للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[مستقبل العلاقات الأوروبية الأمريكية]

حسن الرشيدي

الإدارة الأمريكية تجاوزت كل الحدود المقبولة والمعقولة في تعاملها مع حلفائها

الأوروبيين وبقية العالم؛ فهي تتعامل مع أوروبا كمحميات أمريكية وليس كدول

مستقلة، وإنها تفرض علينا مواقف معينة في الحقيقة ضارة بمصالحنا «.

هذا قول مسؤول أوروبي كبير يصف فيه بصدق العلاقات الأمريكية

الأوروبية في الآونة الأخيرة.

هذه العلاقات التي تبلورت في الآونة الأخيرة في صورة خلافات بين بعض

الدول المؤثرة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ خاصة بخصوص المسألة

العراقية.

وهذا الخلاف الناشب على مدى الأسابيع الأخيرة بين الولايات المتحدة

الأميركية من جهة، وعدد من حلفائها الأوروبيين بزعامة ألمانيا وفرنسا من جهة

أخرى، حول الأزمة العراقية وسبل التعامل معها، ليس وليد تلك الأزمة وحدها،

وإن كانت هي التي دفعته إلى نقطة الصراع.

فقبله اندلع خلاف حول شبكة الدرع الصاروخي الأمريكي، ومساعي التميز

الأمني الأوروبي، وموقع روسيا على خريطة السياسة الأمنية الدولية، وعلاقات

الحلف الغربي بمنظمة الاتحاد الأوروبي الغربي الأمنية، ومستقبل صناعة القرار

الأمني بين الحلف والأمم المتحدة.

بل إن أسباب هذا الخلاف تضرب بجذورها في عمق العلاقات الأميركية

الأوروبية عموماً، وعلاقات أميركا بكل من فرنسا وألمانيا خصوصاً.

وحار كثير من المراقبين في تفسير هذا الخلاف: هل هو لحماية المصالح

الاستراتيجية للدول الأوروبية المعارضة للحرب، أم أن المعارضة للحرب هي

محاولة أوروبية لاستثمار الأزمة ومساومة أميركا على ثمن مناسب نظير تخلي هذه

الدول عن موقفها الرافض للحرب.

وفي كلا الحالتين ما هو مصير هذه الخلافات ومسلسل التدهور؟ وماذا يحمل

المستقبل بشأن العلاقات بين أكبر حليفين في السنوات الخمسين الماضية؟

لا شك أن أي منهج تحليلي لاستجلاء التطورات المستقبلية لهذه العلاقة لا بد

أن يراعي عدة أمور؛ أهمها:

- الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي.

- طبيعة الهيمنة الأمريكية على العالم وخصائصها.

- الصراع داخل النظام الدولي.

* الانقسامات داخل أوروبا:

قبل أسابيع قلائل من أحداث ١١ سبتمبر سخر دونالد رامسفيلد وزير الدفاع

الأمريكي ممن يتحدثون عن تعاظم قوة الاتحاد الأوروبي، وقال في تصريحات له:

إن أوروبا لا تمثل كياناً موحداً، وإنها مجرد مساحة جغرافية تضم دولاً صغيرة

ومتوسطة الحجم عجزت خلال عقود من الزمان عن الاتفاق على الاتحاد في إطار

كيان واحد أو دولة واحدة.

وتوقع رامسفيلد مزيداً من المشكلات في العلاقات الأوروبية الأمريكية بسبب

ما وصفه بالخلافات داخل الاتحاد الأوروبي، وقال: إنه ليس من السهل التعامل

مع هذا النوع من اللاكيان الذي ليس بدولة بل مجموعة من الدول تعمل معاً.

وكشفت الأزمة العراقية وما صاحبها من تباين المواقف الأوروبية أنه يصعب

حتى الآن اعتبار القارة الأوروبية وحدة سياسية واحدة تتكلم بصوت واحد مسموع.

ويقول وزير الخارجية البلجيكي: لو كان للاتحاد الأوروبي موقف مشترك من

الموضوع لكان بإمكانه فرض تحول النزاع مع العراق باتجاه الحوار؛ وذلك بفضل

وجود أربعة من أعضائه في مجلس الأمن الدولي وهي: بريطانيا، وفرنسا،

وألمانيا، وإسبانيا.

وكانت الدول الـ ١٥ الأعضاء في الاتحاد الأوروبي منقسمة فيما بينها حول

السبيل الأمثل للتعامل مع الأزمة العراقية، بين جانب يدعو لاستخدام القوة المسلحة

لنزع أسلحة الدمار الشامل، وجانب آخر يدعو إلى منح المفتشين الدوليين فرصة

أخرى لإتمام مهمتهم.

وتقود فرنسا وألمانيا معسكراً أوروبياً مناوئاً للحرب يضم في عضويته أيضاً

بلجيكا والسويد وفنلندا والنمسا واليونان وإيرلندا ولوكسمبورج.

أما المعسكر المؤيد للحرب فيضم بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا والدانمارك

والبرتغال وهولندا.

غير أن التظاهرات الكبرى المناوئة للحرب التي شهدتها عدة عواصم غربية

قد أضعفت الزخم الذي كان قد تشكل نحو الصدام المسلح.

وقد صعدَّت فرنسا لهجتها تجاه دول أوروبا الشرقية المرشحة للانضمام إلى

الاتحاد الأوروبي؛ إذ حذرت وزيرة الدفاع الفرنسية» ميشيل إليو ماري «هذه

الدول من أنها تعرض للخطر مشروعات انضمامها إلى الاتحاد نتيجة دعمها

للولايات المتحدة.

وقالت في مؤتمر صحفي بعد لقائها نظيريها البولندي والألماني: إنه لمصلحة

تلك الدول أقول: عليهم أن يأخذوا حذرهم؛ لأنه سيكون هناك رد فعل من

المواطنين عند إبرامهم اتفاقية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وسيقولون إن تلك

الدول لا تريد السلام داخل الأسرة الأوروبية.

وجاءت تصريحات الوزيرة الفرنسية بعد ساعات من شن الرئيس الفرنسي

جاك شيراك هجوماً لاذعاً في ختام القمة الأوروبية الطارئة على الدول المرشحة

للانضمام إلى الاتحاد لانحيازها للموقف الأميركي إزاء العراق، قائلاً: إنهم فوَّتوا

فرصة جيدة للسكوت. واتهم شيراك في مؤتمر صحفي عقده عقب انتهاء القمة

الأعضاء الجدد بعدم اعتماد سلوك مسؤول؛ واصفاً موقفهم بأنه غير لائق، وأعرب

شيراك عن خشيته من أن تؤدي هذه الخطوة الخطيرة التي قامت بها هذه الدول إلى

تعزيز شعور عدائي تجاهها لدى الرأي العام في الدول الـ ١٥.

وقد أبدت الدول الأوروبية الشيوعية السابقة استياءها الشديد إثر التصريحات

الحادة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي، وشددت على حقها في التعبير عن رأيها،

واعتبر الرئيس الروماني» يون إيليسكو «أن تصريحات الرئيس شيراك في غير

محلها في إطار هيكلية ديمقراطية مثل الاتحاد الأوروبي، واتهم جاك شيراك بالعودة

إلى سيناريوهات الحرب الباردة؛ موضحاً أن التمييز بين المؤيدين للولايات المتحدة

والمناهضين لها يذكرني بعقيدة كنت أظنها ولَّت ومفادها: (من لم يكن معنا فهو

ضدنا) .

وقال رئيس الوزراء السلوفاكي» ميكولاس جوريندا «، وهو من كبار

أنصار سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش: يحق للجميع أن يكون له مواقف

خاصة به، وأود هنا أن أشدد على أن لسلوفاكيا مواقفها الخاصة. وأضاف: إننا

نستعد للمشاركة في تحديد سياسة أوروبية؛ هذا حقنا ومسؤوليتنا.

واعتبر آدم روتفيلد نائب وزير الخارجية البولندي أن فرنسا يجب أن تحترم

موقف بولندا، وأوضح: يحق لفرنسا تحديد سياستها في هذا المجال، ويجب

احترام هذا الحق؛ هذا حق فرنسا كما أن لبولندا الحق أيضاً باختيار ما هو مناسب

لها، ويجب أن تنظر فرنسا إلى ذلك باحترام، والاهتمام بأسباب هذا الاختلاف.

واعتبر نائب وزير الخارجية البلغاري» لوبومير إيفانوف «أن تصريحات

شيراك تنم عن بعض التوتر، هذه ليست مقاربة مثمرة للتوصل إلى وحدة الصف

في مجلس الأمن الدولي؛ حيث تحتل بلغاريا مقعداً غير دائم؛ لكن الكثير من قادة

هذه الدول سعى إلى تهدئة الوضع. وأشاد» إليسكو «بالعلاقات التقليدية بين

فرنسا ورومانيا.

والدول العشر التي ستنضم إلى الاتحاد الأوروبي في مايو ٢٠٠٤م هي

بولندا، والمجر، وتشيكيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وليتوانيا، ولاتفيا، وأستونيا،

وقبرص، ومالطا.

أما الدول الثلاث المرشحة فهي بلغاريا ورومانيا اللتان يتوقع أن تنضما بحلول

العام ٢٠٠٧م، وتركيا التي لم يحدد لها أي موعد محتمل بعد.

وحصلت دول أوروبا الشرقية على دعم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير

الذي اعتبر أن لتلك الدول الحق بالكلام مثلها مثل بريطانيا وفرنسا أو أي عضو

حالي في الاتحاد الأوروبي؛ لأنها ستنضم إلى الاتحاد العام المقبل كعضو كامل

الصلاحيات.

* تكمن عدة أسباب وراء الجذور العميقة لهذا الانقسام:

الأول: دوافع الدول الأوروبية لمبدأ التعاون؛ حيث تنقسم دول أوروبا حول

أهداف اتحادها أو دخولها في منظومة الاتحاد الأوروبي إلى فريقين: الفريق الأول

يرى أن الهدف الرئيس لدخوله الاتحاد الأوروبي هو دافع اقتصادي والسعي الدائم

إلى تحقيق تكامل اقتصادي ومالي؛ وذلك من أجل تدعيم وتكريس السيطرة على

الأسواق العالمية لعملاق اقتصادي ومالي يتمتع بقدرة تنافسية جديرة به، ويحظى

بمكانة مرموقة فيما بين الدول في ظل حرية الأسواق العالمية؛ لذلك يصر هذا

الفريق على ضرورة الاهتمام بتوسيع العضوية الأوروبية في شرق أوروبا تطلعاً

لمزيد من الأسواق التابعة له. وتأتي السياسة الأمنية في مرتبة أدنى لهذا الفريق؛

حيث إن الولايات المتحدة هي التي تكفل الجانب الدفاعي لأوروبا متمثلاً في حلف

شمال الأطلنطي. أما الفريق الثاني فيضع هدف وجود أوروبا كقوة فاعلة على

الصعيد الدولي؛ وهذا لا يتأتى إلا بوجود سياسة أمنية ودفاعية خاصة بأوروبا

مستقلة عن حلف شمال الأطلنطي. وطوال الفترة الماضية كانت الغلبة للتيار الأول

الذي يرى أن أهداف أوروبا هي السيطرة الاقتصادية، وشجعه على ذلك انهيار

الاتحاد السوفييتي، واندفاع دول أوروبا الشرقية للالتحاق بالركب الأوروبي. ولكن

اندلاع الصراع في كوسوفو والتدخل الأمريكي أظهر مدى المهانة التي لحقت

بأوروبا من جراء اعتمادها على الحليف الأمريكي، وأدركت بعض دوله الضرورة

القصوى في أن تقوم بدور الفاعل الاستراتيجي المسؤول والقادر على معالجة هذه

الصراعات ذات الطابع الأوروبي البحت؛ ولذلك عند انعقاد قمة ألمانيا للمجلس

الأوروبي في يونيو ١٩٩٩م صدر القرار بدعم وتجهيز نواة لقوة عسكرية أوروبية

تابعة للاتحاد الأوروبي. ولكن حقيقة أن توسيع أوروبا بقدر ما كان سلاحاً أميركياً

وأوروبياً لحصار روسيا من جهة الغرب، فإنه كان أيضاً سلاحاً أمريكياً لحصار

أوروبا من جهة الشرق وللتغلغل فيها، وفتح طرق جديدة للهيمنة عليها، وممارسة

الضغوط الأميركية ضدها حينما يلزم الأمر.

ذلك أن النخب السياسية والاقتصادية في دول وسط أوروبا وشرقها مرتبطة

بالولاء العميق للولايات المتحدة منذ فترة العمل على إسقاط الشيوعية وطرد النفوذ

السوفييتي من تلك البلدان. ويعتبر المراقبون أن كثيرين من عناصر هذه النخب

مرتبطة مباشرة بأجهزة المخابرات الأميركية التي كانت ولا يزال لديها نشاط واسع

للغاية في تلك البلدان؛ ليس بين عناصر اليمين فقط، بل وأيضاً عناصر من

الأحزاب الشيوعية السابقة الاشتراكية حالياً؛ فقد كان الاختراق الأمريكي

والصهيوني ولا يزال عميقاً للغاية في تلك البلدان، وبانضمام تلك البلدان إلى الناتو

أيضاً؛ فإن التغلغل الأميركي يتسع نطاقه ويمتد عميقاً في الجيوش وقياداتها

العسكرية أيضاً.

أما السبب الثاني: للانقسامات الأوروبية فهو التنوع العرقي الذي لا يزال

يضفي مزيداً من عدم التجانس الأوروبي؛ فأوروبا في تاريخها الحديث والقديم

شهدت صراعاً متصلاً بين الأنجلوساكسون واللاتينيين والجرمان. ونلاحظ في

هذا السياق أن قوة الانتشار السريع الأوروبية تمثل الجناح اللاتيني في أوروبا؛ أي

فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال؛ وإن كان هذا الجناح قد شهد مؤخراً انقساماً

ناتجاً عن عداوة فرنسية تاريخية عموماً للموقف الأمريكي.

والسبب الثالث: في تكريس الانقسامات الأوروبية هو الطابع الفردي لدوله؛

حيث تنظر كل دولة لإرثها التاريخي وعناصر قوتها على الساحة؛ ففرنسا تحمل

ثأراً تاريخياً من أمريكا التي حاولت إبعادها عن الساحة الدولية بعد انتهاء الحرب

العالمية الثانية. ويروي» آرثر شلزينغر «في كتابه الضخم عن روزفلت أن

الرئيس الذي قاد الولايات المتحدة الأميركية حتى أبواب النصر كان رأيه أنه لا

يستطيع أن يتصور فرنسا بعد الحرب إلا دولة من الدول المحررة بجهود غيرها،

وليس بجهودها الذاتية، وهذه الدول وضمنها فرنسا يجب أن تقبل الحياة منزوعة

السلاح حتى لا تعود أوروبا إلى سباق سلاح جديد يشعل نيران حرب عالمية ثالثة.

وتقود فرنسا معسكر الفرانكفونية، وتضم تحت لوائه الدول متحدثة الفرنسية؛

في حين أن ألمانيا لم تنس هزيمتها ووقوف أميركا ضدها في الحرب العالمية؛

ففرنسا وألمانيا يعتبران نفسيهما الممول الرئيس لدول أوروبا خاصة الشرقية منها؛

وهكذا يكون سبب الغضب الأوروبي الواسع مفهوماً حينما اختارت بولندا أن تشتري

لقواتها الجوية مقاتلات إف ١٦ الأميركية، وليس أية مقاتلات أوروبية تماثلها أو

تتفوق عليها، أو حتى تتخلف عنها قليلاً، مثل اليوروفايتر أو الميراج أو التورنادو.

مع أن الأموال في الأصل أوروبية وهذا مجرد مثال واحد.

وإذا كانت ألمانيا قد استثمرت أموالاً طائلة في أوروبا الشرقية؛ لأنها تعتبرها

تاريخياً مجالاً لمصالحها الحيوية، وإذا كانت فرنسا بدورها قدمت مساعدات سخية

لتلك المنطقة سعياً إلى إدماجها في أوروبا، وإذا كانت هاتان الدولتان أكبر ممولين

لميزانية الاتحاد الأوروبي ومساعداته؛ فإننا نستطيع أن نتفهم الشعور بالغبن

والخديعة الذي يسيطر على هاتين الدولتين بصورة خاصة؛ نتيجة للموقف المنحاز

بصورة عمياء من جانب تلك الدول العشر للولايات المتحدة.

أما الموقف البريطاني وهو دائماً مرتبط بالسياسة الأمريكية فيفسره سياسيون

على أنه نتيجة ثلاثة عوامل مهمة: التشابه في الجنس والدين بين الإنجليز

والأمريكيين؛ كذلك أن بريطانيا تستظل بحائط الدفاع الصاروخي الأمريكي الذي

يحمي سماءها من أي هجمات خارجية، والسبب الأخير هو أيرلندا الشمالية

والصراع هناك؛ وخاصة أن للجالية الأيرلندية دوراً كبيراً في التأثير في السياسة

الأمريكية.

* خصائص العنجهية الأمريكية:

منذ قيام الرئيس الأمريكي جورج بوش بإعلان قيام نظام عالمي جديد مع

انطلاق عاصفة الصحراء في منطقة الخليج العربي ١٩٩١م أصبح واضحاً للجميع

أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة إلى فرض إرادتها على العالم؛ عن

طريق قرارات تتخذها وتنفذها خارج الشرعية الدولية؛ ولا تقبل الحوار بشأنها،

وتنطلق في ذلك معتمدة على نظرية: من يخالفنا فهو ليس معنا؛ ولكنه عدونا.

وعند ملاحظة خصائص الهيمنة الأمريكية على العالم نجد أنها تتصف بعدة

سمات؛ هذه السمات ما فتئت تنسكب على علاقتها بدول العالم؛ وأهمها:

- أنها هيمنة تستمد من العقيدة البروتستانتية أساساً ومنهجاً ورسالة، ولقد بدا

المفهوم العقدي واضحاً أكثر في شخصية الرئيس الأخير بوش؛ حيث فاجأت

النيوزويك الأمريكية قراءها بمقالة في صدر غلافها في عدد ١١ مارس يحمل

عنوان: (بوش والرب) ، حيث تروي على حد تعبير المجلة سيرة إيمان بوش،

وكيف يستخدمه وهو يقود أمة إلى شفير الحرب. وتقول المجلة في أوبريلاند

بمدينة ناشفيل: توجه بوش إلى رجال الإعلام الدينيين قائلاً:» إن الإرهابيين

يكرهون حقيقة أن نعبد الرب العظيم بالطريقة التي نراها مناسبة، وأن الولايات

المتحدة مدعوة إلى إيصال هدية الحرية التي منحها الرب لكل إنسان على وجه

المعمورة «. وقبيل ذلك بأيام قليلة كان قد أعلن خلال مأدبة الفطور القومية للصلاة

أنه خلف كل حياة وكل تاريخ يكمن تفانٍ وهدفٌ حددتهما يد إله عادل وأمين، وإن

صح ذلك فما من مجال (أن تخفق أمريكا) .

وتقول المجلة:» إن كل رئيس يتضرع إلى الله ويطلب بركته، وكل رئيس

يعد ولو عادة بكلمات أقل بأن يقود وفق أسس أخلاقية راسخة في تعاليم الكتاب

المقدس؛ لذا كان الكاتب الإنجليزي «كيلبرت كيه تشيستيرتون» قد وصف

أمريكا بأنها أمة بروح كنيسة، وكل رئيس كقس يلقي على المنبر عظات توعدية؛

لكن بعد انتهاء حرب واحتمال شن أخرى تجلى أمر محوري وهو: أن الرئيس

الحالي والرئاسة الحالية هما الأشد رسوخاً في الإيمان خلال العصور الحديثة، وكأن

هذه الرئاسة تأسست ودعمت وأرشدت بأمانة في ظل قوة الرب الدنيوية والروحانية،

وإدارة بوش تتبنى الفكرة القائلة إن هناك حلاً للمشكلات الاجتماعية في الداخل

ولمشكلات الإرهاب في الخارج، وهي تتلخص في: «أعطِ الجميع في كل مكان

حرية إيجاد الرب أيضاً» .

هذه النزعة الدينية المتعصبة تتجلى في تقسيم العالم إلى عالم خير وهو الذي

يذعن للهيمنة الأمريكية، وعالم شر وهو الذي يقاوم تلك الهيمنة. ولا شك أن تأثير

هذه النظرة الأمريكية البروتستانتية تختلف بشكل كبير عن التصور الأوروبي الذي

تهيمن عليه الروح الكاثوليكية، والتي دائماً تنظر بشك إلى التوجهات البروتستانتية

على أنها تجذب أعداداً جدداً على حساب الكاثوليك. ويرجح كثير من المراقبين أن

الإعلان عن حالات الشذوذ والانهيار الخلقي للقساوسة الكاثوليك في أمريكا هو جزء

من رغبة أمريكية في إضعاف الدور الكاثوليكي في العالم.

- أنها هيمنة وسيلتها السلاح لتسوية مشكلات السياسة الخارجية المتنازع

عليها، وقد قال أحد كبار المفكرين السياسيين الأمريكيين «ألكسندر هاملتون» :

(إن الناس طموحون، حقودون، مهابون) . وفي معرض تفسيره لأسباب حتمية

الحروب في حياة الجنس البشري يقول: (إن التطلع إلى استمرار التوافق بين عدد

من الدول المستقلة ذات السيادة والمنفصلة بعضها عن بعض معناه التغاضي عن

المسار المطَّرد للأحداث الإنسانية، والعمل على تحدي الخبرة المتراكمة للأجيال) .

وبعد أن قام هاملتون بتلخيص تلك الخبرة ابتداء من أثينا في عصر بركليز

إلى إنجلترا وفرنسا في أيامه أطلق على الذين يعتقدون أن من الممكن تحقيق سلام

دائم بين الأمم صفة المثاليين، وهو يعتبر ما يشبه البديهي في السياسة أن المجاورة

أو قرب الموقع هو الذي يشكل الأعداء الطبيعيين للأمم.

وقد تحققت للولايات المتحدة وحدتها كدولة بوحشية الحرب الأهلية بتكلفة

نصف مليون قتيل، وهو ما يزيد على أي خسائر بشرية تكلفتها في أي حرب

عالمية خاضتها توافقت مع الوقت الذي كانت فيه أصداء نظرية داروين عن أصل

الأنواع وقصة النشوء والارتقاء تملأ الأجواء، وتشرح لدنيا بهرتها كشوفات

الجغرافيا والعلوم درساً مؤداه أن البقاء للأقوى، وأن الفائزين في صراع الحياة هم

الأقدر على التكيف والتلاؤم ومغالبة العوائق وإزاحة غيرهم. ومع أن صراع الحياة

شغل أوروبا كما شغل أميركا؛ فقد كان درس البقاء للأقوى حياً في الممارسة

الأميركية المستجدة، وبعيداً في الذاكرة الأوروبية المعتقة، ثم إن الغِنى الأوروبي

من مكتسبات الثقافة والفنون كان في استطاعته ترويض الغرائز، ووضع شيء من

العقل في رأس الوحش الدارويني الذي هو أقدر المخلوقات على البقاء في نظر

أصحابه.

- هيمنة تتبع مبدأ مصلحتها فوق أي اعتبار أخلاقي أو غير أخلاقي، وهذا

المبدأ يعتبر مسلّمة رئيسة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية؛ فهو المفتاح والعامل

المحرر لنشاط أمريكا على الساحة العالمية؛ وهو يمثل النظرة للسياسة الخارجية

الأمريكية من منظور المدى الطويل.

وعلى وجه التحديد فقد كانت درجة الأفضلية الممنوحة لانتصار استراتيجي

طويل المدى بالنسبة إلى ميزة عابرة مرحلية هي التي اتخذت مقياساً للاستنارة

والمصلحة القومية؛ فإذا تشبث قادة دولة بمكاسب قليلة الأهمية وفورية متغاضين

عن المصالح الأكثر جوهرية التي يمكن تحقيقها، وحينما يترجم مبدأ المصلحة

الخاصة في السياسة الخارجية إلى لغة الاستراتيجية فإنها تعني الاحتفاظ بحرية

المناورة للولايات المتحدة في أي ظرف من الظروف.

ويقول جورج واشنطن مطوراً مفهوم حرية المناورة: «لماذا نترك أرضنا

لكي نقف على أرض أجنبية؟ لماذا نعرقل سلامنا ورخاءنا بحبائل ومعاداة مصالح

أوروبا ومنافساتها في مصالحها وأمزجتها وأهوائها؛ إذا جعلنا مصيرنا ملتحماً بأي

جزء من أوروبا؟ إن سياستنا الحقة هي أن نوجه سفينتنا بعيداً عن التحالفات

الدائمة مع أي جزء من العالم الأجنبي» ويمضي قائلاً: «إنه يجب اعتبار أي

تحالف مع دولة أجنبية مؤقتاً، أي لا تلتزم به الولايات المتحدة إلا إذا كان هذا

التحالف مفيداً لتنمية مصالحها، ولكن بمجرد أن يصير هذا التحالف عبئاً على

الولايات المتحدة، ويزج بها في غمار الصراع من أجل المصالح الأجنبية؛ فإن من

الواجب تصفيته وإحلال تحالف آخر مكانه إذا كان ذلك ضرورياً؛ حتى لو كان ذلك

مع عدو الأمس إذا دعت الحاجة إليه للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة الخاصة» .

لذلك نجد أن الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى تتبع في سياستها

البعد عن التدخلات العسكرية؛ فهي سياسة تجميع القوى وحشدها قبل أن تزج بها

في ساحة الصراع العالمي.

- ومن خصائص هذه الهيمنة الطمع وحب الاستحواذ على الثروات والسيطرة

على الاقتصاد، ولا نندهش أنه في أواخر القرن التاسع عشر اعتمد الأمريكيون ما

سمي في تاريخهم بخطاب مسيرة الراية؛ ففي ١٦/٩/١٨٩٨م أُلقي خطاب ممتلئ

بالحماسة في مدينة أنديانا بوليس دفاعاً عن السياسة الجديدة للولايات المتحدة، وكان

مُعد هذا الخطاب هو «ألبرت بفريدج» الذي كان مرشحاً لمجلس الشيوخ في

انتخابات ذلك العام؛ وكان يعتمد على تأييد الدوائر الصناعية والمالية ذات النفوذ،

وقد أعلن أن مسألة التوسع الاقتصادي أكبر من أن تكون مسألة حزبية؛ إنها مسألة

أمريكية: هل سيواصل الشعب الأمريكي زحفه نحو السيادة التجارية على العالم؟

هل سنحتل أسواقاً جديدة لما ينتجه مزارعونا وما تصنعه مصانعنا وما يبيعه تجارنا؟

إننا اليوم ننتج أكثر مما نستطيع استهلاكه، ونصنع أكثر مما نستطيع استعماله؛

لذلك يجب أن نجد أسواقاً جديدة لمنتجاتنا.

لقد كان مستقبل السياسة الاقتصادية الأمريكية حيوياً بالنسبة إلى دائرة رجال

الأعمال، وفي الشهر نفسه في ذلك العام ظهر في المجلة الأمريكية الشمالية مقال

بقلم «تشارلس كونانت» في مجلة نيويورك للتجارة عنوانه: (الأساس

الاقتصادي) جاء فيه: إن الميل الذي لا تمكن مقاومته إلى التوسع الذي يؤدي

بالشجرة النامية إلى أن تفجر أي حاجز، هو الميل الذي ساق القوط والوندال

والساكسون في موجات متعاقبة لا يمكن مقاومتها للتغلب على أقاليم روما المتدهورة؛

هذا الميل يبدو الآن فعالاً مرة ثانية؛ ولذلك فلا بد من منافذ جديدة لرأس المال

الأمريكي، ولفرص جديدة للمشروع الأمريكي. إن قانون المحافظة على النفس،

وكذلك قانون البقاء للأصلح يدفعان شعبنا في طريق هو بلا جدال تحول عن سياسة

الماضي، ولكنه طريق لا يحيد عن أن ترسم حدوده شروط الحاضر ومتطلباته.

* الصراع داخل النظام الدولي:

أثناء الحرب الباردة التقت التوجهات الأمريكية والأوروبية حول سياسة

الاحتواء، والتي كانت تقتضي تحالفاً أمريكياً أوروبياً تمثل في حلف شمال

الأطلنطي، وعندما تشكل الناتو كان يضم في عضويته ١٢ دولة، ثم توسع ليضم

اليونان وتركيا عام ١٩٥٢م، وألمانيا الغربية عام ١٩٥٥م؛ إلا أن الولايات

المتحدة كانت القوة العسكرية المهيمنة عليه منذ البداية وحتى الآن، وقد اعتبر

الاتحاد السوفييتي الهيمنة الأميركية وضم الناتو لألمانيا الغربية تهديداً مباشراً له،

وفي عام ١٩٥٥م أسس تحالفاً مضاداً أطلق عليه اسم: (حلف وارسو) الذي تم

حله عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١م.

كان واقع الحلف في حقيقته يعني تخلي أوروبا عن الدفاع عن أراضيها

وإطلاق حرية التصرف للحليف الأمريكي في هذا الشأن خاصة؛ حيث إن الحلف

كان تحت قيادة أمريكية. ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتراجع الحرب الباردة

يمكننا تقسيم أطوار النظام الدولي إلى مجموعة من الأحقاب:

الأول: عالم ما بعد الحرب الباردة.

والثاني: ما بعد عولمة بيل كلينتون.

والثالث: ما بعد هجمات ١١ سبتمبر، وتدريجياً من خلال هذه الأحقاب التي

كانت لكل منها خصائصها وتجلياتها بدأ النظام العالمي يميل إلى سيادة القطب الواحد،

والذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت نفسه الذي بدأ فيه الاتحاد

الأوروبي في البروز والتوجه، ومع هذا الظهور بدأ نوعان من التوجه والأفكار

بخصوص مستقبل النظام الدولي ينشآن ويتجابهان في العالم، يتعلق كل منهما بمدى

رؤيته لمستقبل النظام الدولي:

- الأول تمثله الولايات المتحدة، والذي يعتبر أن الدولة القومية هي الأداة

الناجحة، ليس فقط في الداخل الأمريكي بل أيضاً لتثبيت الزعامة في العالم.

- أما الثاني فيمثله الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لإقامة نظام عالمي جديد

يتخطى مفهوم الدولة الأمة، ويستند إلى نظام أمني عالمي جديد، تحرسه أمم متحدة

قديمة (أو جديدة لا فرق) ، وتسوسه محاكم عدل دولية في القانون وحكومة عالمية

في السياسة.

ويقول «جيمس سيزار» بروفسور علم السياسة في جامعة فرجينيا: إنه

لفترة عقود عدة، كان من المعترف به أن اللاعب الرئيس في الشؤون العالمية هو

الدولة الأمة، تساندها منظمات دولية وبعض التحالفات شبه الدائمة.

بيد أن هذا الرأي لم يعد عملة رائجة الآن في أوروبا؛ إذ خلال السنوات

القليلة الماضية بدأ الاتحاد الأوروبي عملية تفكيك الدولة الأمة، ونزع الطابع

القومي عن سياسات بلدانه، وهذا كان مثل الانقلاب الأكبر في العصر الحديث؛

ذلك أن أوروبا كانت المهد الذي ولدت فيه الدولة القومية في الفترة بين القرنين

السادس عشر والتاسع عشر، ومن ثم انتقلت منها لتنتشر في كل أنحاء العالم،

سواء بحكم التقليد أو بقوة الاستعمار.

إن أمريكا تخشى من أن تؤدي مساعي محور برلين - باريس إلى ولادة

أوروبا جديدة وليست أوروبا قديمة عجوزة - كما قال رامسفيلد عنها -، تخشى من

ولادة أوروبا مستقلة سياسياً وعسكرياً ومتفوقة عليها اقتصادياً وليست تابعة لها على

المستوى العالمي، وعليه تسعى واشنطن إلى منع ظهور مثل أوروبا هذه، وهي

في سعيها إلى تحقيق هذا الهدف تجد في الحرب التي تعدها ضد العراق فرصة

كبيرة لتطويق أوروبا وإضعافها والانقضاض على محورها ولولبها السياسي

(محور برلين - باريس) الباحث عن دور عالمي لأوروبا، بينما تحاول باريس

وبرلين ومن خلال الاستفادة من مواقف الصين وروسيا والدول العربية والإسلامية

حشر واشنطن في الزاوية الحرجة، الزاوية التي تفقدها الشرعية والأخلاقية، ومن

ثم التأييد العالمي، وقد حققتا في هذا المجال نجاحاً كبيراً؛ سواء من خلال المعركة

الدبلوماسية الجارية داخل مجلس الأمن أو من خلال التظاهرات الضخمة التي

اجتاحت شوارع مدن العالم احتجاجاً على الحرب الأميركية المقررة على العراق،

ولكن على الرغم من كل هذه الخلافات والمخاطر التي سترتب على العلاقات

الأميركية الأوروبية ولا سيما التجارية منها؛ فإن واشنطن وتحت وهج سباقها إلى

التحكم بمصير الزعامة العالمية تبدو مصرة على توجيه ضربة إلى مستقبل الاتحاد

الأوروبي من خلال حربها ضد العراق.

أميركا تريد كسر الجرة العراقية كي تمتلكها، وأوروبا تريد مشاركتها في

الموجود بداخلها دون كسرها، ويعبر «بات بوكانان» المرشح للرئاسة في

الولايات المتحدة بأصدق عبارات عن الرؤية الأمريكية للعلاقات الأوروبية

الأمريكية ودورها في النظام العالمي حيث يقول: «إن تحالف الولايات المتحدة مع

أوروبا عبر منظمة الحلف الأطلسي هو في واقعه تحالف مع طرف ميت وقد أصبح

جثة» .

يؤكد «بوكانان» أن الدول الأوروبية تبدو لصعوبة قادرة على ضمان ولاء

مواطنيها للانضمام إلى قوة الشرطة للحفاظ على الأمن الداخلي فضلاً عن الانضمام

إلى جيوش تقود حروباً في الخارج: الشرق الأقصى أو الأوسط كأمثلة.

ويقول «بوكانان» بأن اتفاقية الحلف الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا

لم تعد تتمتع بأي مسوِّغ موضوعي أو تاريخي، وفي موضوع البوسنة اضطر

الإنجليز والفرنسيون إلى الاستعانة بالأمريكان لمواجهة الصرب؛ فاذا كانت فرنسا

وبريطانيا غير قادرتين على مواجهة قومية متآكلة كالصرب فكيف تقدر على

مؤازرة الولايات المتحدة في شكل فعال؟ ويقول «بوكانان» : في الخليج أو

الشرق الأوسط عموماً لم تعد أوروبا قادرة على التضحية لأي شيء. ويعتقد

«بوكانان» أن هذا المرض الأوروبي قد بدأ يزحف إلى عمق الولايات المتحدة؛

إذ قررت الأخيرة الانسحاب تماماً من الصومال بعد عملية ناجحة لتنظيم القاعدة

اقتنص ثمانية عشر جندياً وضابطاً أمريكياً فقط، والرئيس كلينتون عندما أمر

بقصف بلغراد اشترط على سلاح الجو الأمريكي أن يفعل ذلك من على ارتفاع

خمسة عشر ألف قدم مخافة أن تخسر الولايات المتحدة طياراً واحداً، وأثر ذلك في

معنويات بقية الطيارين.

الأوروبيون كما يقول «بوكانان» كانوا منذ اليوم الأول يتحايلون على

الحظر الاقتصادي الأمريكي على إيران والعراق وليبيا، وحريصين منذ البداية

على التجارة أكثر من السياسة والاستراتيجية.

في سنة ٢١٠٠م سوف تنكمش أوروبا حسب «بوكانان» إلى ثلث عدد

سكانها اليوم نظراً لانهيار معدلات المواليد وامتناع الأوروبيين عن إنجاب الاطفال،

وحرصهم على مبدأ اللذة في حياتهم اليومية، وفقدانهم حسب «بوكانان» لأي

غاية أرفع من اللذة الحسية وهو مرض أوروبي بدأ يجد له مضارب في الولايات

المتحدة. إذا كان هذا هو حال الأوروبيين كما يستنتج «بوكانان» فلماذا تضيع

الولايات المتحدة وقتها في الدفاع عنهم؟ ولماذا تراجع الولايات المتحدة حساباتها

الاستراتيجية على ضوء مطالبهم؟ ولماذا لا تمضي الولايات المتحدة وحدها لتحقيق

أهدافها الاستراتيجية غير عابئة بهم؟

ولا يمثل رأي «بوكانان» نفسه فقط، بل يعبر عما يجيش في صدر الطبقة

السياسية الحاكمة في أمريكا خاصة ما يعرف بجناح الصقور أو اليمين الأمريكي

المتشدد؛ حيث بات ينظر إلى أوروبا شيراك وشرويدر على أنها أوروبا القديمة

العجوزة، وما قاله وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بهذا الخصوص لم يكن

مجرد زلة لسان أو هفوة؛ وإنما يشكل في الجوهر حقيقة التفكير لدى صقور الإدارة

الأميركية، والدليل على ذلك أن أياً من أقطاب هذه الإدارة بما في ذلك الرئيس

جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول المحسوب على الحمائم واصلا هذا

الخطاب؛ سواء بتهديد فرنسا وألمانيا والتعهد بحرمانهما من المغانم المنتظرة من

الحرب ضد العراق، أو بالتأكيد على أن الحضارة الأميركية تمثل العصرية

والديمقراطية والحرية، وأن الحضارة الأوروبية المتمثلة في فرنسا وألمانيا باتت

عاجزة وقديمة، وكذلك سخرية بوش من أوروبا حينما قال: «إن أصدقاءنا في

أوروبا تعلموا حقاً من الماضي» .

لقد تركزت الاستراتيجية الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على

تحقيق وضع الانفراد بالهيمنة على العالم كهدف نهائي تسعى إليه، ومن خلاله

توجه استراتيجياتها الدولية، فقدم «جورج كينان» عام ١٩٤٧م أولى هذه

الاستراتيجيات التي تركزت على نظرية الاحتواء.

وأهم أسس هذه الاستراتيجية كانت مواجهة ما وصفه صانعو السياسة

الأميركية بالتهديد الذي كان الاتحاد السوفييتي العامل الأهم والعدو الأخطر بالنسبة

لراسمي أسس هذه الاستراتيجية.

وجاءت بعدها وفي أثنائها استراتيجية الردع التي سادت لفترة طويلة، وعليها

بنيت الترسانة الضخمة التي جاءت نتيجة للحرب الباردة وسباق التسلح النووي.

واستراتيجية الردع تعتمد على منطق الرد بهجوم مدمر على فعل عسكري

نووي يهدف للتدمير، ووفق «ويدي وولت» الخبير الاستراتيجي الأمريكي فإن

استراتيجية الردع هي ركوب الموجة؛ إذ يقول: «عندما تواجه تهديداً خارجياً

كبيراً فإن الدول إما أن توازن موقفها، وإما أن تركب الموجة» ، ويعني بركوب

الموجة الانحياز إلى مصدر الخطر.

وهناك مصطلح آخر يندرج تحت مفهوم الردع هو الإكراه، ويعرفه بول

هاث وبروس راسيت بأنه: محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي

القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب الدولة الأولى.

ولا يعني حديثنا عن هذه الاستراتيجيات التي كانت في أيام الحرب الباردة

أنها أصبحت الآن بعد انتهاء الحرب الباردة في طي النسيان، ولكنها ما زالت في

خدمة المصالح بالإضافة إلى الاستراتيجية الجديدة وهي الضربات الوقائية.

وتقول كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي في تعريفها لهذه

الاستراتيجية الجديدة: «هي استباق فعل التدمير الذي يمكن أن يقوم به عدو

ضدك» .

أما أوروبا فتنظر بقلق إلى تحديات العولمة الأمريكية وانعكاساتها؛ كالهجرة

المتزايدة من بلدان العالم الثالث، والفقر والتغير المناخي؛ كما تبدو عاجزة عن

منافسة حليفتها الأطلسية في ميدان البناء والتطور العسكري، والأهم من ذلك أنها لا

تبدو راغبة في مجاراتها في استراتيجيتها الجديدة (الضربات الوقائية) بل تنتقدها.

وقد أدركت فرنسا بشكل خاص أن الولايات المتحدة عازمة على خوض

حربها ضد (محور الشر) دون الالتفات لما يقرره القانون الدولي، وما يسمى

بالمجموعة الدولية متمثلة في منظمة الأمم المتحدة، وهو أمر يعني في نهاية

المطاف تهميش دور فرنسا الدولي الذي يعتمد أول ما يعتمد حالياً على عضويتها

الدائمة في مجلس الأمن الدولي.

ويبدو أن فرنسا تخشى جدياً من أنها ستصبح هي نفسها، اليوم أو غداً، من

بين دول الشر الذي تريد الولايات المتحدة محاربته، خصوصاً بعدما ردد الرئيس

الأميركي جورج بوش وأركان إدارته علناً أن من ليس معنا فهو ضدنا؛ فالتطبيق

العملي للخير الأميركي يعني ضمان المصالح الأميركية بأي ثمن، مثلما يعني الشر

الأميركي الأضرار التي تلحق بهذه المصالح.

ومن أجل مواجهة الموقف الأميركي المتفرد، بادرت فرنسا لاستنهاض همتها

وتنشيط دبلوماسيتها، وإحياء تحالفاتها السابقة، ومنها المحور الفرنسي الألماني،

والتقارب الفرنسي الروسي، والغزل الفرنسي الصيني، لخوض هذه المعركة التي

انفتحت أمامها، وعندما حانت لحظة المواجهة مع الولايات المتحدة فإن الرئيس

شيراك التفت إلى عموم الفرنسيين، بما في ذلك خصومه السياسيون الذين صوتوا

لصالحه مجبرين؛ حيث وجد في كل الطبقة السياسية الفرنسية التي التفت إليها،

مواقف مساندة لموقفه المتشدد إزاء السياسة الأميركية، بل إن بعضاً من هذه القوى

طالبته أن يكون أكثر تشدداً عندما ألحت أن تستخدم فرنسا حقها في استخدام حق

النقض الفيتو لإبطال قرار بشن الحرب على العراق.

وبموازاة ذلك شهدت المكتبات الفرنسية في السنتين الأخيرتين عشرات الكتب

الفرنسية المخصصة لاستقراء، وإعادة استقراء حقيقة العلاقات الفرنسية الأميركية،

وبدا وكأن الفرنسيين اكتشفوا لأول مرة العنجهية الأميركية والتفرد الأميركي.

وبدت الصحف الفرنسية تتبارى في نشر مقالات تهاجم الولايات المتحدة

بطريقة لم يعد يميز فيها إن كانت هذه المقالة أو تلك كتبها معلق يساري عرف

بمناهضته التقليدية لأميركا، أو يميني أصابته حديثاً عدوى كراهيتها.

إن المستقبل يشي بتطور المنافسة بين القطبين، ولكنها منافسة محكومة

بمعادلات على الأرض لا يمكن تجاوزها؛ لأنها بين قطبين: أحدهما: يمتلك

مقومات التفرد على الساحة من تماسك داخلي وأهداف طموحة واستراتيجيات مقننة،

وقطب آخر: تتنازعه من داخله أهواء شتى، ولا يمتلك على ما يبدو أي

تصورات واضحة عن نظام عالمي جديد سوى إقصاء الآخر من على ساحة التفرد

دون آليات متماسكة في سعيه هذا.