للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حوار

[الأستاذ عبد الله جاب الله في حوار مع البيان]

ممارسات التيار التغريبي في الجزائر أتت بنتائج عكسية..

ضمن اهتمام مجلة البيان بالحوار مع العلماء والدعاة والمفكرين المسلمين؛

يسرُّها أن تلتقي الأستاذ الداعية (عبد الله جاب الله) ، أحد رموز التيار الإسلامي

في الجزائر، فهو مؤسس حركة (النهضة الإسلامية) ورئيسها المنتخب، ثم هو

الآن رئيس لـ (حركة الإصلاح الوطني) التي يبذل جهداً كبيراً فيها لتكون على

مستوى مواجهة الواقع المعاش والمستجدات في الجزائر، بوصفها حركة إسلامية

في إطار سياسي، ولتكون أكثر تعبيراً عن الإسلام الشامل والالتزام بضوابطه.

وسيتحدث في محاور عدة عن الواقع الجزائري، وما يعانيه الواقع الإسلامي هناك

من تحديات.

البيان: نبدأ هذا الحوار بالعودة إلى عام ١٩٩٢م؛ حيث مضى على

انقلاب الجيش الجزائري على العملية الديمقراطية ما يقرب من عشر سنوات حتى

الآن؛ فإلى أين وصلت الجزائر بعد هذه المرحلة؟

- بسم الله الرحمن الرحيم، الانقلاب على الإرادة الشعبية والاختيار الشعبي

الذي حصل سنة ١٩٩٢م؛ أكد حقيقتين أساسيتين:

الأولى: أن أصحاب القرار لم يكونوا صادقين في التوجه الديمقراطي

التعددي، وليس عندهم أي استعداد للالتزام بمقتضياته، وما كان من تحول

ديمقراطي شهدته البلاد سنة ١٩٨٩م إنما جاء تماشياً مع النظام العالمي الجديد الذي

من معالمه: الديمقراطية التعددية، كما جاء ليساعد الرأسمال الأجنبي على

امتصاص التراكمات المالية في بلاده؛ بالتحالف بين الرأسمال الأجنبي والرأسمال

المملوك أو الموجود لدى فئة أو فئات واسعة من الجزائريين الذين كانوا في السلطة

وأثرَوْا على حساب مصالح الشعب، ومقتضيات التنمية الاقتصادية في البلاد،

وكما جاء ثالثاً لامتصاص غضب الجماهير الذي ظهر جلياً في انتفاضة

أكتوبر ١٩٨٨م.

والحقيقة الثانية: أن كثيراً من العاملين في الساحة السياسية في البلاد يومها

لم يكن مقدراً لتبعات التحول الديمقراطي التعددي؛ ولذلك صدرت منهم بعض

المواقف والتصريحات البريئة ربما من جهة، والغافلة عن حقيقة ما يكاد للبلاد من

جهة ثانية، وبعضهم الآخر أراد أن يستغل بيئة التحول الديمقراطي التعددي

لمصالح ذاتية بدرجة أولى، أو حزبية أو فئوية بدرجة ثانية؛ فجعل من العمل

السياسي سجلاً تجارياً (يبزنس به) كما يقال.

والبلاد بعد ذلك الانقلاب قدمت فاتورة ثقيلة جداً:

فعلى صعيد الأرواح: قدمت ولا تزال أكثر من ١٠٠ ألف قتيل؛ نسأل الله

أن يتقبلهم شهداء.

وعلى الصعيد الاقتصادي: قُدِّرت الخسائر المالية في مكافحة العمل المسلح،

وما ترتب على ذلك من تدمير كثير من المؤسسات، قدرت بأكثر من ٢٢ مليار

دولار، إلى جانب أنها أخرت عجلة التنمية الاقتصادية كثيراً، بل شهدت البلاد

تقهقراً كبيراً فيها، وعلى الرغم من جميع المحاولات التي بذلت لاستجلاب

الرأسمال الأجنبي للاستثمار في البلاد؛ فقد باءت المحاولات كلها بالإخفاق الكبير.

وعلى الصعيد الاجتماعي: سُجِّل تقهقر كبير في الأوضاع الاجتماعية

للمواطنين، ويكفي أن أشير إلى أن الجزائر نظمت سنة ٢٠٠٠م ندوة حول الفقر،

واعترفوا أنه يوجد في الجزائر أكثر من ٢٠ مليون وهو ما يمثل ثلثي السكان

يعيشون تحت الحد الأدنى المقدر من قِبَل صندوق النقد الدولي.

وعلى صعيد المعيشة؛ معيشة المواطنين في الجانب الاجتماعي أيضاً:

سُجِّلت زيادة مهولة في عدد العاطلين عن العمل، حيث وصلت نسبتهم إلى ٣٠%

من السكان، ومعظم هؤلاء من الشباب المثقف من خريجي الجامعات في

تخصصات مختلفة.

وعلى صعيد قيمة العملة ومستوى المعيشة وغير ذلك، وهي ذات صلة أيضاً

في جوانب كثيرة منها بالحياة الاقتصادية: سُجِّل انبطاح أمام شروط صندوق النقد

الدولي؛ بصورة ربما تكون غير مسبوقة في تاريخ صندوق النقد الدولي، كما

أخبرني سفير أمريكا في حوار دار بيننا عندما حان موعد تجديد التعامل مع صندوق

النقد الدولي قال لي: «ليس هناك أي مسوِّغ ليجدد صندوق النقد الدولي للجزائر؛

لأنه في تاريخ صندوق النقد الدولي لم نسجل التزام دولة بشروط صندوق النقد

الدولي كما فعلت الجزائر!» ، مما أثر بشكل مهول على مستوى قيمة العملة؛

حيث تدهورت إلى درجة كبيرة جداً، وأثر ذلك أيضاً كما قلنا على مستوى معيشة

المواطنين، فالبلاد كانت تعيش في ظل نظام حكم اشتراكي كانت الدولة تتكفل فيه

بدعم البضائع المختلفة، فذهب كل ذلك بين عشية وضحاها، حتى إن الطبقة

الوسطى التي كانت تحافظ على الانسجام الاجتماعي في البلاد، وهي مشكَّلة في

الغالب من طبقة الأساتذة والمعلمين والموظفين الإداريين وما إلى ذلك، وجدت

نفسها من ضمن طبقة الفقراء، فأثر هذا كثيراً على حياة المواطنين، وعلى تعليم

الآباء لأبنائهم، وأثر على سلوكات كثير من الشباب إلى غير ذلك؛ أي فُتح باب

واسع أمام الجهل، وأمام الكثير من الآفات الاجتماعية كالسرقة، وتعاطي المخدرات

.. وما إلى ذلك من الانحرافات.

وعلى صعيد الحياة الإيمانية: سُجِّل تحطيم ما يترواح بين ٢٠٠٠ - ٣٠٠٠

مسجد؛ تحت ذريعة مكافحة الإرهاب؛ بزعم أن المساجد كانت أوكاراً للإرهاب

يتموقع فيها، وينطلق منها، ويخبئ فيها أسلحته.

وإضافة إلى ذلك أغلقوا جميع المصليات في المؤسسات المختلفة؛ في

المطارات في الإدارات في الثكنات.. في جميع المؤسسات، وسُلط هجوم سافر

على رموز الإسلام المختلفة، حتى إن الكثير من دعاة التيار التغريبي الفرنكوفوني

أصبح يجرؤ على نشر مقالات في حق رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي حق

زوجاته رضي الله تعالى عنهن، أسوأ مما نشره سلمان رشدي.

كما سُجِّل أيضاً اعتقال آلاف المواطنين بتهم مختلفة، وسجن الآلاف أيضاً

بتهم مختلفة، وفصل من الوظيفة الآلاف كذلك بدون تهم.

وفي الحياة الثقافية: أغلقت الجمعيات التابعة للتيار الإسلامي الممثل خصوصاً

لـ «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» التي قاموا بحلها، والممثل أيضاً لحركة

«النهضة الإسلامية» يومها.

وحدث تضييق غير مسبوق على بعض الجرائد التي كانت تنتمي أو تتبع

التيار الإسلامي أو التيار الوطني، حتى أصبحت الساحة الإعلامية في الجزائر

ولسنوات طويلة جداً خالية أو متروكة للتيار العلماني وجرائده، ذات مرة سألني

المستشار السياسي لسفيرة الولايات المتحدة الأمريكية قبل سنة ونصف أو سنتين؛

سألني متعجباً: «أنا لمَّا قدمت الجزائر ظننت أنني قادم إلى بلد عربي مسلم، فيه

صحوة إسلامية كبيرة وقوية، منذ أن جئت وأنا أطلع على الجرائد، وأقرؤها

وأدرسها، فإذا بي لم أجد أثراً للصحوة الإسلامية والتيار الإسلامي ضمن المجتمع

المدني والإعلامي، ما عدا جمعيات التيار العلماني وجرائده!» .

وعلى المستوى النفسي: سيطر هاجس الخوف والجوع على المواطنين.

وفي الواقع لو ذهبنا نعدد المصائب التي حلت بالجزائر ربما ما انتهينا، ولكن

مع هذا أقول إن المستفيد الأول مما حصل خلال هذه الأزمة إنما هو التيار التغريبي؛

ازداد تمكناً على مستوى مصادر القرار، ومراكز صناعة الرأي العام، ازداد

تنفذاً على مستوى المؤسسات المالية، والاقتصادية، ازداد تنفذاً على مستوى جهاز

الإدارة، ازداد تنفذاً عموماً في مختلف دواوين الدولة ومؤسساتها. ولذلك من غير

المستبعد أن يكون ما حصل أمراً مخططاً له، وإنما استُغلت خطابات بعض إخواننا

من قيادات «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ، والتي كانت تحمل نوعاً من التخويف

للنظام، كذريعة للسير في هذا الاتجاه والقيام بتلك الأعمال، ولتطبيق برنامج ربما

كان مسطراً من قبل.

وفي المرحلة الأخيرة أي منذ السنوات الثلاث الأخيرة بدأنا نشهد خطوة

متقدمة في التهجم على المقومات الشخصية للأمة؛ على هويتها، على دينها ولغتها

وتاريخها؛ تحت شعار تكسير الطابوهات، فربما تكون هذه صورة أخرى من

البرنامج المعد من طرف هؤلاء للتمكين لمشروعهم العلماني.

ومع هذا والحمد لله على فضله فالأمة ما زالت بخير، وقد أتت تلك

الممارسات بنتائج عكسية على مستوى الشارع الجزائري، فازداد تمسك الشباب

بدينه، على الرغم من خلو المساجد من الخطباء الأكفياء، والأئمة المثاليين،

وازداد إقبال المواطنين على المشروع الإسلامي، وظهر ذلك جلياً في الاستحقاقات

السياسية التي نُظِّمت مؤخراً؛ خاصة في الانتخابات التشريعية في مايو ٢٠٠٢م،

والانتخابات المحلية في أكتوبر ٢٠٠٢م.

البيان: مع كل هذه الخسائر والمصائب التي مرت بالشعب الجزائري

فإن الحكومة الحالية ماضية في هذا السبيل؛ فهل تتوقعون أن هذا الوضع سوف

يستمر، وأن هذا الطريق سوف يطول، أو أن لهذا الليل آخراً؟

- المستقبل فعل كسبي، [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم]

(الرعد: ١١) ، فالله عز وجل وعدنا بنصره: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ

اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: ٤٠) ، وقد بين في مواطن عديدة في القرآن الكريم

السنن التي تحكم مسيرة الخلق، وما علينا إلا أن نبحث عن تلك السنن وأن نتفهمها

جيداً، وأن نحسن الالتزام بها، فالظلم لا بد له من نهاية، والظالم لا بد له من

نهاية، [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (آل عمران: ٨٦) ، [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ

الظَّالِمِينَ] (آل عمران: ٥٧) ، [أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (هود: ١٨) ،

وقد أشار القرآن الكريم - إن لم نكن مصدقين بهذه الحقيقة - إلى النظر في تاريخ

الأمم السابقة: [وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ

وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ

نَكِيرِ * فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ

وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ

يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج:

٤٢-٤٦) .

ولذلك فنحن متفائلون جداً بالمستقبل، وعاملون بإذن الله على تفعيل موازين

القوى المعنوية التي بحوزتنا، وحسن توظيف موازين القوى المادية على قلَّتها في

صراعنا مع قوى التغريب والعلمنة، وثقتنا في الله كبيرة في أنه سيكتب لمشروعنا

النجاح، ولا يهمنا بعد ذلك أن نشهد نحن هذا النجاح، أو يشهده الجيل القادم،

فالمهم أن نكون عاملين بصدق وبحق، ومجتهدين في تجميع شروط استحقاق نصر

الله عز وجل، ومخلصين في أعمالنا لله تبارك وتعالى، ثم نكل الأمر بعد ذلك لله

عز وجل.

وقد حدثنا رسولنا عليه الصلاة والسلام فقال: «عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت

النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد ... »

[١] ، والشاهد عندنا أن هناك أنبياء ورسلاً أدوا الواجب كما ينبغي، وعاشوا - ربما

- قروناً من الزمن.. من يدري؟ ، وأُرسلوا وحيدين، وظلوا كذلك، وماتوا وهم

كذلك، وما حط ذلك من قدرهم أو مكانتهم شيئاً، ولا نقص ذلك من أجرهم،

فالحديث ينص على أنهم يبعثون مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

والحقيقة؛ أن تحرير القول في هذه المسألة ضروري ومهم جداً، والحمد لله

على فضله، ونحن كما قلت لك باختصار متفائلون، وعاملون إن شاء الله، ونسأل

الله التوفيق.

البيان: هناك غموض كبير فيمن يقف وراء المجازر وحمامات الدم

التي تظهر بين الحين والآخر في مختلف ولايات الجزائر؛ فهل هناك تفسير لمثل

هذه العمليات؟

- أولاً: نحن نرفض العنف بكل أشكاله وصوره ومن جميع مصادره،

نرفضه بوصفه وسيلة في الممارسة السياسية، ونرفضه وسيلة للوصول إلى

السلطة، ونرفضه وسيلة للبقاء في السلطة.

وثانياً: فيما يتعلق بالسؤال: ليس المسؤول - كما قال عليه الصلاة

والسلام - بأعلم من السائل. والحقيقة؛ أن هناك أكثر من جهة تمارس القتل في

الجزائر، هناك الجماعات المسلحة تمارس القتل في البلاد، وهناك أكثر من

جهة أخرى تمارس القتل، وبعضها ينتمي إلى الدوائر الرسمية؛ إلى الحرس

البلدي، أو إلى المجموعات المجندة من طرف النظام، أو مصالح الأمن.. أو غير

ذلك، وقد قُدّم الكثير من هؤلاء للمحاكمة؛ قدم شباب من الجماعات المسلحة،

كما قدم رجال بدرجة أقل طبعاً من الجهات الأخرى.

هناك إرادة من طرف التيار التغريبي لإلصاق المسؤولية في الجماعات

المسلحة فقط، ومن ثم اتهام الإسلام بذلك، وللأسف هذه الإرادة لا تزال قائمة

لديهم، ومن أسوأ ما أقدموا عليه على سبيل المثال لا الحصر أنهم نظموا في أيام

٢٦، ٢٧، ٢٨ أكتوبر ٢٠٠٢م مؤتمراً حول الإرهاب، ودعوا إلى المؤتمر رموز

التيار العلماني في البلاد، ورجالاً من المفكرين الغربيين، وأقصوا أو استثنوا علماء

الأمة ومفكريها سواء من الجزائر أو من غير الجزائر، وكان هذا المؤتمر شبه

محاكمة للإسلام، ومحاكمة للجهاد، ومحاكمة للأحزاب الإسلامية وللتيار الإسلامي

بشكل عام، فهم يريدون إذن أن يلصقوا تهمة القتل، وتهمة ارتكاب المجازر

التي لا يقرها شرع الله تبارك وتعالى، ويرفضها قطعياً بنصوص كثيرة في كتاب الله

وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، يريدون إلصاقها بالتيار الإسلامي وحده.

وأؤكد أنه توجد أكثر من جهة تمارس القتل؛ منها النظام، منها السلطة،

ومنها الجماعات المسلحة، ومنها مجموعات من المافيا.. وما إلى ذلك في البلاد.

نحن نسجل أيضاً اليوم أن العمل المسلح قد ضعف كثيراً، لم يبق في الساحة

كما تصرح الدوائر الرسمية إلا مئات، كما نسجل تراجعاً لا بأس به في القتل،

ولكننا كما قلنا أكثر من مرة يؤسفنا أن يقع القتل ولو لشخص واحد، ولو قتل

شخص واحد بغير حق فكأنما قتلت الأمة كلها، [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً

وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] (المائدة: ٣٢) .

البيان: بعد انقلاب الجيش على العملية الديمقراطية تباينت مواقف

الحركات الإسلامية في داخل الجزائر من السلطة، فهناك اتجاهات ما زالت تمد

الجسور وتضع يدها بيد السلطة، واتجاهات أخرى نأت بنفسها تماماً عن

الاتجاهات الرسمية، وتوسطت اتجاهات أخرى ووقفت موقف المُقْدم أحياناً

والمُحْجم أحياناً أخرى بشيء من الحذر؛ فكيف ترون الواقع في ظل هذه المواقف

المتباينة؟

- نعم.. كما تفضلتم؛ بعد الانقلاب سارت معظم الأحزاب مع السلطة،

وأيدت سياساتها، وانخرطت معها في الحكم، ورضيت بأن تكون أداة من أدوات

السلطة في تنفيذ سياستها؛ تحت شعار المحافظة على الدولة، حتى من بعض

الأحزاب الإسلامية، وهذا شيء واضح، فانخرطت بعض هذه الأحزاب في العمل

من خلال السلطة انخراطاً واضحاً، وتحملت مسؤوليتها كاملة مع السلطة،

فشاركت في المؤسسات الانتقالية التي أسستها السلطة، كالمجلس الانتقالي، ثم

شاركت في الحكومات المختلفة التي تعاقبت على البلاد منذ ذلك الوقت، ولا تزال،

وحجتها أنها تريد أن تسهم في المحافظة على الدولة حتى لا تسقط، ولها مواقف

معلومة ومكشوفة وصريحة، ومنشورة في الجرائد ومبثوثة في التلفزيون وما إلى

ذلك، فهذا أمر ليس خفياً حتى نكتمه أو نتحفظ عليه، هو معلوم ومنشور.

أما حركة «النهضة الإسلامية» فرفضت في الحقيقة الانخراط في سياسات

السلطة رغم كثرة المحاولات التي بذلها النظام معها، وآثرت أن تتخندق مع الشعب،

وأن تزاوج في نضالها بين أداء واجب النصرة للمظلومين، وبين أداء حقها في

الاجتهاد والعمل والتحرك؛ لأن الحياة لا تتوقف حقيقة بموت زيد أو عمرو من

الناس، أو بحل هذا الحزب أو ذاك.. لا بد من الاستمرارية.

ولذلك فقد دفعت حركة «النهضة» فاتورة بسبب مواقفها هذه؛ دفعت فاتورة

في الأرواح، ودفعت فاتورة في الإقالة من الوظائف، ودفعت فاتورة في المحاصرة

الإعلامية، والمحاصرة المالية الاقتصادية، وتعرض رئيسها أربع مرات لمحاولة

اغتيال، ولكن الحمد لله صبرنا وتوكلنا على الله، ثم دفعت فاتورة في شكل محاولة

شراء ذمم بعض الأفراد من قيادات حركة «النهضة الإسلامية» ؛ لدفعهم للانقلاب

على رؤوسهم، وإثارة كمٍّ من الإشاعات لتشويه رئيس الحركة، فكانت تُسيَّر قوافل

إلى المدن المختلفة تلتقي الناس؛ ليس لها موضوع إلا موضوع النيل من مصداقية

رئيس الحركة وتشويهه بكل الوسائل، ولكن - والحمد لله على فضله - صبرنا

واحتسبنا، وما تعاملنا بالمثل على الإطلاق، بل أدرنا الصراع بطريقة غير معهودة

بالنسبة لهم، فتركنا حركة «النهضة» وأقدمنا على تأسيس حركة «الإصلاح

الوطني» ، والحمد لله على فضله، وبارك الله في الخطوات.

نحن في الحقيقة نظرنا إلى الأمر - باختصار - مثلما نظر إليه علي رضي

الله عنه لما سئل عن الخوارج وعن معاوية فقال: «هؤلاء طلبوا الحق فأخطؤوه،

وهؤلاء طلبوا الباطل فأدركوه، وليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل

فأدركه» ، فأسقطنا هذه المقولة على الواقع، فإخواننا في «الجبهة الإسلامية

للإنقاذ» ومن صعدوا إلى الجبال هم قوم على الجملة يريدون حقاً؛ يريدون أن

يقيموا الدولة الإسلامية، لكنهم من وجهة نظرنا أخطؤوا الطريق.

أما الطرف الآخر فهم يريدون باطلاً؛ إذ الانقلاب على إرادة الشعب باطل،

والسياسات التي أقدموا عليها لاحقاً في التعاطي مع حقوق الأمة باطلة، والسياسات

التي أقدموا عليها في التعاطي مع الأمور المكونة لشخصية الأمة باطلة، لكنهم

أدركوا هذا الباطل بما يملكون من قوة، فجميع موازين القوة بأيديهم، فليس من

طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.

فالحقيقة أنه ليس من السهل أن تحافظ على توازنك في جو مثل الجو الذي

عشناه في الجزائر، فهذا أمر في منتهى الصعوبة ومنتهى الخطورة، مرت أيام

وهناك من أصبح ويظن أنه قد لا يمسي، ومن أمسى ويظن أنه قد لا يصبح، من

خرج من بيته ويظن أنه قد لا يعود إلى بيته، ومن دخل إلى بيته ويظن أنه قد لا

يصبح أيضاً، ولكن - والحمد لله على فضله - صبر الناس واحتسبوا، وعملوا

أيضاً واجتهدوا في وسط كل تلك الظلمات، وقادوا المسيرة بحكمة، وبارك الله في

الجهود، ونسأل الله الثبات والقبول.

البيان: ومع ذلك كله ما زالت بعض الحركات الإسلامية تؤمن بالعملية

الديمقراطية، وتدخل في الانتخابات البلدية والتشريعية، هل تعتقد بأن هذا أمر

منطقي مع استصحاب أحداث عام ١٩٩٢م؟

- من خلال تجارب الأمم المختلفة لا يوجد أفضل للأمم من الحريات، لو

سألت علماء الأمم وعقلاءها الأكثر رسوخاً في الحريات والديمقراطية عن سبب ما

تتمتع به بلادهم من أمن مثلاً أو من تقدم وازدهار، أو من عدالة في معالجة حقوق

مواطنيهم، والتعاطي معها؟ لأجابوك بكلمة واحدة: أن السر في ذلك هو أن

نظامهم بني على أركان الحريات لا على أركان الاستبداد وحكم الفرد.

ولو عدت للقرآن الكريم وتصفحت آياته لوجدت أن القرآن الكريم حمل على

الاستبداد وعلى الظلم حملات لم يحمل بمثلها ربما على أي شيء آخر، هناك

المئات من الآيات في هذا الشأن، ويكفي أن أذكر قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ

رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا

الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ

* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ] (الفجر: ٦-١٣) .

فالآيات جعلت الاستبداد والطغيان هو البوابة الكبيرة الواسعة لشيوع الفساد

وظهوره؛ الفساد السياسي، والفساد الاقتصادي، والفساد الاجتماعي، الفساد بكل

أشكاله، وبسبب هذا استحقوا عقاب الله سبحانه وتعالى.

أرسل الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام إلى فرعون، وقال: [إِنَّ

فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْض] (القصص: ٤) ؛ أي طغى وتجبر واستبد وظلم وغير

ذلك، [وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ

كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] (القصص: ٤) ، ولذلك فنحن نقول: مهما كانت العراقيل

موضوعة الآن أمام المسار الديمقراطي ومسألة الحريات؛ يجب الصبر عليها

والعمل على تذليلها بكل الوسائل السلمية الممكنة، وإذا أخفقنا في معركة الحريات

أخفقنا في تحقيق أهدافنا المختلفة، وأعني الأهداف الكبرى طبعاً، قد تنجح في

تحقيق أهداف صغرى هنا وهناك لا شك في ذلك، لكننا بالتأكيد نخفق في تحقيق

أهدافنا الكبرى. ولهذا يظل أفضل منهج في تحقيق أهداف الإصلاح المختلفة،

وأهداف التغيير المختلفة هو المنهج السياسي السلمي الرسمي والعلني. هذا

باختصار طبعاً.

البيان: لكن المسار الديمقراطي تحت مظلة الديكتاتورية نتيجته أنه إن

بدأ يحقق نتائج ملموسة فسوف تُقطع جذوره كما قُطعت في المرحلة الأولى!

- هذا الأمر ليس أمراً أبدياً، وهم يحاولون أن يكونوا بالنسبة لنا كذلك؛

لأنهم حملة مشروع تغريبي وعلماني وإيديولوجية علمانية، ويعلمون أنه لا سبيل

أمامهم لفرض مشروعهم على الأمة إلا أن يظلوا في السلطة، فالسلطة بالنسبة لهم

أصبحت هدفاً ووسيلة وغاية وهدفاً استراتيجياً.. وما إلى ذلك، ولكن هذا الأمر

ليس أبدياً، هذا أمر مرهون بأن يظل القوي قوياً دائماً، وأن يظل الضعيف ضعيفاً،

وأن يظل المتيقظ متيقظاً، وأن يظل الغافل غافلاً، لكن إذا تغيرت هذه الحال

فضعف القوي، وقوي الضعيف مثلاً، وتيقظ وتنبه الغافل، وغفل المتيقظ، وهذه

من سنن الله سبحانه وتعالى في البشر؛ فإن الموازين ستتغير. ثم أيضاً لا تنس أن

من خصائص نظرية الحقوق في الفكر القانوني الوضعي أنها تأتي قيداً على سلطة

الحاكم، وأن الحاكم أمام ضغط الجماهير يوازن في كل مرة بين استمراره في عدم

الاستجابة لمطالب الجماهير، ومن ثم يوازن بين التعامل مع الجماهير بالقمع أو

القهر أو التحايل.. أو ما إلى ذلك، وما قد يترتب على هذا من ضرر، وبين

نزوله عند مطالب الجماهير، وأيضاً ما قد يقلل ويحد من سلطاته وصلاحياته، فإذا

ما تساوت أمامه المسائل، أو قدَّر أن استمراره بالضغط سيفقده كل شيء؛

فسيضطر عندئذ للتنازل عن مفهومه والاستجابة لحقوق الأمة ومطالبها.

ولذلك فإن من صميم الأعمال التي يتعين التفكير فيها باستمرار هو امتلاك قوة

الجماهير، وحسن تأطير الجماهير، وحسن قيادة الجماهير في مسيرة الضغط على

الحكام بالوسائل السلمية؛ من أجل دفع هؤلاء لاحترام إرادة الأمة وحقوقها،

واحترام حريتها.

ومثل هذا العمل لا تُوفره إلا ما يسمى بالنظم الديمقراطية التعددية، ثم لا تنس

أيضاً أن النظم الديمقراطية التعددية توفر آليات للمواطنين لا توفرها النظم الأخرى،

مثل آليات الرقابة على عمل السلطة، وآليات النقد، وعدم التدخل في الحريات؛

حرية الصحافة، الحريات الفردية.. إلى غير ذلك، وكل هذه من الجوانب المهمة

التي إذا أحسنت الأمة استغلالها استطاعت بتوفيق الله أن تحقق لنفسها الكثير من

الخير.

البيان: لكن ألا ترون أن هذه المؤسسة الديكتاتورية التي تنادي

بالديمقراطية الحالية في الجزائر هي التي ضحت بخيار الشعب، ولما واجهتها

الجماهير لم يكن عندها تردد في أن تقضي على أكثر من مائة ألف قتيل كما قيل،

وتزج بشباب الأمة في السجون، وتفعل هذه الأفاعيل، فهذه المؤسسة هي التي

تطرح الآن الخيار الديمقراطي!

- عفواً أخي الكريم أنت منطلق في مثل هذه الأسئلة فيما يبدو لي من أمرين

أساسيين:

الأمر الأول: من الرغبة في تحقيق الهدف من أول مرة، ومن القاعدة الذهبية

الديمقراطية التي تقول إن الأغلبية محكمة؛ بمعنى أن تقولوا لهم: أنتم قبلتم بقواعد

هذه اللعبة كما تقولون، فها نحن قد احتكمنا إلى الجماهير، والجماهير أعطتنا ثقتها،

فيجب أن تسلموا. مثل هذه المقولة فيها غفلة عن حقيقة الطرف الآخر من جهة،

وحقيقة الصعوبات التي تعترض المسيرة الديمقراطية من جهة ثانية. أنت لا

تتعاطى مع ملائكة، وإنما تتعاطى مع بشر يحملون مشروعاً يريدون أن ينفذوه،

وعليك أنت أن تحسن انتزاع حقوقك منهم بهوامش الحرية المتاحة لك.

ثانياً: وتنطلق أيضاً مما تشاهده من ممارسات خاطئة صدرت من القوى

السياسية المختلفة، وأنا أقرُّك، وأقول بهذا أيضاً إن ثمة أخطاء كبيرة وكثيرة في

الممارسة، ولكن أيضاً الحكم على الخيار بوصفه خياراً لا يكون بالنظر إلى

العراقيل التي يضعها ذاك المتنفذ، كما لا يكون بالنظر إلى الأخطاء التي يقع فيها

هذا المتحرك في إطار مظلة الديمقراطية التعددية، وإنما يكون بالنظر إلى طبيعة

النظام الديمقراطي، والآليات التي يوفرها، وهوامش الحرية التي يتيحها،

والحقوق التي يعطيها لك كإنسان، ثم إلى التجارب الناجحة هنا وهناك، وأن تعمل

على حسن استغلال تلك الهوامش كما قلنا؛ آخذاً بعين الاعتبار صعوبات التحول

الديمقراطي التعددي، وآخذ بالاعتبار طبيعة الحكام النافذين، وآخذاً بعين الاعتبار

كل هذه المعطيات. ثم ما هو البديل عن هذا؟ البديل عن هذا هو الاستسلام

للاستبداد والواحدية، وقد أشرت إلى أن القرآن الكريم حمل على الاستبداد وبين أن

الاستبداد هو طريق الفساد، وبعث الأنبياء والرسل لمحاربة الاستبداد والطغيان

والفساد، فحينما تجد نفسك في مفاضلة بين هذا وذاك، حتى إذا لم تقل إن

الديمقراطية هي الأفضل، لكن تقول إنها أقل سوءاً من ذلك الخيار، فينبغي أن

تأخذ الأقل سوءاً؛ لأن الإسلام جاء بتحقيق المصالح وتقريبها، ودفع المضار

والتقليل منها، كما جاء بتحقيق أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أكبر

المفسدتين باحتمال أدناهما.

البيان: لكن يمكن أن تكون المطالبة بالحريات ومواجهة الاستبداد

بوسائل مختلفة وطرق متعددة؛ ليس من بينها الدخول في العملية الديمقراطية

التي وضعها هذا النظام الاستبدادي، وإنما تكون بالجهر بما يؤمن به الإنسان من

مواجهة هذا الظلم؛ كالدعوة العامة للحرية، والدعوة العامة لانتزاع الحقوق!

- لا.. هذا الأمر يختلف باختلاف طبيعة النظام، فالنظم تختلف من بلد إلى

آخر؛ هناك نظم فاقدة للشرعية، وهناك نظم ناقصة للشرعية، في ظل النظم

الناقصة للشرعية يمكن أن يكون العمل من خلال ما تفضلتم - مثلاً - بالإشارة إليه؛

لأن أساس الشرعية الأول متوفر؛ وهو التزامها من حيث المبدأ بشرع الله

سبحانه وتعالى. ولكن في ظل النظم الفاقدة للشرعية غير الملتزمة بشرع الله، بل

المعتدية على شرع الله بالتعطيل والتحريف وما إلى ذلك، والمعتدية أيضاً على

حقوق الأمة، في مثل هذه الحالة يترتب واجب مقدس على الأمة كلها مجتمعة أو

متفرقة؛ وهو القيام بتغيير ذلك النظام بالوسائل المتاحة، ولا يتعطل هذا الواجب

إلا في حالة واحدة؛ وهو أن يكون كيان الدولة مهدداً من قِبَل عدو خارجي.

فالحالة التي عليها النظام في الجزائر هي هذه الحالة، ولذلك فإن القيام

لإصلاح الأحوال واجب، وبالوسائل السلمية أيضاً وبحكمة، وما لا يدرك كله لا

يترك جله، ليس من الضروري أن تنتقل فوراً إلى الحكم أو إلى المشاركة فيه، أو

أن تنتزع الحكم عن طريق الصندوق.. أو ما إلى ذلك، وأحسب أنه يمكنك أن

تستغل الديمقراطية التعددية وما توفره من حريات لتحقيق مقاصد أخرى، تجدول

اهتماماتك وتجعل مسألة الحكم تأتي في مرتبة لاحقة، وتستغل الحريات لتحقيق

أهداف أخرى ذات طابع اجتماعي، أو طابع فكري أو ثقافي، أو طابع اقتصادي،

فهذا أيضاً من الوسائل المتاحة.

البيان: لننتقل إلى محور آخر، بعض قيادات الجيش الجزائري اعترف

بأن الاستخبارات الجزائرية استطاعت خلال الفترة الماضية أن تخترق كثيراً من

الحركات الإسلامية وتحتويها وتوجه مسارها؛ فهل هذا صحيح ابتداء، وما حجم

هذا الاختراق؟

- هذا شيء ليس بدعاً في الجزائر بل هو موجود في جميع النظم، فتلك

النظم تسهر على اختراق التنظيمات المختلفة الموجودة في ساحتها الوطنية، بل

استطاعت أن تخترق حتى التنظيمات الموجودة في الساحات الأخرى، أو ساحات

الدول المجاورة، أو ساحات الدول المؤثرة، فهذا أمر تفعله جميع النظم، ويبقى

على كل تنظيم مسؤولية وواجب تحصين نفسه من الاختراق، والناجح من يستطيع

تحصين نفسه من الاختراق المؤثر تأثيراً عميقاً وتأثيراً جوهرياً، مثل الاختراق

الذي يجعل القرار ليس بيد مؤسساته.

البيان: لكن هل هذا يعني أن حركة «الإصلاح الوطني» انشقت عن

حركة «النهضة» لهذا السبب، أو أن هناك أسباباً أخرى؟

- هذا القول ليس صحيحاً؛ فأنا مؤسس حركة «النهضة الإسلامية»

ورئيسها، والفضل لله من قبل ومن بعد، والذي كتب كل أدبياتها ونظَّم لمسارها،

وأنا رئيسها المنتخب أيضاً؛ المنتخب من قِبَل مؤتمراتها؛ سواء من مؤتمراتها

السابقة في مرحلة السرية، أو مؤتمراتها في مرحلة الانتشار العلني، كمؤتمر

١٩٩٤م، ومؤتمر ١٩٩٨م.

فالشرعية نحن من يمثلها وليس غيرنا، ونحن في الحركة ما فعلنا إلا أن

تركنا الاسم؛ لأن الحزب في نظرنا ليس اسماً، والقول بأن الحزب اسم وتمسكوا

بالاسم؛ هو نوع من التعصب المذموم الذي ينقل العمل الحزبي من دائرة الحمد أو

الجواز إلى دائرة الذم، وهو المحذور الذي وقعت فيه للأسف بعض الأطراف،

ودفعت بذلك فاتورة ثقيلة وثقيلة جداً.

الحزب في نظرنا برنامج ومشروع وخط سياسي، ورموز يعرفون كيف

يحولون ذلك البرنامج إلى سياسات ومواقف عملية، وكل هذا باق والحمد لله.

وحركة «الإصلاح الوطني» جاءت أولاً لكي تلبي رغبة راودت الكثيرين

من العاملين في الحقل الإسلامي منذ سنة ١٩٩٤م؛ حيث كان هناك حوار بين

بعض رموز الصحوة من القيادات التي كانت في تنظيمات مختلفة، بعضها كان في

«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ، وبعضها كان في حركة «مجتمع السلم» ،

وبعضها طبعاً في حركة «النهضة» ، وكانت هناك قناعة بضرورة إيجاد إطار

سياسي إسلامي آخر يقوى على استيعاب الطاقات الإسلامية غير المستوعبة من

طرف التنظيمات الإسلامية الموجودة، وهي الأكثرية، وعلى خط سياسي يكون

أكثر تعبيراً روحياً عن الإسلام وانضباطاً بقواعده، ويضم المناضلين الأكثر صدقاً

في نضالهم وجهادهم في خدمة الإسلام وفي خدمة الأمة، وقد اختمرت الفكرة مع

الزمن، وتأكدت مع الزمن ضرورتها، إلى أن جاءت عوامل أخرى أزالت

الحواجز النفسية التي كانت تقف دون إخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، فكانت

الأجواء التي عاشتها «النهضة» هي الفرصة التي حطمت الحواجز النفسية

وفتحت الباب لتجسيد هذه الفكرة على أرض الواقع، ثم جاءت بعد ذلك حركة

«الإصلاح الوطني» من إطارات معظمها كان في «النهضة» ؛ يعني يحملون

اسم «النهضة» بالتدقيق، ومن إطارات كانوا في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ،

ومن إطارات كانوا في حركة «مجتمع السلم» ، ومن إطارات كانوا في حركة

«التحرير الوطني» لكن يحملون توجهاً إسلامياً.

والحمد لله؛ قدَّرت الأمة جدية هذا المسعى وأهميته، وأنه الأقدر على تجسيد

آمالها وتطلعاتها، فالتفت حوله من أول يوم، وظهر ذلك جلياً في نتائج الانتخابات

التشريعية والمحلية.

البيان: كان هناك احتواء من الجيش الفرنسي للجيش الجزائري، ثم

بعد ذلك بدأت تظهر معالم الصراع بين الولايات المتحدة وفرنسا في التسابق على

اقتسام هذه المنطقة؛ فما آثار هذا الانقسام على الواقع الحالي في الجزائر؟

- نعم هناك نوع من هذا الصراع؛ لأن النظام الدولي الجديد هو في مضمونه

إعادة توزيع لمناطق نفوذ الدول الكبرى على العالم، ولا سيما العالم العربي

والإسلامي؛ مما يجعل تلك الدول صاحبة الامتياز الأول في اقتصاديات العالم

وتجاراته، ومما يجعل أمريكا أكبر الدول في هذه الاقتصاديات والتجارات،

ومتفردة بالسيطرة والهيمنة العسكرية، في هذا الإطار تزاحم أمريكا مناطق النفوذ

الفرنسي، وقد زاحمتها بالفعل، فهناك حضور قوي الآن لأمريكا في منطقة الآبار

البترولية، أو في الاستثمارات البترولية والغازية، كما لها حضور قوي في الكثير

من دول إفريقيا كالسنغال وغيرها.

ولكن مع هذا ما زال النفوذ الأكبر لفرنسا لوجود النخب النافذة ذات الثقافة

الفرنسية والميول الفرنكوفونية بشكل قوي، وخاصة أن منهم من يسيطر على

قضايا الاستثمار.. وما إلى ذلك، ويضعون العراقيل أمام المستثمرين العرب

بدرجة أولى، وغير الفرنسيين بدرجة أقل، ويحاولون ما استطاعوا إعطاء الامتياز

للمستثمرين الفرنسيين، مع كما قلت، وكما ورد في سؤالكم ما تعلق بأمريكا.

نحن في الحقيقة نرى الوجود الفرنسي شراً كما أن الوجود الأمريكي كذلك شر،

نحن ضد التبعية المهينة لهذا أو لذاك، وهذا أحد أهم أسباب محاربة العلمانيين لنا؛

يحاربوننا لأننا نعمل على تحرير الأمة من مظاهر التبعية المختلفة، وإعادة

الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للأمة؛ حتى يجتمع الاستقلال الاقتصادي

والاجتماعي والثقافي مع الاستقلال السياسي؛ فيكون ذلك السبب الرئيس في سير

الأمة نحو التقدم والازدهار.

وأنت تعلم بأن هذا الأمر يرفضه الغرب، ويرفضه عملاء الغرب،

ويحاربون أصحابه ويضعون أمامهم العراقيل يجب أن يكون مشروعنا رافضاً رفضاً

قطعياً لكل أشكال الهيمنة، وهذا لا يتعارض مع التعامل الاقتصادي أو التعاون

الاقتصادي بين الدول وبين الشعوب، تلك سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في

الخلق وفي الاجتماع، ولكن هناك فرق بين أن نتعاون اقتصادياً وبين أن تسيطر

علي وأن تستعبدني وأن تستغلني، وأن تجعلني كأنني خمّاس لديك!

البيان: أشرتم قبل قليل إلى أن من وسائل مواجهة التدين في الساحة

الجزائرية فتح أبواب التغريب والإفساد، وخاصة فيما يتعلق بالأسرة والمجتمع؛

ماذا قدمت الحركة الإسلامية بشكل عام لدعوة المرأة المسلمة؟

- الحركة الإسلامية قدمت في السبعينيات والثمانينيات شيئاً كثيراً للمرأة

المسلمة، وأصبح الشارع الجزائري في عمومه في القطاع النسائي متحجباً، كنت

إذا دخلت المدارس الثانوية مثلاً سُررت كثيراً لقلة المتبرجات، وإذا دخلت

الجامعات كذلك، وإذا تحركت في الشوارع كذلك، وأشير هنا إلى أن المجموعات

التغريبية التي كانت تنادي بسفور المرأة، ومراجعة قانون الأسرة وما إلى ذلك لمَّا

تجرؤوا وتفوهوا بمثل هذا في سنة ١٩٨٩م قمنا نحن التيار الإسلامي نستظل يومها

بمظلة رابطة الدعوة الإسلامية، وهي مشروع حضاري واع حرصنا على تأسيسه،

لكننا لم نوفق على كل حال لأسباب يطول شرحها، في ذلك الوقت كانت الرابطة

موجودة ومتحركة، فدعونا لتجمع نسوي أمام البرلمان؛ فإذا بالنساء يأتوننا من كل

مكان بأعداد فاقت المليون أو المليون ونصف، غطت كل الشوارع والساحات

المختلفة التي تحيط بالبرلمان وهي شوارع كبيرة؛ مما أسكت الجميع وأقبر ذلك

المشروع لسنوات.

إلا أن المحنة التي عشناها خلال العشرية الحمراء التي أشرنا إليها في الإجابة

عن السؤال الأول أثرت كثيراً في موضوع الحجاب وموضوع المرأة، وفتحت أفقاً

أمام التيارات العلمانية لتعيث في الأرض فساداً، فتراجع الحجاب نسبياً في

المؤسسات التعليمية، وتراجع في الجامعات، وتراجع كذلك في الشارع، ولكنه إن

شاء الله تعالى هو تراجع مؤقت، سيتغير مع تغير الزمن إن شاء الله.

البيان: ننتقل إلى محور آخر، وهو الورقة الأمازيغية، هذه الورقة

تصاعدت في الآونة الأخيرة، وبدأت تتضخم بشكل ينذر بالخطر؛ فما هي خلفيات

هذه القضية، وما هي أبعادها على الساحة الجزائرية؟

- الأمازيغية بذرة زرعتها فرنسا في الجزائر، وتعهدتها بالمال والرجال،

وأوجدت لها أكاديمية بربرية في فرنسا، وأنشأت لها قناة فضائية، وأمدت رجالها

بالمال، ولا يزال معظم هؤلاء الذين ينضالون من أجل الأمازيغية لديهم الجنسية

المزدوجة، لديهم الجنسية الجزائرية، ولديهم الجنسية الفرنسية، ولهم حضور

كذلك في الشارع الفرنسي من خلال انخراطهم في جمعيات وأحزاب فرنسية، وكل

هذا يوفر لهم أيضاً حماية قوية داخل البلاد.

كما أن النظام الجزائري ساعد هذا التوجه؛ ربما لأنه لم يقدِّر خطورته

وتبعاته وما قد ينجم عنه من مخاطر، ساعدهم لما ترك المجال أمامهم واسعاً للنشاط

والتحرك في منطقة القبائل، وبالمقابل أغلق الباب في وجه دعاة الإسلام، وفي

وجه دعاة الوطنية؛ وهم إطارات تنتمي إلى الاتجاه الوطني ولها قبول قوي

- حقيقة - على هوية الأمة، وغيرة على هويتها والدفاع عنها، فخلا الجو

لهؤلاء لسنوات طويلة، استطاعوا فيها أن يستميلوا إليهم عواطف المواطنين في

منطقة القبائل؛ لأن - بين قوسين (البربر طوائف شتى وعديدة) - هناك

القبائل، وهناك الشاوية، وهناك الطوارق، وهناك الشنويين وغيرهم.. هناك

أكثر من عشر طوائف. ولكن التركيز كان على طائفة القبائل الموجودة أساساً في

منطقة «تيزي أوزو» ، ومنطقة «الجاية» .

قلت: استطاع هؤلاء المنصرون من سكان هذه المنطقة أن يقوموا برفع

مشكلة اللغة وطرحها بقوة؛ بدعوى أن الأمازيغية لغة، ويجب أن تُحترم، ويجب

أن تُرسَّم، ويجب أن تدرس. وليس هدفهم هذا، إنما هدفهم فقط استمالة العواطف

للتأييد الشعبي وتأييد سكان تلك المنطقة.. ليس إلا؛ من أجل تحقيق مقاصدهم

الأخرى بعد ذلك في نشر التغريب والعلمنة، وإشاعة الفساد داخل سكان تلك

المنطقة، وقد نجحوا في هذا إلى حد بعيد؛ استطاعوا فعلاً أن يستميلوا سكان تلك

المنطقة، واستطاعوا أن يجدوا موضعاً للتنصير فيها، حتى إن الكثير من شباب

تلك المنطقة تركوا الإسلام ودخلوا في النصرانية، واستطاعوا أن ينشروا الفساد؛

كشرب الخمر وأكل الخنزير.. وما إلى ذلك، واستطاعوا أيضاً أن يعززوا مواقعهم

بالتغلغل في الكثير من مؤسسات الدولة؛ حتى قويت شوكتهم وقوي عددهم فخرجوا

بعد ذلك وطرحوا مطالبهم الضارة بالهوية الوطنية، والضارة بالإسلام وباللغة

العربية، والضارة بالوحدة الوطنية. وتتمثل تلك المطالب في المطالبة بالاستقلال

الذاتي، واعتبار العرب غزاة، والرفض القطعي للغة العربية في مناطقهم.

وقد أقدموا على تفجير الوضع في إبريل ٢٠٠١م، ولا يزال متفجراً إلى اليوم،

ورفعوا شعارات ومطالب اجتماعية واقتصادية، وشعارات متعلقة بالحريات

ليستميلوا بقية مناطق الوطن، فسيَّروا مسيرات ومظاهرات، وقاموا بعمليات

تحطيم وتكسير في مناطقهم، ولكن بقية المناطق لم تتجاوب معهم؛ لأن الناس

أدركوا خطرهم والأهداف الكامنة وراء هذه المطالب، وتيقنوا أن غاية هؤلاء من

وراء رفع المطالب الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ليس إلا تحريك بقية المناطق

ليحققوا أهدافهم الأخرى المتعلقة بالهوية، ولذلك لم يتجاوبوا معهم.

أما السلطة فإنها لم تحسن إدارة الصراع مع هؤلاء، حتى بعد انفجارهم

الكبير، ظنت أن المشكلة مشكلة لغوية فعملت على احتوائها دستورياً، وكنا من

الذين وافقوا على ذلك، في حين أن الأحزاب المحسوبة على التيار البربري قاطعت

جلسات التصويت على (دسترة الأمازيغية) ، فإذا بالواقع يؤكد أنهم مرة أخرى لا

يهدفون إلى موضوع (دسترة الأمازيغية) ، وأن المشكلة ليست مشكلة لغوية ولكن

لها أبعاد أخرى.

وقد انتقدنا طريقة السلطة في التعاطي مع هذا الملف، فدعونا السلطة لكي

تفتح حواراً شاملاً وواسعاً، على أساس أن موضوع الأمازيغية لا يهم أبناء هذه

المنطقة فقط بل يهم الجميع، وعلى أساس أن الآثار المترتبة عليه لا تنحصر في

تلك المنطقة بل تعم الجميع، وعلى أساس أن المطالب المرفوعة ليست فقط مطالب

ذات طابع لغوي، بل هناك مطالب اجتماعية واقتصادية.. وما إلى ذلك، وهذه

المطالب تهم الجميع، فقلنا لهم: عمموا الحوار.. أشركوا أطرافاً كثيرة في الحوار،

وتأتي السلطة بوصفها حكماً بدلاً من أن تأتي طرفاً، عندئذ عندما تتقابل الأطراف

المختلفة المتحركة في الساحة لتتحاور وتتناقش، فإذا طرحوا طرحاً متطرفاً فسيقابل

بطرح أيضاً متطرف، وتأتي السلطة في مثل هذه الحالة حكماً تفصل فيما ينشأ من

خلاف، ولكن السلطة تعامت عن هذا الخيار ولم تسر فيه، بل حصرت القضية

وكأنها ثنائية بينها وبين هذه الفئة.

قلنا لهم أيضاً: سكان المنطقة ليسوا كلهم من هذا القبيل؛ هناك في المنطقة

والحمد لله من هو غيور على دينه ولغته، هناك علماء وهناك دعاة وهناك رجال،

وهناك أناس وطنيون؛ فأشركوا هؤلاء في الحوار على الأقل، إذا لم تشركوا

هؤلاء في الأحزاب الأخرى فأشركوهم في الحوار، وهم من أبناء قومهم ليتصدوا

لطروحاتهم الخطيرة التي تهدد الوحدة الوطنية، لكنهم للأسف لم يفعلوا، ولا تزال

المشكلة عالقة إلى اليوم، ونسأل الله التوفيق والسلامة.

البيان: لكن كيف تقوِّمون أثر الحركة الإسلامية في منطقة القبائل على

وجه التحديد؟

- الأثر ضعيف جداً، وهذا يعود لعدة أسباب؛ منها:

أولاً: أن معظم الدعاة الأكفياء من أبناء تلك المنطقة تركوا المنطقة واستقروا

في الجزائر العاصمة، وكانوا يترددون على تلك المنطقة من آن لآخر فقط.

ثانياً: أن المحنة التي ألمت بالبلاد بعد ١٩٩٢م؛ أتت على القليل المتبقي من

دعاة الإسلام في تلك المنطقة، بعضهم سجن، وبعضهم قتل، وبعضهم شرد،

وبعضهم أيضاً ترك المنطقة وعاد إلى الجزائر العاصمة، فلم يبق إلا القليل ينافح

عن دينه وعن لغته، ولكن نحن نثق في عقيدة عموم الشعب، وما أصاب الكثير

من عقول هؤلاء أو قلوبهم إنما هي طبقة رقيقة من الغبار لو وجد في المستقبل دعاة

أكفياء، وتتاح هوامش لحرية التحرك في تلك المنطقة؛ ستزول هذه الغشاوة بإذن

الله وعونه؛ لأن الفساد في تلك المنطقة مس نخبة منها فقط، أما باقي سكان

المنطقة فقد استمالوهم بالمشكلة اللغوية من جهة، وبالمطالب الاجتماعية

والاقتصادية من جهة ثانية.

البيان: لكن النخبة هي المؤثرة!

- طبعاً النخبة هي الفئة المؤثرة؛ لأنها هي النخبة الوحيدة التي يتاح لها

التحرك في المنطقة.

البيان: أشرتم قبل قليل إلى وجود بعض الحركات التنصيرية في منطقة

القبائل، ووقفنا حقيقة على تقارير مذهلة في هذا المجال؛ فما حجم العمل

التنصيري هناك؟

- هناك في الواقع تركيز كبير من طرف فرنسا على تلك المنطقة، وهي

تعتمد مختلف الوسائل التي تبقي تلك المنطقة شوكة في جنب الجسم الجزائري،

ومن الوسائل وسيلة التنصير، مع ملاحظة أن التنصير لا يوجد فقط في تلك

المنطقة بل يوجد كذلك في بعض المناطق في الغرب الجزائري، وفي بعض

المناطق في الصحراء الجزائرية، لكن أثره محدود ونسبي جداً، وأثره الأكبر كان

في منطقة القبائل للأسباب التي أشرت إليها من قبل، ومع هذا أيضاً يبدو أن ما

سمعت من تقارير لا تخلو من المبالغة والتهويل.

البيان: أكد الفريق محمد العماري قائد أركان الجيش الجزائري عشية

الاحتفال بذكرى استقلال الجزائر أن الشيخين مدني وعلي بلحاج سيطلق

سراحهما بعد انتهاء المدة الرسمية لاعتقالهما، ويقدر ذلك في يونيو عام

٢٠٠٣م؛ فهل تتوقع أن السلطة الجزائرية سوف تفي بهذا الأمر، أو أن

السلطة سوف تتلاعب في هذه القضية أيضاً؟

- من الناحية القانونية؛ فإن الشيخين مدني وعلي بلحاج قد أنهوا عقوبتهما،

وما داموا قد أنهوا عقوبتهما فلا يوجد أي مسوِّغ لإبقائهما في السجن، وإبقاؤهما كل

هذه المدة فيه ظلم؛ لأن العادة في سجون الجزائر أن المسجون لا يقضي كل العقوبة،

قد يقضي ثلث العقوبة أو نصفها، ثم يطلق سراحه مهما كان الجرم الذي ارتكبه،

ولكن في شأن أخوينا فقد أبقوهما كل هذه المدة، وأكملوا عقوبتهما.

والمتوقع أن الشيخ عباسي مدني ترفع عنه الإقامة الجبرية المضروبة عليه،

والشيخ علي بلحاج يعاد إلى بيته ولكن قد يوضع في نوع من الإقامة الجبرية، قد

تكون مخففة، ولكن لا يتصور أنه سيُترك بحالة يتمتع فيها بكامل حقوقه.

طبعاً نحن نتمنى أن يترك لحاله، وسنعمل على أن يتحقق ذلك بإذن الله؛ لأن

ذلك حقه وواجبنا أيضاً.

ولكن نعرف أن التيار التغريبي النافذ لا يهدأ له بال إلا أن يراه مسجوناً أو في

إقامة جبرية، وقد بدأت أصواتهم تتعالى هنا وهناك تنادي بتنظيم محاكمة أخرى

لعلي بلحاج على تصريحات أدلى بها، أو كتابة رسائل بعث بها إلى جهة معينة.

نسأل الله ألا يتمكنوا من هذا، وأن يطلق سراح أخوينا، وأن يعودا إلى

أهلهما وإخوانهما وشعبهما عاملين ومجتهدين في الإصلاح كما كانا من قبل،

فالساحة تحتاج إليهما وإلى أمثالهما.

البيان: أخيراً: التجربة كانت تجربة مريرة، وأنتم سميتم العشرية

الماضية عشرية حمراء؛ فما هي توصيتكم للحركات الإسلامية خارج الجزائر

للاستفادة من هذه التجربة؟

- لا شك أن التجربة الجزائرية تجربة مريرة وتجربة ثرية في الوقت نفسه؛

هي ثرية سواء في ميدان العمل السياسي، كما هي ثرية في ميدان العمل المسلح،

وكما هي ثرية في ميدان العمل الحركي قبل ذلك، وفي مجال العمل التبليغي

والدعوي والعمل الخيري، هي تجربة ثرية حقيقة في جميع الميادين؛ لأن كل هذه

الميادين خاضت فيها الحركة الإسلامية والتيار الإسلامي في الجزائر وصارت لها

بذلك تجارب كبيرة ومؤثرة، ومن خلال كل التجارب الماضية بت مقتنعاً مثلما

أشرت في صلب الحوار بأن أهم معركة يتعين الاجتهاد في حسن إدارتها إنما هي

الاجتهاد في معركة الحريات؛ إذا نجحنا في إدارة معركة الحريات وكسبنا المعركة

كسبنا كل شيء بإذن الله تعالى.

كما أتمنى أن ندرك جميعاً أن الدعوة دين ولا تؤدى إلا بالطاعة، فالبحث عن

صور الطاعة المختلفة في الدعوة والعمل في سبيل الله عز وجل واجب من أقدس

الواجبات، وعلينا أن نتسلح بسلاح الصدق والإخلاص والأمل في النجاح، ونجمِّل

كل ذلك بجمال التضحية. ونسأل الله التوفيق.


(١) أخرجه البخاري، رقم ٥٧٠٥، ومسلم، رقم ٢٢٠، واللفظ له.