للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قصة قصيرة

[وللحقيقة وجه واحد]

محمد علي البدوي

افترشه المرض، أقعده، هدّه، عضّ عليه بنواجذه القوية، أنشب فيه أظفاره

القاتلة، موجة من الاصفرار كست ملامح وجهه الذي تغضَّن تحت وطأة المرض،

هالة سوداء أخذت تزحف على عينيه الغائرتين في صمت موحش، تهدّل عنقه،

برزت تضاريس جسمه الناحل، حتى خصلات شعره الموغلة في البياض نفرت

منه بفعل الكيماوي..

- للأسف.. لم يعد لك أمل في النجاة!!

- أبداً.. أبداً.. يا (دكتور) ؟! قالها بصوت متحشرج ذليل مشوب بالحزن.

- الأمل في الله وحده.. فهو القادر على كل شيء.

(الله) .... ولسعته الكلمة.. أفاق من سكرته تواً.. (الله) أخذ يرددها في

نشوة عارمة.. الآن.. بدت له الشمس ناصعة في كبد السماء.. انتفض بشدة،

سرت في جسده رعشة لم يستطع السيطرة عليها.. أخذ يهذي:

- ماذا سأقول له؟ وبأي جواب سأجيبه الآن؟

تصبب عرقه كثيراً وهو يسترجع تلك الليالي السوداء والدعوات الشيطانية

التي كان يروجها في قصصه ورواياته، تلك الحداثة المزعومة وكيف تولى كبرها

وحارب في سبيلها.. ماذا بقي منها الآن؟ وماذا ستفيده اليوم؟ .. المال.. الشهرة

.. الأضواء.. كل ذلك سيذهب.. وسيرحل إلى عالم الآخرة.. وحيداً من كل شيء

إلا من عمله.. إلا من صفحاته السوداء الموحلة.. قطَّب مفكراً.. زمّ شفتيه في

حسرة وعاد يهذي:

- الموت.. القبر.. الجنة.. النار.. مفردات قادمة لا تقبل الاختزال.

قام يمشي مترنحاً بخطوات متثاقلة، اتخذ لنفسه مكاناً قصياً، وأخذ يتكور

على نفسه في أسى.. وينتحب كثيراً.. كثيراً جداً.. في صباح اليوم التالي غرفة

الإنعاش تعج بحركة غريبة وحزن موجع يلف الجميع لقد توفي الأديب الكبير بعد

صراع طويل مع المرض بينما ظلت ورقة صغيرة مهملة تحت غطائه لم يعرها أحد

اهتمامه كان قد خطها البارحة بيديه وفيها: توبة واعتذار إلى مقام الجبار.