن أجل التوسيع على رموز الصحوة

بتمكينهم من وسائل دعوية جديدة وفعالة وإيصال الخير إلى الناس؟ أم أن لهؤلاء

القائمين على تلك الأجهزة أهدافهم الخاصة التي رأوا أن تحقيقها من خلال هذا النوع

من الدعاة والمشايخ أجدى وأنفع؟

ثم نطرح تساؤلات أخرى لا تقل أهمية عن السابق: وما الذي يمنع من قيام

هؤلاء الدعاة والرموز بدورهم من خلال هذه المنابر الإعلامية حتى ولو كانت

أهداف القائمين عليها خبيثة؟ ألا يبلغ هؤلاء كلمة حق أو موعظة مخلصة كانوا

سيقولونها من على منابرهم الدعوية؟ أليس ذلك خيراً من ترك هذه المنابر بالكلية

للفاسدين والمفسدين يصولون فيها ويجولون؟ ثم: ألم يكن الرسول صلى الله عليه

وسلم يذهب إلى منتديات المشركين في مكة ليبلغهم رسالة الله؟

بداية أحب أن أوضح أنني هنا لا أتحدث عن الحكم الشرعي في هذا المسلك،

ولكني أريد فقط أن أستكشف الجانب الذي يخص هذا المقال، وهو لفت الانتباه إلى

بعض أساليب المكر الإعلامي فيما يخص قضايانا، وهذا الجانب في هذا المسلك لا

يتبين إلا بعد أن ندرك طبيعة تكوين التأثير الإعلامي لدى الجماهير، فصاحب أي

رسالة إعلامية والدعوة في أحد جوانبها رسالة إعلامية أيضاً لا يلقي بمادة رسالته

الإعلامية إلى الجماهير دفعة واحدة، ولكنه يلقيها جزءاً بعد جزء، مستهدفاً تكوين

الصورة الكلية لرسالته الإعلامية لدى هذه الجماهير على المدى الطويل بطريقة

تراكمية ولكنها موجهة من طرفه، وهذه الطريقة أشبه بتكوين لوحة من الفسيفساء

(الموزاييك) التي تتكون من أجزاء صغيرة ولكن تركيبها متجاورة متلاصقة

يعطي في النهاية صورة عامة كلية من خلال هذه الأجزاء.

وقد يتداخل في التأثير على الجماهير المستهدفة أكثر من صاحب رسالة

إعلامية مختلفة أو متباينة من أكثر من مصدر، وحينها قد تكون الصورة النهائية

لدى الأفراد غير مقتصرة على مصدر واحد ورسالة واحدة، بل قد تحمل نوعاً من

اختلاط الصور التي قد تخرج صورة أخرى، ربما تكون مختلفة عن الصور

المبثوثة جميعاً، ولكن الغلبة ستكون لصاحب التأثير الأقوى في الساحة الإعلامية؛

لذا: نجد محاولات من يريدون تشكيل الرأي العام الوصول ما استطاعوا إلى جميع

منافذ التأثير الإعلامي كالمدارس والصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون ومنابر

المساجد.. وأخيراً مواقع الإنترنت واحتكارها ومنع أصحاب الرسائل الإعلامية

المخالفة لهم من استخدامها، أو ممارسة نوع من الإغراق الإعلامي تجاههم، أو

التشويش عليهم وعلى رسالتهم على الأقل.

في حالتنا هذه: تجدر الإشارة إلى أن من الخطأ الاعتقاد بأن العلمانية

المنتشرة في معظم بلادنا هي علمانية ملحدة؛ فتاريخ هذه البلاد وطبيعة شعوبها تقيد

العلمانيين من المجاهرة بالمناداة بذلك النوع من العلمانية؛ لذا نرى أن الدين

(بمفهمومه العلماني!) أحد مفردات الخطاب الإعلامي في هذه البلاد، كما أن هذا

التاريخ وهذه الطبيعة تجعل الأنظمة الحاكمة لهذه البلاد حريصة على إصباغ

مشروعيتها بنوع من الصبغة الدينية حتى ولو كانت زائفة كل بحسب درجة وضوح

علمانيته وذلك إلى جانب مشروعية الوجود الأساس (دستورية، أو ثورية، أو

تاريخية، أو دينية ... ) وتجعلها حريصة أيضاً على تسويغ مواقفها دينياً من رموز

لهم قبول شعبي في هذا الجانب.

أرى أنه الآن بدأ يتضح خط المكر فيما نحن بصدده، فالصورة الإعلامية

التي يريد الإعلام العلماني تكوينها لدى الرأي العام تحتوي على بعض أجزاء تتشابه

مع أجزاء أخرى من الصورة الإعلامية التي يريد الإعلام الدعوي إيصالها؛ لذا:

يستغل الإعلام العلماني هذا التشابه في تطبيق ما يمكن أن نطلق عليه

(نظرية الصور المتقاطعة) لصالحه، ووجه المكر هنا هو أن هذه الأجزاء عندما

تنتزع من صورة لتوضع في صورة أخرى فإنها حينئذ لا تخدم ولا تكون معبرة عن

الصورة الأولى، بل تتماهى في الصورة الثانية لتصبح جزءاً من نسيج صورة كلية

منبتة الصلة عن الصورة الأولى التي قد تصبح صورة مشوهة، ومع ذلك: يظل

هؤلاء الذين ساهموا عن غير قصد في بناء هذه الصورة الإعلامية (العلمانية)

يظنون أنهم عندما يتحدثون في هذه الجزئية إنما يرسمون صورتهم الدعوية التي

يريدونها، وهذا غير صحيح واقعاً.

أزيد الأمر وضوحاً ثم أضرب له مثالاً: من المعلوم أن الدعاة والرموز الذين

يخرجون في هذه المنابر هم (ضيوف) عليها يعرفون حدود (الضيف) ، بمعنى

أن هذه المنابر الإعلامية هي الطرف الأقوى في تحديد أو الموافقة على

الموضوعات المطروحة، وفي توجيه اتجاه الحديث، وفي استضافة آخرين في

الوقت نفسه أو في غيره لوضع الرتوش المناسبة على جزئية الصورة المطروحة؛

ومن ثم: فإن هؤلاء الدعاة لا يتمكنون من استكمال صورتهم الدعوية التي يريدون

إيصالها من خلال هذه المنابر.

وهنا تأتي مناسبة القول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى

منتديات المشركين ليدعوهم فيها، صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان

يفعل ذلك، ولكنه مع ذلك كان يبلغ رسالة الله عز وجل كاملة غير منقوصة كما

يريد هو وكما يقتضيه (البلاغ المبين) وليس كما يمليها عليه المشركون، ولم يكن

صلى الله عليه وسلم يضع رغبات هؤلاء المشركين ولا النقاط المشتركة بينه وبينهم

معياراً لاختيار طبيعة الموضوع الذي سيتحدث فيه.. فهل يستطيع أن يفعل ذلك من

يخرج الآن في منابر الإعلام العلماني؟ هل يستطيعون إذا شاؤوا أن يعيبوا من فوق

هذه المنابر اللات والعزى وهبل المعاصرين، فيبينوا على سبيل المثال حقيقة

العلمانية والعلمانيين، وعمالتهم لأعداء الأمة، وحكمهم في دين الله؟ هل

يستطيعون تجلية أصل الولاء والبراء والموالاة والمعاداة، وإلى من ينبغي أن

تصرف هذه المشاعر في الواقع..؟ هذه واحدة.

وأخرى: هي أن هذه المنابر لها جمهورها المختلف عن جمهور هؤلاء الدعاة

والرموز؛ أي أن من يتلقى من الدعاة هذه الجزئية التي تحدثوا فيها سيكمل عليها

أجزاء أخرى من هذه المنابر نفسها بمعزل عن تصور هؤلاء الدعاة والرموز

وتوجهاتهم، كما أنه يصعب على هؤلاء الدعاة والرموز الوصول إلى هؤلاء

المتلقين مرات أخرى لتصحيح التشويه الذي يمكن أن يحدث للمعاني التي يريدون

إيصالها من حديثهم، أو لاستكمال بقية أجزاء الصورة الدعوية كما يريدونها وليس

كما يريدها العلمانيون القائمون على هذه المنابر، وذلك بعكس جمهورهم المريد لهم

أو الذي يستطيعون الوصول إليه بسهولة، فهو إن لم يستكمل الصورة الإعلامية

الدعوية من تتابع الحضور لهم استكملها من شريط مسجل أو من رسالة مطبوعة أو

من مقال منشور أو حتى من داعية أو رمز آخر.. وبذلك تتجمع هذه الجزئيات

وتوضع في سياق واحد.

ونضرب لذلك مثالاً أعرف أنه ذو حساسية: فلو أن أحد المنابر الإعلامية هذه

استضافت رمزاً إسلامياً للحديث عن موضوع يدور حول (مشكلة الغلو والتكفير) ،

فالمتوقع أن تدور محاور الحديث حول عناوين فرعية، مثل: (أصل هذه

المشكلة وصلتها بالخوارج) ، (انحراف أصحابها عن منهج أهل السنة) ،

(أسباب هذه المشكلة) ، (خطورة هذه المشكلة على المجتمع) ، (مقترحات لمعالجة

هذه المشكلة) ...

طبعاً سوف يتحدث هذا الرمز من منطلق حرصه على الشباب وعلى توضيح

منهج أهل السنة، وضمن إطار كلي (في ذهنه) ينتظم فيه هذا الحديث وتستكمل

صورته، وهذا الإطار وهذه الصورة تشمل أجزاء أخرى، مثل:

- خطر الإرجاء (المقابل للغلو والتكفير) وأثره في الأمة.

- أن التكفير في الأصل يقول به كل دين.

- أن الحديث هو عن خطر تكفير المسلمين، وليس عمن لم يحقق أصل دين

الإسلام.

- الفرق بين التكفير بالمعصية كما هو معتقد الخوارج ومقالات المتكلمين،

والتكفير بنواقض الإسلام.

- أن الخطأ في التكفير إذا كان الاجتهاد حسب أصول أهل السنة هو خطأ

فقهي وليس اعتقادياً.

- أن الغلو صفة غير محصورة بالمسلمين، بل موجودة في كل دين وكل فكر

فهي مشكلة نفسية في الأساس ... إلى آخر هذه المسائل الجزئية التي يعرفها هذا

الرمز بلا شك، ولكنها مع ذلك لن تطرح في هذه (الاستضافة) .

بينما المنبر الإعلامي الذي يتحدث من خلاله هذا الرمز لا يشغله منهج أهل

السنة ولا أهل البدعة، بل تشغله أمور أخرى يريد تثبيتها في ذهن الجمهور مستغلاً

هذه الجزئية ومستكملاً عليها أجزاءً أخرى من الصورة التي تخصه هو والتي يبثها

سابقاً أو لاحقاً، مثل:

- أن معارضي النظام العلماني الحاكم من الإسلاميين يكفرون المسلمين (ولو

افتراءً عليهم) .

- أنهم خوارج منحرفون لا يمثلون أهل السنة والإسلام الصحيح (بل إن

بعض النظم شبههم بالذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله

عنه) .

- أنهم منحرفون أخلاقياً وسلوكياً.

- أن الوسطية والاعتدال هي التي يمثلها هذا النظام.

- أن مواجهتهم واجب على كل مواطن؛ لأنهم خطر على المجتمع كله.

وهكذا.. فبينما الرمز الإسلامي يتحدث في إطار علمي ضمن صورة دعوية

كلية (ولكنها غائبة) ، يستغل المنبر الإعلامي حديثه هذا ويضعه ضمن جزئيات

صورة كلية أخرى ضمن إطار دعائي سياسي، مستهدفاً تثبيت شرعية النظام

العلماني الذي يتحدث باسمه ودعم استقراره، وخلع الغطاء الديني عن معارضيه

السياسيين الذين يصرح بعضهم بعدم الاعتراف بشرعية النظام من منطلق إسلامي.

ومن هنا كانت أهمية الحرص على تحديد محاور الحديث مع الرمز الإسلامي

بالشكل السابق واستبعاد المحاور الأخرى التي سوف تفسد عليه هدفه، والتي لن

يستطيع الرمز استكمالها أمام هذا الجمهور الذي تلقى منه هذا (الطعم) ! ، وهو

طعم لا يصلح لإلقائه طبيب ولا إعلامي ولا أي مفكر.. بل لا بد أن يكون عالماً

دينياً ولا سيما إن كان رمزاً دعوياً.

وهكذا نرى أن الإعلام العلماني والقائمين عليه ومن وراءهم أصابوا من وراء

ذلك الأسلوب عدة أهداف برمية واحدة:

١ - اكتسب مشروعية هو في حاجة إليها وثقة فيه يفتقر إليها بمشاركة هؤلاء

الدعاة والمشايخ والرموز.

٢ - وبمقدار نمو هذه المشروعية المكتسبة تتآكل مرجعية هؤلاء الدعاة

والمشايخ والرموز لدى جمهورهم الدعوي الذي سوف ينظر بعضه إليهم على أنهم

مهادنون، خاصة إذا تطاول أفراد من هذا الجمهور عليهم، وهذا مطلب علماني!

٣ - أصبغ على نفسه وعلى النظام السياسي الذي يمثله صبغة تعددية

(ديمقراطية) زائفة.

٤ - كوّن بعض أجزاء صورته الإعلامية بدقة ومهارة وبشكل دعائي عن

طريق متخصصين موثوق في كلامهم لدى الجماهير.

٥ - استهلك جهود بعض أصحاب الرسائل الإعلامية الأخرى المنافسة له بما

يؤثر على أدائهم لهذه الرسائل، ويصرفهم عن بذل الجهود الخاصة بها.

٦ - وهناك مكاسب عرضية ولكنها مهمة، منها:

هز بعض المسلَّمات المختارة بقصد والتشكيك فيها بزعم عرضها على ساحة

النقاش والتمحيص، وهذا بالنسبة لهؤلاء العلمانيين مكسب في حد ذاته حتى ولو

انتهى الحديث إلى نصرة الرأي الذي قال به الداعية أو الشيخ أو الرمز، ففي

النهاية تصبح هذه المسلمة (محتملة) حتى وإن ذُكر أن (الراجح) فيها هو القول

المسلَّم به قبل المناقشة، وهذه خطوة مهمة يرضى بها العلمانيون الآن.

ومنها: تهميش القضايا المهمة وإلهاء الجماهير وصرفهم إلى قضايا أخرى

يكثر فيها الكلام وتتضخم لتأخذ حجماً أكبر من حجمها الحقيقي، وإقحام الدعاة

وإشغالهم في معارك تدور حولها.

ومنها: ضرب بعض فصائل الحركة ببعضها الآخر؛ وذلك بإتاحة الحديث

لرموز فصيلٍ ما عن رموز فصيل آخر أو آرائه واجتهاداته التي يتبناها.

ومنها: تحول بعض مشاركات هؤلاء الرموز إلى حلبة صراع كلامي

يستعرض فيها المشاركون (عضلاتهم الكلامية والفكرية) ، وهم وإن (انتصروا)

في النهاية إلا أن الأثر المنطبع في ذهن المتلقي يظل أثراً بارداً لا يؤدي غالباً إلا

إلى إثارة ذهنية كلامية جدلية، وهذا ما ينعكس سلباً على المعاني والقيم التي يلقيها

هؤلاء الرموز من هذا المنبر، بعكس حديث هذه الرموز نفسها من منابرها؛ حيث

توجد علاقة تفاعل إيجابي بين الملقي والمتلقي، تجعل هذا الأخير يتلقى رغبة في

الالتزام بما يسمع وفي المشاركة في حركة إيجابية في المجتمع.

ومنها: مشاركة هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز من حيث لا يقصدون أو

ينتبهون في ترسيخ معنى العلمانية في شعور المتلقين؛ وذلك عندما يرى هؤلاء

المتلقون انفصالاً حاداً وواسعاً بين طبيعة الخطاب (الديني) الذي يظهر من خلاله

هؤلاء وطبيعة المواد الأخرى التي يتابعونها والتي لا تمت للدين بصلة، بل قد

تخاصمه أو تهاجمه صراحة أو خفية.

لا شك أن هناك أبعاداً أخرى في هذا الموضوع تؤيد وجهة النظر هذه أو

تعارضها، ومع قناعتي بضرورة الانفتاح الدعوي على الجماهير فإني أرى شخصياً

أن هذا الانفتاح ينبغي أن يكون بطريقة منهجية مدروسة تحسب فيها بدقة: المصالح

والمفاسد، والوسائل المتاحة، والأساليب المختارة، والحلول المقترحة، والضوابط

المراعاة.. وذلك حتى لا نشارك من حيث لا ندري في عمليات تزييف وتضليل

تحاك ضد هذه الأمة.

ومن هذا المنطلق فإني أقدم بعض الضوابط المقترحة لمن يرى من الدعاة أن

المصلحة في ظهوره في هذه المنابر، وهي الآتي:

١ - أن يكون متأكداً من أن الموضوع الذي سيتناوله لا يساهم في تكوين

الصورة الإعلامية العلمانية ولا يخدمها من قريب أو بعيد.

٢ - ألا يتحدث في قضايا اجتهادية خلافية بين فصائل العمل الإسلامي، أو

يهاجم رموزاً لهذه الفصائل تلميحاً أو تصريحاً من فوق هذه المنابر.

٣ - أن يشير إلى عناوين الموضوعات الأخرى المرتبطة بالموضوع الرئيس

والتي لن يستطيع التحدث فيها.

٤ - أن يحيل المتلقي إلى مصادر أو مراجع أو برامج أو روابط أو ملتقيات

أخرى ... يمكن للمتلقي أن يستكمل الموضوع منها إن أراد.

٥ - ألا يكون الظهور في هذه المنابر شاغلاً له عن نشاطه الدعوي أو

التربوي أو التعليمي الأساس.

٦ - العمل على إنشاء منابر إعلامية جماهيرية مستقلة عن الجهات العلمانية؛

تتبنى الخطاب الدعوي الصحيح في خطها العام ومادتها الإعلامية.

هذه مقترحات لا شك أنها قابلة للنقد والتمحيص، والزيادة والنقصان.. أدعو

الله عز وجل أن يهدينا إلى الرشد، وينير لنا السبيل.


(١) مجلة البيان، العدد ١٢٢.
(٢) نشرت الخبر أولاً صحيفة (النيويورك تايمز) يوم الثلاثاء ٧/١٢/١٤٢٢هـ ١٩/٢/٢٠٠٢م.