للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[ولنصبرن على ما آذيتمونا]

إذاأراد المشرفون على الإعلام الغربي أن يهاجموا شخصاً وينزلوه من عليائه -

إذا كان في منزلة لها أثر- فإنهم يُطبِقون عليه من كل الجهات، وتنهال الكتابات

عنه انهيالاً، وتنثال انثيالاً، فمن محلل لشخصيته وعيوبها؛ ومن مكبر لأخطائه

ودافن لحسناته، ومستصغر لها؛ أو مشكك في الباعث عليها، ولا يسلم منه حينذاك

شيء، لاجسمه ولا قسماته، ولا ثيابه ولا طريقة إشارته، وما يزالون يبدئون

ويعيدون في ذلك خلال أسبوع أو أسبوعين حتى يجتمع لك مما قالته فيه الصحف

والمجلات والإذاعات مقدار هائل يعجز عن الإحاطة به المتخصصون، ويضل

المؤرخ في محاولة البحث عن الحقيقة بين ثناياه.

وعلى العكس من ذلك إذا اتجهت النية إلى إحلال شخص مكانة مهمة فينقلب

القدح مدحاً، وتسخر الأقلام والأجهزة لاختلاق مزايا ومناقب، بل تعد مكاتب

متخصصة للرصد والتنبؤ من أجل المساهمة في صنع الشخصية، وأمامنا مثل

صارخ ومحير لأول وهلة، ولكن هذه الحيرة سرعان ما تذوب بعد فترة تفكير

قصيرة في ما وراء الكَتَبة وما يكتبون.

وهذا المثل هو: بنازير بوتو. فقد بدأت أجهزة الإعلام الغربية حفلة تنصيبها

قبل تسميتها لهذا المنصب بمدة ليست بالقصيرة، أي قبل موت ضياء الحق،

وطبقت عليها نظرية (مرآه الكف [١] ) (التي ذكرها مالك بن نبي) بمهارة، بل

بشطارة [٢] . بل وضعت حواليها مرايا كثيرة كل منها عكست عليها لوناً طريفاً،

وأعطت لشخصيتها بعداً مسانداً.

أول هذه المرايا: أنها خريجة أكسفورد ونتاج الثقافة الإنكليزية العريقة وإذا

كان للمتثقف بالثقافة الإنكليزية ذلك السطوع في البلاد التي استعمرتها بريطانيا يوماً

ما، فما بالك إذا كانت هذه الثقافة لبست لبوس (أكسفورد) وادّهنت بدهن (أكسفورد) ؟ !

وثانية هذه المرايا: أنها بنت السياسي العريق، والمتهم المظلوم الذي غدر به

صنيعته (أي ضياء الحق) ليحكم البلاد حكماً فردياً طيلة أحد عشر عاماً بعيداً عن

الديموقراطية التي كان يحبها ذو الفقار علي بوتو حباً جماً!

وثالثة هذه المرايا: أنها خارجة من بيئة إسلامية، هذه البيئة التي تكبح المرأة، وترى من غير الطبيعي إسناد بعض الوظائف والمناصب لها، ولذلك فهي (صيد

سمين) ، وإذا رشحت لرئاسة الوزراء في بلد مسلم فهذه سابقة لها ما بعدها.

ومرايا كثيرة نصبت حولها، ومبالغات وتملق، لم يتركوا شيئاً لم يتناولوه

بالوصف والتعلق: جسمها، قوامها، وشعرها، وبسمتها، ونظراتها وسحرها،

وتفاصيل ملابسها، هذه فقرة من مقال عنها:

(بنازير بوتو التي قابلتها مصادفة في ردهة فندق ضخم؛ رشيقة، نضرة،

كانت تضع قطعة قماش شفاف على شعرها، وترتدي بلوزة فضفاضة، وسروالاً

واسعاً، كلاهما أبيض، وعلى كتفيها شال قطني ذو لونين: خمري وأسود، ممهور

بأحرف اسم حزبها بالحروف اللاتينية (P. P. P.) وبالعربية (ب. ب. ب) [٣] .

أترى أنه يصف عارضة أزياء؟ .

وخلال مدة قصيرة صنع الإعلام الغربي بنازير بوتو وأحلها هذه المكانة، وما

زالت مساحة المعجبين المسيّرين تتسع وتتسع، وتضم في خضمها ناساً من مختلف

الطبقات والمستويات والثقافات.

ونحن إذ نذكر ذلك ونستشهد به فلكي نرى كيف تصنع الأساطير في دهاليز

الأساطير، وهي أجهزة الإعلام، ولكي نتبين مواطئ أقدامنا، ونقيس قدراتنا إلى

هذه القدرات الشيطانية التي يمتلكها هذا الإعلام الكافر الذي يحارب الحق بالأباطيل، ويغطيه بالأساطير.

وإنه ليحز في النفس أن تنعكس الصورة الشريرة لهذا الإعلام على شعوب

الأمة الإسلامية، وتبتلى به في عقر دارها على أيدي المقلدين والممسوخين الذين

يقلدون الغربيين في أسوأ أعمالهم، وإذا كان الإعلام الغربي يترك مجالاً لوجهات

النظر المختلفة أن تأخذ مداها مناقشة ومدافعة؛ فإن ربيبه المتسلط فوق رقاب

المسلمين لا يؤمن بخرافة اختلاف الرأي؛ بل يحب الوحدة والتوحد والتفرد،

فيحمل وجهة نظره الأحادية، ويقرع بها الخصوم صباح مساء واذا لم تدخل

طواعية، أدخلت قسراً، وإذا استعصت العقول على حملها فلتلغَ العقول، أو

فلتختف الرؤوس التي تحمل تلك العقول التي عجزت عن استحسان ما لا يستحسن!.

إن القهر الفكري المضروب على المسلمين - وقد شارف هذا القرن على

الانتهاء - ليزري بكل القهر الذي ذاقوه في تاريخهم الطويل، وإن الاستبداد الذي

ألفت فيه الكتب والمقالات عرفه للناس، وعُرِّف به عن طريق ما كتب عنه في

وقته، أما ما يتقلب فيه المسلمون اليوم فربما يبدو للأجيال اللاحقة على أنه نعيم

مقيم، ولسنا متأكدين إن كان التاريخ سيستنطق من شهوده من يمكنه النطق قبل أن

تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

لكن مهما أصر الغي على غيه، وتشبث بباطله؛ فإن على المسلم أن يقابل

ذلك بالصبر والمصابرة، والإصرار على الحق الذي يؤمن به، ولا يلفته عن ذلك

ما يلاقي من كيد وعنت ومكابدة، فهذه هي سنة الله في أنبيائه ورسله وحملة دعوته، [وَمَا لَنَا

أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى

اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ] .


(١) ذكر ذلك مالك بن نبي في كتابه: (الصراع الفكري) .
(٢) بمعناها اللغوي لا العرفي.
(٣) The Guardian Weekly ٣٠/٧/١٩٨٩ م.