للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

[سياسة التناقضات المستعلنة]

أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]

ما جريمة العراق التي ستعاقبه عليها الولايات المتحدة بحرب ربما أزهقت

آلاف النفوس من العراقيين، وشردت آلافاً أخرى، وأعاقت آلافاً غيرها، وخربت

البلاد، وكلفت الولايات المتحدة بلايين الدولارات، وذهب ضحيتها العشرات إن لم

تكن الآلاف من الجنود الأمريكان، ثم ربما كان من آثارها تلويث للأجواء يتضرر

منه البشر من كان منهم قريباً من العراق ومن كان قاصياً عنها؟

ما الجريمة التي تستدعي هذا العقاب البالغ التكاليف؟ إنه تهمة امتلاكه لما

يسمى بأسلحة الدمار الشامل. العراق ينفي هذه التهمة. لكن الدولة التي تريد أن

تخوض تلك الحرب الضروس تملك من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي كما يقولون

لتحطيم الكرة الأرضية كلها. وحليفتها في تلك الحرب بريطانيا تملك منها الشيء

الكثير، ومحرضتها على الحرب إسرائيل تملك عدداً من القنابل النووية؛ فما الذي

جعل امتلاكهم لها حلالاً وللعراق وغيرها من الدول العربية حراماً وإجراماً؟ وإذا

كانت العراق تنفي امتلاكها لمثل تلك الأسلحة، فإن دولاً أخرى وصفت بأنها من

محور الشر تعترف بأنها تملكها، بل وأنها ستطورها.

وإذا كانت العراق قد سمحت لمفتشي الأمم المتحدة بدخول أراضيها، وولوج

كل مرفق فيها، فإن كوريا الشمالية قد طردتهم شر طردة، وأعلنت ذلك على الملأ؛

فما الذي جعل العراق خطراً داهماً ولم يجعل كوريا كذلك؟ وإذا كانت جريمة

العراق أنها لم تنصع لقرارات الأمم المتحدة، فإن الدولة التي تريد معاقبتها على

ذلك تقدم قرارات مجالسها التشريعية على كل قرارات الهيئات الدولية، وتحول دوم

معاقبة إسرائيل حين تخرج على تلك القرارات. بل إن الدولة التي تريد معاقبة

العراق على عدم انصياعها لأوامر الأمم المتحدة، تعلن أنها ستخوض حربها مع

العراق رضيت الأمم المتحدة أم غضبت. والمسؤولون فيها يتكلمون عن الأمم

المتحدة بكثير من التعالي، ويأمرونها بأن تفعل كذا وكذا، وإلا كانت قد فشلت في

أداء مهمتها؛ حتى إنك لا تدري: أعن الأمم المتحدة يتحدثون، أم عن مدرسة

ثانوية في قرية من قراهم؟

وإذا كانت أسلحة الدمار الشامل أول ما تكون خطراً على الدول المجاورة لها،

لا على بريطانيا وأمريكا التي تسعى لحربها وعقابها، والتي تبعد آلاف الأميال

عنها، فإن هذه الدول المجاورة مجمعة على رفضها للحرب، فلماذا لا يستمع لرأيها؟

وإذا كان الغرض من الحرب هو تخليص الشعب العراقي من دكتاتورية

غاشمة؛ فما دكتاتوريته بالدكتاتورية الوحيدة في العالم، فلماذا كانت هي الوحيدة

التي تستحق أن تحارب؟

حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا حكومات ديمقراطية، والديمقراطية هي

حكم الشعب، أو هي في الواقع حكم من تختاره أغلبية من شاركوا في الانتخابات

ممن تحق لهم المشاركة. لكن الذين يعترضون على الحرب الآن في كل من

الدولتين هم بحسب الاستطلاعات أكثر عدداً من الذين صوتوا لكل من الزعيمين

الأمريكي والبريطاني ومكنوهما من حكم بلادهم. لكن كلاً من الزعيمين الآن

يضرب برأي هذه الأغلبية عرض الحائط، ويمضي لا يلوي على شيء في طريقه

إلى الحرب. وكذلك تفعل الدول الديمقراطية المؤيدة للحرب؛ حتى إن مراسلاً

لمحطة الـ (بي. بي. سي) قال إنه تجول في شوارع بلدان أوروبا الوسطى

فالتقى بالكبار والصغار والرجال والنساء باحثاً عن شخص واحد مؤيد للحرب فلم

يجده! بل وجد الناس معارضين للحرب قائلين إنها حرب من أجل البترول. لكن

حكومات هذه الشعوب كانت من أول من أعلن تأييده للولايات المتحدة.

وأيضاً إذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، فلماذا لا يستمع إلى الشعوب

العربية التي يهمها أمر العراق أكثر مما يهم غيرها. وقد قالت هذه الشعوب وقال

حكامها إنهم لا يريدون الحرب، وأنهم يعدونها اعتداء، وأن آثارها ستكون ضارة

ضرراً بليغاً بالمنطقة كلها.

ولماذا لا يستمع إلى رأي الشعوب الأوروبية والأسترالية والنيوزيلندية

وغيرها من شعوب العالم التي خرجت في مظاهرات تقدر بالملايين معترضة على

خوض مغامرة الحرب، خائفة من نتائجها؟ أم أن الديمقراطية إنما يلتزم بها إذا

كانت موافقة لمعتقدات الحاكم؛ فإذا هي خالفتها تحولت إلى دكتاتورية لا تلقي لآراء

الشعوب بالاً مهما كثر عددهم، ومهما كان الأمر مهماً لهم؟

ومع هذا الخروج على مبدأ الديمقراطية تزعم لنا الدول التي توقد نار الحرب

أنها إنما تفعل هذا لنشر الديمقراطية وتحقيق الحرية!

إن الباطل لجلج؛ وهذا التناقض يدل على أن الأهداف المعلنة لحرب العراق

ما هي بالأهداف الحقيقية. ما الذي يدعو الحكومات الغربية المصرة على الحرب

للوقوع في مثل هذا التناقض؟ ما الذي يدعوها لأن تخالف رأي شعوبها وتخسر من

كانوا يعدون من أصدقائها؟ ما الذي يدعوها لأن تصرف الأموال الباهظة وتضحي

بالنفوس الغالية؟ إنه لا يمكن أن يكون مجرد حرص على إزاحة دكتاتور عن

كرسي حكمه، ولا يمكن أن يكون هلعاً من أسلحة دمار شامل على فرض وجودها

لا تأثير كبير لها على الدول الغربية. لا بد أن يكون إذن شيئاً تراه هذه الحكومات

أمراً جللاً مهدداً لاستمرار ثقافتها وحضارتها الغربية، لكنه مع ذلك أمر لا تستطيع

أن تصرح به؛ لأنه من الصعب عليها أن تقنع شعوبها به، ولأنه ربما كان منطلقاً

من موقف اعتقادي لا تشاركها جماهيرها فيه، ولأنه يتناقض مع قيم طالما رُبِّيَ

الناس في الغرب الحديث عليها، ولا سيما في أيام الحرب الباردة، لإظهار تفوق

الحضارة الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية على الأيديولوجية الشيوعية. كيف تتخلى

هذه الجماهير عن قيم قيل لها إنها لب حضارتها وسر تفوقها الخلقي؟

ما هذا الأمر الجلل الذي يدعو حكام الدول الغربية وبعض مناصريهم من قادة

فكرهم إلى الخروج على هذه القيم التي عاشوا عليها سنين طويلة من حياتهم الحديثة

التي أعقبت الحركة الاستعمارية؟

لا بد أن يكون الذي سبب كل هذا الخوف وسوغ تلك التناقضات والتضحيات

أمراً لا تقاومه أو تقف في طريقه قوة السلاح المادي مهما عظمت. إنه أمر يُخشى

أن يدخل في قلوب كثير من الأفراد فيجعل منهم أفراداً آخرين لا صلة لهم

بالحضارة الغربية كما عرفت حتى الآن.

فما هو يا ترى هذا الشيء؟

أترك أمر تحديده لفطنة القراء الكرام.


(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.