للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

التغيير القادم

[بعد أن ابتعلت أمريكا العراق، هل تستطيع هضمه؟]

خالد أبو الفتوح

[email protected]

* أضف إلى معلوماتك:

- دخول جيوش وصفت مهمتها بأنها حملة صليبية إلى كابل يعني: تحرير

أفغانستان.

- اقتحام قوات أجنبية لأرض العراق وتوغلها فيه ورفع العلم الأمريكي في

سمائه، يعني: تحرير الشعب العراقي.

ليست هذه هي المعلومات الوحيدة التي أضافتها لنا حملات الفرنجة المعاصرة

على عالمنا الإسلامي؛ فقد اكتشفنا في غمرة الأحداث أن أمريكا التي كنا نظنها أكبر

دولة أقيمت على البراجماتية (النفعية) وأكبر قوة إمبريالية في التاريخ المعاصر،

تلك الدولة التي علمتنا دوماً أن العلاقات بين الدول ينبغي أن تقوم على المصالح لا

المبادئ، اكتشفنا أن هذه (الأمريكا) تنطوي على طاقة هائلة من الشهامة والنبل

والرقة، حتى إنها بدافع هذه المثل ودفع هذه الطاقة تضطر إلى إرسال نحو ربع

مليون جندي من أبنائها إلى أرض تبعد عن وطنهم أكثر من عشرة آلاف كيلو متراً،

وتعريضهم لمخاطر الحروب وويلاتها، وإنفاق ثمانين مليار دولار دفعة أولى

لتكاليف الحرب.. كل ذلك بدافع (الجنتلة) والشهامة لتحرير الشعب العراقي

العزيز على قلب كل أمريكي من طغيان نظام صدام الشمولي المتسلط وقهره،

ولحفظ بترول العراق لصالح رخاء ورفاهية هذا الشعب الحبيب..

* يا لقَهري!!

رجل الشارع - بل رجل الحارة - يعلم أن نظام صدام لم يكن وحده النظام

الشمولي القمعي في العالم ولا في المنطقة: فعلى مرمى حجر من شواطئ أمريكا

الجنوبية يقع في كوبا (نظام كاسترو) الذي لا ينافسه على كأس الشمولية والتسلط

عالمياً إلا نظام (الرئيس المحبوب) - رغم أنف كل كوري شمالي - كيم جونغ

إيل، ولم تحرك أمريكا ساكناً تجاه هذا النظام أو ذاك رغم الاستفزازات العلنية

لأمريكا التي مارسها نظام بيونج يانج في الفترة الأخيرة.

نظام صدام حسين وصل إلى الحكم بطريقة (غير ديمقراطية) ، ولكنه ليس

وحده المنعوت بهذه الصفة في المنطقة؛ فمعظم أنظمة المنطقة وصلت إلى الحكم إما

بانقلابات (عسكرية أو أسرية) وإما بانتخابات لا يضاهيها في هشاشتها والتشكك

في نتائجها إلا الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، ومعظم هذه الأنظمة مستمرة

ومستقرة في الحكم بمعادلات الحديد والنار ونظريات العصا والجزرة ... ولو ضلت

بعض البوارج الحربية طريقها إلى رأس خليج البترول ورست عشوائياً في أحد

موانئ ساحل الشمال الأفريقي المارة عليها لما كان هناك كبير فرق بين وجهتها وما

رست عليه.

أضف إلى ذلك: أن صدام حسين لم يُعط الفرصة المناسبة حتى يحقق لشعبه

الديمقراطية التي تطلبها أمريكا الآن من أنظمة المنطقة، فهو لم يمكث في السلطة

إلا ما يزيد بقليل عن نقطتين زمنيتين (باعتبار أن الوحدة الزمنية التي ارتضتها

أمريكا لمكوث زعماء هذه المنطقة تحتسب بالعقد وليس بالسنة) وهي مدة غير

كافية لتهيئة مثل هذه الشعوب لتقبل مثل هذه (المخترعات الحديثة) .

وإذا كان نظام صدام البعثي العشائري المتسلط.... سبق له أن قمع بعض

شعبه الثائر أو المتمرد عليه بالكيماوي (الأمريكي) ، فإن بجواره نظاماً بعثياً

طائفياً متسلطاً آخر دك بعض شعبه بالطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة في حماة

سنة ١٩٨٢م، فقتل منهم ما شاء الله لا قوة إلا بالله من عشرين ألف إلى أربعين

ألف مسلم، ناهيك عن (مذبحة تل الزعتر) بالتعاون مع المليشيات الصليبية

اللبنانية عام ١٩٧٦م التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف مسلم فلسطيني

ولبناني، و (مذبحة حلب ١٩٨١م) ؛ و (مذبحة طرابلس ١٩٨٣م) .. ومع ذلك

فإن الرقة والشهامة الأمريكية في سبات عميق؛ لأنها لم تكن تريد سورية وقتها،

ولعلها تستيقظ (وتتذكر) هذه المآسي عندما يحين وقت تأجج المشاعر الأمريكية

الفياضة تجاه الشعب السوري الذي سوف يكون وقتها عزيزاً!

العراق لم يعتد على أي من طرفي التحالف، كما أنه لم يكن يمثل أي تهديد

مباشر لأراضيهما؛ فمن المعلوم أن العراق بعد هزيمته في (أم المعارك) حظر

عليه امتلاك أي صواريخ يتعدى مداها ١٥٠ كيلو متراً، وهذا يعني أن العراق إذا

أراد أن يطلق أقوى صواريخه على أمريكا مثلاً فإن هذا الصاروخ بحاجة إلى

التوقف (ترانزيت) في أكثر من ثلاثين محطة ليسقط في مياه الشواطئ الشرقية

للمحيط الأطلنطي (بعيداً عن الجزيرة البريطانية) ، وعند حدوث ذلك يمكن

لأمريكا الصراخ بأن صدام عكَّر عليها المياه التي سوف تصل إلى سواحلها بعد

مسيرة ٤٥٠٠ كيلو متراً.

وحتى إذا أخذنا في الاعتبار حرص أمريكا على ربيبتها المدللة (إسرائيل)

فإن أقرب نقطة بين الحدود العراقية الغربية وحدود فلسطين الشرقية تعادل ضعف

مدى أبعد صاروخ مسموح للعراق بامتلاكه، كما أنه من الثابت تاريخياً أن بوصلة

هذا النظام كانت دائماً مصابة بانحراف حاد، جعلت طريقه إلى القدس يمر بطهران

أو الكويت أو أي اتجاه آخر خلاف جهة الغرب!

أما ما قيل عن أسلحة دمار شامل، فإن هذه الأقاويل تبقى مزاعم نفتها تقارير

لجنة التفتيش الدولية برئاسة (هانز بليكس) و (محمد البرادعي) مقابل إثباتها

لتلفيق تقارير أمريكية مزورة تدعي سعي العراق لامتلاك أسلحة دمار شامل..

وحتى كتابة هذه السطور لم يستطع الحليفان تدبير أدلة أكثر حبكة وغير مستبعد ولا

مستصعب أن تلجأ إلى التدبير إذا لم تجد شيئاً لإثبات هذه المزاعم وإضفاء بعض

المصداقية على مزاعمها ومسوغاتها لشن الحرب.

ومن جهة أخرى فإن أمريكا إذا كان يؤرق ضميرها ومشاعرها وجود أسلحة

دمار في المنطقة فإنه معلوم للجميع أن (إسرائيل) تعد مباءة لأسلحة الدمار الشامل

بجميع أنواعها الذرية والكيماوية والبيولوجية، وهي كيان عدواني من أصحاب

السوابق؛ حيث اعتدى بالاحتلال أو الإغارة على خمس دول على الأقل، كما أنه

ما يزال يحتل أراضي غيره باعتراف الأمم المتحدة، فضلاً عن ممارساته العدوانية

اليومية الهمجية ضد شعب محتل أعزل..

فلماذا إذن لم تستثر نوازع الشهامة والنبل والرقة إلا تجاه الشعب العراقي

لتخليصه وحده دون سائر الشعوب المقهورة من طغيان نظام صدام حسين الجائر؟!

* مخطط قديم:

إن أي متابع لتحركات أمريكا وأهدافها في المنطقة يدرك بوضوح أن التفكير

في غزو أمريكي عسكري والتمركز في هذه المنطقة لم يكن وليد اللحظة التي

نعيشها، وأنه لا علاقة له بتسلط صدام حسين ونظامه ولا حتى بوصول بوش الابن

إلى سدة الرئاسة الأمريكية، صحيح أن وجودهما ساعدا على إخراج هذا السيناريو

بهذه الصورة وفي هذا الظرف، ولكنهما لم يكونا السببين الحقيقيين في الرغبة

الأمريكية في التمركز في المنطقة بهذا الشكل المباشر؛ فهناك مصالح أمريكية

استراتيجية، واتجاه توسعي إمبريالي أنبت هذا المخطط في أركان البيت الأبيض

بغض النظر عمن يجلس فيه وعن الصورة التي كان سينفذ بها هذا المخطط.

وإذا تحدثنا عن هذا المخطط من منظور الدوافع الاقتصادية وخاصة النفطية

مع عدم تقليلنا من أهمية الدوافع الأخرى لهذا الاستهداف، فإنه يتضح أن هناك

ثلاث محطات رئيسية في هذا المخطط قبل أن يصل إلى هذا المشهد الذي نعيشه:

المحطة الأولى، إبان حرب ١٩٧٣م: وذلك حين اجتمع وزراء البترول

العرب في دولة الكويت في ١٧/١٠/١٩٧٣م بعد بداية الحرب مع (إسرائيل) ،

وتم الاتفاق بينهم على تخفيض الإنتاج الكلي للبترول العربي بنسبة ٥% فوراً، مع

زيادة التخفيض بنسبة ٥% شهريّاً حتى تنسحب (إسرائيل) إلى خطوط ما قبل ٤

يونيو ١٩٦٧م.

هذا إضافة إلى قرار ست دول بترولية برفع سعرها بنسبة ٧٠%، كما

قررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلى الدول التي يثبت تأييدها

لإسرائيل بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.

فقد كان هذا القرار بمثابة الإنذار الأول بأن في استطاعة العرب والمسلمين

(خنق) أمريكا وأوروبا وهدم اقتصادها ونمط الحياة فيها متى أرادوا ذلك.. وعلى

الفور انتبهت أمريكا إلى ذلك، ويذكر اللواء الدكتور زكريا حسين أستاذ الدراسات

الاستراتيجية المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا [*] ، أن دراسات

ووثائق أعدتها مكتبة الكونجرس الأمريكي، إضافة إلى تقارير أعدتها وزارة الدفاع

الأمريكية عن المحاولات الأمريكية السابقة لغزو الخليج العربي، نشرها الدكتور

«أنتوني كوردسمان» كاملة في كتابه «الخليج والغرب» الذي صدر في لندن

مع مطلع الألفية الجديدة.. كان منها دراسة قام بها «توماس مورجان» الذي

عُيِّن على رأس لجنة فرعية لدراسة احتمال القيام بعمل عسكري ضد دول منتجة

للنفط في حالة فرضها حظراً نفطيّاً، وتقييم الخيارات المتاحة أمام السياسة الأمريكية

في حال نشوب مثل هذه الأزمة، وقد قدمت الدراسة إلى لجنة العلاقات الدولية

في مجلس النواب الأمريكي في ٥/٨/١٩٧٥م.

ومن أهم ما يثير الدهشة عند استقراء هذه الوثائق لمكتبة الكونجرس، أن

رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية قد ساهموا بحماس شديد في وضع هذه

الاستراتيجية موضع التنفيذ؛ فقد قام الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» بوضع

نواة وهيكل بناء قوة الانتشار السريع الأمريكية اللازمة لوضع هذه الاستراتيجية

موضع التنفيذ، وساهم الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» بالجزء الأكبر من

بنائها والتخطيط لاستخدامها، ثم قام الرئيس «جورج بوش» الأب بالاستخدام

الاستراتيجي المخطط لها في عمليات الحشد العسكري في الخليج.

ولعل نشر التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأمريكية عن السنة المالية ١٩٧٦م

والذي قدمه «جيمس شليزنجر» وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الوقت يُعَدُّ من

أخطر الوثائق التي توضح تفصيلاً الاستراتيجية العسكرية الأمريكية لتأمين منابع

النفط الخليجية.

وفى دراسة نشرتها مجلة «فورتشون» الأمريكية في مايو ١٩٧٩م بعنوان

(التدخل العسكري في منابع النفط) جاء فيها: «لقد أوضح كل من براون (وزير

الدفاع) وبريجنسكي (مساعد الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي) مؤخراً أن

الولايات المتحدة ستتخذ خطوات بينها استخدام القوات العسكرية الأمريكية لحماية

مصالحنا في (الخليج) » .

وذكرت مجلة «شؤون فلسطينية» العدد ١١٢، مارس ١٩٨١م عن الدراسة

نفسها أنه جاء فيها أنه من بداية السبعينيات وبخاصة بعد حرب رمضان «بدأت

المصادر العسكرية الأمريكية تتحدث بوضوح عن أنه إذا تعاظم اعتمادنا على النفط

الخارجي أو تدهورت سيطرتنا في السياسة الخارجية والنفوذ الدولي فإن البديل قد

يكون إرسال حملة عسكرية إلى الشرق الأوسط تجعل فيتنام تبدو بالمقارنة كنزهة» .

ويقول الرئيس نيكسون في مذكراته التي كتبها سنة ١٩٨٣م: «أصبحت

الآن مسألة من يسيطر على ما في الخليج العربي والشرق الأوسط تشكل مفتاحاً

للسيطرة على ما في العالم» ، ويقول في موضع آخر: «.. وينبغي علينا أن

نكون على استعداد وراغبين في اتخاذ أي إجراءات بما في ذلك الوجود العسكري

من شأنها أن تحمي مصالحنا» .

وفي هذا السياق يذكر أيضاً أنه عقب الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه

زادت المخاوف الأمريكية من التهديد الإيراني (للخليج) ، الأمر الذي دفع الرئيس

الأمريكي جيمي كارتر للإعلان في ٢٣/١/١٩٨٠م في خطاب له أمام الكونجرس

الأمريكي عن نظرية أمن صريحة بالنسبة لمنطقة الخليج تضع كافة الدراسات

والوثائق والمناقشات التي تمت سواء في لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب

الأمريكي، أو في جلسات الاستماع للجنة الفرعية للسياسة الاقتصادية الخارجية

التابعة للجنة الشؤون الخارجية بنفس المجلس موضع التنفيذ؛ وهو ما عرف بمبدأ

كارتر، الذي ينطوي على شقين:

أحدهما: شق سياسي، أعلنه الرئيس كارتر رسميّاً؛ فقال: «إن أي محاولة

من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف تعتبر في

نظر الولايات المتحدة هجوماً على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده

بكل الوسائل بما فيه القوة المسلحة» .

أما الشق الثاني: فهو تكملة عسكرية للإعلان السياسي، وقد تمثل في إنشاء

ما يسمى «قوة الانتشار السريع» من خلال تقرير قدمته وزارة الدفاع عام ١٩٨٨م

إلى لجنة القوات المسلحة في الكونجرس، أعدت على أساسه ميزانية هذه القوات

لتلك السنة؛ وقد وقف الجنرال كولن باول رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة

للقوات المسلحة الأمريكية (وزير الخارجية الحالي) يدافع عنها أمام لجنة العلاقات

الخارجية في ١/٣/١٩٩٠م، حيث قال: «يجب أن ننظر إلى التاريخ وإلى

الحوادث الجارية وعيوننا على المستقبل، ومهما كانت الظروف فإن هدفنا لا يمكن

أن يصبح حلّ أو تفكيك القوة الأمريكية، إنني تولّيت منصبي كرئيس لهيئة الأركان

في الحرب آملاً أن أساعد في تشكيل القوة الأمريكية لمواجهة تحديات المستقبل،

وليس لأقوم بتسريح الجيش الأمريكي، وأُضعف موقف الولايات المتحدة في

العالم» .

وقد كان قرار إنشاء قوة «التدخل السريع» يقضي بأن تتمركز هذه القوة في

الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، على أن تكون جاهزة لكي تحمل جوّاً وبحراً إلى

منطقة الخليج عند أي طارئ، وبذلك تكون الولايات المتحدة مستعدة، وتكون قواتها

مخصصة لحماية الخليج على أراضيها، وقد أطلق على قيادة هذه القوات قيادة

المنطقة المركزية، وشكلت من ٢٩١.٦٠٠ فرد.

وفي منحى استهداف العراق تحديداً يذكر الخبير الاستراتيجي أحمد السيد

النجار أن وزير الطاقة الأمريكي الأسبق «جون هارنجتون» كان قد أعلن في عام

١٩٨٧م أن العراق يعوم على بحيرة من النفط وأن احتياطياته ربما تفوق

الاحتياطيات السعودية الضخمة التي تبلغ نحو ربع الاحتياطيات العالمية المؤكدة من

النفط، ويواصل الخبير قوله: وفي هذه الحالة إذا استطاعت الولايات المتحدة

السيطرة على العراق ونفطه من خلال الغزو ووضع حكومة عميلة هناك، فإنها

يمكن أن تتحكم في حجم الإنتاج العالمي من النفط من خلال مضاعفة حجم الإنتاج

العراقي، ويمكنها بذلك أن تعمل على خفض أسعاره بشكل كبير بما يحقق مصالحها

كأكبر دولة مستهلكة ومستوردة للنفط في العالم، حتى لو أدى ذلك إلى تدهور

اقتصادي يصل إلى حد الكارثة بالنسبة للدول المصدرة الرئيسية للنفط.

ولكن مع ذلك لم تجد أمريكا حتى تلك اللحظة الذريعة المناسبة التي تبدأ بها

تنفيذ هذا المخطط حتى قدمها لها العراق نفسه، أو بالأحرى صدام حسين ونظامه.

المحطة الثانية، غزو الكويت سنة ١٩٩٠م: في نهاية الثمانينيات حدثت

أزمة نفطية عانت فيها شركات النفط الأمريكية من شبح الإفلاس، وفي شهر مارس

١٩٩٠م قبل غزو الكويت بأربعة أشهر وأيام نشرت جريدة الحياة اللندنية جانباً من

تقرير أمريكي بعنوان: (التقرير الأمني السنوي لمجلس الأمن القومي الأمريكي)

جاء فيه: «إن المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الوسط المتمثلة أساساً في

مصادر الطاقة والعلاقات الأمريكية القوية مع بعض دول المنطقة تستحق وجوداً

أميركياً مستمراً وربما معززاً في المنطقة» ، وجاء فيه كذلك: «.. وإن الولايات

المتحدة ستحافظ على وجود بحري لها في شرق البحر المتوسط وفي منطقة الخليج

والمحيط الهندي ... وستسعى إلى دعم أفضل للأسطول من الدول المحيطة وإلى

خزن معدات سلفاً في مختلف أنحاء المنطقة!» .

فرغم أن المشروع السابق ذكره وضع في أواخر السبعينيات، إلا أن أمريكا

لم تجد الذريعة المناسبة لأن يكون لها موطئ قدم في الخليج، حتى كان لها ذلك في

٢/٨/١٩٩٠م عندما غزا نظام صدام حسين الكويت، فأوجد المسوغ المطلوب لزرع

القوات الأمريكية في المنطقة، ليس فقط لتأمين منابع النفط، بل لحماية المصالح

الأمريكية بشكل عام في منطقة الشرق الأوسط.

بالإضافة إلى ذلك: فإن صدام حين احتل الكويت زاد مخزونه النفطي تلقائياً

زهاء ٢٠٠ مليار برميل، ثم رفض اقتراح «أوبك» بتسعير البرميل بـ ١٨

دولاراً وفرض عليها ٢٣ دولاراً للبرميل الواحد، فأثبت أنه قادر على الضغط

والتحكّم بسعر البترول، أي: التحكّم بالشركات الكبرى وبالاقتصاد العالمي المرتبط

بالبترول، وبذلك أعطى للإدارة الأمريكية مزيداً من البراهين على المخاوف التي

دعتها إلى وضع المخطط المشار إليه ودعاها أكثر إلى الجدية والإلحاح في تنفيذه.

وفي شهر سبتمبر ١٩٩٠م أي بعد احتلال العراق للكويت بقليل نشرت

صحيفة لوس أنجلوس تايمز مقالة للسفير الأمريكي السابق في الرياض جيمس إكنز

بعنوان: (الآن ومع وجود القوات الأمريكية حول حقول النفط هل ندع الفرصة

تفوتنا؟) ، جاء فيها: «إن الذين عملوا والذين يعملون حالياً في الحكومة

الأمريكية ومن ضمنهم كيسنجر الذي كان جادّاً في موضوع احتلال آبار النفط في

عام ١٩٧٥م لا بد أنهم يرون الآن عدم ترك هذه المصادر غير العادية بعد أن

أصبحت تحت سيطرتنا» .

وبعد انتهاء الحرب قدم «بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الأمريكي

الآن) عام ١٩٩٣م إلى البنتاجون وثيقة تحت عنوان «الاستراتيجية الأمريكية

الشاملة» ، وقد تم تنقيح هذه الوثيقة وتعميقها فيما بعد، قبل نشرها عام ١٩٩٧م

بما عُرف في الصحافة العالمية بـ «وثيقة البنتاجون» ، وهي وثيقة سرية للجناح

اليميني من الحزب الجمهوري الأمريكي محتواها هو خطط الهيمنة على نفط الشرق

الأوسط.

وقد أعادت هذه الوثيقة تعريف التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة وسبل

مواجهتها لكي تبقى قوة عظمى منفردة لمدة قرن كامل من الزمن، وتضمنت

ضوابط شديدة لمنع أي قوة إقليمية من أن تتحول إلى قوة كبرى، حتى على مستوى

إقليمها، من ناحية أخرى: فقد طرحت الوثيقة ضرورة بناء خرائط جديدة للشرق

الأوسط بمفهومه الواسع.

وفي شأن آخر ذي صلة بالموضوع قدم جون ماريا نائب رئيس مؤسسة

يونوكل النفطية للعلاقات الدولية في ١٢/٢/١٩٩٨م شهادة إلى لجنة الكونجرس

الأمريكي يبين فيها أهمية وجود حكم ملائم لأمريكا ومستقر في أفغانستان من أجل

استثمار مشاريع النفط والغاز في المنطقة.

وانطلاقاً من «وثيقة البنتاجون» المشار إليها سابقاً أعد الجناح اليميني في

الحزب الجمهوري خطّة لشن الحرب على العراق في سبتمبر ٢٠٠٠م أي قبل

استلام بوش الابن لمقاليد الرئاسة وقد صاغ هذه الخطة «ديك تشيني» (نائب

الرئيس الأمريكي الآن) ، و «دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الآن) ،

و «بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الآن) ، و «جيب بوش» (أخو

الرئيس جورج بوش الحالي) ، و «لويس ليبي» (رئيس هيئة الأركان على

عهد «تشيني» ) ، وتكشف هذه الخطة هدف أمريكا الحقيقي من وراء احتلال

العراق، حيث تشير إلى أن «الولايات المتحدة سعت على مدى عقود للعب دور

دائم في حفظ الأمن الإقليمي في الخليج. ورغم أن النزاع غير المحلول في

الخليج يوفر المسوغ المباشر [لضرب العراق] ، فإن الحاجة إلى وجود عسكري

أمريكي مكثف في المنطقة تتجاوز قضية نظام صدام حسين» ، وبمعنى آخر،

إذا لم يكن «صدام» هناك، فإن على الولايات المتحدة إيجاد مسوِّغ آخر لاحتلال

العراق لإحكام سيطرتها على ثرواته النفطية!

المحطة الثالثة، أحداث سبتمبر ٢٠٠١م: يمكن القول إنه بعد أحداث

سبتمبر التي أعلن فيها عن نجاح تنظيم القاعدة بهدم برجي التجارة العالميين في

نيويورك والهجوم على مبنى البنتاجون في واشنطن إن صح ذلك اختلطت المطامع

بالمخاوف وتأكدت الرغبة ووجد المسوغ الذي يمكن إعلانه في وجود دائم للقوات

الأمريكية فيما يسمى منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن القدرة على ضرب أمريكا في

عمق أراضيها وفي رموزها الحيوية يعني تلقائيّاً القدرة على تهديد مصالحها في

مناطق أخرى لا تخضع لسيطرتها، وعزز ذلك ما أعلن من بيانات زعيم تنظيم

القاعدة بعزمه على إخراج أمريكا من (جزيرة العرب) وتهديد مصالحها في تلك

المنطقة (الخليج) ..

وهكذا أصبحت الفرصة مواتية لأمريكا لضرب سرب من العصافير بحجر

واحد كما تصورت تلك الإدارة رغم أن معلومات كانت تسربت من قبل تلك

الأحداث تؤكد أن واشنطن أعدت خطة عسكرية لغزو أفغانستان منذ سنوات طويلة

للسيطرة على نفط المنطقة وخاصة بحر قزوين، وكانت تنتظر الذريعة المناسبة

لهذا التدخل، فجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر على طبق من ذهب لتسرع

من عملية تنفيذ المخطط الأمريكي للسيطرة على نفط العالم مباشرة وليس بالوساطة..

فكان غزو أفغانستان بمثابة وضع أمريكا لمحور ارتكازها الأول في الطرف

الشرقي من قوس النفط العظيم، ثم كان لا بد من إكمال المخطط وارتكازها في

الطرف الغربي من هذا القوس، وهكذا وجدنا أن الإشارات تتكثف والتطورات

تتسارع في هذا المنحى.

فلقد جاء ضمن نصوص استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المنشورة في

٢٠/٩/٢٠٠٢م (أي بعد غزو أفغانستان وقبل الحرب على العراق) ما يلي:

«لقد طورت الولايات المتحدة استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز التجارة

الحرة: ...

٩ - تعزيز أمن الطاقة، سوف نقوي أمن طاقتنا والازدهار المتشارك

للاقتصاد العالمي، وذلك من خلال العمل مع حلفائنا، وشركائنا التجاريين،

ومنتجي الطاقة؛ لتوسيع مصادر وأنواع الطاقة العالمية المزودة، وبالأخص في

النصف الغربي من الكرة الأرضية، وإفريقيا، وآسيا الوسطى، ومنطقة بحر

قزوين، سوف نستمر في العمل أيضاً مع شركائنا لتطوير تكنولوجيات لطاقة أكثر

نظافة وفعالية» ، وجاء فيها أيضاً:

«علينا أن نكون مستعدين لوضع حد للدول المارقة وعملائها من الإرهابيين

قبل أن يتمكنوا من تهديدنا أو استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة

وحلفائنا وأصدقائنا، وردنا يجب أن يستفيد كلياً من التحالفات المعززة، ومن إقامة

شراكات جديدة مع أعداء سابقين، ومن ابتكار أساليب متجددة في استخدام القوة

العسكرية والتكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك تطوير نظام دفاعي صاروخي فعال،

وزيادة التركيز على جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها» .

«لقد استغرقنا الأمر عقداً من الزمن تقريباً لاستيعاب الطبيعة الحقيقية لهذا

التهديد الجديد. وانطلاقاً من أهداف الدول المارقة والإرهابيين، لن تستطيع

الولايات المتحدة بعد الآن أن تعتمد فقط على سياسة رد الفعل كما فعلنا في الماضي؛

فعدم القدرة على ردع معتد محتمل، والطبيعة الملحّة للتهديدات اليوم، وحجم

الضرر المحتمل الذي قد يتسبب به اختيار العدو للأسلحة، لا يسمح لنا بذلك الخيار،

لا يمكننا السماح للأعداء بأن يضربوا أولاً» .

ولا نستطيع أن نفصل تلك الإشارات في وثيقة استراتيجية الأمن القومي عام

٢٠٠٢م، عن إعلان أميركي آخر صدر في أوائل الثمانينيات يؤكد على أن حدود

الأمن القومي هي آخر قطرة نفط في آبار منطقة الخليج العربي.

ثم توالت الإشارات في اتجاه استهداف العراق عسكريّاً، حيث أعلن المسؤول

في وزارة الخارجية الأمريكية «ستيف مان» خلال مؤتمر في نيويورك عقد في

شهر ١١/٢٠٠٢م أن «احتياطيات النفط في بحر قزوين ليست بالقدر الكافي

لتشكل منافساً لنفط دول الخليج» .

وبعد ذلك صرح وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في ٢٢ يناير الماضي

بأن احتلالاً عسكرياً سيتم للعراق وأن البترول هو أمانة للشعب العراقي وستتم

حماية حقول النفط، وفي اليوم التالي لتصريحات باول نقلت صحيفة (الغارديان)

البريطانية عن مصادر قولها: إن اجتماعاً مهماً عقد في أكتوبر الماضي بين

مسؤولين كبار في مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني وشركات نفطية مهمة

هي «إكسون موبايل» و «شيفرون تكساكو» و «كوكوفيليبس»

و «هاليبورتون» لدرس آفاق الصناعة النفطية في العالم بما في ذلك الوضع

العراقي.

ثم توالت بعد ذلك الخطوات والتصريحات والأحداث التي يعرفها جميع

المتابعين عن خطوات أمريكا (لتحرير الشعب العراقي من نير نظام صدام) .

وبعد سقوط بغداد جاء في الأخبار: «كشفت صحيفة نيويورك تايمز

الأمريكية عن خطط لعقد اتفاقات عسكرية أمريكية طويلة الأمد مع الحكومة الجديدة

في العراق، وذلك وصولاً إلى إقامة قواعد عسكرية أمريكية في الأراضي العراقية،

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين أن واشنطن تنوي الاحتفاظ بأربع قواعد

عسكرية في العراق لاستخدامها في المستقبل: الأولى في مطار بغداد الدولي،

والثانية في تليل قرب الناصرية، والثالثة في مكان معزول في صحراء غرب

العراق تسمى H-١ بمحاذاة خط أنابيب النفط بين العراق والأردن، والرابعة في

باشور شمال العراق، وأن القوات الأمريكية تستخدم بالفعل هذه القواعد حالياً،

وتخطط للبقاء فيها لاستخدامها في أي أزمات قد تحدث في المستقبل.

وكانت الولايات المتحدة قد كشفت للمرة الأولى عن خططها لوجود طويل

الأمد في العراق، وقال بول وولفويتز، مساعد وزير الدفاع الأمريكي دونالد

رامسفيلد والرجل الثاني في البنتاجون: إنه يرى إمكانية إنشاء قواعد عسكرية في

العراق الذي سيصبح بلداً خليجياً صديقاً جديداً لأمريكا، وأوضح قائلاً:» الحقيقة

الأساسية هي أن إزاحة هذا النظام ستمنح الولايات المتحدة حرية أكثر للحركة في

الخليج «، وبالطبع لسنا بحاجة لمعرفة دوافع وزير الحرب رامسفيلد الذي نفى

صحة الخبر فيما بعد؛ فالأمر قد أوضحوه سابقاً.

* ماذا يعني احتلال أمريكا للعراق؟

نذكر أولاً أن حديثنا الآتي عن الأبعاد والاحتمالات المتوقعة لا يعني حتمية

وقوعها، كما لا يعني وقوعها كلها لو وقعت في الزمن القريب.. فماذا يكون إذا

استقر الأمر لأمريكا وحققت ما ترنو إليه في المنطقة؟

هناك عدة أبعاد يمكن النظر إليها وأخذها في الاعتبار بهذا الخصوص، منها:

- أن أي قوة إمبريالية توسعية يهمها السيطرة على طرق المواصلات - بما

فيها الممرات والمضايق - التي تربط بين أماكن مصالحها الحيوية والوطن الأم،

وهذا ما فعلته بريطانيا عندما كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وكانت

مصالحها الحيوية تتركز في الهند ومصر وشرق البحر الأبيض المتوسط، فنجد

أنها سيطرت على مضيق باب المندب عبر احتلالها لعدن، وقناة السويس في

مصر باحتلال مصر، ومضيق جبل طارق عبر إقامتها قاعدة عسكرية في جبل

طارق (٦.٥ كم٢) بموجب معاهدة» أوتريشت «سنة ١٧١٣م ثم استعماره سنة

١٨٣٠م، بينما لم تلتفت كثيراً لمضيق هرمز بالخليج العربي مع عدم إهماله أيضاً

لأنه لم يكن له أهمية كبرى حينها؛ لأن البترول لم يكن له الأهمية نفسها الآن ولم

يكتشف بكميات كبيرة في المنطقة حينها.. والأمر نفسه تقوم به أمريكا الآن

بخصوص الممرات والمضايق وطرق المواصلات التي تهمها؛ فمع سيطرتها على

مضيق هرمز (يمر به ١٥.٥ مليون برميل يومياً، بحسب تقديرات عام ١٩٩٨م)

تسيطر أمريكا أيضاً على مضيق باب المندب (٣.٣ ملايين برميل يومياً) عبر

قواعدها في جيبوتي وإريتريا، ولا يبتعد عن ذلك محاولتها التدخل في الصومال

وجنوب السودان، وعلى قناة بنما التي سيطرت عليها سيطرة عسكرية مباشرة لمدة

٨٥ عاماً (حتى ٣١/١٢/١٩٩٩م) ، وبسبب أهميتها الاستراتيجية أبقت فيها

حوالي ٦٠ ألف جندي خلال الحرب العالمية الثانية وعشرات الآلاف خلال فترة

الحرب الباردة، وبعد تسليمها حرصت على وجود نظام موال لها دائماً فيها، كما

أنها تحاصر قناة السويس (٣.١ ملايين برميل يومياً) بدعوى مراقبة الحظر الذي

كان مفروضاً على نظام العراق السابق إضافة إلى قرب وجود أقرب حلفائها في

المنطقة (إسرائيل) منها، أما مضيق جبل طارق (يمر منه سدس التجارة البحرية

العالمية وثلث التجارة النفطية) فهو يخضع للسيطرة البريطانية والإسبانية وكلاهما

حليفان لواشنطن وعضوان في حلف الأطلسي، ولأمريكا قواعد في روتا ومورون

الإسبانيتين على بعد ٤ كيلو مترات من الجبل، إضافة إلى أنها تستخدم القاعدة

البريطانية في صخرة الجبل، ولا يتبقى من المضايق والممرات المائية العالمية

سوى خليج البوسفور في تركيا ومضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا وهما لا

يمثلان أهمية حيوية لأمريكا ومع ذلك هما تحت حماية دول حليفة أو صديقة

لأمريكا..

وإضافة إلى محاولات أمريكا للسيطرة على الممرات وطرق المواصلات

العالمية عبر قوات (حراسة) لها تضمن عدم حدوث أي تقلبات أو اضطرابات

تؤثر على أدائها، فإنها تحرص على تنصيب حكومات مرتبطة بها حول تلك

الطرق والممرات.

وبخطوة احتلال العراق تكون أمريكا قد رسخت وجودها في منطقة

استراتيجية تطل منها على عدة مناطق مهمة في القارات الثلاث، وتلتقي فيها أو

تقترب منها طرق وممرات دولية بقدر التقاء مصالح أطراف دولية أيضاً؛ فالقوى

التي ستسيطر على هذه المنطقة سيكون لها ضمان أمنها الاقتصادي الاستراتيجي

إضافة إلى القدرة مستقبلاً على تسيير دفة الاقتصاد العالمي طبقاً لمصالحها الخاصة،

ومن هنا نستطيع فهم تحركات أمريكا في آسيا الوسطى وأفغانستان وأخيراً الخليج

والعراق؛ فموقع العراق الملاصق للخليج العربي والقريب من منطقة بحر قزوين،

والطرق التي سيعبر منها النفط المستخرج منها، سواء شرقاً عبر باكستان

وأفغانستان أو غرباً عبر تركيا، ووجود القوات البحرية والجوية التي ستتمركز في

هذه المنطقة.. سيضمن السيطرة الأمريكية على كل ما يسمى بالشرق الأوسط

الكبير، وإذا حدث ذلك فإن هذه السيطرة الأمريكية منفردة على تلك المنطقة الحيوية

سوف يهدد مصالح أطراف دولية أخرى يهمها أن يكون لها أيضاً وجود فاعل ومؤثر

في هذه المنطقة التي تلتقي فيها مصالح أطراف عدة.

- يضاف إلى ذلك البعد: الحديث عن أهمية ثروة العراق النفطية؛ فرغم أنه

لا يمكن إنكار تزايد حاجة الولايات المتحدة نفسها للنفط، وضآلة الاحتياطي

الأمريكي المؤكد وهو ما سبق ذكره إلا أنه من المعروف أيضاً أن اعتماد أوروبا

وآسيا على نفط منطقة الخليج أكثر بكثير من الاعتماد الأمريكي عليه (يصل

الاعتماد الياباني على منطقة الخليج إلى ٨٥% من مجمل استهلاكها) ، كما أن

بعض القوى الأخرى ذات النمو السريع التي قد تكون مناوئة مثل الصين يتزايد

اعتمادها أكثر فأكثر على استيراد النفط، خاصة مع تزايد معدلات نموها الصناعي

التي تتجاوز ١٢% سنوياً.

ومن المعروف أن ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط تشمل المنطقة العربية التي

تملك ٦٠% من احتياطي النفط العالمي، مضافاً إليها احتياطي النفط الإيراني

واحتياطي نفط منطقة بحر قزوين، وهذا يعني أنه باحتلال أمريكا للعراق

وسيطرتها على نفطه إضافة إلى السيطرة الأمريكية المطلقة على كل حقول النفط

من كازاخستان في الشمال وحتى الخليج إذا تحقق لها ما تريد.. تكون قد سيطرت

على أكثر من ٩٠% من احتياطي النفط العالمي، وعندما تسيطر أمريكا على هذا

الاحتياطي فمعنى ذلك أنها تحكمت بمصادر الطاقة العالمية العصب الوحيد الآن

للصناعة والتنمية، أي إنها وضعت يدها على أصل استراتيجي كبير في مواجهة

منافسيها وخصومها المحتملين في العالم وخاصة في أوروبا وآسيا.

أما عن مكانة منظمة أوبك حينئذ، فحسب جريدة (الفاينانشال تايمز) :

» إنه بوصول الشركات الأمريكية واعتماداتها المالية الجبارة إلى العراق،

سيتمكن البلد من مضاعفة قدراته الإنتاجية للنفط الخام لتصل إلى ٧ ملايين برميل

في اليوم، وهذا سوف يدق ناقوس الخطر حيال السقف الإنتاجي المتفق عليه في

منظمة الأوبك ويؤذن بزوالها؛ فمن شأن مثل هذا الاحتلال بالقوة للنفط العراقي أن

يغرق السوق النفطية العالمية بكميات هائلة من النفط بأسعار رخيصة مما سينسف

سياسة الحصص التي تفرضها هذه المنظمة الدولية للمحافظة على استقرار

الأسعار في السوق النفطية العالمية، وبالنتيجة ستستفيد الولايات المتحدة

الأمريكية من هذا التدفق الهائل للنفط العراقي الرخيص إلى الأسواق لانتشال

الاقتصاد الأمريكي المنهار من السقوط، وهذا هدف تريد الولايات المتحدة

الأمريكية تحقيقه بكافة السبل وبأي ثمن كان « (د. جواد بشارة - الزمان اللندنية

- ٢/١٠/٢٠٠٢م) ، وهذا يعني عمليّاً تحطيم أوبك أو على الأقل تهميش دورها

وشل قدرتها إلى أبعد حد.

وعندما تستطيع الولايات المتحدة فعل ذلك تستطيع الهيمنة على سوق النفط،

ومن ثم امتلاك زمام المبادرة في تحديد سعره وكيفية توزيعه، وهذا ما يمكّنها من

جعل الدول الأخرى المعتمدة على البترول تحت رحمتها في أي وقت، بل يمكن أن

تقود أمريكا هذه الدول إلى الإفلاس متى شاءت، وقد أشارت مجلة» فورين

ريبورت «في عدد أخير لها أن» الولايات المتحدة في استراتيجيتها الجديدة تريد

أن تسيطر بصورة كاملة غير منقوصة على النفط وأنظمته بطريقة تسمح لها

باستخدامه سلاحاً في صراعها السياسي الاقتصادي مع القوى الرأسمالية المنافسة

الأخرى ... «.

وذلك مما سيضع حداً للحلم الأوروبي في منافسة القوة الاقتصادية والسياسية

الأمريكية؛ فالذي يسيطر على النفط يسيطر على الاقتصاد، وكل ذلك مما سيؤثر

على اقتصاديات هذه الدول ويؤثر على الخريطة الاقتصادية الدولية.

- وهناك أطراف دولية كان لها مصالحها الخاصة في عراق ما قبل الاحتلال

وجدت نفسها ومصالحها في مهب الريح بعد احتلال أمريكا للعراق، وعلى رأس

هذه الدول تقف روسيا وفرنسا؛ فمعظم تسليح الجيش العراقي كان من هاتين

الدولتين وخاصة من روسيا، كما أن هاتين الدولتين استطاعتا الحصول في عهد

صدام حسين على عقود نفطية كبيرة ومنافسة.

وإذا استعرضنا خسائر روسيا الاقتصادية على سبيل المثال جراء الاحتلال ثم

السيطرة الأمريكية على العراق، فتكفي الإشارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين

موسكو وبغداد بلغ مليارين ونصف مليار دولار عام ٢٠٠١م، معظمها صادرات

روسية للعراق أتاحت تشغيل كثير من المصانع التي كانت متوقفة في روسيا، كما

أن الديون العراقية لموسكو تبلغ نحو عشرة مليارات دولار، كان سدادها متوقفاً

على إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على بغداد، وأيضاً فإن العقود المبدئية

العراقية مع الشركات الروسية في مجال إعادة الإعمار والتنقيب عن النفط والغاز

تبلغ قيمتها نحو أربعين مليار دولار، وهي عقود كان يتوقف تنفيذها على إنهاء

العقوبات الاقتصادية كذلك، ويشير الخبراء إلى أن شركات النفط الروسية كانت

تتوقع تحقيق أرباح تبلغ قيمتها نحو عشرين مليار دولار من تنفيذ عقود استثمار

حقول النفط والغاز في منطقة غرب القرنة العراقية وحدها.

وهكذا نجد أن رفع الحصار عن عراق العهد السابق كان سيؤمن فرصة رد

الديون العراقية لروسيا، وأن احتفاظ أسعار النفط بمستواها السابق أو رفعها كان

سيدعم الدخل القومي الروسي باعتبار روسيا من الدول المصدرة للنفط، أما الآن

بعد الاحتلال الأمريكي وتغيير الأوضاع في العراق، فإن الديون الروسية على

العراق مجهولة المصير، وإذا ما أعيد ضخ النفط العراقي بكثافة بدعوى المساهمة

في تكاليف إعادة الإعمار بما يؤدي إلى خفض سعر البرميل عن حدود ٢٢ - ٢٥

دولار فإن الاقتصاد الروسي سيشهد تراجعاً كبيراً، وهكذا نجد أنه إضافة إلى

الضغط الأمريكي لتنازل الدول الدائنة للعراق وعلى رأسها روسيا عن ديونها، فإنه

من شبه المؤكد ضياع جزء مهم آخر من دخل الميزانية الروسية الساعي إلى تدعيم

الروبل العملة المحلية.

وكما يقول الدكتور جواد بشارة: فإنه بعد وضع فريق قيادي موال لأمريكا

بدلاً من نظام صدام حسين في العراق فسوف يشكل ذلك» نعمة سماوية للشركات

النفطية الأمريكية الغائبة نسبياً عن السوق النفطية العراقية التي تحتلها الشركات

الروسية والأوروبية وخاصة الفرنسية منها.

والأوروبيون يدركون هذه الخطورة جيداً ويعلمون أن الانتصار العسكري

الأمريكي سوف يفتح طريق بغداد أمام المجموعات الصناعية الأمريكية ومن بينها

الشركات النفطية العملاقة لقطع الطريق على منافستها الأوروبية الموجودة في

العراق؛ فالأولوية ستكون بالطبع للشركات الأمريكية، وقد أوضح جيمس ولسلي

المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) لصحيفة

(الواشنطن بوست) أن الأمر في غاية السهولة وبعيد عن التعقيد: (لدى روسيا

وفرنسا شركات نفطية عاملة في العراق ولديهما مصالح مهمة في هذا البلد،

وعليهما أن يعرفا منذ الآن أنه إذا ما جاء إلى السلطة في العراق نظام بديل لصدام

حسين فإننا سوف نعمل ما في وسعنا لجعل هذه الحكومة الجديدة تعمل بصورة وثيقة

ومتينة مع شركاتنا النفطية حصراً، وإذا تعاونت الدولتان معنا في إسقاط صدام

حسين فسوف ننظر في مصالحهما وديونهما ونحث الفريق الحاكم الجديد في العراق

على أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار وإلاّ فسوف لن نضمن لهما شيئاً) .. [وقد كان ولم

يتعاونا في ذلك] .

وقد صرح رئيس المؤتمر الوطني العراقي المعارض لنظام صدام حسين

والذي تسانده وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية بما معناه أنه: بعد تغيير النظام

القائم علينا تشكيل اتحاد صناعي نفطي (كونسورتيوم) تقوده أمريكا ليأخذ بيده

عمليات استغلال النفط في العراق، وستكون للولايات المتحدة الأمريكية الأولوية

بالطبع (حسب ما نقلته الصحيفة الأمريكية، وهذا يعني تراجع مريع لبقية

الشركات النفطية العالمية الكبرى العاملة في هذه السوق النفطية الاستراتيجية الآن،

وكانت صحيفة (البايس) الإسبانية قد أشارت إلى أن «هناك شركات روسية هي

لوك أويل وسلافينيفت، وشركات فرنسية هي توتال وفينا ألف، وشركات هندية

وصينية وإيطالية وجزائرية وفيتنامية، قد وقّعت اتفاقيات وعقود استثمار واستغلال

للنفط العراقي كان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ بمجرد رفع الحظر النفطي

المفروض على العراق منذ عام ١٩٩٠م) » ، وغني عن الذكر أن الاحتلال

الأمريكي للعراق يجعل كل هذه المصالح والاتفاقيات تحت الأنقاض!

بل إنه ظهر أيضاً على السطح بعد السيطرة الأمريكية على الكعكة العراقية

تنافس بين الشركات الأمريكية والبريطانية حول اقتسام هذه الكعكة؛ فقد ذكر موقع

الجزيرة نت (١٢/٣/٢٠٠٣م) نقلاً عن مصادر صحفية: أن شركتي النفط

البريطانيتين بريتش بتروليوم وشل أجرتا مناقشات مع الحكومة البريطانية بشأن

نصيبهما من عقود النفط العراقية بعد أن بدأت نظيراتها الأمريكية في التخطيط

لتقاسم المكاسب الضخمة المتوقع أن تظفر بها في عراق ما بعد الحرب ...

ونسبت صحيفة فاينانشال تايمز إلى مسؤولين حكوميين لم تسمهم قولهم إن

الشركتين العملاقتين ناقشتا القضية في اجتماع موسع مع جيفري نوريس كبير

المستشارين السياسيين لرئيس الوزراء توني بلير، وحثت الحكومة خلاله على

ضرورة ألا يسمح للشركات الأمريكية بالاستحواذ على المشاريع النفطية العراقية

المغرية، وأضافت الصحيفة أن الحكومة أبدت تعاطفاً وتفهماً للقضية.

- أما عن الأبعاد الإقليمية: فوجود قوات أمريكية في المنطقة يعني أن

الضغوط ستكون شديدة على دول المنطقة؛ بل يمكن التهديد بالاستغناء عن بعض

الأنظمة باستبدالها أو تقليص دورها إلى أبعد حد؛ لعدم الحاجة إلى (وكلاء) غير

كاملي الطاعة والاستجابة في وجود الموكل نفسه في المنطقة، مما قد يدفع هؤلاء

الوكلاء إلى التفاني والتسابق في تقديم أقصى ما يمكن من تنازلات بالنظر إلى

محافظتهم على معادلة التوازن الداخلي أيضاً لإثبات أنهم قادرون على لعب دور مهم

ولا يمكن الاستغناء عنه في المنطقة، ولا شك أن ذلك سيكون له أثره الكبير على

الحركات الإسلامية وعلى قضايا الأمة المصيرية.

كما أن من المخاطر الفادحة المحتملة: تعويق مشاريع التنمية في الدول

العربية المحيطة أو المرتبطة بالعراق بعد تخفيض أسعار النفط وإضعاف الاقتصاد

فيها نتيجة الظروف الجديدة، ومن المخاطر أيضاً: ما يتهدد الدول النفطية في

المنطقة من أن تلجأ الولايات المتحدة من خلال ضغوط سياسية أو عسكرية إلى

فرض توجهات خصخصة شركات النفط الوطنية، وتصفية امتلاك الدول لها،

ليتسنى للشركات الأمريكية الاستغلال المباشر لنفط تلك البلدان، كما كانت الأمور

تسير في الماضي.

ومن الأبعاد الإقليمية: أن وجود أمريكا بقواتها في المنطقة يعني تلقائيّاً وقوع

إيران وسوريا مع لبنان تحت الحصار الأمريكي الصهيوني: إيران يحاصرها

الوجود العسكري الأمريكي من الشرق (في باكستان وأفغانستان) ومن الشمال

(تركيا) ومن سواحلها الغربية (مياه الخليج) والجنوبية (بحر العرب والمحيط

الهندي) والآن من العراق على حدودها البرية الغربية، أما سورية ولبنان فإن

الوجود العسكري الأمريكي والصهيوني يحاصرهما من الشمال (تركيا) ومن

الغرب (البحر المتوسط) ومن الجنوب (إسرائيل) والآن اكتملت الحلقة من

الشرق (العراق) . وهذا الحصار لكلتا الدولتين له أبعاده المهمة، فإيران ترقد على

٩٠ مليار برميل من النفط يمثل ٨.٥% من الاحتياطي العالمي (خامس أكبر

احتياطي في العالم) ، كما أنها الدولة التي تفصل بين المنطقة العربية ومنطقة آسيا

الوسطى، أي إنها تمثل الحلقة الناقصة أمريكياً في استكمال الهيمنة على (قوس

النفط الكبير) ، أما سورية ولبنان فإنهما يمثلان الحلقة الناقصة ولو رسميّاً في تأمين

المجال الحيوي لـ (إسرائيل) إضافة إلى أنهما يعدان قلب النجمة الثلاثية للحلف

الأمريكي المرتقب (تركيا - إسرائيل - العراق) ، مما يرشح تلك الدول ليكون

الدور عليها في الاستهداف الأمريكي ومحاولة إخضاعها بكل السبل.

ومن الأبعاد الإقليمية أيضاً: بروز فرصة تاريخية نادرة لإنهاء القضية

الفلسطينية وانتهاز الأوضاع الإقليمية الراهنة وأهمها: الهزيمة النفسية والشعور

بالعجز في الوعي الجمعي للعرب والفلسطينيين خاصة لتركيع العرب والمسلمين

بعد إقامة (نظام شرق أوسطي جديد) يقبل الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة،

ويمكن القول: إن هناك ثلاث مخاطر رئيسية تهدد القضية الفلسطينية يمكن لليهود

التجاسر على ولوجها مجتمعة أو متفرقة:

الخطر الأول: إنجاز مشروع إقامة الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى

بأي صورة وأي صيغة، وكان قائد لواء القدس المحتلة في شرطة الاحتلال

الإسرائيلي اللواء ميكي ليفي صرح قبل الحرب بأنه سيكون بإمكان اليهود تأدية

الصلاة في جبل الهيكل (المسجد الأقصى) بعد الحرب في العراق.

الخطر الثاني: القيام بعمليات ترحيل قسري (ترانسفير) للفلسطينيين لتفريغ

فلسطين من أهلها وإعادة تشكيل التوازن الديموغرافي في البلا؛ وخاصة بعد ضعف

أو توقف الهجرة اليهودية إليها؛ وفي هذا الصدد فإن العراق مرشح بقوة لاستقبال

أعداد كثيرة من هؤلاء المرحلين بدعوى المساعدة على إعادة إعمار العراق، وفي

الوقت ذاته سيعملون على إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين في الخارج بإلغاء حق

عودتهم إلى فلسطين.

الخطر الثالث: افتعال أزمة مع إحدى دول الجوار ومحاولة التوسع باحتلال

أراضي الغير.

وفي إطار هذه المخاطر يأتي العمل على إعادة (شحن) ودفع تيار الداعين

للتطبيع مع (إسرائيل) من المثقفين والسياسيين بدعوى الواقعية والاعتراف

بمحدودية إمكانات الأمة وقدراتها، وعلى رأس ذلك يجيء تعيين أبو مازن تحديداً

رئيساً للوزراء بضغوط أمريكية وإسرائيلية وأوروبية وعربية وهو المعروف

بعلاقاته الخاصة مع الأمريكان والإسرائيليين وبمعارضته لعسكرة الانتفاضة

وجهوده الحثيثة للتوصل إلى سلام دائم مع (إسرائيل) ليشير إلى أن حركات

المقاومة في الداخل ستشهد مطاردة وضغطاً عنيفاً لتهيئة الساحة لقبول التنازلات

والأحداث المأساوية المتوقعة في ظل هذه المخاطر، وليشير أيضاً إلى اتجاه

التطورات والتنازلات المتوقعة في إطار ما يسمى بخريطة الطريق الأمريكية، وقد

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون صراحة: إن هناك فرصة للتوصل

إلى اتفاق مع الفلسطينيين «بشكل أسرع» بعد الحرب على العراق، مشيراً إلى

أن تلك الحرب سببت «هزة في الشرق الأوسط» .

ويدل على الشره الصهيوني للتوسع والهيمنة والعمل على فرض واقع جديد

في المنطقة بعد احتلال العراق بقوات أمريكية: ما جاء في الأنباء من أن الحكم

الأمريكي المرتقب في العراق سيتخذ قراراً بالاعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة

تمثيل دبلوماسي بين «تل أبيب» وبغداد، وأن شركات الكيان الصهيوني

ستشارك في عمليات إعادة الإعمار، مما يعني التطبيع بكل ما يحمله من معان

ومخاطر، وكانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية كشفت أن أحمد

الجلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي الذي تضعه قوات الاحتلال الأمريكية على

رأس مرشحيها لحكم العراق، زار الكيان الصهيوني سراً مؤخراً، والتقى

شخصيات صهيونية رسمية وغير رسمية، وبحث معهم إقامة علاقات دبلوماسية

بين العراق والكيان الصهيوني، كما أن هناك أنباء عن إعادة تشغيل أنبوب النفط

بين الموصل وحيفا عبر الأردن الذي كان متوقفاً منذ إقامة الكيان الصهيوني عام

١٩٤٨م، وقد أعلن وزير البنى التحتية «يوسف باريتسكي» أن تشغيل هذا

الأنبوب قد يخفض أسعار الوقود في (إسرائيل) بنحو ٢٥%، إضافة إلى توفيره

فرص عمل لآلاف العاطلين عن العمل، إلى جانب مد خزانة الدولة بمداخيل

إضافية، مؤكداً حصوله على معطيات تفيد بأن الحرب الأمريكية البريطانية في

العراق ستؤثر بشكل حاسم على مجال الطاقة في (إسرائيل) .

ومما له دلالة في هذا الخصوص: ما أعلنته القناة العاشرة في التلفزيون

الإسرائيلي أن ما يتراوح بين ١٥٠٠ و٢٠٠٠ جندي يدينون باليهودية كانوا بين

العسكريين الأمريكيين الذين قصفوا المدن العراقية، وأن بعضهم احتفل بعيد الفصح

اليهودي (يوم ١٥ إبريل) في القصر الجمهوري في بغداد.. وما أعلن من أن

عدداً من الحاخامات اليهود في (إسرائيل) قد نشروا مؤخراً فتوى دينية تنص على

أن العراق هو جزء من أرض إسرائيل الكبرى، وطلبت هذه الفتوى من الجنود

اليهود في القوات الأمريكية والبريطانية التي تقاتل في العراق أن يؤدوا الصلاة

الخاصة عندما يقيمون كل خيمة أو بناء في أرض غربي نهر الفرات.

وعموماً فإن المنطقة بكاملها ستكون مقبلة على تحولات كبرى ستكون منعطفاً

تاريخيّاً في مسيرة الأمة.. ولكن هل بالفعل ستسير الأمور كما هو مخطط

ومرغوب؟ وهل سيستقر الوضع للأمريكان في المنطقة ليحققوا أهدافهم؟ أم أن

الرياح قد تأتي بما لا يشتهيه القراصنة؟

إن الناظر إلى المعطيات السابقة وإلى اتجاهات المستقبل يرى أن الوضع

شديد التعقيد والتشابك؛ حيث تتداخل الأوضاع الداخلية العراقية مع الأوضاع

الإقليمية مع الأوضاع الدولية. فالمقاومة الشرسة التي أبداها العراقيون في أم قصر

والبصرة والناصرية ومناطق أخرى لا يستبعد تكرارها بشكل أو بآخر بعد الإفاقة

من صدمة سقوط بغداد بهذه الصورة غير المتوقعة، ولا يعرف أحد كيف سيكون

رد الشعب العراقي على الاحتلال الأجنبي وفرض حكومة عميلة، كما لا يستطيع

أحد تقدير حجم التفاعل العربي والإسلامي مع الداخل العراقي ولا كيفيته، فهناك

تيارات جهادية وقومية ووطنية محضة بل هناك قطاعات لا تنتمي إلى شريحة

فكرية أو عقائدية من المتوقع أن تسعى إلى مقاومة المحتلين الغزاة بما يجعل العراق

بعيداً عن الاستقرار، وإذا انخرطت شريحة واسعة من الشعب العراقي في حركة

المقاومة، فإن هذا يمكن أن يؤثر على نشاطات (إعادة بناء العراق) ويشكل

مصدر تهديد لمصالح أمريكا وتعويق لمخططاتها.

كما أن القوى والرموز التي تعول عليها أمريكا في تحقيق استقرار في العراق

إما أنها ليس لها قبول شعبي في الداخل كالمؤتمر الوطني العراقي وأحمد الجلبي

(صاحب سوابق ومحكوم عليه قضائياً بالسجن ٢٢ عاماً والغرامة في قضايا اختلاس

وإساءة الأمانة والاحتيال) ، أو بينها تنافس وتناحر لم يخمد إلا بالضغط الأمريكي

كالحزبين الكرديين في الشمال، أو بينها وبين فصائل المعارضة الأخرى، وإما أن

لها منافساً أقوى منها كالرموز الشيعية العلمانية أو المعلمنة في الجنوب.

وإيران تعرف المخاطر التي تحيق بها، إضافة إلى أنها قد ترى في تطور

الأحداث فرصة لإنجاز خطوة نحو تحقيق حلمها باتصال الهلال الشيعي الكبير

الممتد من إيران عبر العراق والخليج حتى لبنان، وليس بمستبعد أن تسعى

لزعزعة الأوضاع في العراق وتحقيق مكاسب لها على أرضه، وهي لا تعوزها

القدرة على القيام بذلك، فهي تملك نفوذاً قوياً داخل فصائل المعارضة والقاعدة

الشيعية في الجنوب، وتملك اتصالاً جغرافياً ومذهبياً بينها وبين جنوب العراق.

وبالتأكيد فإن أمريكا وبريطانيا يعيان هذه المطامع ويعيان أيضاً حجم هذا

النفوذ، وإذا كانت إيران مكنت لأمريكا في السابق وباعت دماء المسلمين من أهل

السنة في أفغانستان بل وفي العراق، فإن هذا لن يشفع لها لتتساهل أمريكا معها في

مطامعها ومخاطرها في المنطقة، فالمتوقع أن يؤدي تضارب المصالح والمطامع

بينهما في النهاية إلى التصادم والمواجهة، ولكن قد يختلف أسلوب المواجهة وأدواته

خاصة أن أمريكا لم تستنفد جهودها بعدُ في محاولة تغيير النظام الإيراني من الداخل.

أما المواجهة داخل العراق فالمتوقع أن تعمل أمريكا مع معلمتها الاستعمارية

(بريطانيا) على اتباع أسلوب (فرق تسد) ومن غير المستبعد في هذا الإطار إثارة

التنافس بقوة على المرجعية الشيعية العالمية بين قم والنجف، واستعمال بعض

المرجعيات الدينية بوعي منهم أو بغير وعي في ذلك.

وهناك أيضاً تركيا التي لها الأقلية التركمانية في شمال العراق وتريد أن يكون

لها نصيب من الكعكة العراقية، كما أنها لن ترضى باقتراب الأكراد من تحقيق

أحلامهم في الشمال قرب حدودها، ولا بد أنه سيكون لها دور في الداخل العراقي

أيضاً.

وإزاء هذه المعطيات فإنه ليس أمام أمريكا إلا تطبيق نموذج كرزاي أفغانستان

معدل في العراق، حيث ستفرض إدارة موالية لها بأسلوب ديمقراطي صوري،

ولأنه يصعب أن يكون له قبول شعبي فلا مناص من تثبيت هذا الحكم بأسلوب

صدام حسين وحزب البعث وحراسته بالقوة العسكرية.

وإذا أخذنا في الاعتبار هذه الأبعاد الداخلية والإقليمية، إضافة إلى تضارب

المصالح والتنافس بين القوى الدولية المشار إليه سابقاً فإن هذه الأوضاع كلها تنبئ

بأن منطقة (الشرق الأوسط الكبير) الممتدة من آسيا الوسطى وبحر قزوين حتى

بحر العرب جنوباً، والأناضول والبحر المتوسط غرباً، والصين شرقاً، والاتحاد

الروسي شمالاً وفي قلبها العراق سترتدي طابعاً دولياً في شكل مباشر، وستكون

مجالاً للمنافسة أو لنزاع دولي شديد التعقيد، ولا يستبعد في مثل هذه الحالة نشوء

نوع من الحرب الباردة بين أمريكا ومنافسيها الرئيسيين في العالم وخاصة كتلة

أصحاب المصالح من المعارضة الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا وروسيا وألمانيا

بسبب ذلك، مع توقع وجود حالة من عدم الاستقرار والاضطراب في المنطقة.

وفي النهاية فإنه يحق لأي مراقب ومحلل أن يتساءل: بعد أن ابتلعت أمريكا

العراق: هل تستطيع هضمه؟ .. هذا ما ستوضحه الأيام القادمة..


(*) المستشار العسكري والاستراتيجي، لقناة المجد الفضائية حالياً.