للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كتاب في مقال

منصور الأحمد

لاشك أن كل موضوع يكتبه الكاتب، وكل مقالة يخطها قلمه، يكون وراءهما

أسباب ودوافع تدفعه إلى اختيار ما اختار.

فما الذي دعاني إلى اختيار هذا الموضوع، وما الشيء الذي يحسن التنويه به، والذي ألحّ عليّ لأقدم هذه الكلمة حول كتاب: (النبأ العظيم) ؟ .

هناك سببان رئيسيان:

١- شخصية الكاتب.

٢- وموضوع الكتاب.

أما الكاتب، فهو الدكتور محمد عبد الله دراز، رحمه الله، وهو عالم غني

عن التعريف، من حملة لواء الثقافة الإسلامية المعاصرة.

وفي حياة هذا العالم مواطن للعبرة، يحسن بنا أن نقف عندها ونقدمها للشباب

المسلم في كل مكان.

فأول ما يفجؤك في هذه الشخصية هذا التزاوج الفذ، والتلاقح الغني بين

ثقافتين متباينتين، عادت نتيجته بالخير العميم على الثقافة الإسلامية.

وفي مجال الصراع الفكري والثقافي الذى خاضه المسلمون في العصر

الحديث، وجدنا ألواناً متعددة من التأثر.

_ فهناك طائفة خضعت خضوعاً كاملاً وذليلاً للثقافات الغازية.

- وطائفة شعرت بشراسة الهجمة الفكرية ووطأتها، فاستعصمت بخطط

دفاعية، إن نفعت في رد عادية الغازي الواغل (الذي يدخل في القوم وليس منهم)

مؤقتاً، فهي لن تنفع أمام فكر لا يزال يستخدم كل أساليب الحيلة والمكر، وينصب

كل أحابيل الشيطان الكرة بعد الكرة ليستأنف هجومه عوداً على بدء.

- وطائفة ثالثة أغمضت عيونها، وأصمت آذانها عن كل ما هو غريب عن

الإسلام والمسلمين، متجاهلة أن هذه الأرض يعيش عليها المؤمن والكافر،

ويتجاور فيها البر والفاجر، وأنها -بفضل المكتشفات العلمية الحديثة، والسرعة

الخيالية التي تطورت فيها وسائل الاتصال- قد ضاقت رقعتها، وتضامَّت أطرافها،

فكان من شأن هذه الطائفة - مع توفر النيات الطيبة- أن عزلت نفسها في عالم

خاص اصطنعته لنفسها، ورضيه لها من يفرضون على أمتنا فكرهم وطريقة

حياتهم، فصار يُنظر إلى هذه الفئة نظرة منكرة، وكأنها خارجة للتوِّ من تحت

أطباق القرون، مع أنها تعيش في هذا العصر، ولكن بجسمها، بينما فكرها ملتفت

إلى الوراء فحسب، وقد خلقه الله ليلتفت إلى الجهات الست.

- وهناك طائفة رابعة، تشبعت بالثقافة الإسلامية الأصيلة، ولم يشفها ذلك،

حيث رأت نفسها تعيش في عالم تمور فيه الأفكار من كل لون، والثقافة التي

تشبعت بها قد زوحمت وحوصرت وأُقصيت من مجالاتها الحيوية، فلم يفتَّ ذلك في

عضدها، بل رأت أن الأمر جد، وأنه لابد من معرفة كنه هذه الثقافة الغازية،

ولابد من سبر غورها، وذلك لا يكون إلا بأخذ العدة لها، وخوض غمارها، فأقبلوا

على ذلك، غير مدخرين جهداً، بنفوس واثقة لا تعيقها عن غايتها عقدة نقص، ولا

يفتنها عن دينها بهرج الحضارة الغربية.

ومن هذه الفئة الأخيرة مؤلف هذا الكتاب محمد عبد الله دراز، فبعد أن حاز

أعلى الدرجات العلمية من الأزهر سافر إلى فرنسا، فقضى هناك حوالي أحد عشر

عاماً درس فيها مناهج البحث عند الغربيين، حتى هضمها وتَمَثَّلها أحسن تمثُّل،

وليس هذا القول من قبيل الدعاوى العريضة، فنظرة إلى ما ترك من آثار علمية

تجعلنا نستيقن ذلك.

وإن ما يستوقف النظر في شخصية هذا العالم أنه حينما يتناول ثقافة الغرب

تراه ناظراً إليها من عَلٍ، مشرفاً عليها من قمة الفكر الإسلامي، واضعاً لها في

الموضع الذي يجب أن تكون فيه، ثقافةً أرضيةً مبتوتةَ الصلة عن وحي السماء،

قامت على مبادئ الهيمنة، وبلغت أشدها في ظل الظلم والغرور، قصارى أهلها

والمفتونين بها أنهم [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ]

[الروم: ٧] .

والثقافة (الموسوعية) لهذا الرجل تغري الإنسان أن يلتفت حوله في أرجاء

العالم الإسلامي ليرى كثيراً من علماء المسلمين من يقف نفسه على كتب سلفنا

الصالح - ونعمت - لا يغادرها إلى غيرها، وينقضي عمره بالبحث عن دقائق

ما اختلفوا فيه من المشكلات، لا ليستخلص من ذلك منهجاً يعالج به مشكلات الحاضر، بل ليقنع نفسه ومن حوله بأن العلم هو هذا، وأن ما وراءه لا يعدل شيئاً.

نعم، إن هذا من العلم، ولكن بمقدار أن لا يشغلنا الماضي عن الحاضر

وبمقدار ما يفيدنا في حل المعضلات التي تأخذ منا بالنواصي والأقدام، وبمقدار ما

نتسلح منه بما نناضل به في ساحة صراع شرس، وحرب معلنة شُنت علينا

مستهدفة عقيدتنا وفكرنا وثقافتنا ووجودنا كله، وأي بقاء لأمة تذوب في غيرها؟ ! .

ومن أعجب العجب أنك تجد العالم في علم النحو والبلاغة والتفسير والفقه

والحديث لا يشق له غبار، إلا أنه قد يجهل أين تقع قدمه من خريطة العالم، ومن

الذى يتحكم بمصيره ومصير أمته ومن يتصرف بالنيابة عنه في أخص

خصوصياته، بل قد يجهل من الذى ضيّق مجال علمه، وأبعده من واقع الحياة، حتى جعله مقصوراً على حلقات بحث - إن وجدت - أشبه بمراجعة آثار بائدة، ومن أعجب العجب كذلك من تراه يريد تطبيق ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع وفد نصارى نجران على الغرب الصليبي وعلى أمريكا! .

إنه قد يكون استظهر حادثة وفادة وفد نصارى نجران على الرسول - صلى

الله عليه وسلم - وقارن بين الروايات، ووازن بين أقوال العلماء فيها ورجَّحَ..

ولكنه يجهل حال الغرب الصليبي العقائدية، ولا يعرف عن التطورات التي انتابت

المسيحية عبر تاريخها، لا من حيث بدايات التأثير الوثني، ولا من حيث تلاعب

الأهواء البشرية، بل وتلاعب اليهود بها حتى وقتنا الحاضر، فأين حال من حال،

وأين نصارى من نصارى؟ ! .

وهذا مثال ضربته لأشير من خلاله إلى أن تغيير حال المسلمين لا يكون إلا

بحسن فهم لثقافتهم، واعتزاز عميق بها مع معرفة عميقة ونظر وتحليل للظروف

الداخلية والخارجية التي تؤثر فيهم، أو يمكن أن تؤثر فيهم في المستقبل القريب أو

البعيد.

منهج المؤلف في التأليف:

نستطيع أن نتبين منهج المؤلف في التأليف من كلمة أحد العلماء

(شمس الدين البابلي، ت ١٠٧٧ هـ) ، وصدر بها كتابه: (دستور الأخلاق في القرآن) ، وهي:

(لا يؤلف أحد كتاباً إلا في أحد أقسام سبعة، ولا يمكن التأليف في غيرها، ...

وهي:

- إما أن يؤلف من شيء لم يسبق إليه يخترعه،

- أو شيء ناقص يتممه،

- أو شيء مستغلق يشرحه،

- أو طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه،

- أو في شيء مختلط يرتبه،

- أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه،

- أو شيء مفرق يجمعه ".

ومن هنا فإنه يتحدد مقصده من موضوعه هذا، وليس أكثر من الكتب

المؤلفة حول القرآن الكريم، تفسيراً، وأسباب نزول، وبيان إعجاز، ولكن كتاب "

النبأ العظيم " على صغر حجمه يظل معلمة بارزة تقف شامخة بين كل الدراسات القرآنية، وسر ذلك يكمن في:

١ - الوحدة الموضوعية:

فالقضية الأساسية التي يدور عليها الكتاب، والمحور الذي أدير عليه البحث

هو بيان مصدر القرآن هل هو الوحي الإلهي، أم أن محمداً صلى الله عليه وسلم

ابتدعه وألفه؟ .

حول هذه القضية تحتشد الأدلة المنطقية من أول البحث إلى منتهاه سواء ما

تعلق بشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ما تعلق بظاهرة الوحي، أو

ما تعلق منها بنص القرآن الكريم نفسه.

ففيما يتعلق بشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرض شواهد من

سيرته تجاه القرآن " لها شواهد ناطقة بصدقه في أن القرآن لم يصدر عنه بل ورد

إليه وأنه لم يفض من قلبه بل أُفيض عليه " ص٣٢.

وكذلك يستنبط من سيرته العامة مجموعة من الأخلاق العظيمة، كأمثلة

تصور لنا هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنساناً الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين: تواضع هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء " ص ٣٢.

ويفنِّد الاحتمالات التي يثيرها الملحدون والمعاندون خلال محاولاتهم

القديمة والحديثة للتشكيك في مصدر القرآن، ماراً خلال تفنيده بالفروق الجوهرية بين القرآن والحديث، واستحالة أن تكون المعلومات التي تضمنها القرآن الكريم مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور.

ثم يخلص إلى شبهة أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تلقى

هذا القرآن من معلم وبعد مناقشة مستفيضة لهذه الشبهة ودحضها بالبراهين الدامغة

يقول لمن يزعم أن محمداً كان يعلمه بشر: " قل لنا ما اسم هذا المعلم؟ ومن الذي

رآه وسمعه، وماذا سمع منه، ومتى كان ذلك، وأين كان؟ ... " ص ٦٣.

وبعد أن أثبت استحالة أن يكون للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر، انتقل إلى المرحلة الثالثة ليبحث عن ذلك المصدر في

أفق خارج عن هذا الأفق الإنساني جملة، وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان

يظهر فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -،

فاستعرض الكيفيات التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستقبل فيها الوحي

، وأنها لم يكن فيها شىء متكلفاً مصنوعاً، وأنها " " مباينة للأعراض المرضية،

والنوبات العصبية التي تصفرُّ فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتصطك الأسنان،

وتتكشف العورات، ويحتجب نور العقل، ويخيم ظلام الجهل " ص٧٢.

وبعد أن درس الطريق التي جاء منها القرآن، ولم يجد " في

اعترافات صاحبه، ولا في حياته الخلقية، ولا في وسائله وصلاته العلمية، ولا في سائر الظروف العامة والخاصة، ولا في وسائله وصلاته العلمية التي ظهر فيها القرآن إلا شواهد ناطقة بأن هذا القرآن ليس له على وجه الأرض أب ننسبه إليه من دون الله " ص ٧٦، تقدم مع الذين لا يعلمون عن تلك الحياة النبوية إلا قليلاً، ويريدون أن يأخذوا حجة القرآن لنفسه من نفسه، تقدم معهم خطوة أخرى، فبين لهم أن هذا الكتاب يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، فدرس نواحي الإعجاز القرآني الثلاثة:

الإعجاز اللغوي، والإعجاز العلمي والإعجاز الإصلاحي.

فمن ناحية الإعجاز اللغوي فند الشبهة الممكنة حول هذه القضية، وهي:

- شبهة القدرة على محاكاة القرآن.

- وشبهة من ينسب هذه القدرة إلى غيره.

- وشبهة أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تكن بسبب عجزهم بل بسبب

انصراف هممهم.

- وشبهة من يظن أن إعجاز القرآن لم يكن من الناحية اللغوية.

- وشبهة من يقول: إن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليست

بسبب خصوصية القرآن، بل لأن أسلوب كل قائل أو كاتب صورة لنفسه لا

يستطيع أحد غيره أن يجاريه فيه. وهنا يصل إلى إبراز بعض أسرار الإعجاز

القرآني، فينظر أولاً في القشرة السطحية للفظ القرآن، ثم يقدم نظرات في لب

البيان القرآني وخصائصه التي امتاز بها عن سائر الكلام، سواء في الفقرة التي

تتناول شأنا واحداً، أو في السورة التي تتناول شؤوناً شتى، أو فيما بين سورة

وسورة، أو في القرآن جملة.

ويطبق هذه النظرات على آية يختارها من عرض القرآن، فيبلغ القمة ويحلق

إلى أجواء لم يسبق إليها. ثم يختم الكلام على الوحدة الموضوعية لسور القرآن،

ممثلاً لذلك بأطول سورة منه: " سورة البقرة ".

٢ - امتلاك المؤلف أدوات البحث والهيمنة عليها:

ويظهر هذا الأمر- بادىء ذي بدىء - من تحديده للموضوع الذي يطرحه،

فيحرر محل النقاش -شأنه شأن علمائنا القدامى - ويستبعد مالا يدخل تحت التساؤل، انظر إليه كيف يدخل إلى المشكلة:

" لقد علم الناس أجمعون علمأ لا يخالطه شك، أن هذا الي الكتاب العزيز جاء

على لسان رجل عربي أمي ولد بمكة في القرن السادس الميلادي، اسمه محمد بن

عبد الله بن عبد المطلب - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - هذا القدر لا

خلاف فيه بين مؤمن وملحد، لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها

شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض.

أما بعد، فمن أين جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أمن عند نفسه،

ومن وحي ضميره، أم من عند معلم؟ ومن هو ذلك المعلم؟ ص٢٠.

وأنت، إذا قرأت الكتاب بروية، وجدت فصوله وفقراته، كلاً منها يسلمك

إلى ما بعده، ويأخذ بعضها بأكناف بعض، وقد انتظمت حججه وأدلته، فبعضها

يستنبط من البديهيات العقلية، وبعضها متضمن للقواعد المنطقية، وبعضها مأخوذ

من المعلومات التاريخية والأدبية، ويغذي كل ذلك خلفية علمية بادية في أسلوبه

واستحضار مدهش لآيات القرآن الكريم والمسائل المطروحة حوله يقول بعد أن

أنهى الكلام على ٩١ من سورة البقرة (ص ١١٩ وما بعدها) :

ولو ذهبنا نتتبع سائر ما في هذه القطعة من اللطائف لخرجنا عن حد

التمثيل والتنبيه الذي قصدنا إليه. فلنكتف بتوجيه نظرك فيها إلى سر دقيق، لا

نراه في كلام الناس، ذلك أن المرء إذا أهمه أمر من الدفاع أو الاقناع أو غيرهما

بدت على كلامه، مسحة الانفعال بأغراضه، وكان تأثيره بها في نفسك على قدر

تأثره هو، طبعاً وتطبعاً، فتكاد تحس بما يخالجه من المسرة في ظفره ومن

الامتعاض في إخفاقه، بل تراه يكاد يهلك أسفًا لو أعرض الناس عن هداه إذا كان

مؤمنًا بقضيته، مخلصاً في دعوته، كما هو شأن الأنبياء -عليهم السلام-. أما هنا

فإنك تلمح وراء هذا الكلام قوة أعلى من أن تنفعل بهذه الأغراض؟ قوة تؤثر ولا

تتأثر، تصف لك الحقائق خيرها وشرها، في عزة من لا ينفعه خير، واقتدار من

لا يضره شر.

هذا الطابع من الكبرياء والعظمة تراه جليًا من خلال هذا الأسلوب المقتصد

في حجاجه أخذاً وردًا، المقتصد في وصفه مدحاً وقدحاً ص١٢٧.

٣- التوفيق بين الدقة العلمية وإشراق الأسلوب:

إنها معادلة صعبة، أن يوفق الكاتب بين هذين الأمرين: دقة علمية بالغة،

وأسلوب يملك عليك فكرك ويأسرك بإشراقه وحيويته.

وكثيرا ما ضحى علماء كبار بجمال الأسلوب ونصاعته في سبيل تحديد الفكرة

التي يعالجونها وإيضاحها، وعلى النقيض من أولئك جاءت أساليب بعض العلماء

فارغة جوفاء حينما ولوّا وجوههم شطر التجويد في الأسلوب، والتنميق في الشكل، فسوّدوا صحائف يحسبها الظمآن ماءً، وما هي إلا سراب.

أما هنا، فتجد هذه الميزة - ميزة عدم طغيان أحد طرفي هذه المعادلة على

الآخر - واضحة جلية، وكأنما ذاك نتيجة للميزة الثانية للكتاب: (امتلاك المؤلف

لأدوات البحث) .

ومما عزز ذلك -والله أعلم - تشبعه بأسلوب القرآن الكريم ومنهجه، فلا تكاد

تجد فقرة من فقرات الكتاب لا يظهر فيها انعكاس الأسلوب القرآني على أسلوب

الرجل، واستخدام الجملة القرآنية استخداماً أخاذاً في مطابقته للفكرة، ومناسبته

وامتلاكه لشعور القارىء.

وإنه ليصعب على الدارس أن يختار مثالاً على هذه الميزة من الكتاب، وذلك

لأنه كله دليل على ذلك، وأية فقرة اخترتها فأنت واجد في غيرها ما قد يكون أدل

على ذلك. ولكن خروجاً من هذه الحيرة فإننا نثبت هنا تعقيبه على موضوع الآيات

(١٣٥ - ١٦٢) من سورة البقرة:

(أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل، كيف رتبها مرحلة مرحلة، وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة؟ فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها، لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين، وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين متنائيين، فهي في جملتها مناجاة من الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في خاصة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم، ولكنه جعل هذه النجوى طرفين، لوّن كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به، فالتقى المقصدان على أمر قد قدر.

ألم تر كيف بدأها بأن قصّ على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق

الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها فجعل يمسح غبار الشبهة عن

وجهها، حتى جلاها بيضاء للناظرين، فكانت هذه البداية - كما ترى- نهاية لتلك

المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان ثم رأيت كيف ساق الحديث

فجعل يثبت أقدام المؤمنين على تلك الحقائق النظرية والعملية، ويحرضهم على

الاستمساك بها في غير ما آية..

أفلا تكون هذه النهاية بداية لمقصد جديد بعدها يراد به هداية المؤمنين إلى

تعاليم الإسلام مفصلة؟ .

بلى.. إن ذلك هو ما توحي به سياقة هذه النجوى المتواصلة، التي مدت في

خطاب المؤمنين مداً، وحولت مجرى الحديث معهم رويداً رويداً، حتى صار كل

من ألقى سمعه إليها ملياً، يسمع في طيها نداء خفياً: أن قد فرغنا اليوم من الأعداء

جهاداً وأقبلنا على الأولياء تعليماً وإرشاداً، وأن قد طوينا كتاب الفجار، وجئنا نفتح

كتاب الأبرار، وأن هذه الصفحة الأخيرة من دعوة بني إسرائيل لم تكن إلا طليعة

من كتائب الحق، تنبئ أن سيتلوها جيشه الجرار، أو شعاعة من فجر الهدى

سيتحول الزمان بها من سواد الليل إلى بياض النهار. ألا ترى الميدان قد أصبح

خالياً من تلك الأشباح الإسرائيلية التي كانت تتراءى لك في ظلام الباطل تهاجمها

وتهاجمك، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟) ص ١٨٩.

وبعد؛ فإن لم أكن قد وفيت هذا الكتاب حقه من التعريف، فلا أقل من أن

أكون قد أغريت القارئ بقراءته، وذلك حسبي.