للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

مستقبل (إسرائيل)

بين التحليل السياسي والمنطق الديني

د. عبد العزيز عبد الغني صقر [*]

إن الحديث عن مستقبل (إسرائيل) هو حديث عن مستقبلنا أيضاً، ولسنا في

حاجة للتأكيد على أن كل ما له صلة بتطورنا السياسي ورخائنا الاقتصادي يرتبط

بشكل أو بآخر بوجود (إسرائيل) أو غيابها وبحالة الحرب أو السلام في المنطقة.

ومن هنا تأتي محاولتنا لاستشراف مستقبل (إسرائيل) كجزء من عملية تخطيط

مستقبلنا السياسي العربي.

والحقيقة أن ثمة مشكلة تواجه كل من يحاول التنبؤ بأوضاع المنطقة في

المستقبل من منطلق تقاليد وآليات علم المستقبليات، وتكمن هذه المشكلة في صعوبة

أو استحالة إخضاع الشأن الإسرائيلي للمنطق العلمي؛ ذلك أن (إسرائيل) ترتبط

اسماً ووجوداً وفكراً ونظاماً وممارسة بالمنطق الديني الذي يستعصي على التحليل

العلمي، ولا يمكن معالجته باستخدام أدوات التفسير ومناهج التحليل السياسي التي

أرستها التقاليد العلمية.

هذه الطبيعة الدينية للكيان العبري تفسّر أمرين:

الأمر الأول: هو إخفاق كافة المفاوضات العربية الإسرائيلية حتى الآن،

بسبب اختلاف منطق ولغة الحوار بين الطرفين؛ فبينما يرتكز الجانب العربي إلى

أسس وحجج سياسية ترتبط بالحقوق التاريخية والشرعية الدولية والاتفاقات

والمعاهدات المبرمة بين الطرفين في كامب ديفيد ومدريد وشرم الشيخ وغيرها،

نجد الجانب الإسرائيلي يتحدث عن الوعد الإلهي وحائط المبكى وهيكل سليمان

والعداء للسامية، ويلتزم بإجازة السبت، ويرتدي مفاوضوه القُبّعة اليهودية أو

الحاخامية، ويتلقّون الدعم الغربي النصراني بدعوى التراث الديني المشترك ... ،

وهكذا يجري الحوار بين طرفين لا يفهم أحدهما لغة الآخر، وكأنه حوار بين كفيف

يستخدم لغة الكلام وأصمّ يستخدم لغة الإشارة، فأنّى يتفاهمان!

أما الأمر الثاني: المترتب على الطبيعة الدينية للدولة العبرية فهو عدم إمكانية

التنبؤ بمستقبل (إسرائيل) السياسي من خلال أدوات وأساليب التحليل العلمي

المستقبلي التي تسمح وحدها بتقديم صورة حقيقية لحدود وآفاق المستقبل المتوقّع،

وهو الأمر الذي يلقي بظلاله أيضاً على مستقبلنا العربي الذي أصبح هو الآخر يتَّسم

بالغموض ويستعصي على التحليل العلمي ومن ثم يصعب تشكيله أو تخطيطه أو

التحكّم في تطوره.

إن استكشاف مستقبل أي مجتمع سياسي من منطلق علمي عقلاني إنما يتحدّد

في ضوء ثلاث مجموعات من المتغيرات:

١ - متغيرات تدور حول الواقع القومي لهذا المجتمع، بمعنى أوضاعه

الداخلية.

٢ - متغيرات خاصة بالواقع الإقليمي المحيط بهذا المجتمع، بمعنى أوضاع

ورغبات ومصالح المجتمعات المحيطة المؤثرة والمتأثرة.

٣ - متغيرات ترتبط بالإطار الدولي، بمعنى موقف القوى الكبرى المتحكمة

في السياسة الكونية أو العالمية.

وهكذا يرتبط التحليل المستقبلي بمتغيرات واقعية حقيقية لا موضع فيها

للوعود والحوائط والهياكل و «الطواقي» ، كما أنه تحليل متعدد المستويات؛ إذ

يفرض نقاء الصورة المتوقعة لمستقبل مجتمع ما تحليلاً شمولياً متكاملاً يعتمد على

قاعدة علمية من البيانات والمعلومات الواقعية التي تغطي الواقع القومي والإقليمي

والدولي الذي يرتبط به هذا المجتمع.

فأين المجتمع الإسرائيلي من كل ذلك؟

لو تجاهلنا كل الادعاءات الإسرائيلية المرتبطة بالدين، وافترضنا جدلاً أن

الدولة العبرية قد تحوّلت إلى دولة قومية علمانية يمكن إدراجها (مادة) للبحث

السياسي في نطاق التحليل المستقبلي، لأمكننا حينئذ وحينئذ فقط أن نتوقّع لا بشأن

دولة (إسرائيل) فحسب وإنما أيضاً بشأن المستقبل العربي كله.

إن الأمر لا يتطلب أكثر من جمع وتصنيف وتحليل وتفسير المعلومات التي

ترتبط بمستويات التحليل الثلاثة التي أشرنا إليها آنفاً أي المستوى القومي والإقليمي

والدولي والانطلاق من ذلك لتصوير السيناريوهات الممكنة التي تتمخض عنها

عملية التحليل:

- فعلى المستوى القومي، يمكن الارتكاز إلى بعض المتغيرات مثل: قوة

الاتجاهات العلمانية داخل (إسرائيل) وفي الحركة الصهيونية، وعمليات الهجرة

المضادة إلى خارج (إسرائيل) ، وآثار الانتفاضة، واختلال الكم لصالح العرب،

والانحلال الاجتماعي والأوضاع الاقتصادية والعنصرية في (إسرائيل) .

- وعلى المستوى الإقليمي، نستطيع الإشارة إلى مجموعة من المتغيرات

مثل: افتقاد (إسرائيل) لمساندة بعض الدول كتركيا، وإيران، والحبشة، وتغيّر

بعض القيادات العربية، وتنامي مشاعر العداء ضد السلوك الاستفزازي والتعصبي

الإسرائيلي، والتغيرات في الجامعة العربية، والتكتلات السياسية والاقتصادية التي

تجسّد الاتجاه نحو التجانس الإقليمي والتكامل العربي الإسلامي.

- وأخيراً على المستوى الدولي، يمكن رصد مجموعة من المتغيرات مثل:

استمرار التحيز الأمريكي اللا معقول لـ (إسرائيل) ، والتعاطف الدولي مع

الطرف العربي وبخاصة من جانب القوى الجديدة كالصين واليابان وغرب أوروبا

باستثناء بريطانيا فضلاً عن دول العالم الثالث، وازدهار الصهيونية كظاهرة دولية

عن طريق السيطرة على دوائر المال في أوروبا وأمريكا وروسيا، وانصراف

القيادات الصهيونية إلى امتلاك الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الاقتصادية

غير الحكومية بعيداً عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والعنصرية التي ترتبط

بها الحياة داخل إسرائيل.

جميع هذه المتغيرات ودون الدخول في تفاصيلها تقود إلى عدد من التصوّرات

المستقبلية، ومن أهمها:

١ - عودة اليهود إلى الشتات وتلاشي الصهيونية كظاهرة قومية.

٢ - استيعاب اليهود داخل دولة فلسطينية علمانية قومية.

٣ - استيعاب الفلسطينيين داخل دولة إسرائيلية علمانية قومية.

٤ - استمرار (إسرائيل) كدولة شرق أوسطية إلى جوار دولة فلسطينية

مستقلة.

٥ - قيام دولة فلسطينية إسرائيلية ثنائية القومية.

هذه التصورات ترتبط كما ذكرنا بتخلي الإسرائيليين عن عملية خلط السياسة

بالديانة اليهودية، وقبولهم الدخول في حوار مع العرب من منطلقات سياسية بحتة،

أما إذا استمروا في استخدام المنطق والمقولات الدينية في الحوار والحركة، فإنه لا

يمكن التعامل معهم والوصول إلى حل للمشكلة إلا بارتكاز العرب أيضاً في حوارهم

وحركتهم إلى المنطق الديني الإسلامي الذي يمكنه وحده في هذه الحالة التعامل مع

المشكلة وحسمها وذلك من منطلق مفهوم الجهاد، وحينئذ لن يكون هناك سوى

تصوّر واحد لمستقبل إسرائيل السياسي، وهم يعلمونه جيداً.


(*) أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة رئيس جمعية «العلم للجميع» العربية.