للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[حقيقة الفتاوى العصرية]

أ. د. محمد يحيى [*]

يسود الساحة العربية الآن اتجاه يحبذ إطلاق ما يمكن تسميته بالفتاوى

«العصرية» ، وهي تلك التي تتعامل مع مسائل وقضايا حديثة معاصرة؛ من

زاوية توضيح حكم الإسلام فيها وتبصير الناس بهذا الموقف. وتجد هذه النوعية

من الفتاوى التحبيذ والتشجيع بل المديح؛ لأنها عند بعضهم تثبت صلاحية

الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، كما أنها توجد مصالحة بين الناس وواقعهم

المعاش، وترفع الحرج عن أي تصور يرى تصادم الدين و «العصر» . وقد

اتسع هذا الاتجاه في بعض البلدان العربية إلى حد أنه بدأت تنشأ مشكلاته الخاصة؛

وأبرزها التناقض في بعض الفتاوى، ثم الترخص الزائد الذي بدأ يطل برأسه

فيها.

والحق أن المسألة في حاجة إلى «التحرير» حسب المصطلح الأصولي

وليس السياسي، وأول ما يلاحظ في هذا الصدد أن هناك تصوراً خاطئاً وخطيراً

عند بعضهم يربط بين الإفتاء بحكم الدين في شتى القضايا الحديثة المعاصرة (وهو

أمر طيب وضروري) ، وبين ضرورة الخروج بحكم يوافق ويمرر هذه المسائل

مُكسباً إياها المشروعية الدينية، ومُقراً لها بصرف النظر عن الأبعاد المختلفة الكامنة

فيها؛ ذلك أنه تكثر الآن الضغوط الشديدة والمتنوعة على القائمين بالإفتاء لكي

تخرج فتاواهم مبيحة بل محبذة للعديد من التوجهات القيمية الوافدة من المجتمع

الغربي النصراني العلماني أو الناشئة بتأثيره؛ مع إكسابها مشروعية إسلامية

باعتبارها متوافقة مع الشريعة أو حتى محققة لأغراضها ومقاصدها

الكبرى!

ويحدث ذلك عبر النظر المتعمد إلى هذه التوجهات القيمية في مستوياتها

السطحية المجردة، وتصديق مزاعمها الدعائية حول تحقيقها لسعادة المجتمع وخير

الناس، وهي مزاعم تنهار إذا ما حدث تدبُّر وفحص كامل ومتعمق لخلفيات هذه

التوجهات القيمية ومنطلقاتها ومبادئها وسياقاتها الثقافية الأصلية، وهي في الغالب

الأعم إن لم يكن في كل الأحوال غربية نصرانية علمانية، وفي هذه الحالات

يفرض دور معين على «المفتي العصري» لا يسمح له بأن يتعداه؛ فكل ما عليه

هو التعامل مع المسألة أو القضية أو التوجه القيمي العصري حسب تكييف طارحيه

وتصورهم له، وحسب المصطلحات التي يستخدمها هؤلاء (في الغالب للتمويه

والتعمية) ، ولا يجوز له مناقشة هذا التوجه أو التعامل معه بالنقد الفاحص أو حتى

التعديل؛ بل عليه أن يخرج «بحكم الدين» فيه حسب هذا التعامل السطحي ووفق

طرح أصحابه.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إن الفقيه أو المفتي يقع تحت ضغط تقبل

هذا التوجه أو المسألة وتسويغها شرعياً، وتحت طائلة الاتهام بالجمود وعدم الفهم،

وعدم مواكبة العصر، والتضييق على الناس، بل ومصادمة الشريعة ذاتها التي

تدعو إلى التيسير ورفع الحرج. وهنا ينحصر دور المفتي في مجرد إيجاد تكييف

وتسويغ شرعي بلغة المصطلح الفقهي الإسلامي لقضية جاهزة صاغها الآخرون

بالفعل قبل ذلك بلغة المصطلح الفكري العلماني، وألقوها إلى المفتي طلباً للتسويغ

والصياغة الشرعية الموافقة فقط؛ وليس طلباً لحكم الدين فيها بعد التمحيص

والفحص الذي قد ينتهي بالرفض.

والواقع أن المفتي الذي تلقى إليه تلك المسائل والقضايا طلباً للحكم الديني يجد

أنه من السهل الانصياع لضغوط التحرير والتسويغ الشرعي لها؛ لأنه مفروض

عليه أن يتعامل فقط حسب صياغة أصحابها لها (وهي صياغة تزعم لها من

الإيجابية والخير ما ليس فيها بالضرورة) ، وعلى المستوى السطحي فقط؛ أي

مستوى الشعارات الدعائية التي تهدف بالطبع إلى «تحلية البضاعة» (حسب

التعبير المصري الدارج) . ومن هنا سيصعب على المفتي أو الفقيه أن يرفض

توجهات وقيماً يفرضها أصحابها بمصطلحهم الخاص ووفق تكييفهم؛ زاعمين أنها

تحقق الخير والمصلحة والسعادة والتقدم للفرد والمجتمع؛ أَوَ ليس هذا هو مقصد

الشريعة الإسلامية النهائي؟ !

وهكذا تنتهي أغلب الفتاوى العصرية إن لم يكن كلها إلى القبول والتمرير لكل

المسائل المعروضة على القائم بالإفتاء؛ مما يخلق الانطباع (الصادق) بالترخص

الذي يخفي وراءه حقيقة مرة هي أن «المفتي» لم يعد مفتياً بالمعنى الصحيح؛ بل

تحول إلى مجرد صائغ لفتوى كل مهمته أن يتلقى المسألة أو القضية أو التوجه دون

التدخل في طرحه، ودون تمحيصه والتعمق في أبعاده؛ بل «فقط» كي يعيد

صياغته بلغة الشريعة ومصطلحها تسويغاً له؛ بحجة متابعة الشريعة للعصر.

دور المفتي يصبح مجرد دور واضع الختم على أوراق تتناول أخطر الأمور أو

تتعلق بملايين الدنانير دون أن يكون له يد أو حتى مصلحة فيها، والنتيجة بطبيعة

الحال وكما تشهد عشرات الأمثلة هي استبطان التوجهات القيمية العلمانية والغربية

(والمسماة خطأً وغرضاً بالعصرية) داخل كيان القيم الإسلامية، بل وإضفاء

المشروعية الإسلامية الكاملة عليها وتحويلها إلى غير مقاصد الشريعة. هذا أبرز

محاذير توجه الفتاوى «العصرية» لكنه ليس الوحيد؛ لأن الأمر ينتهي إلى إهدار

كامل أو انهيار لعملية الاجتهاد الفقهي ودور الفقيه فيها؛ ليتحول إلى مجرد عملية

تسويغ سطحي، وتمرير لمسائل وقضايا من شأنها أن تدمر البنية القيمية الإسلامية

بعد استبطانها فيها؛ إنها خدعة «عصرية» وليست فتوى!


(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.