للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خواطر في الدعوة

ليعط كل ذي حق حقه

محمد العبدة

إن ما يجري على الساحة الإسلامية في هذه الأيام من الخلط في الأسماء

والمسميات شيء يدعو إلى العجب، فالناس يطلبون من المفكر أن يكون فقيهاً،

ومن الفقيه أن يكون خطيباً، ومن الواعظ أن يكون عالماً، وقد يسأل المتفقه أو

المشتغل بعلم الحديث عن أدق الأمور السياسية فإذا أجاب أتى بالعظائم، ويُسأل

الواعظ الخطيب عن أدق الأمور في العقيدة أو الفقه فيجيب بإجابات غير صحيحة

أو غير دقيقة، وكأن المفترض في هؤلاء أن الواحد منهم إذا أتقن علماً معيناً أن

يتقن باقي العلوم، وبالجملة فالناس يريدون أمة في رجل وينسون أن المواهب

والقدرات موزعة بين الناس، وقد لا تجتمع عدة مواهب إلا في الآحاد من الناس،

وقد يفتح الله -سبحانه وتعالى- على بعض بالخطابة المؤثرة التي تلبي حاجة

العاطفة والوجدان، وعلى الآخرين بالحديث المشوق الهادئ، ويتجه أناس نحو

الكتابة وعالم الفكر، والناس في هذا ما بين عالم ومتعلم، وكل يستفاد منه حسب

طاقته وحسب اختصاصه.

يروى أن الخليفة العباسي المأمون أراد من المؤرخ الواقدي حفظ سورة من

القرآن من أواسط المفصل فلم يقدر، فقال المأمون: هذا رجل فتح الله عليه في

التاريخ، وقد وصف أحد نقاد العلم علماء عصره وقدراتهم ومكانتهم فقال: سفيان

الثوري عالم بالحديث، والإمام الأوزاعي عالم بالسنة، والإمام مالك عالم بهما

جميعاً، فالأمر واضح عند هذا الجيل حول قدرات الناس ومكانتهم العلمية، فلا

يرفعون أحداً فوق مكانته، ولا يبخسون أحداً حقه، بينما نرى اليوم أن أي متكلم أو

خطيب مفوه يقال له: العالم الشيخ الدعية، وهذا خلط وتلبيس على الناس يجعلهم

يسألون ويستفتون من لا يصلح للفتيا والسؤال، حتى أن بعض من أسلم من

الأوربيين صار يُستفتى وهو أحوج ما يكون إلى تعلم الإسلام على أيدي العلماء.

كان أستاذنا الكبير محمد أمين المصري -رحمه الله- مدرساً للحديث النبوي

في قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية وقد سمعته يوماً يقول: إذا كان هناك

علماء فهو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أما أنا ف (طويلب علم) ، وهذا من

تواضعه -رحمه الله- وشدة تحريه ونقده، وكتابه (تفسير سورة الأنفال) يدل على

تحقيق وعلم غزير.

يجب أن يعلم المسلمون أن هناك علماء وهناك طلبة علم ... ومتحدثون..

خطباء وكتاب.. فتوضع الأمور في مواضعها، وترجع إلى نصابها، ويستفاد من

الطاقات كل في موضعه، فالشخصية المحببة للناس الذي يتقن فن العلاقات العامة

يصلح للتصدي لإرشاد الناس والتحدث إليهم، والمفكر الإسلامي قد يكون بعيداً عن

هذه الأجواء ولكن يستفاد منه في عمق الملاحظة ودراسة تطورات المجتمع وعلله

وخفاياه، وقد يطلب من العالم أكثر مما يطلب من غيره فالأصل فيه أن يكون

(ربانياً) يربي الأمة ويسوسها، فإذا لم يوجد فلنستفد من كلٍّ ومقدرته وما فتح الله

عليه به.