للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مصطلحات ومفاهيم

[الراديكالية]

أ. د. محمد يحيى [*]

الأساس لهذا المصطلح الذي شاع استخدامه في دنيا الصحافة والسياسة حتى

وقت قريب هو الكلمة اللاتينية التي تعني «الجذر» مع اشتقاقاتها المختلفة،

وحسب هذا الأصل اللغوي يعني المصطلح عامةً: أي توجه أو نشاط أو فعل

ينصبُّ على أصول وجذور أو أسس المسائل والقضايا في المجال المعين الذي

يستعمل المصطلح فيه. غير أن هذا الوصف العام لمعنى المصطلح لا يفي ولا

يشفي في وصف كيفية استعماله في الفكر السياسي والاجتماعي الغربي على مدى

القرن العشرين؛ فالمصطلح أطلق في نهايات القرن التاسع عشر ثم بدايات القرن

العشرين على الحركات السياسية والفكرية والاجتماعية الرامية إلى إحداث تغيير

شامل وانقلاب عام في حياة المجتمعات الغربية، ولما كانت هذه الحركات في المقام

الأول هي الحركات الثورية ذات الميل اليساري بأطيافه الشيوعية والاشتراكية

لصق استعمال المصطلح بها في المقام الأول.

ولكن مع تعدد هذه الحركات وكثرة الانقسامات والانشقاقات فيها أصبح

المصطلح على درجة من التجرد والعمومية وسعة الانطباق؛ مما كاد أن يخرجه من

دائرة المصطلح المضبوط إلى أن يصبح مجرد وصف معمم يصلح للكتابات

الصحفية المتسمة عموماً بعدم الدقة والعمومية، ومع هذا التحول في انطباقية ودلالة

المصطلح توسع إطلاق هذا اللفظ من مجرد وصف حركات ذات طابع سياسي في

المقام الأول إلى وصف التوجهات الفكرية في شتى مجالات المجتمع مما تسعى إلى

إدخال التغيير الواسع النطاق والكيفي (قبل الكمي) في تلك المجالات.

وهكذا أطلق لفظ الراديكالية مع تقدم سنوات القرن العشرين على حركات في

المجتمع والأدب والفن في الغرب تسعى لقلب الأوضاع التقليدية المستقرة،

والممارسات والمفاهيم الراسخة في ميادين الفلسفة والنقد الأدبي والفكر الاجتماعي.

وبعد ذلك تخصص استعمال المصطلح على سعته ليطلق فقط على حركات

التغيير الشديد والحاسم، ودعوات القطيعة مع التقاليد وقلب الأوضاع، والثورية في

شتى ميادين الحياة في وجه حركات تدعو للتغيير المعتدل أو المحدود أو التدريجي.

باختصار: ألصق المصطلح بمعنى «الثورية» في العقود الأخيرة؛ وهنا

حاق به ما حاق بمفهوم «الثورية» نفسه الذي أصبح سيئ السمعة في الغرب،

وفقد بريقه مع ترسخ النظام الرأسمالي الجديد وسقوط الأنظمة الشيوعية، ومن

التطورات الأخيرة التي مست المصطلح في العقدين الأخيرين بالذات إطلاقه على

العديد من الحركات الإسلامية في بلدان عديدة، وفي هذه الحالة مثَّل مصطلح

«الراديكالية» بديلاً يحمل رائحة الموضوعية لمصطلحات أخرى تتسم بالطابع

الإثاري والغوغائي مثل: «الأصولية» و «التطرف» و «الإرهاب» .. إلخ.

وعند وصف الحركات الإسلامية يُستخدم المصطلح في بعض الكتابات الغربية

وحتى في البلاد الإسلامية ذات الطابع المتسم بالأكاديمية ليدل على تلك الجماعات

والتوجهات التي تسعى لقلب الأنظمة العلمانية وإحلال حكومات إسلامية محلها أو

على تلك الحركات التي تسعى لتغيير اجتماعي شامل في البلدان الإسلامية يواجه

الأوضاع العلمانية المتغربة التي سادت على مدى معظم فترات القرن العشرين في

بعض تلك البلاد. ومن الواضح أن إطلاق مصطلح الراديكالية على حركات

إسلامية معينة يحمل في طياته تمييزاً لها عن حركات أخرى يراها الدارسون

والكتَّاب من وجهة نظر غربية أو علمانيةٍ يرونها معتدلةً من حيث إنها في ظنهم لا

تعمل على إحداث تغيير إسلامي شامل في مواجهة المفاهيم المتغربة والعلمانية

الرائجة في البلدان الإسلامية. والوصف هنا يعني وسم هذه الحركات بالثورية في

وقت أصبحت فيه «الثورية» من أي نوع اتجاهاً مكروهاً في الغرب؛ وحتى في

تلك البلدان التي كانت حتى الماضي القريب تعتبر من رواد دعوة الثورية في

السياسة والاقتصاد.

وهكذا ظلت معاني ودلالات مصطلح الراديكالية ثابتة تقريباً على مر القرن

وإن تغيرت الظلال السلبية والإيجابية لهذه الدلالات والمواقف المتخذة من المصطلح

مع تأرجح وتغير وتبدل المواقف من قضية الثورية والتغير الجذري الشامل في

المجتمعات والفلسفات الأوروبية؛ فبعد صعود طويل وجاذبية مستمرة لفكرة الثورية

انقلب المد وانعكس إلى جذر، وبعد أن كانت الراديكالية تعني عندهم جدة وجرأة

الفكر والتطبيق والابتكارية في الفهم واقتراح الحلول والسير في طريق الإصلاح

إلى مداه تحولت لتعني الطيش والرعونة والجمود وعدم المجاراة للواقع والإخفاق

في الفهم لدقائق وتفاصيل القضايا، ولعل هذا هو أحد أسباب إطلاق المصطلح على

الحركات الإسلامية الثورية لتشويه صورتها بوضعها في صورة التيار الرجعي

الغابر، أو للإيحاء بعدم واقعيتها وعدم فهمها لحقائق العصر الحديث.

والواقع أن سقوط مفاهيم وتوجهات الراديكالية (الثورية) في الفكر والفعل

الغربي قد أدى في السنوات الأخيرة إلى شبه اختفاء لهذا المصطلح بحيث لم يعد

يطلق إلا على حركات خارج الإطار الغربي في البلدان الإسلامية أو في بعض

بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، وربما كان لعدم وجود حركات سياسية واجتماعية

وفكرية ثورية في الغرب الدور الأساس في شبه الاختفاء أو لذوبان هذا المصطلح

الذي يبدو أنه تعرض للمسار المألوف الذي يحدث لبضاعة الغرب الكاسدة، وهو أن

تصدر للاستعمال في الخارج!


(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.