للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[مجلس الأعيان الأفغاني (لويه جركه)]

طريق نحو السراب

جان محمد مدني [*]

كم يأسف الإنسان حينما يرى امتهان الشعوب في عقر دارهم، ومصادرة

آرائهم في زمن يدَّعى فيه مراعاة حقوق البشر، واحترام الرأي الآخر.

والأدهى والأمرُّ حينما تستقبل الكثرة الكاثرة من الناس عبر وسائل الإعلام

المختلفة ادعاءات كاذبة، وتصدقها كأنها حقيقة ثابتة.

أمريكا بعنصريتها المتأصلة وعداوتها القديمة ضد الإسلام والمسلمين، بعدما

ضاق ذرعها بتحمل الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وبعدما أخفقت في محاولات

تضييق الخناق عليها، وبفرض الحصار تلو الحصار؛ أجلبت عليها بخيلها ورجلها،

وكل ما ملكت من عدة وعتاد، وبمباركة دولية، مستغلة أحداث ١١ سبتمبر.

واعتدت اعتداء آثماً على مرأى ومسمع من العالم كل العالم على الشعب الأفغاني

المسلم المسالم الآمن، وألحقت به الدمار والخراب، وبمجرد الشبهة أو حتى بدونها

سحقت المدن والقرى، ودفنت الأحياء تحت الأنقاض، وحولت الأبرياء إلى أشلاء،

كل ذلك وهي تدعي القيم الأخلاقية واحترام حقوق الإنسان.

وبعد هذا الحيف والاعتداء بدأ المشهد الأمريكي الثاني، وشكلت حكومة عميلة

في (بون) بمبادرة أمريكية، ومباركة من الدول الأوروبية وما يسمى بالأمم

المتحدة في غياب من أهل الدار والقرار، كان منها عشرة وزراء يحملون الجنسية

الأمريكية على رأسهم رئيس الوزراء (كرزاي) ، وصُدرت إلى أفغانستان مغلفة

معقمة ولكنها غير طاهرة ولا مطهرة، وتربعت على عرشها لتكون موثقة للجرائم

الأمريكية.

وبعد مرور ستة أشهر، وإنفاق مئات الملايين من الدولارات، واستخدام

التقنية الحديثة، ومساندة دول الغرب والشرق، واستدعاء ما يسمى بقوات حفظ

السلام، وإحضار الملك السابق، بعد كل هذا أخفقت أمريكا وحلفاؤها إخفاقاً ذريعاً

في تحقيق ما أرادوا، ولم يبسطوا سيطرتهم على أفغانستان، بل تركَّز نفوذهم في

العاصمة كابل فقط، ولم يستطيعوا القضاء على المجاهدين كما زعموا.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ

عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال: ٣٦) .

* الوضع الإداري والأمني في البلاد:

تحكم البلاد حكومات متعددة ومتنازعة، حكومة في مزار الشريف بميليشياتها

المسلحة وإدارتها المستقلة، وحكومة في هرات، وحكومة في قندهار، وحكومة في

جلال آباد، وحكومة في كابل، وفي داخلها أجنحة متصارعة كلٌّ يحاول التخلص

من الآخر، وتحدث بينها مواجهات واشتباكات مسلحة من وقت لآخر.

وسادت الفوضى، وانعدم الأمن، وكثر السلب والنهب وقطع الطرق،

وانتشر أخذ الثارات وحب الانتقام، والنعراتُ القبلية، وعجزت القوات الأمريكية

وقوات الأمم المتحدة أن تعيد الأمن الذي كانت تنعم به البلاد أيام حكم طالبان،

وأدركت الولايات المتحدة الأمريكية أنها دخلت في نفق مظلم لا نهاية له.

لإسكات الأصوات الداخلية، وصبغ الحكومة العميلة بصبغة وطنية انعقد ما

سُمِّي بمجلس الأعيان (لويه جركه) لتوثيق القرارات المتخذة مسبقاً، وفتح

الأبواب لتنفيذ المطالب الدولية، وتحقيق مآربها.

* المآخذ على المجلس وما انبثق منه:

١ - المجلس بدءاً باللجنة التحضيرية، ونهاية باختيار الممثلين، لم يمثل

الشعب الأفغاني على وجه الحقيقة، من حيث العلماء، وشيوخ القبائل، والقيادات

الصالحة من الحضور والمرشحين.

٢ - دعاة العلمنة والسفور والتغريب يمثلون أكثر من نصف المجلس رجالاً

ونساء، وقد دُعوا من الغرب لهذا الغرض، وكثير منهم يحملون الجنسيات الغربية

بدءاً من (كرزاي) ، وما استطاع المجلس طوال فترة مناقشاته الصاخبة إضافة

كلمة (الإسلامي) إلى اسم الجمهورية، وعلى هذا فقِسْ.

٣ - طوال أيام انعقاد المجلس لم يناقش أيُّ موضوع مهم ومصيري للبلد غير

توثيق قرار تمديد فترة (كرزاي) المتخذ سلفاً. أما تشكيل الحكومة، وتوزيع

الحقائب الوزارية على الأعراق، وتشكيل الجيش الوطني، والوضع الاقتصادي،

ومصير أموال الدول المانحة، ومهمة ما يسمّى بقوات حفظ السلام، ومستقبل

القوات الأمريكية، ومصير الميليشيات الداخلية وتجريدها من السلاح وضمها تحت

وزارة الدفاع، فلم يفصل في شيء منها.

٤ - عدم تشكيل المجلس النيابي المنبثق من مجلس الأعيان لمراقبة ومحاسبة

أداء الحكومة.

٥ - التدخل الأمريكي المباشر في قرارات المجلس، وأخذ التوقيع من الملك

السابق ورباني مسبقاً، بعدم ترشيحهما لمنصب الرئاسة مقابل (كرزاي) الذي قدم

على أنه الخيار الوحيد، وكان للممثل الشخصي للرئيس الأمريكي (زلمي خليل زاد)

وهو أمريكي من أصل أفغاني التأثير الأبرز في صناعة رأي المجلس وتسيير

اتجاهه!!

٦ - انتخب (قاسم يار) أميناً عاماً لمجلس الأعيان الأفغاني، وهو شيعي من

هرات، لكنه ذو توجه علماني تربى في أوروبا، وله حوالي خمس وعشرين سنة

لم يدخل إلى أفغانستان..!!

٧ - ناقش أعضاء المجلس حلَّ الميليشيات العسكرية الداخلية، واتفقوا على

ذلك من حيث المبدأ، لكن سرعان ما حصل صراع طاحن بعد انفضاض المجلس

بين قوات (عبد الرشيد دوستم) وقوات (عطا محمد) أحد القواد العسكريين

لمجموعة (محمد فهيم) وزير الدفاع، مما يؤكد غلبة المصالح الشخصية، وأن

التنافس على تحقيق أعلى المصالح هو الذي يحكم كثيراً من مواقف رجال القبائل

والميليشيات الحزبية.

٨ - حاول بعض المجاهدين القدامى المتعاونين مع الحلف الأفغاني الشمالي

أن يسعى لتحقيق بعض المصالح، ولكن تواطأ العلمانيون في المجلس على

محاصرتهم وتهميشهم!!

٩ - المستفيد الوحيد من مجلس الأعيان الأفغاني هو أمريكا، ورجلها المنفذ

لسياستها (كرزاي) ، والشيوعيون السابقون الذين كان لهم حضور بارز في

المجلس.

١٠ - ما ظهر في المجلس أثناء المداولات من مهاترات كلامية، وتراشق

بالأكواب والكراسي وما تبعه من تصريحات إعلامية ناقدة، يدل على إفرازات هذا

المجلس.

* قراءة في مستقبل أفغانستان:

١ - الحكومة الجديدة التي شكلها الرئيس حامد كرزاي بعد تمديد فترة رئاسته

لا تختلف كثيراً عن الحكومة المؤقتة السابقة، فمعظم الوزراء ذوو نَفَسٍ علماني

وولاء غربي، وقد تم إقصاء أربعة وزراء محسوبين من أنصار الملك السابق

ظاهر شاه، كما تم إقصاء يونس قانوني من الداخلية، وعرض عليه لاسترضائه

عدد من المناصب مثل وزارة التربية والتعليم فاضطر لقبولها بشرط أن يعين

مستشاراً للأمن القومي وتم له ذلك، وهذا يدل على اتجاه كرزاي إلى إجراء تصفية

أخرى تضمن رضاء أمريكا التام.

٢ - هناك تذمر واستياء كبيران للعرق البشتوني الذي يمثل ٦٠% من الشعب

الأفغاني من إهمالهم والإجحاف بحقهم في تشكيلة الحكومة، وتسليم الوزارات

السيادية للعرق الطاجيكي، وسحبت وزارة الداخلية عن يونس قانوني، وعين

عليها تاج محمد وردك وهو بشتوني تربى وعاش مدة طويلة في الولايات المتحدة

الأمريكية، ومع هذا لم تسلم له الوزارة إلى كتابة هذه السطور، فلا البشتون رضوا

لأنهم لم يعطوا لهم شيئاً، ولا الطاجيك راضون أيضاً لأنهم يريدون كل شيء، وما

(كرزاي) إلا بُوق من أبواق التحالف الشمالي، والمتوقع أن تسود الفوضى،

وعدم الرضا، ولن تستطيع أمريكا السيطرة على الموقف لضعف موقفها هي في

الداخل.

٣ - انقلاب (كرزاي) على الملك السابق ظاهر شاه الموعود بانتخابه رئيساً

للدولة، وتهميش دوره، واستقالة أعوانه من الوزارات، سيحدث خروقات أخرى

في حكومة (كرزاي) .

٤ - يشهد التحالف الشمالي انقساماً على نفسه بسبب الأهواء وتصارع

المصالح، حيث شكل كل من محمد فهيم (وزير الدفاع في حكومة كرزاي والرجل

الأقوى في الحلف والحكومة) حزباً مستقلاً، وشكل رباني حزباً آخر، وشكل أحمد

ولي مسعود (أخو أحمد شاه مسعود) حزباً ثالثاً. ولوّح يونس قانوني بتشكيل

حزب آخر، وكل ذلك ثغرة أخرى في جدار التحالف وستؤدي إلى التناحر وعدم

الاستقرار.

٥ - غالبية الشعب الأفغاني يعلم علم اليقين أن الولايات المتحدة الأمريكية

وحلفاءها لم تأت لترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، ولم تأت لتحقيق العدالة والحرية

ونحوهما من الشعارات التي يرددها ساستهم، ولم تأت من أجل تطوير أفغانستان

تقنياً وحضارياً، لكن أدرك العامة فضلاً عن الخاصة مغزى الحملة الأمريكية؛

ولهذا كثر استشهاد العامة في مجالسهم ومنتدياتهم ومساجدهم بقول الله عز وجل:

[وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] (النساء: ٨٩) ، وقوله جل وعلا:

[وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم]

(البقرة: ١٠٩) ، وقوله عز من قائل: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى

حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم] (البقرة: ١٢٠) .

وما فتح أبواب الخمور والسفور والفجور، وفتح المجال لكل منصِّر وفاجر

وكافر، وفتح المكاتب للإرساليات الكنسية والمنظمات الهندوسية باسم الإغاثة

والمساعدة الإنسانية، ومحاربة الدعاة والدعوة والتوعية بدعوى الحرب ضد

الإرهاب إلا دليل واضح على حربهم ضد الإسلام.

والمتوقع أن الشعب الأفغاني المسلم سيدافع عن دينه وعقيدته وعرضه

وأرضه، والهدوء العارض ليس هو النهاية، ولا قناعة به، بل هو تهيئة للمعركة.

وما العمليات الجهادية النوعية المؤثرة التي حدثت مؤخراً وسط صمت إعلامي

رهيب إلا بداية المرحلة.

٦ - ستشهد أفغانستان وضعاً اقتصادياً أسوأ من ذي قبل بسبب الظروف

الأمنية، ولن يكون مصير أموال الدول المانحة إلا الإنفاق لإرضاء العصابات

وإسكاتها، وإشباع شهواتها ورغباتها.

٧ - تنشط زراعة وتجارة المخدرات في غياب الحكومة المهينمة، ويتزايد

تسابق بعض أركان الحكومة وزعماء المليشيات على إنتاجها، وسيصلى بنارها

القريب والبعيد، وتبوء بإثمها أمريكا ومن يتحالف معها.

٨ - الدول كل الدول في سباق محموم حتى التي لا ثاغية لها فيها ولا راغية

[**] للتدخل في أفغانستان لتحقيق مآربها، والحصول على حظ أوفر من التركة؛

فروسيا والهند وإيران والصين وغيرها، كلها تريد النصيب الأكثر من الكعكة،

والخاسر الوحيد هو الباكستان حيث بذلت كل شيء ولم تحصل على أي شيء.


(*) رئيس تحرير مجلة (طالب) الصادرة في كابل سابقاً.
(**) لا ثاغية لها ولا راغية: أي لا شاة ولا ناقة.