للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[الإرهاب (نهج أمريكي)]

وهذا هو الدليل

الحمد لله مذل الجبارين وناصر المؤمنين، والصلاة والسلام على رسولنا

الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن الحرب التي تشنها أمريكا على الإسلام والمسلمين بعد أحداث ١١

سبتمبر ٢٠٠١م بدعوى محاربة الإرهاب ليست وليدة تلك الأحداث المؤلمة، وإنما

هي نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية في العلاقات الإسلامية النصرانية، رسخها

كثير من المستشرقين والمنصرين لا سيما بعد الحروب الصليبية.

إلا أن العلاقات بين أمريكا بعد قيامها والإسلام كانت شبه راكدة حتى أواخر

الأربعينيات من القرن الماضي؛ حيث مرت العلاقات بين الطرفين بمنعطفات كثيرة

وحملت في طياتها تصورات مغلوطة من الجانب المعادي وبخاصة بعدما شاركت

الحركة الإسلامية وبفعالية في حرب فلسطين عام ١٩٤٨م، وفعلت باليهود الأفاعيل،

فبدأت أمريكا تحسب الحساب لهذا التيار، ولم تتردد في مناصرة ضباط ثورة ٢٣

يوليو المصرية عام ١٩٥٢م، لا سيما في حملتها الظالمة ضد التيار الإسلامي

والفتك به، مما جعل الكاتب الشهير (محمد جلال كشك) وهو يقوِّم هذه الثورة بأن

يسمي دراسته عنها: (ثورة يوليو الأمريكية) .

وما حدث بعدها بسنوات من الجهاد الأفغاني ضد الجيش السوفييتي الذي

دعمته بشكل واضح لا لسواد عيون المجاهدين وإنما ليفتكوا بعدوها اللدود (الاتحاد

السوفييتي) وهو ما أسهم فعلاً في سقوطه التاريخي. وبعد تلاشي عدوها التقليدي

بحثت عن عدو جديد فلم تجد سوى الإسلام بعدما أكد ذلك العديد من الدراسات

والأبحاث الأكاديمية الأمريكية أمثال كتابات (سبوزيتو) و (دجيرجان) وهو ما

تأكد فيما بعد من خلال (نظرية صراع الحضارات) و (نهاية التاريخ) اللتين

جعلتا من الإسلام العدو القادم؛ مما رسخ هذا التصور المعادي للإسلام؛ ومن هنا

شجعت أمريكا بعض الدول على استئصال الدعوة الإسلامية الفاعلة في الساحة

العربية والإسلامية، وتغاضت عن الممارسات غير الإنسانية وغير (الديمقراطية)

حيال الحركة الإسلامية بهدف إنهائها!

ولا يخفى أنه بعد ذلك الحادث الجلل ألصقت الاتهامات بالإسلاميين

وبالجمعيات الخيرية والدعوية بزعم أن لها صلة بـ (القاعدة) ؛ ويكفي ذلك تهمة

لإلغاء تلك الجمعيات واتخاذ الإجراءات الظالمة حيالها.

وفي الحرب التي شنتها أمريكا على الإرهاب أُزهقت فيها ألوف مؤلفة من

الأرواح البريئة، ومن المهازل أن هذه الحرب القائمة فرض على الجميع القيام بها،

وطولبوا بتأييدها وإلا اعتبروا في صف الإرهاب، وهم تبعاً لذلك أعداء لأمريكا

وللدول المتحضرة!! هكذا بكل صفاقة.

ولا شك أن هذه الدعوى غير صحيحة؛ فالحق ليس ما تقوله أمريكا وليس ما

تحدده الإدارة الأمريكية؛ فادعاءاتهم الباطلة جعلت المسؤول عن متابعة الإرهاب

يقدم استقالته بعد إخفاقه في الوصول إلى الأعداء الحقيقيين كما حددتهم أمريكا،

والتي ما زالت تتهرب من توضيح معنى محدد للإرهاب مع الإصرار على عدم

التفريق بين الإرهاب وحق تقرير المصير وحق الدفاع عن النفس وهو ما أكدته

الأديان السماوية والنظم الوضعية.

ولا نعرف بعد هذه الحرب الهمجية التي ألغيت فيها دولة قائمة ودمرت فيها

مدن وقرى كاملة يقطنها آلاف الأبرياء فضلاً عن هدم الكثير من المشافي والملاجئ

ومستودعات الإغاثة وأبرز صور الهمجية في هذه الحرب والتي توضح وبجلاء

الإرهاب الأمريكي مذبحة (مزار شريف) والتي قتل فيها حوالي ألف أسير بتواطؤ

الأمريكان والشماليين وهذا ما ظهر في فيلم تسجيلي بثته مؤخراً (N. N. C)

وهذه الحرب المجنونة لا تعني سوى أن قادتها والقائمين بها إنما هم الإرهابيون حقاً

وهم المستحقون للمحاكمة الدولية أمام المحاكم المختصة كما حوكم النازيون

والصرب في العصر الحالي.

ولا نحسب أن هناك من يُطلَق عليه (محور الشر) أكثر من (أمريكا ودولة

العدو الصهيوني) فحينما نستعرض التاريخ الإرهابي لأمريكا نجده متمثلاً بكل

معانيه وبكل أساليبه في التاريخ الأمريكي والصهيوني؛ فالعدو الصهيوني تاريخه

الإرهابي معروف للجميع، أما أمريكا فمنذ نشأت في (العالم الجديد) وهي في

حرب إرهابية ضد السكان الأصليين من الهنود الحمر الذين استأصلت الألوف

المؤلفة منهم بالحديد والنار وبالأوبئة الجرثومية، وهذا معروف ومسجل تاريخياً

يدين هذه الدولة المتغطرسة.

وبعد أن استقر الشعب الأمريكي الوافد من شتى الدول الغربية عملوا بكل

بشاعة على جلب الرقيق من إفريقيا واستعبدوهم، فعاشوا في ظروف غير إنسانية

وعاشوا في عزل عنصري لسنوات طويلة وقد صوَّرهم الروائي الأمريكي الزنجي

(إليكس هيلي) في روايته الشهيرة (الجذور) ، وشاهدها العالم ممثلة بكل ما فيها

من إجرام بشع في حق الإنسانية، وعاشوا مع ذلك في أجواء عنصرية مع أسيادهم

البيض.

وبالرغم من تحريرهم المزعوم على يد الرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن)

إلا أن الحقيقة غير ذلك؛ فالرجل لم يعرف في يوم من الأيام المساواة بين الأجناس،

بل عارض وبشدة الحقوق المتساوية للسود، كما كانت خطته التي عمل على

تحقيقها هي إرسال الزنوج إلى إفريقيا وهايتي وأمريكا الوسطى، وهذا جزء مما

أفصح عنه الكاتب (دي لوفرنيتو) في كتابه: (الوجه الحقيقي للنكولن) [١] .

وكانت الصيحة الأولى لحرب الإرهاب الأمريكي المعاصر تلك التي أعلنتها

الإدارة الأمريكية عام ١٩٨١م على لسان وزير الخارجية آنذاك (إلكسندر هيج) ،

ومن ذلك الحين أصبح كل من يعارض السياسة الأمريكية يوصف بالإرهاب وتشن

ضده الحرب، ومن أجل ذلك تم تسخير العديد من الدول والمنظمات الدولية لتبني

هذا المفهوم الظالم للإرهاب القائم على الضرب والحصار للأنظمة المخالفة لمحاولة

إسقاطها سواء من الداخل أو الخارج، حيث كانت (وكالة الاستخبارات المركزية

الأمريكية) هي الذراع الإرهابي لأمريكا، والتي جعلت من أمريكا الوسطى

والجنوبية ميداناً لعملياتها التجسسية منفذة السياسة الأمريكية التوسعية، فكانت هي

صاحبة الأمر والنهي المطلق في سياسة الحكومات التي تقيمها سواء بالترغيب أو

الترهيب، حيث كانت وراء الكثير من الانقلابات العسكرية المقاومة لآمال الشعوب،

كما في كولومبيا أو الأرجنتين أو غرينادا أو تشيلي أو نيكاراجوا وغيرها التي

قتل فيها الألاف من الناس ظلماً وعدواناً.

وكان لأمريكا في حربها الإرهابية تلك في إفريقيا نصيب؛ حيث أسقطت

الكثير من الرؤساء في غانا، وغينيا، وموزمبيق.

وفي آسيا كان لها سجل حافل بالإرهاب في حروبها في فيتنام، ولاوس،

وكمبوديا، بدءاً من عام ١٩٦٤م؛ حيث بدأ التدخل الأمريكي المسلح في الهند

الصينية، ومع معاناتها الأمرَّين والهزائم لم ينقذها إلا انسحابها من فيتنام عام

١٩٧٠م في عهد الرئيس نيكسون.

وفي إيران قادت حربها ضد حكومة مصدق لتعيد الشاه عميلاً لها في حكم

إيران؛ حيث أعاد ضخ البترول لها، وأعاد الشركات الأجنبية لاحتكار البترول

حتى سقط في ثورة الخميني عام ١٩٧٩م.

* الإرهاب المزدوج:

ولا نجد مثالاً للإرهاب المزدوج مثل التحالف الأمريكي الصهيوني الذي ظهر

بصورة فجة وبشكل بشع في الآونة الأخيرة؛ حيث استغلته الصهيونية أبشع

استغلال بدعم اليمين الأمريكي المتطرف الذي ينظر لـ (إسرائيل) من منظور

أيديولوجي، ويعتبرها الحليف الديمقراطي الوحيد لأمريكا؛ ولذا جاء التيار الديني

المحافظ ليؤكد أن لـ (إسرائيل) الحق بأن تفعل بالسلطة الفلسطينية ما فعلته

أمريكا بدولة طالبان، وأن أي ضغوط أمريكية على (إسرائيل) لوقف حملتها ضد

ما يسمونه (الإرهاب الفلسطيني) يعني أن الإرهاب انتصر وحقق أهدافه!!

وتجلى هذا التحالف الدنس بالتأييد الأمريكي للعدو الصهيوني، ووقوفها في

صف (إسرائيل) ورفض إدانتها على إجرامها في حق الشعب الفلسطيني، ولا

سيما في إدانة العدو في إجرامه في مذبحة جنين، والذي كان محل مقت بعض

الدول الكبرى مثل الصين وروسيا، ومحل استهجان الكثير من الدول الأوروبية،

فضلاً عن إدانة الشعوب العربية والإسلامية، بل إن هناك أفراداً ومنظمات أمريكية

استنكرت هذا التحالف المشبوه، ووجدنا بعض الأقلام الأمريكية التي شجبت هذه

العلاقة المنحازة، مثلما كتب (ستيفن جرين) في كتابه: (الانحياز: علاقات

أمريكا السرية بإسرائيل المتحفزة) والذي بين فيه ما تم من تزييف للوعي الأمريكي

بحقائق الصراع في الشرق الأوسط، وأن العلاقات (الأمريكية الإسرائيلية) تقدم

أنموذجاً غير مألوف أو مسبوق في التاريخ، وهو ما يشكل وضعاً غير طبيعي،

وأن هذه العلاقة تسير في اتجاه واحد يخدم المصالح الإسرائيلية أساساً على حساب

المصالح الأمريكية، ومثله كذلك (نعوم تشومسكي) و (بول فندلي) وغيرهم،

بل إن (هنتنجتون) صاحب (نظرية صراع الحضارات) قال عن هذه السياسة:

«إنها ستحول أمريكا مع الوقت إلى دولة وحيدة تعاني من العزلة الدولية؛ حتى لو

تملكت ترسانة عسكرية ضخمة، ووزعت إعاناتها هنا وهناك فستظل قوة مكروهة،

بل ستتحول إلى دولة شريرة كما تصف غيرها» .

هكذا تظهر أمريكا دولة إرهابية منذ نشأتها في سياساتها البراجماتية النفعية

التي ترى أن المصلحة هي وحدها المعول عليها، ولو على حساب الأخلاق

والقوانين المعتبرة؛ ولذلك وجدناها ترفض التحديد الدقيق لمعنى الإرهاب حتى لا

تدان بموجبه، والأعجب من ذلك أن أمريكا كما تغاضت عن الإرهاب الصهيوني

تغاضت أيضاً عن إرهاب آخر لا يقل همجية عنه وهو الإرهاب الهندوسي الذي

توجهه الهند لمسلميها؛ مع أن المسلمين فيها أكبر أقلية في العالم حيث يتجاوزون

١٠٠ مليون مسلم، لكن لا قيمة لهم ما دام أنهم مسلمون.

هكذا ترى أمريكا الإسلام، وهكذا ترى المسلمين، لكن يأبى الله إلا أن يفضح

المفهوم الأمريكي للإرهاب المفصل على مقاسات خاصة لكي يخدم مصالحها

الاستراتيجية والاقتصادية ليس إلا، وهذا المفهوم الاستعماري حيث ووجه باستنكار

حتى من حلفائها وحتى أبنائها لمواقفها المنحازة.

واستمراراً للإرهاب الأمريكي نجد أمريكا هذه الأيام تعد العدة وتستبق الزمن

لضرب العراق بدعوى الإطاحة بنظام صدام حسين، وهي تهدف لأمور أكبر من

ذلك بكثير يعرفها كل مطلع على الواقع.

ونحن أعرف من أمريكا بمن هو (صدام حسين) الطاغية الذي سام شعبه

سوء العذاب في حربين كبيرتين هدمتا قدراته ودمرتا اقتصاده وجعلت شعبه يعيش

عيشة ضنكاً، ونعتقد أن الحرب المعلنة على العراق ليس كما يُزعم لهدف محدد

إنما لضرب قوة العراق التي تشكل خطراً على ربيبتها (إسرائيل) ؛ ولتكون سوقاً

لبيع السلاح من ناحية، ولتجريب الأسلحة الجديدة من ناحية أخرى، ولتكون

المنطقة محل حرب جرثومية ستعاني منها لسنوات طويلة، ولها آثارها السلبية

والخطيرة مما لا يخفى، ولذلك حينما ناورت الحكومة العراقية بدعوة فرق التفتيش

للعودة وفق خطة محددة رفضت أمريكا ذلك مصرة على إعلانها الحرب على هذا

البلد المسلم بدون وجه حق.

وفي سبيل البحث عن سند قانوني لتلك الحرب المعلنة أتت بسبب يضحك

حتى الثكالى، وهو الزعم بأن (صدام حسين) متورط في علاقات مع دولة طالبان

وتنظيم (القاعدة) ؛ مما يشير إلى دوره في أحداث ١١ سبتمبر، والمعروف أن

صدام حسين أعدى أعداء الحركات الإسلامية؛ ولذلك وجودها محرم في العراق؛

فهو يعتبرها الخطر الأكبر المهدد لنظامه؛ فكيف يتهم بعلاقة من هذا القبيل؟!

هذه وقفات من الإرهاب الأمريكي الرسمي الذي عم وطم، ونال الكثير من

دول العالم وشعوبه من شروره بما هو معروف، والعزاء أن جبروت أمريكا

والعنجهية التي تسير بها سياستها الإجرامية في حق الشعوب المضطهدة ستنتهي

بسقوط مدوٍّ لها بإذن الله كما سقط سلفها الاتحاد السوفييتي وهذا ليس رجماً بالغيب

بل إن بوادر هذا السقوط تلوح في الأفق؛ من عقدة العظمة والتعالي، واتهامها

لغيرها بأنهم محور الشر وهي للشر أقرب، وموالاتها للصهيونية في تأييد باطلها

وإجرامها، والدعوات القائمة لمقاطعة منتوجاتها من قبل الشعوب المسلمة، وخراب

الذمم لدى الكثير من شركاتها الكبرى التي بدأت تترنح وتعلن إفلاسها واحدة بعد

الأخرى مما أدى إلى تزايد العاطلين بالآلاف.

إن تداعي هذا الكيان المتغطرس ليس بمجرد أمانٍ لمن يكرهونها لإجرامها في

حق الشعوب التي تأبى الانقياد لها والسير في ركابها رغبة أو رهبة لكنه صرخات

العديد من أبناء هذه البلاد الذين ساءتهم سياستها الإرهابية وعنجهيتها السياسية؛ وما

عليك يا أخي الكريم سوى الاطلاع على كتاب وثائقي تحت عنوان: (الولايات

المتحدة.. الدولة السوقية) للصحفي الأمريكي (وليم بلوم) الذي عمل ببلده في

مواقع حساسة جداً، وخبرها عن كثب، فألف كتابه هذا الذي تناول فيه (٢٧٦)

وثيقة، وقدم مئات الحجج والبراهين على طيش أمريكا ونزقها؛ ففي الجزء الأول

تناول فيه علاقة الحب والكره بين بلاده والإرهابيين ومنتهكي حقوق الإنسان،

وبيان الاغتيالات التي تنفذها بلاده ضد الآخرين، وفي الجزء الثاني تناول الكاتب

استعمال أمريكا لأسلحة الدمار الشامل من قصف ويورانيوم منضب وقنابل وأسلحة

بيولوجية وكيمياوية خارج حدودها وحتى داخل حدودها! كما قاله المؤلف. وفي

الجزء الثالث: وهو جوهر الكتاب وفيه يتحدث عن تاريخ أمريكا من (١٩٤٥ -

٢٠٠٠م) وتزويرها للانتخابات وتلاعبها فيها عن طريق (المخابرات المركزية) ،

وبيان دورها في الأعمال ضد إرادة الدول في هيئة الأمم، وما تقوم به من تنصت

على الآخرين.. إنه سجل أسود حافل بالمظالم [٢] .

فأنى لها أن تبقى على الوجود مع هذه المظالم والمآسي؟ وهو ما يؤكد النهاية

المحتمة بإذن الله.

هذه لمحات وإشارات في هذا العدد، وهي تحتاج إلى المزيد من الدراسات

الموسعة والمؤصلة بما تقر به العيون.

[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: ٢١) .


(١) انظر: صحيفة الحياة، العدد (١٠٨٨٨) .
(٢) بتصرف عن صحيفة التجديد الغربية، عرض للكتاب تحت عنوان: (الكتاب الذي لا يريد المستكبرون أن يقرأوه) إلى عددين صدرا في ٢٤/٢/١٤٢٣، و ٨/٣/١٤٢٣هـ.