للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:

من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!

(١ ـ ٣)

د. فريد الأنصاري [*]

هل بقي شك في أن (العولمة) بوجهها الكالح قد اكتسحت فعلاً؟ وهل بقي

شك في أنه قد تم احتلال الإنسان قبل احتلال الأوطان؟ ثم من ذا يتردد بعدُ في

ملاحظة التحولات العالمية؟ أليست الأرض تدور اليوم على غير طريقتها المعتادة؟

ألا تدخل الأمة الآن منعطفاً جديداً من تاريخ علاقاتها مع نفسها، ومع الآخر؟

ألم تكشف الصهيونية - بوجهها الأمريكي - القناع عن غطرستها؛ استخفافاً

بالعرب والمسلمين؛ في أجرأ حركة من تاريخها تجاه الأمة الإسلامية؛ استعداداً

لشيء ما؟

لقد تقارب الزمان اليوم لينكشف عن شيء، والعالم يتهيأ له بدول تتوحد

وتتكتل، وأخرى تتمزق وتتفرق، وبرموز تقوم وأخرى تنهار! فانطلاقاً من سقوط

الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين بدلالاته السيميائية العميقة، حتى أحداث

١١/٩/٢٠٠١م بأمريكا؛ كانت موجة أخرى من تاريخ التدافع الحضاري تتجمع؛

لتنطلق بأول عملية احتلال عسكري في القرن الحادي والعشرين الميلادي، وتدخل

أمريكا العالم الإسلامي غازية بلا قناع سياسي! تدخل بخلفيتها الشمولية المتطرفة،

الجامعة بين المطامع الاقتصادية والأيديولوجيات العقدية من (المسيحية الصهيونية)

فتكون العراق أول قنطرة للعبور إلى غزو جديد للأمة الإسلامية، بتجليات متعددة،

قد تختلف مظاهرها من قُطر إلى قُطر ولكن مآلها واحد: هو الهيمنة العولمية

الحديدية على العالم الإسلامي، وها هنا: تعددت الأشكال والموت واحد!

إن الغزو الأمريكي للعالم الإسلامي في صورته الجديدة الحاصلة اليوم؛ لهو

صفعة قوية في وجه الأمة! ليس - فقط - من حيث هي أنظمة خانعة، أو متخاذلة،

أو متواطئة؛ ولكن أيضاً من حيث هي مشاريع نهضوية فكرية، وقومية،

ووطنية، بل حتى إسلامية أيضاً! ولِمَ لا؟ وسترى ذلك بدليله بعدُ خلال هذه

الورقات بحول الله.

لقد انتهى زمن وكالة الأنظمة العربية؛ فالآن أمريكا هي التي تَعتقِل، وهي

التي تحاكِم، وهي التي تصادِر، وتلقي القبض على من تشاء كما تشاء! فأيما

خطيب، أو مفكر، أو داعية أو ربما حتى عابر أزعجها بكلمة؛ أصدرت أمرها

باعتقاله، ولم تعد تبالي ولا حتى بحرج النظام العربي الذي يعيش ذلك المطلوب في

حوزته وتحت سلطانه! وتلقي القبض عليه هي بنفسها هنا أو هناك في أي مكان

من خريطة العالم الإسلامي!

ثم بعد هذا وذاك: من الذي يستطيع نقض مقولة اليقين: إن المسلمين اليوم

يعتصمون بآخر القلاع الحضارية لوجودهم؟

وينتصب السؤال المرير: أين الحركات الإسلامية في العالم العربي

والإسلامي؟ أين أكثر من قرن من الزمان مضى في بناء التنظيمات والجماعات؟

أين الخطط والبرامج والاستعدادات؟ ألم يئن الأوان بعد للمراجعة والمساءلة

لحركات الدعوة الإسلامية هنا وهناك؟

إلى متى ونحن متشبثون بخطط خرقها الغرب واخترقها أكثر من مرة؟ ثم

أتت عولمة النظام العالمي الجديد على آخر ما بقي منها! فلم يعد لها غير عجيج

المظاهرات، وصراخ المهاترات؟!

إلى متى ونحن متشبثون بوهم (إننا قادمون!) والواقع يشهد أننا

(متراجعون) ؟ تماماً كما تشبث نظام العراق المخلوع بوهم (خططٍ للسحق

والتقطيع) ؛ لم تلبث أن دكتها الدبابة الأمريكية، ولَمَّا تنقطع أصداء كلماتها

الرنانة في الفضائيات!

أين الحركات الإسلامية من الإسلام؟ وإلى أي حد هي فعلاً (تجتهد) بالمعنى

الحقيقي للكلمة من داخل بنية النص الشرعي، ومنظومته الاستدلالية؛ للتمكين لهذا

الدين؟ أين هي الاستراتيجيات الدعوية، والجهادية؟ وأين موازين نقدها

وتمحيصها؟

أليس قد آن الأوان فعلاً؛ لتجديد النظر في الأساليب التربوية، والمنهجيات

الدعوية في زمن لم تعد فيها ظلال الأنظمة كما كانت، ولا مظاهر العدوان كما

كانت، وصار العدوُّ - عن كثب - يراقب برامج التعليم، وخطب المساجد،

والعلاقات الأسرية، ويحصي دور القرآن، والمعاهد الدينية، ونسبة الولادات؟

أليس قد آن الأوان لبعثة جديدة تجدد أول ما تجدد هذه (الحركات الإسلامية)

نفسها! والتي تقادم لديها مفهوم (التجديد) فلم تعد قادرة على إعطاء ما لا تملك؟

إلى متى ونحن صامتون ومترددون في وضع الإصبع على مواطن آلامنا وأدوائنا

وقد امتدت يد الأمريكي إليها قبل يدنا؛ لتعالجها ولكن مع الأسف بدوائه لا بدوائنا،

وبطريقته لا بطريقتنا؟!

من هنا إذن؛ كانت هذه الكلمات التي إن أوردتُ فيها شيئاً عن نقد (الحركة

الإسلامية) ؛ فإنما هو محاولة للفت النظر إلى أن الوقت الذي نعيشه اليوم قد

تضايق وتقارب؛ حتى لم يبق منه - لفوات الواجب - إلا وقت الضرورة! فمن ذا

يحاول منا أن ينتقل من الشكل إلى الجوهر في (بعثة التجديد المقبلة) ؟ ومَنْ ذا

يبادر لتسجيل خطوة الانتقال التاريخي الكبير مع منعطف العولمة المظلم؛ من

(الحركة الإسلامية) إلى (حركة الإسلام) ؟

تلك أسئلة نحاول مقاربتها في هذه الورقات؛ عسى أن يقيض الله لها من

يُخرِج من تبنها حباً نافعاً! وإنما الموفق من وفقه الله.

* في بعثة التجديد: دراسة في المفهوم:

يرد مفهوم (البعث) في القرآن والسنة بمعنيين اثنين:

الأول: هو بمعنى إحياء الموات، كما في قوله عز وجل: [فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ

عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه] (البقرة: ٢٥٩) ، وقوله سبحانه: [وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ

يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (النحل:

٣٨) ، وقوله أيضاً: [وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ] (الحج: ٧) إلخ.

فالبعث هنا فعلٌ قدريٌّ تكوينيٌّ يرجع إلى إرادة الله جل وعلا بإحياء الميت،

وتجديد الحياة فيه؛ ليخرج من عالم الفناء إلى عالم البقاء، أو من دائرة العدم إلى

دائرة الوجود.

ولا يكون البعث - بهذا المعنى - إلا بعد حياة سابقة يعقبها موت؛ لما لمعنى

(البعث) من دلالة على إعادة الحياة إلى من فقدها، وليس بمعنى نفخ الحياة ابتداءً،

فهذا إنما هو (خَلْق) . وأما البعث فهو: (إعادة خَلْق) ، كما هو مفهوم من

النصوص السابقة، وفي قول الله أيضاً في حق عيسى - عليه السلام -: [وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا] (مريم: ١٥) .

وأما المعنى الثاني لمفهوم (البعث) : فيرجع إلى معنى (الإرسال) ، وهو:

تكليف الرسل بوظيفة البلاغ، كما في قوله تعالى: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى

حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا] (القصص: ٥٩) ، وقوله سبحانه:

[وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] (الإسراء: ١٥) ، وقوله جل وعلا: [ثُمَّ

بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه] (الأعراف: ١٠٣) . ونحو هذا

وذاك في القرآن كثير.

فالبعث هنا يرجع إلى معنى تكليفي، وأمر تشريعي تعبدي، بينما هو في

الأول راجع إلى أمر قَدَرِي تكويني. إلا أن هذا المعنى الثاني يستصحب المعنى

الأول من الناحية السيميائية، فلا يمكن تجريد اللفظ من إيحاءاته ببعثة الرسل،

فكأنما ورود المبعوث على الأمة الضالة نوع من الغيث يحيي منها الموات، ويبعث

فيها الحياة! ومن هنا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبعث

لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها» [١] ؛ تعبيراً جامعاً لكل تلك

المعاني، فهو دالٌّ بالأصالة على تجديد البعثة بالمعنى الإرسالي أعني إرسال العلماء

لا الأنبياء وليس هو ابتداء وحي، وإنما هو تعليم وحي إعادةً وتجديداً. وهو دالٌّ

بالتبع على معنى الإحياء، فبعْثُ المجددين إنما هو إحياء للأمة، ونفخٌ لروح

القرآن فيها من جديد، حتى تعود إليها الحياة، وتنخرط من جديد في صناعة

التاريخ! ومن هنا كان «العلماء ورثة الأنبياء» [٢]- كما صح في الحديث -.

هذا المعنى العظيم تؤكده بصائر القرآن العظيم، وبشائر السنة النبوية.

ولا تكون البعثة بناءً على ذلك إلا عملية جذرية شاملة وعامة، سواء رجعت

في البدء إلى شخص واحد، أو إلى عدة أشخاص، على الخلاف في تأويل معنى

لفظ (مَن) الوارد في الحديث: «من يجدد لها دينها» ؛ أهو دال على المفرد أم

على الجمع؟ قلت: هو في جميع الأحوال آيل إلى الجمع، حتى لو حملناه على

المفرد؛ أعني حتى لو كان المنطلق التجديدي فرداً. ألا ترى أن أصل البعثة

النبوية في هذه الأمة إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً واحداً خاتماً،

ولكن مظاهر بعثته صلى الله عليه وسلم تجذرت في جيل كامل من الصحابة

- رضي الله عنهم -؛ تلك هي الموجة الأولى من البعثة الأولى، حملت دفعة

الوحي قوية تحيي الموات.

ثم كانت بعد ذلك موجات متفرعة عنها، هي منها وإليها، وهي بعثات

التجديد التي حصلت في التاريخ؛ إذ شهد جيل التابعين، الكبار والصغار، ومن

عاصرهم من أتباعهم أول عملية للتجديد في أواخر المائة الأولى وبداية الثانية، من

أمثال: سعيد بن جبير (ت: ٩٥هـ) ، والحسن البصري (ت: ١١٠هـ) ...

إلخ. وغيرهما كثير ممن كانوا جيل التجديد الأول بعد جيل الصحابة، حيث نشروا

العلم، وربوا الأمة، وبنوا أصول مدارس العلم واتجاهاتها، قبل تبلورها على أيدي

جيل فقهاء الأمصار الكبار الذين مثلوا بعثة التجديد للمرحلة الثانية، ولدورة جديدة

من دورات التاريخ؛ من أمثال أبي حنيفة النعمان (ت: ١٥٠هـ) ،

وعبد الرحمن الأوزاعي (ت: ١٥٧هـ) ، والليث بن سعد (ت: ١٧٥هـ) ،

ومالك بن أنس (ت: ١٧٩هـ) ، وعبد الله بن المبارك (ت: ١٧٩هـ) ،

ومحمد بن إدريس الشافعي (ت: ٢٠٤هـ) ، وغيرهم.

وهكذا عرف جيل القرن، عند النصف الثاني من كل قرن حتى نهايته، أو

عند النصف الأول من القرن حتى أواسطه؛ حركة تجديد البعثة أو بعثة التجديد من

جوانب متعددة؛ منها ما يتعلق بالدين أصالة، ومنها ما يتعلق به تبعاً. فقد شهدت

بداية القرن الثامن مثلاً بعثة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية (ت: ٧٢٨هـ) ،

ومدرسته التجديدية من تلامذته المشهورين كابن القيم وغيره، كما شهدت نهاية

القرن بعثة أبي إسحاق الشاطبي (٧٩٠هـ) بالأندلس من الغرب الإسلامي، ومعه

جيل من المجددين المعاصرين له في ميادين شتى، كعبد الرحمن بن خلدون

الإشبيلي (ت: ٨٠٨هـ) في تجديد علم التاريخ وفقه العمران البشري مثلاً ...

إلخ.

إن القول بفردية المجدد، وحصر بعثة التجديد فيه؛ إنما هو نوع من التحكم،

أو التعصب المذهبي ليس إلا! وكذلك التفسير الحرفي لـ (رأس المائة) من كل

قرن بسنة محددة عيناً هو أيضاً سوء فهم؛ لأن حركة التاريخ لا تكون وليدة سنة أو

سنتين، بل هي نتاج عمر كامل! وإنما قد تبرز ثمارها بشكل واضح مع مطلع هذه

السنة بالتحديد، أو تلك. نعم قد يكون البدء فرداً ثم تنتشر الظاهرة وتمتد البعثة.

ثم إن فهم زمان البعثة المجددة على أنه رأس القرن بالمعنى الحرفي؛ مناقض

لسنة الله في الكون والمجتمع، فإنما يكون نضج الإنسان ونشاطه التجديدي على

امتداد جيل؛ أي على نحو ثلاثين أو أربعين سنة، وليس مختزلاً في سنة واحدة!

وإنما يُفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوزان، فبعثة التجديد

من قوله صلى الله عليه وسلم «على رأس كل مائة سنة» ؛ قد تنطلق قبل تمام

القرن بسنة، أو سنتين، أو ثلاث، وقد تتأخر عن ذلك المقدار نفسه، مع مراعاة

سائر الاحتمالات الممكنة في تحديد بداية العد؛ مما سنذكره بعد قليل، ما دام

المقصود أن الجيل المجدد للقرن الذي قد يولد في أواخر القرن الماضي أو نهايته،

أو في بداية القرن الجديد هو حامل رسالة التجديد، وهو موضوع البعثة الحامل

لرسالتها.

ثم بعد هذا وذاك؛ كيف بدء العد لتمام المائة سنة عدداً؟ ما هو (رأس القرن)

الذي عليه مدار ظهور حركة التجديد؟ هل هو بدء انطلاق حركة المجدد السابق؟

أو هو نهايته ووفاته؟ أو هو مضي مائة سنة على لحظة الانتكاس والانهيار الذي

يتطلب التجديد؟ تلك أسئلة كلها واردة ومحتملة، وأغلب العلماء إنما عدُّوا قديماً

(مائة التجديد) بالعد الهجري، وليس من تاريخ بدء البعثة النبوية؛ أي من يوم

نزول [اقْرأْ] (العلق: ١) ، وهو إمكان محتمل أيضاً، ولا من سنة وفاة النبي

صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً ممكن محتمل أيضاً، حيث يبدأ النسيج الاجتماعي

الديني في البلى شيئاً فشيئاً، حتى يبعث جيل التجديد عند نهاية القرن من ذلك

التاريخ. وإنما كان العد كما ذكرت من عام هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو

راجح أيضاً؛ لأنه مثَّل صُلب عهد البعثة النبوية، ومنعطف التاريخ لبدء التمكين

للدعوة الإسلامية الأولى؛ ديناً ودولة في الأرض!

وإذا نظرنا إلى بعثة التجديد في جيل القرن الماضي؛ أي القرن الرابع عشر

الهجري فقد شهدت بدايته إلى أواسطه حركة شاملة، ونهضة عامة، مع ظهور

جيل الأستاذ حسن البنا، حتى سيد قطب في مصر، والأستاذ أبي الأعلى المودودي

في الباكستان، وبديع الزمان النورسي في تركيا ... إلخ، مع تلامذتهم جميعاً،

كلهم مثَّل بعثة التجديد لجيل كامل من العلماء المنتصبين للدعوة.

وبالعدِّ الميلادي كان ذلك هو أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،

وهي فترة شهدت أحداثاً مهمة جداً بالنسبة إلى العالم الإسلامي، فقد كانت عهد

اكتساح (الاستعمار) الأوروبي، وإسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية، وتوزيع

تركة الرجل المريض، ثم إنشاء الكيان الصهيوني بفلسطين! كل ذلك كان مرحلة

من سُنّة الله في التاريخ؛ لإنضاج حركة البعثة الجديدة التي قاومت ظلمات الاحتلال

الأوروبي، ثم امتدت بعده لتصفية آثاره على المستويات الفكرية والعقدية

والاقتصادية والسياسية ... إلخ.

وأحسب أن الزمان في عصرنا قد دار دورة أخرى! وأن بعثة جيل

(الاستعمار) الأول قد استنفدت أغراضها من حيث تأثيرها التجديدي، كما أن

التحديات قد اختلفت وتغيرت وتعقدت، كما أن طبيعة المعركة صار لها أبعاد أخرى.

ويمكن أن نعتبر تاريخ سقوط الخلافة الإسلامية (١٣٤٤هـ /١٩٢٤م) ،

وانطلاق حركة الشيخ حسن البنا - رحمه الله - حوالي ١٩٢٨م، وما صاحب ذلك

من حركات، واجتهادات من السوابق واللواحق والقرائن، كل ذلك كان مؤشراً على

أن البعثة التجديدية كانت في عهد موجتها القوية، فيمكن البناء عليه في عد المائة

التجديدية لما نحن فيه اليوم.

ونحن الآن في السنة الرابعة والعشرين بعد الأربعمائة من الألف الثاني

للهجرة؛ أي (١٤٢٤هـ / ٢٠٠٣م) . وأقول لا عبرة بسنة أو سنتين أو ثلاث..

إلى عشر سنين في عد حركة التاريخ. وإنما العبرة برأس التحول الذي قد يبدأ

بنهاية القرن أو ببدايته.

نحن اليوم إذن على أبواب تحولات جديدة، هي في تاريخ العالم قد بدأت

بالفعل؛ إذ يمكن اعتبار سقوط الاتحاد السوفياتي، والهيمنة الأمريكية الصهيوينة

على العالم أحد مؤشراتها، كما لا يمكن في هذا الصدد إغفال الاتجاه الوحدوي

الأوروبي، والتقاربات الوثنية الصهيونية، وكذا الانهيار العربي الفظيع ومقولاته

السياسية والقومية، والإبادات الجماعية لشعوب العالم الإسلامي في كل مكان! ثم

عجز الحركات الإسلامية في العالم غالباً عن مواكبة التحولات العالمية الجديدة،

وإصرارها على المنهج التقليدي في النقد والاحتجاج، هذا المنهج الذي ورثت أغلب

تقنياته التنظيمية والحركية عن الأحزاب السياسية العلمانية البائدة التي نشأت في

ظل (الاستعمار) وبُعيده، ولم يبق لها اليوم في واقع الناس إلا ظلال باهتة، هي

أشبه ما تكون بأطلال الماضي! لم تستطع الحركات الإسلامية في الغالب أن تخرج

من جبة الحزب السياسي، ونموذجه النضالي الدخيل! وإن ادعت أنها تفارقه

وترفضه فإنما هي صورة تقليدية له؛ إما بصورة اجتماعية، أو - في بعض

الأحيان - بصورة حرفية!

تعلقت الحركات الإسلامية بعقدة الأنظمة الحاكمة، ومشكلة الديمقراطية في

العالم الإسلامي، وضخمتها إلى درجة التقديس العَقَدِي! كما تعلقت بقضية النُّظُم

السياسية، والاقتصادية، والإعلامية ... إلخ، ورفعت راية المقاومة المسلحة

الداخلية والخارجية في بعض المواطن! وقد يكون هذا مناسباً في ظروف سابقة،

أما الآن فأحسب أن التاريخ الجديد بمعطياته الحاضرة، وبملامحه المستقبلية؛ قد

تجاوز هذه المشكلات جميعاً! فلم تعد الأنظمة الحاكمة تملك شيئاً على الحقيقة،

وباشر الاستعمار العالمي اليوم، في الصورة الأمريكية - الصهيونية، قمع الشعوب

بنفسه، وبدون أي وكالة من هذا النظام أو ذاك!

ثم امتدت الآلة الإعلامية والثقافية والاقتصادية؛ لتستعمر الإنسان المسلم في

أخص خصائصه الوجدانية والعقدية والاستهلاكية؛ ليعيش على النمط الأمريكي،

أو يسعى إلى ذلك. هذا هو اليوم - مع الأسف - شأن كثير من البلاد الإسلامية!

والكتلة (الأمريكية - الصهيونية) منهمكة في حرب شاملة؛ لتذويب الباقي

والشارد من الشعوب الإسلامية؛ في هالوك العولمة، أو (حركة تهويد العالم) !

هذه أشياء نشاهدها اليوم على مرأى ومسمع من العالم، وذلك ما حذَّرنا منه قبل

أزيد من سنتين في كُتيبنا (الفجور السياسي) ؛ فرد علينا بعضهم بنوع من

السخرية، ورد آخرون بتقليل أهمية الخَطر، وقلة من الدعاة هم الذين رأوا ما

رأينا.

لقد تمكن الاستعمار القديم من الأوطان، فقامت عليه بعثة تجديد مجاهدة،

مناسبة لفجوره وبجوره! فحاربت وجوده العسكري والأيديولوجي بعد ذلك بشتى

الوسائل؛ بيد أن الاستعمار الجديد تمكن من الإنسان قبل أن يتمكن من الأوطان!

فاقتحم جسور البلاد بالشهوات قبل أن يقتحمها بالمدرعات والدبابات! ففقدت

الشعوب الإسلامية قوتها على الصمود أمام الإغراء العولمي، وفقدت نمط عيشها

وطرائق استهلاكها، واحتوتها الفلسفة الأمريكية الشيطانية احتواء كلياً إلا قليلاً!

نعم إنهم معارضون لأمريكا، لكن بمعنى أنهم يكرهون ظلمها فقط، لا بمعنى

الكفر بوثنيتها وتألهها (الديمقراطي) ، ورفض منهج حياتها، وطبيعة عيشها.

ومن هنا يكاد يكون كان نقدهم لها عمليةً تقويمية جزئية من داخل بنيتها، ومن

خلال نمطها، لا من خلال منظومة القرآن العظيم، ولا من خلال مقومات

الشخصية الإسلامية المستقلة الأصيلة!

ومن هنا؛ فإن بعثة التجديد المقبلة مدعوة إلى تحرير الإنسان قبل تحرير

السلطان! وإلى تحرير الوجدان قبل تحرير الأوطان! ولقد رأينا كيف أن أحزاب

المقاومة غير الإسلامية للاستعمار القديم في كثير من البلاد العربية والإسلامية؛ لما

تخلصت من هيمنته العسكرية والإدارية المباشرة؛ خلفته في شعوبها بكل ألوان

الكفر والفسوق والعصيان، وإعلان التمرد على شريعة الرحمن! وليس معنى هذا

أنه يجب علينا أن نهادن الاستعمار الجديد، كلا! بل يجب إعلان الجهاد الشامل

ضده! ولكن على أن يؤسس ذلك كله على البناء العقدي والجهاد التربوي.

إننا في حاجة إلى تنزيل معاني القرآن من جديد، ليس وحياً من السماء؛

فمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قد ختم بعثة الرسل. وإنما المقصود: هو

قدحٌ لحركة التداول الاجتماعي للقرآن! وذلك بأن يتحرك أهل البعثة الجديدة بآياته

وحقائقه في المجتمع؛ تبصراً وتبصيراً، وتدبراً وتدبيراً. لقد كان الرسول الخاتم

صلى الله عليه وسلم في اللحظات الأولى من نزول القرآن عليه؛ في حاجة إلى

الثقة بنفسه أولاً، وهذه قضية مهمة سنحتاج إليها قريباً، ألم تر أنه خوطب كما في

الحديث المتفق عليه بقوله تعالى: [اقْرأْ] (العلق: ١) ! فكان جوابه مكرراً

بتكرار الأمر: «ما أنا بقارئ» ، حتى قال في سياق قصة هذا الحديث نفسه

لزوجه أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها -: «أي خديجة! ما لي؟ لقد

خشيت على نفسي!» ، فجعلت تواسيه وتطمئنه حتى ذهب عنه الروع، ثم ذهبت

به إلى ورقة بن نوفل، وكان عليماً بالإنجيل، يستفسرانه عن حاله وطبيعة ما يراه

عليه الصلاة والسلام؟ [٣] وقد ورد في الصحيحين أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم

قال: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك

الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، [وفي

رواية أخرى للشيخين أيضاً: فجُئثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض!] ، فرجعت

فقلت: زَمِّلوني زمِّلوني، فأنزل الله تعالى: [يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ] (المدثر:

١-٢) إلى قوله: [وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] (المدثر: ٥) فحمي الوحي وتتابع»

[٤] . وشيئاً فشيئاً بدأ الإيمان يترسخ في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم،

الإيمان بنفسه نبياً ورسولاً من رب العالمين، حتى استيقن أنه أحد المرسلين، بل

هو خاتم المرسلين والنبيئين.

ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم هو أول مؤمن في الإسلام، قال الله عز

وجل في محكم القرآن: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون]

(البقرة: ٢٨٥) ، فهو أول مؤمن به قبل أن يدعو إليه أحداً من العالمين؛ حتى

أقرب الناس إليه. آمن هو أولاً! وهذا أمر بديهي، لكنه قضية منهجية تحتل أهمية

كبرى في فقه الدعوة الإسلامية.

فهل آمنت الحركات الإسلامية برسالتها ووثقت بنفسها؟ أو أنها على شك من

أمرها مريب؟ إلى أي حد هي واعية؛ بل مؤمنة بوظيفتها الربانية؟ أو أنها تشتغل

بمجرد (وعي المشاركة) في تطوير بنية مجتمع حديث؟ مجتمع هيكله الاستعمار

الجديد وفق نظام حياة دخيل، ونمط عيش مستورد، فكان بذلك يخضع في

خصائصه التنظيمية لنمط غير إسلامي! وما المجتمع إن لم يكن نسيجاً من العلاقات،

ونسقاً من المؤسسات؟ ماذا يمكن أن تعطي قراءة للحداثة من خلال بنيتها غير

الحداثة نفسها؟

فإذن؛ البعثة بمعناها التجديدي إنما هي (حركة الإسلام) أكثر مما هي

(حركة إسلامية) ، إنها ليست حركة ترهن نفسها بمشروع (أسلمة) لواقع هجين،

مشروع لا يعدو أن يكون مجرد (مباركة) لمجموع مفهوماته؛ بشواهد قرآنية

ونصوص حديثية مبتورة من سياقها، مجردة عن مقاصدها الشرعية، مفرغة من

آثارها التربوية في النفس وفي المجتمع! إن (بعثة التجديد) هي حركة كلية تعيد

إنتاج التنزيل القرآني بمنهجيته التربوية الربانية الشاملة؛ بوعي علمي راشد قوامه

(الفقه في الدين) بمعناه الكلي، يؤمه جيل من العلماء الحكماء، ينطلقون مرة

أخرى بالمعلوم من الدين بالضرورة، فيجددون الأصول العقدية والعملية؛ بمعنى

تجديد الغرس والتربية والتكوين.

إنها إذن؛ تجديد (المشاهدة) للحقائق الإيمانية، وتجديد التَّمْسِيك الاجتماعي

بالكتاب وإقام الصلاة، قال تعالى: [وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ

نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ] (الأعراف: ١٧٠) .

الحاجة إذن تدعو - كما ذكرنا - إلى بعثة (حركة الإسلام) ؛ بدل

(الحركات الإسلامية) ! لكن لا بد من بيان حقيقة: وهي أن (حركة الإسلام) لا

تلغي (الحركة الإسلامية) ولا تنقضها، بل إنها تمثل عمقها الاستراتيجي، ومددها

الحضاري! ولذلك فهي مصدر (بعثة التجديد) ؛ بما تحدثنا عنه من اصطلاح،

وهي المتحكمة أساساً في حركة تحول المجتمع، وتوجيه التيار، وبناء النسيج

الديني. وليس (للحركة الإسلامية) من ذلك غير استثمار نتائج (حركة الإسلام) ؛

لتوظيفها فيما هي فيه من معركة (الشأن السياسي اليومي) ثم الرجوع بذلك على

(حركة الإسلام) بالدعم العام.

أول سؤال نضعه في هذا السياق إذن هو: هل استنفدت الحركات الإسلامية

أغراضها؟

قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من بيان: ما الحركة الإسلامية؟

مصطلح (الحركة) : هو مفهوم حديث؛ إنه مفهوم سياسي اجتماعي، ينتمي

معرفياً إلى علم الاجتماع السياسي، حيث تتبلور الأفكار في ذهن مفكر أو مجموعة

من المفكرين، فينخرطون في تأطير الناس على تلك الأفكار، بصورة منظمة، أو

شبه منظمة، ويناضلون من أجل تحقيقها في الواقع؛ وتكون (الحركة) !

فالحركة إذن: تيار منظم فكرياً وبشرياً، وفق نسق معين من الوحدة الفكرية،

يمارس نوعاً من التدافع في المجتمع، مع غيره من التيارات المنظمة، وغير

المنظمة؛ من أجل الغلبة والسيطرة، أو من أجل البقاء فقط، أو من أجلهما معاً.

ولذلك نقول: (الحركة الماركسية) ، و (الحركة الديمقراطية) ، و (الحركة

الليبرالية) ، و (الحركة القومية) ... إلخ. ومن هنا أخذ مصطلح (الحركة

الإسلامية) .

فـ (الحركة الإسلامية) إذن: هي تيار منظم فكرياً وبشرياً، يدافع من أجل

إقامة الدين في المجتمع. إنها تعبير عن الرغبة الدينية لدى عدد من الأشخاص؛

في (أسلمة) المؤسسات الاجتماعية. ولذلك قلنا قبل: إنها (بيان دعوي) [٥] .

لكن هذا إنما هو من حيث الطبيعة العامة المتصفة بها، والرغبة الوجدانية الكامنة

فيها، والمسببة لنشأتها. وأما من حيث الصيغة المنهجية فهي مظهر (حزبي)

بالمعنى الغربي الحديث للمصطلح، يمكن أن يتجلى في عدة صور لكنه يرجع في

النهاية إلى جوهر واحد؛ هو مفهوم (الحزب) [٦] .

ومن هنا يمكن أن نميز في الحركة الإسلامية بين شيئين: القصد، والمنهج.

فالقصد: إسلامي دعوي تعبدي. هذا على الإجمال، وقد فصَّلناه بأدلته في

كتابنا (البيان الدعوي) .

وأما المنهج: فمن الصعوبة أن ننفي عنه التأثر بالأطروحة السياسية بمعناها

(العلماني) الحديث، وبردود الأفعال المنهجية في مواجهة الأحزاب السياسية

المعاصرة! هذا على الإجمال أيضاً، مع عدم نفي الخصوص الديني للحركة

الإسلامية، فالتأثر العلماني راجع في جوهره إلى تبنِّي النموذج الغربي في التغيير،

وصيغة الأطروحة التاريخية الأوروبية للثورات الدموية، أو للتحولات

الديمقراطية، وفي كلا الصورتين تَبَنٍّ واع، أو غير واع لمنهج التغيير العلماني.

وهو في نهاية المطاف لا يعطي مجتمعاً جديداً بقدر ما يعطي صورة أخرى له هو

نفسه، لكن في وضع جديد من حيث الشكل ليس إلا، ولا تحول في الجوهر.

وبهذا تكون (الحركة الإسلامية) عملاً محدوداً بحدود اجتهادية، وتنظيمية،

وبشرية. إنها تصور بشري وضعي، لمنهج العمل في ترجمة قيم الدين ومقاصده!

وهي كسب في الممارسة الدينية في المجتمع؛ ومن هنا لابست الإسلام وفارقته في

آن واحد! فقد لابسته في (الانتساب) على مستوى النية وتجلياتها، وفارقته في

(النسبية) على مستوى منهج العمل!

وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن الحركة الإسلامية محكومة بسنن الاجتماع البشري

تماماً كالحضارات والدول بالمعنى الخلدوني؛ أي أن لها:

- مرحلة نشأة.

- ومرحلة نضج واكتمال.

- ثم مرحلة هرم وانهيار.

ولا يعني ذلك طبعاً أن (الإسلام) يتأثر ضرورة بما يصيبها، فقد ينشئ الله

جل جلاله لدينه موجة تاريخية أخرى تحمله وتؤصل دعوته. قال جل وعلا:

[وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: ٣٨) ،

وقال سبحانه: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ

وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ] (الأنعام: ٨٩) .

وإنما حديثنا عن الحركة الإسلامية هنا هو باعتبارها تجربة بشرية، محكومة

بالسنن الربانية التي تحكم سائر التجارب والمكاسب البشرية في المجتمع، فهي

سنن ثابتة لا تحابي أحداً، ولا تتحامل على أحد. قال تعالى: [وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ

تَبْدِيلاً] (الأحزاب: ٦٢) ، وعليه فإننا نحسب أن الحركة الإسلامية في صيغتها

التقليدية قد استنفدت بعض أغراضها، أو بالتعبير الأدق هي على وشك ذلك،

ونقصد بالصيغة التقليدية: الصورة الحزبية التي اكتسبتها الحركة الإسلامية الحديثة

في نشأتها؛ تأثراً بالنظام الحزبي الغربي، وقد بينا أن معظم الحركات الإسلامية

اليوم في العالم الإسلامي هي على تلك الشاكلة؛ سواء منها التي تسمَّت باسم

(الحزب) ، أو التي تسمَّت باسم (الجماعة) ، أو (الحركة) ، فجوهرها جميعاً

واحد.

إن التحولات العالمية الحديثة في صورتها (العولمية) التهويدية؛ سائرة في

اتجاه تغيير بنية المجتمعات الإسلامية؛ وذلك بمخاطبة إرادة الشعوب مباشرة،

وتجاوز الوسيط السلطاني الذي لم تعد لديه أي مقومات لإقناع الشعوب، وخاصة أن

القوى العالمية الاستعمارية تدرك جيداً أنه اليوم أكثر من أي وقت مضى لا يملك

إرادة الشعوب، وإن كان يملك السلطان السياسي بصورة نسبية، لما لحظِّ الوكالة

والعمالة للاستخبارات الغربية الاستعمارية من نصيب كبير فيه.

إن (العولمة) الجديدة أو (حركة تهويد العالم) في صيغتها الأمريكية

الاستهلاكية لا تسعى إلى إخضاع العالم الإسلامي عسكرياً واقتصادياً فحسب؛ على

طريقة استعمار القرن التاسع عشر والعشرين، ولكنها تسعى إلى إخضاع الإرادات،

أو بعبارة أدق: احتلال (الإنسان) من حيث هو انتماء وولاء ووجدان! تماماً

كما وقع للشعوب الأمريكية الأصلية، أو ما بقي منها، وما يقع للشعوب الآسيوية

القصوى، مثل اليابان خاصة.. هذا البلد الذي كان مضرب مثل لكثير من

الدارسين العرب حتى بعض الإسلاميين منهم! الذين ينظرون إلى سير الحضارة

وإلى حركة التاريخ بعين واحدة فقط! فرأوا في التجربة اليابانية نموذجاً للنهوض!

لكنهم نسوا حقيقة أخرى خطيرة، وهي أن نهوض الشعب الياباني مادياً كان على

حساب فقدان الإنسان الياباني! لقد حل الوجدان الأمريكي في إرادة المجتمع الياباني،

ولم يبق له من خصوصيته الثقافية والأنتروبولوجية غير مظاهر محدودة من

الفلوكلور السياحي ليس إلا! ولا يغرنك منهم هذا الاحتجاج، أو تلك المظاهرة ضد

السياسة الأمريكية في العالم، فقد انخرط ذلك كله في نقد أمريكا بوجدان أمريكا!

وانتهى وجود اليابان الإنسان!

نعم لقد استعصى العالم الإسلامي وحده حقاً على الابتلاع، وأبى أن يدور في

آلة التغريب رغم كل ما حدث! رغم ما تعرض له من تشوهات في طبقته (المثقفة)

والأرستقراطية، وسائر شرائحه الاجتماعية، بقدر من التفاوت في التأثر والتشوه

بين هذه الشريحة أو تلك، حسب ما تعرض له من مناهج تعليمية وإعلامية، لكن

جوهر (الإنسان) فيه بقي محافظاً على فطرته على الإجمال، مصراً على تجديد

ذاكرته، ولم يفقد الرغبة والأمل قط في توظيفها من حين لآخر، وما وجود

الحركات الإسلامية نفسها رغم نقدنا لها إلا نوعاً من التعبير عن هذه الرغبة،

ومقدمة من مقدمات توظيف تلك الإرادة.

إن الاستعمار قد أدرك ذلك جيداً؛ ولذلك فقد أنتج (العولمة) باعتبارها أحدث

خطة لاحتواء الوجود الإسلامي الراسخ في وجدان الأمة! فإلى أي حد تستطيع

(الحركات الإسلامية) في صيغتها الحزبية التقليدية وهي التي نشأت في ظل رد

الفعل الاستعماري القديم أن تستجيب لتحديات (العولمة) في صورتها الجديدة التي

تحمل مشروع تهويد العالم؛ لتحقيق ما يسمى في المنظومة الصهيونية بـ

(إسرائيل الكبرى) ؟ وواضح جداً أن دون ذلك قتل الوجدان الإسلامي في الأمة

بشتى ألوان المسخ والتشويه!

العولمة إذن؛ ما تزال في طور نشأتها، بل لم يكتمل تشكُّلها بعد، ولم تلتئم

صورتها الكلية على تمامها، ولم يزل لها في المستقبل القريب نتاج جديد قصد

تكميل الصورة!

أين الحركة الإسلامية إذن بصورتها الموصوفة من هذا كله: وعياً وإرادةً،

ومنهجَ عملٍ وجهاد؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يمثل صُلب هذا البحث وجدواه!

إننا نعتقد أن الحركات الإسلامية ستتطور إلى مآلات؛ هي نتيجة للمقدمات

التي انطلقت منها ابتداءً، وهي (الحزبية التقليدية) نفسها. أو بعبارة أخرى

(حركات) الماضي والحاضر هي (أحزاب) المستقبل.

فالقوى الاستعمارية الحديثة تسعى - عن طريق نظمها الديمقراطية،

واكتساحها العولمي - إلى إخضاع الحركات الإسلامية للعبة، وإدراجها ضمن مقولة

(النظام العالمي الجديد) . إن لغة التهديد والتجويع والحصار، واللائحة السوداء

للأنظمة، وللمنظمات والأشخاص، وما اكتنف ذلك كله من لغة إعلامية مدمرة،

على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي كمصطلح الإرهاب مثلاً، ومصطلح

التطرف، وما شابههما من خدع لغوية تستصنع في المعامل الصهيونية (للسانيات

الحديثة) ، هذه المعامل المخبرية، الخبيرة في تحريف الكَلِمِ القرآني عن مواضعه!

قال تعالى: [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا

وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَياًّ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّين] (النساء: ٤٦) ،

وتدبر بعد ذلك - في ضوء زماننا هذا - قوله تعالى: [يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ

مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن

تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ

وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (المائدة: ٤١) ، اقرأ وتدبر ثم أبصر: [يَقُولُونَ

إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا] (المائدة: ٤١) ! أليس كذلك؟ بلى

والله! إنه اليوم أظهر مما كان من قبل! كل ذلك إنما هو صور من (طُعْم) للصيد؛

من أجل الدخول في قفص (العولمة) أو (الديمقراطية الأمريكية) ، فبالنسبة إليّ

لا فرق بين هذه وتلك في نهاية المطاف، إنها في الجوهر فلسفة واحدة.

واستجابت فعلاً بعض (الحركات الإسلامية) لذلك! فهي الآن تتخلى عن

كثير من منطلقاتها ومصطلحاتها، وتنتج (فقهاً) جديداً يناسب حداثة العولمة،

ويدور في آلتها شيئاً فشيئاً! إنها صارت تنتج جزءاً من خطاب ما يسمى بـ

(المجتمع المدني) ، هذه المقولة العولمية الجديدة التي تشكل نوعاً من (الترويض)

أو (التدجين) للإسلاميين، إنها تصنع نوعاً من التقابل والتنافر مع مفهوم

(المجتمع الديني) ! حيث تقابل المصطلحات الشرعية بمصطلحات علمانية لها دلالة

رافضة للمحتوى الديني الإسلامي، فمثل ذلك تماماً ما يصنعونه في مشروع تغيير

مدونة (الأحوال الشخصية) ؛ من تغيير مصطلح (العقد الشرعي) أو مزاحمته

على الأقل بمصطلح (العقد المدني) الذي لا يفيد شيئاً في النظر الشرعي غير

معنى الزنا لكن بصورة (مقننة) ! إنها حركة تحريف يهودي شامل! إنها بلغة

(الآخر) عملية (أنسنة) الإسلام؛ أي إفراغه من مضمونه الرباني التعبدي؛ حيث

يحل الإنسان عندهم محل الرب، في مركزية التفسير الوجودي والتشريع

الاجتماعي!

إن استجابة الحركة الإسلامية اليوم هي نوع من الاعتذار اللاشعوري للغرب،

ونوع من البرهنة على صلاحيتها للدخول في النظام العولمي، والتحدي

الديمقراطي، وإظهار لنوع من (حسن السيرة) ، و (صلاح المواطنة) على

موازين الشيطان الأمريكي الصهيوني!

من يجرؤ اليوم على اتهام الديمقراطية هذا الصنم العولمي الجديد؟ بالأمس

كانت الأصنام الشيوعية تمارس نوعاً من (ديكتاتورية البروليتاريا) على المستوى

الثقافي والسياسي؛ فلا تسمح لأحد بانتقاد الصنم الماركسي أو اللينيني! واليوم

أصبح تمثال الحرية في أمريكا الذي ليس له من مدلول الحرية غير التمرد على

حقوق الخالقية صنماً يعبد من دون الله الواحد القهار! صنماً منتصباً لحماية

مفهومات الليبرالية والديمقراطية، وفرضها على العالم الإسلامي، ليس بما يضمن

حقوقه السياسية، كلا! فمن يصدق هذه الأكذوبة إلا ساذج أو بليد! ولكن بما يذيب

مفهوم (الإنسان) فيه، ويصهره في آلة الاستهلاك المدمرة! حتى يكون عبداً

خسيساً للوحشية الجديدة!

إن الحركة الإسلامية باستجابتها لشيء من ذلك؛ يعني أنها قد أخذت بـ

(مقدمة أولى) بالمعنى المنطقي للكلمة من شأنها أن تنتج على سبيل اللزوم (نتيجة)

حتمية: هي الدوران في فلك العولمة. نعم ربما دارت فيه على سبيل النقد

والمعارضة، ولكن تماماً كما هي أحزاب أوروبا المعارضة للعولمة، والتلوث

البيئي، وحماية الحيوان البري! بمعنى أن ذلك لا يخرج من دائرة (الأنا)

العولمية نفسها، ومركزية الإنسان الغربي، وما عسانا أن نكون في هذا الاتجاه إلا

تَبَعاً!

إن الصيغة التنظيمية للحركات الإسلامية، وآليات اشتغالها اليوم، وكذا

جوهر خطابها الحركي مما تنتجه في (أدبياتها) وتجمعاتها وخصوص خلاياها؛

كل ذلك كفيل بإدخالها نادي (النظام العالمي الجديد) على حد تعبير الأمريكان!

إن دخولها (النظام العالمي) ليس يعني أنها تصير له (بوقاً) بالمعنى

التقليدي للكلمة، كلا! فليس هذا مقصودنا، وهو تصور تبسيطي لطبيعة

(العولمة) ! وإنما المقصود بدخولها هو الخروج من عالم (اللامفهوم) أو

(اللامدرَك) بالنسبة للحسابات الأمريكية ودراساتها الاستراتيجية إلى عالم

(المفهوم) أو (المدرَك) ! وانتقالها من عالم (الخوارق والمفاجآت) إلى عالم

(العوائد والطبيعيات) القابلة للحسابات! وذلك هو عين المقصود، حيث تصبح

الحركة الإسلامية بالنسبة إلى الاستراتيجية الأمريكية رقماً قابلاً للإدراك، وعدداً

قابلاً للحساب! وإذن توضع في موضعها من خريطة التخطيط الأمريكي الصهيوني

بسهولة، وتصبح في سياق معارضتها ونقدها قابلة للإعمال والاستعمال، وللتحييد

والإهمال! أو على الأقل قابلة للمعَالجة الميكانيكية! ونتائجها قابلة للتوقع

وللإدراج في معادلة الإمكانات والاحتمالات الرياضية المدروسة بعناية.

أما أحزاب الماضي الرسمية، القومية منها والوطنية، والماركسية،

والعلمانية، والعنصرية، وكذا الكرتونية؛ فمآلها بناءً على تحولات الحاضر

الجارية إلى التحول أيضاً أو إلى الانقراض! فتلك أحزاب ما بقي من حقيقتها اليوم

غير أشكال باهتة، سواء في ذلك ما تجلى في قيادتها الشائخة الهرمة، ليس من

حيث هي أجساد بشرية، ولكن من حيث هي أجساد تنظيمية وأيديولوجية، وما

تعلق منها بأسباب السلطان، أو الموالاة المفضوحة للغرب، ولأكذوبة (السلام) !

أما رصيدها على المستوى الوجداني الشعبي فعلى دركات تحت الصفر! ولذلك فإما

أن تتحول إلى (الإسلامية) ، ولو بصورة انتهازية، وإما أن تنقرض إلى الأبد

وتصبح جزءاً من التاريخ الذي كان! ولِمَ (الإسلامية) ؟ بدون عناء؛ لأنها

المرجعية المستقبلية لأحزاب العصر العولمي الجديد، حيث بدأ الإسلام يُصنف

عالمياً عند العدو والصديق بأنه هو المحرك الأساس للشعوب في العالم الإسلامي!

وهو المرشح في الإدارة الأمريكية - الصهيونية للمخاصمة الجديدة، ولتسويغ

التسلح العالمي المجنون في حرب باردة أو حارة! وقد بدأ ذلك يتضح وتتجلى

ملامحه منذ انهيار المنظومة الماركسية؛ بسقوط صرح الاتحاد السوفياتي البائد.

الدور الحزبي المقبل إذن؛ هو دور (الحركات الإسلامية) ، فهي المؤهلة

لذلك، وهي المقصودة للقيام بهذا الدور، وقد بدأت بالفعل في ممارسته بإعلان

رسمي أو بغير إعلان، فالهيئات التنظيمية الإسلامية المشاركة صراحة في اللعبة

السياسية قد دشنت هذا الاتجاه بإرادتها، وأما الهيئات التنظيمية الإسلامية الرافضة

أو المعارضة فقد دشنته أيضاً بمعارضتها، إنها حركات سياسية ذات خطاب

إسلامي، أو هي حركات إسلامية في قالب سياسي. وبهذا فهي تمارس نوعاً آخر

من (المشاركة) السياسية بطريقة أخرى. وإن أعلنت في خطابها (رفضها) لكل

أشكال المشاركة، ولكن رفضها يصدر بالمنهج نفسه الذي تعتمده حركات المشاركة؛

أي منطق الحزبية التقليدية. إنه رفض (موقفي) وليس رفضاً مبدئياً، إنه

محكوم بالموقف من (عقلية) الحاكم، أو من طريقة تنصيبه، لا من مفهوم

(المجتمع الإسلامي) وطبيعته، ولا من مفهوم الدين وشموليته، فهي إذن تتكلم من

داخل الجبة العلمانية من حيث لا تدري، وذلك أشبه ما يكون بمن يرفض الحيلة

بحيلة، ولذلك فهي أقرب إلى التحول الكامل إلى الصورة الحزبية العتيقة في صورة

إسلامية.

ومن هنا كان نظرنا أن الاتجاهين معاً أنهما وجهان لعملة واحدة! وإن بدا

بينهما ما بدا من الخصام الذي لا يعدو أن يكون خصام منافسة؛ أكثر مما هو خصام

مناقضة وتنافٍ. كلاهما إذن مهيأ لدور أحزاب المستقبل، ولا سيما أنهما يمتلكان

كل مقومات الحزبية: التنظيم والتعبئة الاستعراضية، والخطاب السياسي

(المُنَمَّط) . ووصفنا خطاب الحركات الإسلامية بأنه (مُنَمَّط) مقابل لما هو

موجود عند الأحزاب (الوطنية) العتيقة من خطاب سياسي (مُؤَدْلَج) ، حيث تتخذ

تلك الحركات (رؤية) معينة للعمل السياسي، ترجع إليها تفكيراً وتأطيراً، فلا

تكاد تجد من بين أفرادها من يفكر خارج تلك الدائرة، ولو بشيء يسير من

الاختلاف، مع أن المجال اجتهادي صرف! ومع أن رؤيتها المرجعية تلك ليست

هي (الإسلام) كما تدعي بعض فصائلها، وإنما هي (فهم معين) للسياسة في

الإسلام، إنها (اجتهاد) قابل للخطأ كما هو قابل للصواب. لكن أخطر مشكلة

تعاني منها في هذا الصدد هي أنها تقوم بنوع من (الاستصلاح) للفكر السياسي

الغربي، فلا تنجو - لذلك - كثير من مقولاتها السياسية من التلوث بأصولها

العلمانية! نعم لا نشك أدنى شك في أن هدفها الكلي، ومقصدها الغائي فعلاً هو

الإسلام. ولكن هناك فرق بين (القصد) أو (الهدف) وبين (خطاب القصد) أو

(خطاب الهدف) ؛ إذ ليس بالضرورة كل خطاب مؤد إلى قصده لزوماً، فربما

زاغ عن هدفه لعلة في منهج الخطاب! وهذا فرق ما بين نقدنا ونقد (الآخر) الذي

تمارسه الاتجاهات العلمانية للحركات الإسلامية. إننا لا نقول بأنها (تستغل) الدين

بالمعنى (البراجماتي) ؛ لتمرير خطابها السياسي كما يقول سفهاء العلمانيين كلا!

فهذا مجرد نقد (أيديولوجي) ليس إلا! إننا على يقين بأن الحركات الإسلامية إنما

تتعبد - على الإجمال - بفعلها الحركي السياسي، سواء أصابت في ذلك أم أخطأت.

لكننا على يقين أيضاً في أنها تتعبد من خلال فهمها الخاص للدين، ولا يمكنها إلا

أن تكون كذلك؛ إذ المجال السياسي تفوق نسبة الرأي والاجتهاد فيه من مجمل

التشريع الإسلامي درجة التسعين بالمائة! كما فصَّلناه بأدلته في كتاب (البيان

الدعوي) . وهذا معنى قولنا: إنها تملك الخطاب السياسي المُنَمَّط، بما هو عنصر

أساس من مكونات الحزبية. وبتوفر العناصر الثلاثة المذكورة تكون الحركة

الإسلامية مؤهلة فعلاً كما ذكرنا لمآلها التاريخي: التحول والاندماج الحزبي

الهيكلي، ذلك أن ما وصفنا من طبيعتها مؤشر قوي (لقابليتها) لذلك، على حد

تعبير مالك بن نبي - رحمه الله - في نظرية (القابلية للاستعمار) . وجزء مهم من

هذا المتوقع غداً هو على كل حال واقع اليوم! فما بقي من الصورة في الحقيقة إلا

التكميل والتتميم؛ إذ لا يكاد يخلو قطر من أقطار العالم الإسلامي اليوم من شيء

من ذلك صراحة أو ضمناً.

وقد يقول قائل: إن الحركات الإسلامية هي غير الأحزاب التقليدية، من

حيث القدرة على احتوائها وتوجيهها من لدن الأمريكان، وغيرهم من دول الغرب

ومؤسساته العالمية كصندوق النقد والأمم المتحدة؛ فنقول: نعم! هي غير ذلك من

وجه، وإن كان لها نوع من القابلية لذلك من وجه آخر وهو الاستجابة لمقولات

الخصم الحضاري الثقافية والسياسية والاقتصادية، كما أشرنا إليه من قبل؛ ولذلك

وجدت (العولمة) و (النظام العالمي الجديد) . ومن هنا كان التوجه الاستعماري

الجديد ليس إلى محاصرة الحركات الإسلامية فحسب؛ ولكن أيضاً إلى (منافستها) !

وهذا ما لم تنتبه إليه بعض الحركات الإسلامية بصورة جيدة لحد الآن! وهذا هو

الاتجاه الراجح الآن في الصراع الحضاري العالمي: المنافسة على (الإنسان) في

العالم الإسلامي.

إن العولمة عملت جهدها على فتح الحدود الاقتصادية والثقافية والإعلامية؛

من أجل التمكن من الاشتغال المباشر لاحتلال الشعور الفردي ثم الاجتماعي.

العولمة إذن تقوم بوظيفتين:

الأولى: فتح الحدود الأنتروبولوجية.

والثانية: المنافسة على الإنسان في العالم. أو بعبارة أخرى احتلال الإنسان

المسلم!

ومن هنا؛ فإن الحركة الإسلامية لن تواجه أمريكا، أو الصهيونية، أو

الغرب فقط؛ بل ستواجه (الصوت الآخر) في مجتمعها أيضاً! بل ربما في

صفوفها وفصائلها أيضاً! وهذا أسوأ ما يتوقع من هزيمتها! وقد شاهدنا بعض

تجلياته مع الأسف على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة. حتى لكأنك أمام

(علمانية إسلامية!) لكن ليس بالمعنى التقليدي.

إن المواجهة لن تكون كما كانت من قبل ضد طابور العملاء السياسيين، أو

الموالين ثقافياً للغرب، من اللائكيين واليساريين، كلا! فتلك حرب في منطق

الرؤية المستقبلية انتهت ووضعت أوزارها! إن المواجهة الجديدة ستكون ضد

(نمط الحياة) الأمريكية الذي لن يقصر على النخبة المغتربة فكرياً، أو على الطبقة

الأرستقراطية، بل هو يصبح الآن بالتدريج نمط الشعوب الإسلامية! بمن في ذلك

الإسلاميون أنفسهم، من باب مقولات (الأسلمة) ، و (التثاقف) ، والانفتاح على

(المجتمع المدني) . إن معنى ذلك أن الحركة الإسلامية ستواجه خصمها في ذاتها!

ومعنى ذلك أيضاً خسران المعركة حضارياً؛ لأن الجسم لم يخلق ليحارب نفسه

بل ليحميه. ومن هنا ستحتاج الأمة إلى (مضادات حيوية) جديدة، وإلى (بعثة)

أخرى! كما سيأتي بيانه بحول الله.

إن قدرات الحركات الإسلامية ذات الطبيعة الحزبية لن تعدو حدود مقاومة

الظلم السياسي، والاختلال الاجتماعي، والإسهام إلى حد ما في التوجيه الاقتصادي

والإعلامي ... إلخ، وكل ذلك شيء مهم جداً، ولكن الأهم منه هو العمل

الاستراتيجي المتعلق ببناء الرصيد الروحي المنتج للأجيال، وتوسعة (الاحتياطي)

في مجال بناء الإنسان القرآني! وتأثيرها في هذا الآن محدود جداً ضمن دوائر

ضيقة، ولن تزداد مع تبلورها الحزبي إلا ضيقاً! لما للمنهجية الحزبية من

ارتباطات ميكانيكية تغرقها في الجزئي و (اليومي) .

وقدرة الحركة الإسلامية وإمكاناتها بما وصفنا هو عينه دور الأحزاب التقليدية

في الماضي، وهو ما سيناط، بل قد أنيط فعلاً ببعض الحركات الإسلامية التي هي

في طور التهيؤ للقيام بذلك. وهو بالنسبة إلى التحديات الشمولية للعولمة عمل

محدود جداً؛ لن يبلغ حد التغيير الكلي للإنسان ما دامت آلة الاشتغال الحزبي هي

الوسيلة الوحيدة المتوفرة لديها للعمل. وهذه الوسيلة هي نتاج أوروبي ومنهج غربي،

لا يعدو في طبيعة تأطيره مجرد صناعة (الرأي العام) المؤقت والمتقلب.

والديمقراطية التي هي فضاء وجود الحزبية لن تؤدي أبداً إلى نقض أصولها ما

دامت فلسفتها قائمة في منهجها، ولا يمكن للمنهج أن ينقض مذهبيته، أو ينقلب

على فلسفته، وما وجوده إلا بها. وقد قرروا في غير هذا المكان أن المناهج وفية

لمذاهبها، ومن ظن إمكان تجريد المنهج عن مذهبيته فهو واهم! [٧] نعم سيؤدي

نضالياً إلى توجيهها من الداخل؛ بمعنى أن الحزبية الإسلامية ستعطي للديمقراطية

مسحة إسلامية؛ لكن دائماً في حدود الإمكانات المحسوبة، والقابلة للنقض في كل

وقت وحين؛ إذ (الرأي العام) الذي يحسمه (العوام) هو الممثل الشرعي والوحيد

لمصداقية اللعبة، وما الرأي العام في نهاية المطاف إلا ريح الأهواء، وأصوات

الغوغاء!

قد يقول قائل: إذن إذا وعت الحركة الإسلامية ذلك؛ فإنها تحسب كل تلك

الإمكانات فتخرج عن حد أهداف العولمة. فنقول: لا يمكنها ذلك إلا إذا خرجت

عن طبيعتها (الحزبية) التي نشأت عليها بما وصفنا إلى شيء جديد، وهو ما

ستلده الأيام بحول الله. أو تبقى على طبيعتها تلك فتكون إذن محكومة بإمكانات

(اللعبة الحزبية) . وهي جميعها آيلة بطبيعتها إلى محيط العولمة، ولا منزلة بين

المنزلتين! فتوجه العولمة يشتغل الآن وليس غداً! وتوقع نتائجها مبني على

مشاهدة مقدماتها، فإنما ننطلق إلى المجهول من المعلوم، وذلك هو منطق

الرياضيات!

أليس معظم الحركات الإسلامية حزبي التنظيم؟ أليست ترجع في بنائها

التسلسلي إلى نموذج الحزب السياسي؟ ثم أليست ذات أطروحات مختلفة،

واجتهادات متباينة؟ ثم أليست تتفرق بشكل تناسلي إلى جماعات وجمعيات، كما

تتناسل الأحزاب القومية والعلمانية، ويَنْشَقُّ بعضها عن بعض لأسباب سياسية

وشخصانية؟ فإنها بهذا وبما ذكر قبله تنساق تحت تأثير نَجْشِ الصياد الأمريكي

شيئاً فشيئاً إلى قفص (اللعبة الديمقراطية) ؛ لتمثل أمام المشاهد الغربي، كما تمثل

الحيوانات الآبدة في أقفاص حديقة الحيوان!

إن الابتلاء العولمي المشتغل الآن هو أعظم وأشمل من أن تواجهه حركات

إسلامية محدودة الغايات والوسائل، حركات بقيت حبيسة آليات تنظيمية، ووسائل

تنفيذية، هي من تراث مرحلة الاستعمار القديم، وظروف سقوط الخلافة الإسلامية

العثمانية، ونتاج ردود فعل لصيحات الماركسية والقومية، والتي تلاشى صداها في

التاريخ الماضي!

إن بصائر القرآن، وسنن التاريخ، وطبيعة التحولات الكبرى في العالم

الإسلامي، وخروج الدجال الأمريكي؛ كل ذلك يحدثنا عن ميلاد شيء جديد في أفق

العمل الإسلامي!

* معالم البعثة الجديدة:

هدف المعركة الجديدة إذن؛ هي الوجود الديني للمجتمع الإسلامي ذاته!

وساحتها هي الإنسان المسلم نفسه! ليس بما كان مقصوداً في الاستعمار القديم، ولا

بما كان مقصوداً بالظلم السياسي الحديث الذي مارسته الأنظمة السياسية العربية

تحت غطاء الحماية الأمريكية. ولكن المسلم مقصود اليوم بالتدمير؛ بما هو حائل

طبيعي متين دون الأمن الصهيوني، وحلم (إسرائيل الكبرى) ، ودون التمكن

الأمريكي من النفط العربي! ولذلك فهو مستهدف في عقيدته، ونظام تربيته وتعليمه،

ونمط حياته! مستهدف ببرامج تعليمية وإعلامية أخرى، وبنظم اجتماعية جديدة،

وبتدمير كلي لمفهوم الأسرة، وبناء تركيبة اجتماعية أخرى، لا يبقى من إسلامها

إلا أسماؤها! تماماً على نحو ما يصنعون لما يسمى بـ (الجيل الثالث) من أبناء

المهاجرين في الغرب، حيث ذوبت النظم الغربية شخصيتهم الإسلامية، فضاعوا

كما ضاعت بقايا الموريسكيين من أهل الأندلس في المجتمع الإسباني النصراني!

لقد جيشت أمريكا لذلك جيوش عولمتها، المحمولة على دبابات (المارينز) ،

والمحمية ليس بأسلحة التدمير الشامل فقط؛ ولكن أيضاً بأسلحة الإعلام والاقتصاد

والثقافة والتعليم والتقنين الاجتماعي ... إلى آخر ما يمثل فضاء الديمقراطية في

مفهومها الغربي!

إن قضية (المورسكيين) تنتصب اليوم في كل مكان، فكأن العالم الإسلامي

اليوم (أندلس) كبيرة! إن هذه بصيرة، ولكن [لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ

وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: ٣٧) ! تلك هي طبيعة المعركة الجديدة؛ فإما بعثة جديدة،

وإما الانقراض لا سمح الله! ولكن يأبى الله عز وجل إلا أن يحفظ كتابه إلى يوم

القيامة؛ تلك عقيدتنا، وقد تواتر ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه

وسلم، قال تعالى: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ

كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: ٣٣) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا

تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة!» [٨]

وقال أيضاً: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا

من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس!» [٩] .

لكن القضية هي مسؤولية الإنسان المسلم الذي تعلق هذا الدين برقبته عقيدة،

وشريعة، ومصيراً في الدنيا وفي الآخرة! إنها مسؤولية الفرد، ومسؤولية الجيل!

إنها مسؤولية (حفظ الدين) التي أناطها الله جل وعلا بالتكليف التعبدي الإنساني،

وما حفظه - كما تبين من قبل - إلا (ببعثة للتجديد) ، تنطلق كلما أحدق الخطر

ببيضة الإسلام.

وإن عِظَم الخطر اليوم، وشموليته، وعمقه، بما لم يسبق له مثيل في

منهجية التدمير الوجداني؛ لجدير بأن يكون وحده مؤشراً قوياً على أن الزمان زمان

بعثة جديدة! ولمن كان يبصر فتلك بشائرها تلوح أنواراً في الأفق. وما جاء الفرَج

قط إلا بعد (حتى) الدالة على أقصى غايات الضيق، والنهاية في مسالك الحرج،

قال عز وجل: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم

مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ

اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: ٢١٤) ، وقال سبحانه: [حَتَّى إِذَا

اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا

عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: ١١٠) .

يستعمل مصطلح (البعثة) في عملية التجديد الشمولية للدين؛ أخذاً من كتاب

الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما فصلناه من قبل؛ لأن هذا المصطلح هو

المفتاح الحقيقي لما نريده من مفهوم للتجديد الذي يبدد عن العالم الإسلامي بحول الله

ظلمات الجاهلية الجديدة، في صورتها (العولمية) الأخيرة.

وإذا كان لنا من كلام عن (بعثة التجديد) فهو عن بعض معالمها الكبرى،

وهو كلام مبني بالدرجة الأولى على استقراء النصوص القرآنية والحديثية، ثم

بدرجة ثانية على قراءة ضرورات المعركة الجديدة وطبيعتها، بما أشرنا إليه قبل.


(*) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، المغرب.
(١) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وصححه الألباني، رقم: ١٨٧٤ في صحيح الجامع.
(٢) جزء من حديث أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع: ٦٢٩٧.
(٣) (٤) متفق عليه.
(٥) انظر: كتابنا البيان الدعوي.
(٦) لا ينطبق ذلك بالضرورة على كل مظاهر العمل الدعوي والجهادي في العالم الإسلامي، ولكنه ينطبق على ما اصطلح عليه اليوم بمصطلح (الحركة الحزبية الإسلامية) ؛ مما انخرط في اللعبة السياسية، بالمنهج التدافعي السياسي الدخيل، سواء في ذلك (المشارك) في التجربة الديمقراطية، أو (المعارض) ، وإنما مفهوم (المعارضة) يؤول في المنطق السياسي الحديث إلى مفهوم (المشاركة) ، وبعض سذج (الإسلاميين) يظنون بأن مجرد الانخراط في صف (المعارضة) يخرجهم من ورطة (المشاركة) ، وإنما هم بذلك يكملون صورة النظام العلماني على مقاس الفكر السياسي الغربي! .
(٧) أبجديات البحث في العلوم الشرعية للمؤلف: ٩، منشورات الفرقان - الدار البيضاء.
(٨) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، وصححه الألباني: حديث رقم: ٧٠٢ في صحيح الجامع.
(٩) متفق عليه.