للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[ولا تهنوا ولا تحزنوا]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،

وبعد:

فقد صدر في منتصف جمادى الثانية (منتصف أغسطس الماضي) تقرير في

الولايات المتحدة الأمريكية يسمى (تقرير ستراتفور) ، ذكر أن التحدي الحقيقي

الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية ليس تنظيم القاعدة، ولكنه حالة الاستياء

الشديدة المنتشرة في شتى شرائح المجتمعات العربية والإسلامية من السياسات

الأمريكية التي زادت من حدة الكره، وأحيت كوامن التحدي.

ويفسر التقرير الإصرار الأمريكي على ضرب العراق على الرغم من

معارضة معظم دول العالم، وبخاصة الحليفة منها لأمريكا، بأنه يهدف إلى خلخلة

النفسية الإسلامية وإصابتها بالإحباط واليأس، وإشعارها بالعجز الشديد عن إمكانية

تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة في العاجل أو الآجل، أو معارضة مشاريع

الأمركة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية.

وفي الاحتفالية الأولى لذكرى الحادي عشر من سبتمبر سعى الإعلام الأمريكي

لإبراز التفوق الأمريكي على العالم، وأنه لا يزال الأقوى والأقدر على مواجهة

الإرهابيين، وأكد وزير الدفاع الأمريكي في حوار له مع قناة (S.B.C)

الإخبارية أن الحرب النفسية جزء لا يتجزأ من أهداف الحملة الأمريكية على

الإرهاب، من أجل تأكيد الهيمنة الأمريكية، وإيجاد فراغ نفسي يُعجِز الآخرين عن

التقدم أو المعارضة..!!

وصرّح قائد القوات الأمريكية في أفغانستان في الاحتفالية نفسها أمام جنوده

في قاعدة (باجرام) : بأن القوات الأمريكية نجحت في إسقاط حكومة طالبان،

وتدمير مراكز القاعدة، ولكنَّ أهداف المرحلة القادمة تقتضي قطع جذور الإرهابيين

من أصولها حتى لا يخطر ببالهم في الحاضر أو المستقبل مواجهة الحضارة

الأمريكية!

ولا شك في أن من أشدِّ العوارض التي قد تسقط الأمة وتجعلها لقمة سائغة بيد

أعدائها المتربصين بها من كل مكان: داء اليأس والقنوط، وإذا سرت هذه الروح

في الجسد أهلكته، وراح يجرُّ أثقالاً إلى أثقاله، حتى لا يقوى على الحركة، ثم

يصبح بعد ذلك أسيراً للانكسار والمهانة، وهذا ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية

في حربها الشريرة!

لقد مرَّت الأمة بموجة استعلاء أمريكية عارمة، ونزعة استبدادية طغت شرقاً

وغرباً، ومع ذلك كله فإننا نرى في الأحداث العالمية المتصاعدة أفقاً مضيئاً عامراً

بالأمل، يحدو المخلصين من أبناء هذه الأمة المعطاءة إلى النهوض بجد للعمل

والبذل والعطاء.

إننا نرى الباطل يزداد طغياناً وبطشاً وغدراً، ولكننا في الوقت نفسه نرى في

طغيانه وبطشه وغدره بداية نهايته، وصدق المولى جل وعلا: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ

الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ

المُجْرِمِينَ] (يوسف: ١١٠) .

نعم! لا نريد أن نسرف في التعلق بالأماني الكاذبة، والتطلُّع إلى السراب

الخادع، ولكننا في الوقت ذاته لا نريد أن نكون منكسي الرؤوس في مستنقعات

الهزيمة، ومواطئ الذل والمهانة، ولا نريد أن نغالط أنفسنا ونركز على الخسائر

فقط، ونرى واقع الأمة كله بتشاؤم وإحباط..!!

والأمل الذي نراه ليس مجرد عناد ومكابرة وتحدٍ وقفز على الواقع، وإنما هو

عقيدة راسخة نؤمن بها. قال الله تعالى: [وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ

مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: ٨٧) ، وقال تعالى: [وَمَن يَقْنَطُ

مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] (الحجر: ٥٦) .

كما أنه ظاهر ولله الحمد في واقع الناس ظهور الشمس في رابعة النهار؛ فقد

ازداد الوعي بحقيقة الصراع بين المسلمين واليهود والنصارى، وازداد انتشار

الصحوة الإسلامية، وانفتحت أبواب من الخير كثيرة، على الرغم من شدة حملات

التغريب والإفساد.

إن اليأس حيلة العاجز الذي يُؤْثِرُ الانسحاب والانعزال، ويفقد طريقه إلى

النهوض من جديد، وهو أعظم خدمة نقدمها لأعدائنا.

قال الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: «والذي ييأس في الضرِّ من عون

الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخيَّة، وكل رجاء في الفرج، ويستبد به

الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء ... ألا

إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا

بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص إلا

بالاستعانة بالله، وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ومضاعفة

الشعور به» [١] .

وتأمَّلْ تربيةَ القرآن العظيم للصحابة رضي الله عنهم فبعد الانكسار الذي

أصابهم في غزوة أحد، وفقدهم لبعض الأجلَّة من أصحابهم كحمزة بن عبد المطلب،

ومصعب بن عمير رضي الله عنهما نزل عليهم قول الحق تبارك وتعالى ولمَّا

تجفَّ دماؤهم بعدُ: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]

(آل عمران: ١٣٩) .

إنها العزة والشموخ التي يبنيهما الإيمان في النفس؛ فالمؤمن الحق لا تزلزله

المحن، ولا تهده المكائد، بل يدعوه ذلك كله إلى مزيد من العطاء والبذل والتضحية

لدين الله تعالى ويبقى راسخاً سامقاً بعقيدته؛ ولهذا قال الله عز وجل بعد ذلك بآيات

قلائل: [وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا

اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ *

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (آل عمران:

١٤٦-١٤٨) .

إنها تربية تملأ القلب بمعين من القوة لا يضعف ولا ينهزم، فمن تربى على

حياض الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام فلن يتطرق الوهن إلى قلبه؛ بل تراه

صابراً ثابتاً وإن أحاطت به المحن من كل جانب.

نعم! ربما يألم ويتعب، لكن يهوِّن ذلك كله رجاؤه الصادق بما عند الله تعالى:

[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ

مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء: ١٠٤) .

إن من أولويات الدعاة والصالحين في هذه المرحلة الحرجة أن يشيعوا الأمل

الصادق في نفوس الناس؛ الأمل الذي يدعو إلى الثبات على الدين والعض عليه

بالنواجذ، والعمل لنصرته والذب عن حياضه، ويجب علينا أن نؤمن يقيناً بأن

نصر الله تعالى لن ينزل على أوليائه بمعجزة خارقة، ولكن بسنَّة جارية يمتحن فيها

العباد ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.

ولا شك أن هذا لن يتحقق بموعظة تتلى أو خطبة تلقى فحسب؛ ولكن

بقدوات صالحة قوية في دين الله، ذاقت حلاوة اليقين، وصدَّقت بموعود الله الذي

وعد به أولياءه المتقين.

قال الله تعالى: [فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ

فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ

لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ

أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: ٤-٧) .


(١) في ظلال القرآن، ص ٢٤١٣.