للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[فكر ابن تيمية بين متنازعيه]

د. جمال بادي [*]

[email protected]

هناك ظاهرة فكرية معاصرة تحتاج إلى رصد وفهم وتحليل وتقويم حتى لا

تتضاعف تداعياتها ولا تتفاقم سلبياتها. إنها ظاهرة تعدد الاستدلال بكلام الإمام ابن

تيمية من طرف مدارس فكرية متباينة المشارب والتوجه، مختلفة المدارك والمناهج

الاستدلالية.

ومن أهم سلبيات هذه الظاهرة الفكرية المعاصرة حيرة كثير من الشباب المسلم

من القراء حيال وجهات النظر العلمية المتضاربة في مسائل دقيقة كالتكفير والتبديع

والتفسيق مثلاً، والتي يستدل كل صاحب رأي فيها بأقوال ابن تيمية.

ومن سلبياتها محاولة تمرير الأقوال الشاذة، والآراء الدعوية الجانحة،

والمواقف الخاطئة عبر قناة الاستدلال بأقوال ابن تيمية.

كما أن من سلبياتها أيضاً: تشويه البناء الفكري السامق الذي شيد أركانه ابن

تيمية، وترتب إصدار الأحكام الخاطئة في حقه، مما قد يؤدي إلى عزوف الناس

عنه جملة ومن ثم عدم الإفادة منه.

* أسباب الظاهرة:

أولاً: الأسباب التي تعود إلى طبيعة فكر ابن تيمية وأهمها:

١ - تميز فكر ابن تيمية بالموسوعية وتعدد الموضوعات التي ناقشها أو

خاض غمارها.

٢ - تميزه بالواقعية بتقرير القضايا التي تمس حاجة الناس وتنطلق من

واقعهم.

٣ - كثرة مؤلفات ابن تيمية وسعة انتشارها وتوفرها في الأسواق (من ذلك

توافرها أخيراً على الأقراص الإلكترونية المدمجة) .

٤ - معالجته لكثير من الإشكاليات العلمية في عصره التي لا يزال لها صدى

أو وجود في وقتنا المعاصر.

٥ - صعوبة وندرة وجود رأي ابن تيمية كاملاً بكل تفصيلاته وتفريعاته

وجزئياته في مكان واحد من المصنف الواحد بَلْهَ في سائر مؤلفاته للوصول إلى

رؤية شمولية. ولعل هذا من أسباب قبول عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه في

مسائل معينة في فكر ابن تيمية في عدد من جامعات العالم الإسلامي.

٦ - وجود أكثر من رأي لابن تيمية في المسألة المعينة، ورجوعه عن بعض

أقواله السابقة مع بقاء الرأيين في مؤلفاته المنشورة. ومن أمثلة ذلك: حكم صلاة

النوافل ذوات الأسباب في أوقات الكراهة وهي مسألة فقهية، ونحو ذلك.

٧ - استطرادات ابن تيمية وتفريعه للمسائل الجزئية لشحذ الذهن، مما يحتاج

إلى صبر وأناة وإبقاء النقاش في المسألة مستحضراً في الذهن، أو تجاوز

للاستطرادات مع المحافظة على تسلسل الأفكار وعدم تجاوز جزئية في ذلك

التسلسل مما يخل باستيعاب الموضوع.

٨ - استعمال ابن تيمية لمعايير ومقاييس خاصة في التعامل مع المسائل

المعينة مثل مسألة الإيمان، أو في التعامل مع المخالف والحكم عليه كما في مسألة

الأسماء والأحكام.

هذه المعايير تكون مخالفة للمعهود الفكري لصاحب النسق الآخذ عن فكره،

مما ينتج عنه التعامل مع ذلك الفكر دون استيعاب من قبل المستدل.

ثانياً: الأسباب التي تعود إلى المستدل بكلام ابن تيمية:

١ - وجود التوافق الجزئي بين رأي المستدل وبين رأي الإمام ابن تيمية،

مع وجود الاختلاف في التفصيلات.

٢ - عدم فهم الظروف الزمانية والمكانية التي نشأ أو تولد فيها النص المستدل

به وألف فيها الكتاب. فهناك: الاستقطاب المذهبي والصراع الفكري والتعصب

للطوائف والشيوخ والمذاهب، وهناك المناظرات العلمية الآنية المبنية على التحدي،

وهناك المناظرات العلمية مع السابقين من أئمة الطوائف، وهناك الإجابة عن

سؤال خاص ورد من بلد بعينه في مسألة خاصة، وهناك التعامل مع النوازل

والمستجدات، ونحو ذلك.

٣ - الانتصار للرأي أو الفكرة أو المذهب بأي صورة كانت.

٤ - القصور في التصور والفهم، ومن ذلك عدم الإلمام بجزئيات الموضوع

أو المسألة المطروحة للدراسة. وقد يكون قصوراً في الآليات والوسائل: نحو

القصور في مناهج البحث وأصول الاستدلال، أو القصور في استيعاب اللغة أو

مصطلح الحديث أو أصول الفقه أو المنطق ونحو ذلك.

٥ - عدم استيعاب المنهج السلفي، والظروف والتحديات والمراحل التي مر

بها، وطبيعة كل مرحلة من تلك المراحل، وتطور المواقف تجاه بعض المسائل

والتحديات بل واختلافها أحياناً مع ثبات أصول المنهج.

٦ - محاولة البحث عن سبل بناء مصداقية التوجه لدى أصحاب الآراء

الناشئة، وهي ظاهرة تحتاج إلى رصد ودراسة وتحليل وتقويم في حد ذاتها.

* صورة الظاهرة:

وهذه الظاهرة لها العديد من الصور ومن أهمها:

١ - الاستدلال بأقوال ابن تيمية بعد تجزئتها وفصلها عن سياقها التي وردت

فيه للانتصار للرأي ووجهة النظر باعتباره شخصية علمية مرموقة.

٢ - التقاط الفكرة التي طرحها ابن تيمية ثم إعادة صياغتها في قالب معد

مسبقاً يظهر من الوهلة الأولى للقارئ الغر غير الحصيف توافق الفكرة مع الإطار.

٣ - نقل كلام ابن تيمية ثم فهمه وتفسيره وفق أصول ومنهج الاستدلال

والنظر الخاص بالمستدل والمستشهد فيعطي مدلولاً موافقاً لما أراده المستدل مع

مخالفته لأصول ومنهج استدلال ابن تيمية نفسه.

٤ - نقل كلام ابن تيمية بالمعنى لا بالنص مع التحوير والتعديل والحذف

والإضافة؛ مما من شأنه أن يغير المدلول تماماً ليتوافق مع رأي الناقل المستدل.

٥ - هناك ما يسمى بالتسليم الجدلي للخصم أي قبول رأي الخصم جدلاً لا

واقعاً، ثم نقضه أو نقده، فيؤخذ التسليم الجدلي على أنه موافقة للخصم قصداً أو

تقصيراً لذهول أو نحوه.

٦ - الأخذ بلازم قول ابن تيمية، مع عدم قول ابن تيمية بذلك اللازم إما

سكوتاً فلا يتسنى لنا الحكم بذلك، وإما لنصه في مكان آخر بعدم القول بذلك اللازم

وفوات ذلك الأمر على المستدل أو تقصُّد المستدل الظهور بهذا المظهر.

٧ - قول ابن تيمية بحكم في مسألة معينة لوجود علة قد يغفل عنها المستدل

فيعمم الحكم رغم زوال تلك العلة عما يستدل له.

والصور لهذه الظاهرة كثيرة جداً؛ وقد أحببت التنبيه على بعضها وأهمها مما

تسنى لي ملاحظته ليقاس عليها في استظهار صور أخرى وهو فن جليل.

والمقصد هو محاولة وضع حد لهذه الظاهرة السلبية في الفكر الإسلامي

المعاصر سعياً نحو تنقيته مما علق به من الشوائب والكدر فينتبه المسلم عند قراءة

الكتب المعاصرة وما أكثرها من الوقوع في شرك هذه الظاهرة وهو لا يشعر.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(*) دكتوراه في أصول الدين من الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، أستاذ مساعد في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.