للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ندوات

سقطة الحداثة والخصوصية الغربية

(١ ـ ٢)

إعداد: وائل عبد الغني

الحداثة مذهب غائب حاضر بعيد قريب جلي خفي في المواجهة بين الإسلام

وأعدائه؛ ... الحداثة ذلك المصطلح الذي فرض عنوة ضمن ما يفرض علينا منذ

تراجع المد الإسلامي، ليأخذ دوره في سلسلة الغزو العقدي والفكري الطويل

المتلاحق الذي ظاهره التقدم المزعوم وباطنه السقوط والانحطاط، ومع أن المذهب

قد تجاوزته (موضة) الأفكار إلا أنه ما زال له أدعياؤه في بلادنا الذين ينفخون في

بوقه، ويملكون باسمه العير والنفير. وكشفاً لحقيقة هذا المذهب نعرج على بعض

تفاصيله، ومراحل تطوره، كمدخل كاشف لحجم الجريمة التي تمارس باسمه في

العالم وخاصة في بلادنا.

تساؤلات عديدة يطرحها السياق الحداثي عن واقعنا المشهود:

هل نحن بحاجة إلى الحداثة؟ .. وإذا فرضت علينا فرضاً فأين الحرية التي

تبشر بها؟ وهل هي صالحة لكل زمان ومكان كما يردد البعض؟! أتجرد هي أم

تمرد؟ .. وماذا تُبقي لنا من شعار أمتنا ودثارها؟ .. هل أورقت هناك حتى تثمر

هنا؟ .. كيف يجمع الإنسان بين الحداثة واحترام الإسلام فضلاً عن التزام أحكامه؟

هل يصبح الحل كما يزعم البعض هو الخروج من أسر التاريخ لنقع في أسر تاريخ

مغاير وجغرافيا مختلفة؟ وهل يقضي الإنسان دَينه برهن نفسه؟ وكيف يُشهَد

ببراءة من أدان نفسه وشهد عليه شاهد من أهله؟ .. إذا كان العالم الغربي قد تجاوز

المصطلح والقضية وألقاها في مزبلة التاريخ فهل يعني فرضها على بعض الشعوب

من قِبَل الغرب أن تلك الشعوب بمثابة تلك المزبلة؟

تساؤلات كثيرة يجيب عنها السياق الحداثي، ويشهد بها نتاجها الغربي يجدها

المرء حين يتطرق للحداثة، وتبقى تساؤلات تطرح نفسها على ضيوف ندوتنا

الكرام وهم:

- أ. د. إبراهيم الخولي: أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية - جامعة

الأزهر.

- أ. د. مصطفى حلمي: أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية دار العلوم - جامعة

القاهرة.

- د. علاء عبد العزيز: المدرس بمعهد التمثيل بالقاهرة.

- أ. محمد إبراهيم مبروك: الكاتب الإسلامي المعروف.

البيان: لفظ الحداثة شأنه شأن غيره من المفاهيم الوضعية، لا تكاد تجد

اتفاقاً حول معنى محدد يكشف عن مضمونه دون أن يقع الالتباس، وهذه نقطة

منهجية تثير إشكالات عديدة في التعامل نقداً وتحليلاً مع الفكرة؛ فهل يمكن لنا أن

نبني تعريفاً جامعاً مانعاً لهذا اللفظ، وإذا لم يمكن هذا فهل يمكن تعريفها تعريفاً

إجرائياً يقرب لنا المفهوم، ويسهم في نقد أكثر منهجية للفكرة؟

- د. إبراهيم الخولي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحداثة لغة مشتقة من

مادة: (حدث) وفي اللغة يقال: (حَدَثَ حُدُوثاً وحداثة فهو حَدِيث) ويقال حَدُثَ

في مقابل قَدُمَ، وحداثة مصدر لحَدَثَ يكون على غير قياس أما حدُث بضم الدال

كقدُم فلا بأس أن تكون حداثة مصدراً لحدُث بالضم، وحدَث حدوثاً، فيكون حدوثاً

مصدراً لحَدَثَ بفتح الدال، وصاحب القاموس يقول إذا استخدم لفظ حدث مع قدُم لا

يستخدم إلا مضموم الدال.

وما دام قد اختير لفظ حداثة كي يقابل به المصطلح الغربي؛ فمن حقنا نحن

أن نتعامل مع هذه التسمية بلغتنا التي اتخذت منها.

هذه شروط المنهجية في أي عمل علمي خاصة فيما يتصل بالمصطلحات..

والمفترض لغةً أنّ الحداثة مقولة إضافية أي بالإضافة إلى قديم سبقه، وبُعد الزمن

داخل في المفهوم، إذن كل حديث سيعود قديماً، وكل قديم كان حديثاً بالقياس إلى

ما كان قبله. إذن فاختراع حداثة لما سيأتي عليه الزمن يخلقه ويبليه كما أبلى غيره

اختيار غير موفق وغير أمين، ومن هنا فمن التناقض أن تلصق بهذه التسمية

دعوى الاستمرار، والآن هم أنفسهم يتحدثون عن «ما بعد الحداثة» .. فبِمَ

يسمونه وبم يسمون ما بعد بعد الحداثة، وهل يبقى مفهوم الحداثة على ما كان

يعطيه؟

وأما الحداثة كمصلح عند دعاتها فهي: «اتجاه أو منزع ينتهي إلى قطيعة

شاملة مع التراث، تنطوي على تحقير هذا التراث والتهوين من شأنه وقطع صلة

الأمة بماضيها لتبدأ من الصفر وقد سلب منها كل مقومات هويتها، وتصبح مستعدة

لأن تصاغ كما يريد الآخرون» .

- د. مصطفى حلمي: الصورة البارزة من الحداثة باختصار تعني: «نقد

المقدس وهدمه» والتعبيرات حولها يعلوها التزويق أحياناً، والغلو أحياناً، ولا

تخلو من الغموض أيضاً وهي لدى معتنقيها تعني «قطيعة معرفية مع الماضي بما

يولد إطاراً غير نمطي في التصور القيمي للحياة» وإذا ما قلبنا النظر في تعريفات

سدنة الحداثة فسنجد تبايناً واسعاً يوحي بقوله تعالى: [إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ وَمَا نَحْنُ

بِمُسْتَيْقِنِينَ] (الجاثية: ٣٢) والقدر المشترك فيما بينهم هو القطيعة؛ فيرى

(أوين) مثلاً أنها تعني: «الفصل المتعاظم بين عالم الطبيعة الذي تديره قوانين

يكتشفها ويستخدمها الفكر العقلاني، وبين عالم الذات الذي يختفي فيه كل مبدأ متعال

لتعريف الخير» .

بينما يرى (ماكس فيبر) أن: «الحداثة هي فصم الائتلاف والوحدة بين

السماء والأرض مما يخلي العالم من وهمه ويلغي سحره» وكلاهما مؤالف لمعنى

العلمانية، ويرى (بودلير) أنها: «حضور الأبدي في اللحظة العابرة فيما هو

مؤقت» ، ويضيف (شوبنهاور) أبعاداً أخرى أقرب نتيجة؛ إذ يرى أنها تعني:

«الأنانية والتخلي عن الطابع الاجتماعي، لا لتخلق نظاماً جديداً مستحيلاً، بل

طلباً للإخلاد إلى الحياة والرغبة، يجب تدمير الأنا ووهم الوعي، كما ينبغي

الاحتراس من وهم النظام الاجتماعي الذي يحمي الشهوات الأنانية فقط» .

ومن هذه التعبيرات المتباينة يستشف المرء لوناً من القطيعة المستمرة مع

الماضي ومع عالم الغيب، والثورة والتمرد على القيم والأخلاق، بل وحتى مع أي

أعراف اجتماعية أو نظم وضعية، والانطلاق خلف الشهوات، والانقلاب على

معالم الفطرة البشرية، والسعي في مادية بحتة لا تقف عند حد، بل تتفاعل

وتتفاعل ليكون شعارها الثورة والتمرد الدائمين.

أما محاولة البعض لدينا أن يلبسها ثوب التحديث زوراً فهو لون من الكذب

والتضليل؛ وفرق أي فرق بين التحديث «الأخذ بتقنيات العصر» ، وبين الحداثة

التي تعني ضرب القيم وطعن المقدس الذي هو لون من الزندقة.

- د. إبراهيم الخولي: ضرب المقدس وطعن التراث يعني تمييع المواقف

وعدم الاعتراف بكل ما هو ثابت.. ومما ذكره الدكتور مصطفى فهم يريدون حركة

الإنسان عشوائية ليس تقدماً نحو الأفضل؛ وهذا بدوره يؤدي إلى تحطيم الماهية

والهوية ويعصف بالإنسان.

- د. مصطفى حلمي: بالنسبة للزمن وارتباطه بالتقدم أود التنبيه على أن

خطأ العقل الغربي في رؤيته الحتمية أن التقدم يقتضي سيره في خط مستقيم هو

الذي أوقعهم في هذا المأزق! وهو ما وقع فيه أتباع الحداثة في بلادنا.. وقد عاب

توينبي على الغرب هذه النظرة وخطّأها، والصحيح في هذا هو ما قرره أبو الحسن

الندوي - رحمه الله - من أن التقدم والتأخر عندنا ليس رجعياً أو تقدمياً كما يصوره

الغرب: عصوراً قديمة ومتوسطة وحديثة.. كلاَّ! بل هو بين مد وجزر؛ مد مع

الارتباط بالكتاب والسنة، وجزر عند التخلي عنهما.

- أ. محمد مبروك: إذا كانت الحداثة في نشأتها الغربية تعني القطيعة مع

الماضي؛ فمن واقع الكتابات التي عالجت الحداثة نجد أن هذه الكتابات تنقسم إلى

رأيين: رأي يرى أن الحداثة تعني التمرد على الكنيسة؛ وبهذا فالحداثة عندهم

تعني عصر التنوير، والآخر يرى أن الحداثة تعني الثورة على الأفكار التي تولدت

في عصر التنوير ذاته، وعلى هذا فالحداثة ثورة على الثورة على الكنيسة دون أن

يعني ذلك العودة إلى الكنيسة، وقد تبلورت الحداثة بوضوح في الأدب والفن،

وبصورة أقل في السياسة والفكر، ومن بين من عرفها (سبندر) أحد كتاب الحداثة

فيقول: «إن الفن الحديث [أي الحداثي] يعكس الوعي الحديث بموقف حديث لا

سابقة له في شكله أو لغته» أي أن هناك قطيعة مع الماضي الذي ينصبُّ أساساً

على عصر التنوير، ويعبر (دورن) عن مفهومها بقوله: «العمل الفني الإبداعي

يقدم نفسه كتعبير حتمي تاريخي عن الاضطراب في مجتمع الرأسمالية المتأخرة» ،

أما (لوكاش) فيرى أنها: «تعبير عن عمى المثقف البرجوازي في مواجهة

القوى التاريخية الحقيقية المضادة التي تعمل باتجاه تحويل هذا المجتمع إلى

الاشتراكية» .

- د. علاء عبد العزيز: الحداثة مصطلح غامض وغائم، ومن العسير جداً

أن نبني تعريفاً حدياً أو حتى إجرائياً لمصطلح بهذا الشكل؛ فلا يمكن أن نقيسها

مثلاً على الكلاسيكية التي تعد سمة؛ حيث لا تملك الحداثة صفات صارمة يمكن

التعويل عليها ولكن هناك ظواهر عامة.

من ضمن ما قيل عنها أن: الحداثة مرتبطة بمفهوم «التمرد الدائم» ،

والتمرد قائم في أغلب المراحل التاريخية التي يظهر فيها جديد بحيث يوجد هناك

لون من التمرد على ما سبق.. ومن ثم فهذه ليست سمة مميزة للحداثة إطلاقاً،

كذلك من ضمن ما قيل على لسان أحد المثقفين العرب: «البحث في أسرار الكون»

وهذا كلام غامض جداً ومبهم، والحداثة ليست بهذا الشكل.

- د. إبراهيم الخولي: يجدر بنا أن ننبه إلى أننا لسنا بصدد تعريف منطقي

على الطريقة الأرسطية، وينبغي ألا تشغلنا التعريفات الهلامية التي يقدمونها.

- د. علاء عبد العزيز: اتفق معك تماماً في هذه النقطة، وحتى يمكن تجلية

المفهوم أرى أنه من المهم أن أطرح بعض الملاحظات:

أولها: أنه لا يمكن التسليم بأن الحداثة مجرد اتجاه فكري فقط، بل هي رؤية

شاملة للحياة تحمل معها كل تفريعات طريقة الحياة، هذا ما تشهد له تطورات

الحداثة، وما يؤكده واقع الغرب، وما يحلم به ويسعى له الحداثيون العرب.

وثانيها: ينبغي ألا نُخدع بما يمارسه البعض من خلط مقصود بين الحداثة

والتحديث؛ فالتحديث لا يعني أن يكون المجتمع مجتمعاً حداثياً.. فهو مغاير للحداثة

تماماً كما أنه ليس مجرد نقل تقنيات حديثة.

وثالث هذه الملاحظات: تتعلق بملمح رئيسي من ملامح الحداثة وهو هاجس

الزوال ونسبية الزمن حيث أصبح الزوال مفهوماً، هذا الهاجس امتد إلى كل شيء

.. حيث ازدهرت ثقافة (التيك أوي) .. وأصبحت منتجات هذه الحضارة قائمة

على الزوال ليس هناك شيء يسمى البقاء، وانتشرت شعارات مثل: استخدم وألقِ،

ابنِ واهدم وتخلص..

ورابعها: أن الحداثة بما تحمله من تمرد على كل أشكال القيم، تتسم بانفلات

الغرائز في الأدب والفن؛ إذ أصبح هناك ما يعرف بالأدب الغرائزي والأدب

المكشوف في الحضارة الغربية؛ هذا الانفلات هو تعبير لصيق بفكر التمرد.

النقطة الخامسة: وهي من أهمها قضية إسقاط المطلق وادعاء نسبية الحقيقة،

الحداثة تدعي نسبية الحقيقة وأنه لا يوجد شيء حقيقي، وإذا سقط المطلق

(الإطار المرجعي وهي قضية ربوبية الله تعالى وألوهيته) أصبح كل شيء نسبياً..

وإذا كان الأمر كذلك فقد أصبح للشواذ حقوق خارج الإطار الديني.. ولهذا نجد

تظاهرات للدفاع عن حقوق الشواذ والآخرين.

البيان: النسبية المطلقة التي تعد أبرز دعاوى الحداثة، هي بذاتها من

أخطر السهام التي يمكن أن توجه للحداثة؛ لأن الثورة على المطلق وإسقاطه

يعني نسبية الحقائق، وبهذا يؤول الأمر إلى أن النسبية هي المطلق المسلّم به

لدى الحداثة، ومن المفروض أن المطلق يسقط بقول الحداثيين بالنسبية، ومن

هنا تسقط النسبية حين تصبح هي مطلقاً! هذا نظرياً. أما من الناحية العملية فإن

الحداثيين أنفسهم هم أول كافر بهذه النسبية في مواقفهم من الإسلام، وفي جميع

المعارك التي خاضوها ضد الإسلام؛ بل إن فرض الحداثة على العالم الإسلامي هو

كفر بهذه الحداثة. وإلا فإذا كانت النسبية مطلقة كما يقولون فأين هي مما يجري

من اضطهاد للمسلمين، واستضعاف للشعوب وفرض الوصاية الفكرية والهيمنة

العسكرية والثقافية بمسوغ وبدون مسوّغ؟ هم بذاتهم أول كافر بنسبيتهم هذه

حين تحرم المحجبة مثلاً من التعليم في عاصمة التنوير، أو يحرم مسلم ملتزم

بإسلامه من الالتحاق بكثير من الوظائف لمجرد أنه مسلم!

- د. علاء: إلى حدٍّ مَّا أتفق معك في هذه الفكرة، ولكن لا يمكن القول بأن

النسبية قد أصبحت المطلق الوحيد، حتى هذا الكلام نسبي عندهم.

البيان: الحديث هنا من باب التنزل، وهذا لازم القول بنسبية الحقيقة؛ فلو

كانت نسبية فيفترض أنهم ملتزمون بهذه النسبية، ومن هنا فلا حق لهم مثلاً في

المصادرة على حق امرأة في الحجاب مثلاً أو في الختان، أو حق رجل في التعدد،

أو حق شعب في تطبيق ما يراه حقاً له، وليس من حقهم أنفسهم أن يفرضوا

وصاية على غيرهم من الشعوب المقهورة فيما تختاره خاصة إذا كان هذا الاختيار

نابع من دين تؤمن هذه الشعوب به؟

* الحداثة النشأة والتطور:

البيان: تعد الكنيسة الغربية أحد أبرز الأطراف التي أسهمت في ميلاد

الحداثة وتطورها، إلى جانب الثورة الصناعية التي كان لها أثرها في تطوير

أشكال التمرد وتجذير القطيعة على المستوى النظري وفي الممارسة، وهذا ما

نلمسه من الشواهد الاجتماعية والثقافية الكثيرة؛ هل المسؤولية هنا ملقاة على

الكنيسة وحدها كمؤسسة، أم أن للنصرانية حظها ونصيبها من هذه المسؤولية؟

- د. علاء عبد العزيز: من المهم هنا تسجيل نقطة تتعلق بالخصوصية

الغربية، وهي أن التمرد في الغرب قد جاء كرد فعل على سلوك الكنيسة، ولكن

الأهم من وجهة نظري أن العلمانية - كأساس عقدي للحداثة - ومع كونها أحد

أشكال التمرد على النصرانية - هذه العلمانية كانت في نفس الوقت طوق النجاة

للنصرانية من الانهيار، ولو لم تكن العلمانية لسقطت النصرانية سقوطاً مبرماً.

كان لا بد تاريخياً وواقعياً وحالياً من انزياح الدين إلى جانب بعيد؛ لأنه فقد مقومات

وجوده على أرض الواقع بعد الثورة الصناعية والتحولات التي تلتها، واليوم يعود

الدين في الواقع الغربي كأحد أشكال الهوية بصورة عنيفة وقاسية جداً، ولا نستطيع

أن نلقي به خارج الحلبة، ولهذا فالغرب يعاني حالة من حالات المواجهة

الغامضة..! لا أدعي بأن هذا الرأي فقط هو الرأي الصحيح والصواب؛ لكن

أعتقد أن له حظه الكبير من الصحة.

البيان: إذن هناك قطيعة، وهناك توفيق هل هما مسلكان متباينان

متصارعان داخل المجتمع الغربي؛ أم هو نوع من التلفيق بين هذا وذاك؟

- أ. محمد: من الممكن أن يكون هذا من نتائج تصور الغرب للدين أنه

أوجد صيغة توفيقية من أجل إنقاذ النصرانية لفترة من الزمن بدلاً من أن يرفض

النصرانية بالكامل.

البيان: لكن بذرة العلمانية موجودة منذ أن شاع مبدأ: «دع ما لقيصر

لقيصر، وما لله لله» وهذا له خصوصيته بالنسبة للنصرانية كدين وللغرب

كمسلك في الحياة.

- د. إبراهيم الخولي: الأقرب أن ذلك كان نتيجة غير مرادة للغرب، ولكنه

هو ما وقع بالفعل نتيجة السياق التاريخي؛ فكما جنت الحداثة على النصرانية

وحصرتها في ركن الحياة حتى حين، أسدت إليها جميل البقاء؛ فالقطيعة وجدت

وقويت، وما أن أخفقت الحداثة وسقطت ذلك السقوط المريع، حتى بدأ الدين يعود

من جديد وبقوة، لكنه عاد بغير الصورة التي كان بها وقت سطوة الحداثة عليه؛ إذ

عاد ديناً حداثياً علمانياًً فضفاضاً، عبارة عن شعارات وأمانٍ ترسم له العلمانية دوره.

- د. مصطفى حلمي: العلاقة بين الحداثة وبين النصرانية تراوحت بين

المصالح المشتركة وبين التنافس أو النزاع والخصومة الشديدة، كانت القضية بين

الكنيسة والدولة، لكنها تعدت ذلك إلى الجماهير التي حركها فكر ومصالح وشهوات

جنباً إلى جنب، وحين انطلق العقل من إسار النصرانية وصل مؤخراً إلى حالة من

العجز أدت إلى البحث عن حل ربما يكون هنا أو هناك؛ ليس لأنها حق ولكن

لكونها بمثابة المنطق الذي يُستند إليه.. وبهذا فإن الفكر الغربي وصل بالفعل إلى

مرحلة من الإفلاس الذي نقرأ بعض معالمه اليوم.

- أ. محمد مبروك: من الطبيعي أن يحدث كل هذا داخل الحضارة الغربية

بدءاً بالتمرد على النصرانية وانتهاء بالعجز، ومن المهم استصحاب هذا في قراءة

سياق تطور الفكر العلماني، ومن المهم هنا أن نلقي الضوء على ما ذكره بعض

الباحثين من أن النصرانية تمثل أكبر إشكالية في تاريخ الفكر الإنساني لأربعة

أسباب:

أولها: هي صورة وجود السيد المسيح نفسه في التصور الغربي، ويذكر

المؤرخون الغربيون وعلى رأسهم (ول ديورانت) أن وجود السيد المسيح نفسه من

الناحية الموضوعية عند الغرب مشكوك فيه، وفي نظري أن الإسلام هو أكبر داعم

لوجود المسيح في التاريخ.

الإشكالية الثانية: تتعلق بصحة تواريخ الأناجيل ومدى صحة إسنادها إلى

أصحابها؛ هذه الأخرى مطعون فيها ومن المؤرخين الغربيين أيضاً.

الإشكالية الثالثة: حول مدى صحة ما جاء في هذه الأناجيل والتناقضات فيما

بينها.

الإشكالية الرابعة: أن النصرانية المشاعة الآن لا علاقة لها بالأناجيل حتى

المحرفة. الأناجيل ليس فيها كنيسة ولا رهبانية ولا قواعد صلاة ولا أي قواعد مما

يذاع فيها. بمجموع هذا كله فالنصرانية تمثل إشكالية تسوغ للعقل الغربي أن يسير

فيما سار فيه؛ وهذا السياق لا يصح مطلقاً للتطبيق على مجتمعاتنا الإسلامية.

- د. إبراهيم الخولي: هناك سبعة من كبار أساتذة اللاهوت في أكسفورد

ألفوا كتاباً بعنوان «خرافة تجسد المسيح» في أوائل الثمانينيات، وأحدث ضجة،

وقد ترجمه أحد الأساتذة المصريين هناك لكنه لم ينشر حتى الآن.

- د. علاء عبد العزيز: النصرانية ديانة مرتبطة بالروح وليست ديانة واقع

(معاملات) ؛ لأنها فُرضت لتهذيب الجانب المادي عند اليهود، أما الإسلام فإنه

دين متوازن ما بين قيم روحية وتعاملات في الواقع والسلوك، الإسلام يضبط

السلوك.

الشيء الملفت في سقوط الحداثة هناك - وكما ذكرت منذ قليل - أن هناك

حنيناً جارفاً للعودة إلى الدين في الغرب؛ لكنها عودة بشكل من أشكال الهوية وليس

من أشكال الإيمان، والاقتناع بالدين.

* البرجوازية والحلقة المكملة:

البيان: كيف تشكلت الحداثة في ظل المجتمع الرأسمالي في ظل التمرد على

الكنيسة؟

- أ. محمد مبروك: حين نشأت الحداثة في نهاية القرن ١٩ وبداية القرن

٢٠ كانت البدايات في مجتمع الاغتراب؛ فالمهاجرون في مجتمع المدينة مع

شعورهم بالاغتراب في ظل البرجوازية، نمت لديهم مشاعر الكراهية والثورة على

هذا المجتمع؛ لأنها ليست مدينتهم.

البيان: تماماً كما يشعر اللقطاء!

- أ. محمد مبروك: بالضبط؛ لأن المجتمع البرجوازي تعامل بمادية بحتة

مع القادمين ولم يعاملهم مثلاً كما عامل الإسلام المهاجرين، وانطلقت الحداثة من

خلال الأدب والفن بقوة، وتأثر بها الفكر وتأثرت السياسة ولكن بصورة أقل

وضوحاً، ومع تجليها في الفن بقيت شديدة التضارب والتعقيد.. شديدة الغموض.

ومع تجذر الاغتراب وتحوله إلى قطيعة، تحولت الحداثة إلى مشروع تمرد

يبحث من خلال التجريب عن حلٍّ ما للإنسان، هكذا هم تصوروا الأمر، وقد كان

التمرد على المجتمع الرأسمالي البرجوازي في البداية، ثم تحول إلى تلك الصورة

الشاذة مع الوقت، وفي هذا الإطار نرصد في الفن (فوكنر) و (بيكاسو)

و (ستراينسكي) و (بوريس) ، وبالنسبة للأدباء (باوند) و (لورنس)

و (جيويس) و (بتس أليوت) .

اللافت للنظر هنا أن تلك القطيعة أسقطت مع الوقت كل الرؤى المعرفية التي

يمكن البناء عليها، ليس الرؤى الدينية فقط بل والتأملية (العقلية) ، وتفجرت

النزعات الإنسانية المتمردة في كل الاتجاهات.

- د. علاء عبد العزيز: فيما ذكر الأستاذ ملاحظة مهمة حول الخصوصية

الغربية في نشأة الحداثة، تمثلت في نظرة القادمين إلى المدينة وكم الحقد الذي

يدفعهم للتمرد لشعورهم بتقاليد جديدة تعاملهم كآلة بما رسخ القطيعة الشعورية بين

هؤلاء والمجتمع، مع أن هؤلاء القادمين كانوا من الذات الغربية، ولكن التعامل

الطبقي معهم ورثهم الكراهية. وإذا كانت هذه النظرة داخل الذات الغربية فكيف

النظرة إلى الآخر؟!

البيان: إذا ذكرت الحداثة ذكر (نيتشة) بانقلابه الكبير في عالم الأفكار

والقيم، فكيف رسخت أفكاره لمسلك القطيعة الذي بدأ شعوراً ثم تطور فكراً أو

فلسفة؟

- أ. محمد مبروك: كما كانت الثورة الفرنسية انقلاباً على الفكر الكهنوتي

حين وضعت أسس البرجوازية على أنقاض المجتمع الإقطاعي الأرستقراطي بآدابه

وفكره، وصعدت الوضعية في كينونة عقلانية؛ كانت أفكار (نيتشة) انقلاباً على

البرجوازية والكهنوتية معاً، حيث ذهب الأول إلى أنه لا يوجد موضوعية في

العالم..! ومن ثم أسقط كل المفاهيم والقواعد القيمية الفلسفية والمجتمعية

للمجتمع البرجوازي، وكان المقابل قيماً جديدة تأتي من خلال التجريب في

اتجاهات شديدة العدمية والعبثية وشديدة الغموض.. يطرحها الفنانون، هو يجرب..

النزعات كلها مباحة، ومن ثم فلا غرابة إذا ما صارت المثلية والشذوذ مثلاً جزءاً

لا يتجزء من التجريب الحداثي.

- د. علاء عبد العزيز: ينبغي أن نفرق بين القطيعة المعرفية والانقطاع

التاريخي؛ فالحداثة تمثل قطيعة معرفية مع الماضي دون أن يعني ذلك انقطاعاً في

المسار التاريخي، بمعنى أننا لا يمكننا التوصل إلى لحظة تاريخية نعتبرها كحد

السكين نهبط بها لنفرق تاريخياً بين الحداثة وما قبلها، وما بعدها.. فالحداثة جاءت

إفرازاً لتفاعل مجموعة عوامل آخذة في التطور في ظروف اجتماعية تتعلق بالغرب.

هناك تداخل بين هذه العوامل، ومن هنا يمكن رصد عدة تطورات فكرية

وتاريخية أسهمت في توليد الحداثة:

- في عام (١٨٥٩م) ظهر كتاب: «أصل الأنواع» لـ (دارون)

ومنهجه الذي ينتهي بالغرب إلى نزع القداسة عن الإنسان «كونه مخلوقاً لله»

ونسبته إلى الطبيعة، والإعلاء من شأن القوة في مقابل القيمة «فكرة البقاء للأقوى

وليس للأصلح» .

- وفي (١٨٦٧م) صدر كتاب: «رأس المال» ، الجزء الأول

لـ (ماركس) وهذا كان محاولة لهدم المفهوم الأرستقراطي والاقتصادي

الرأسمالي الموجود في الغرب وبرجوازيته.

- (١٨٨٢م - ١٨٨٣م) ظهر كتابان لـ (نيتشة) وهما: «العلم المرح» ،

و «هكذا تكلم زرادشت» وطرح بدعته عن موت الإله، وأنه ينكر أن يكون

هناك إله مجاوز لهذا الواقع.

- (١٨٩٠م) صدر كتاب «الغصن الذهبي» لـ (جيمس فريزر) وتكلم

عن الأساطير المؤسسة للمسيحية وعلاقاتها بالأساطير.

- (١٨٩٥م) اكتشاف أشعة (إكس) ، وبداية دخول العالم الداخلي للإنسان.

- (١٩٠٠م) كتاب «تفسير الأحلام» لـ (فرويد) .

- (١٩٠٥م) النظرية النسبية في صياغتها الأولى لـ (أينشتين) .

كل هذه التراكمات أدت إلى تحطيم كافة التصورات الكلية لدى العالم الغربي

التي تشكل رؤيته للكون، والتي كانت تحمل في طياتها كثيراً من الخرافات، ومن

ثم حين اكتشف العقل الغربي حجم الأخطاء في تصوراته الكلية حدثت صدمة

ضخمة عصفت بما يحمله الفكر الغربي أيضاً من بعض الحقائق.

ومن هنا فإن الحداثة لم تأت من فراغ، ولكنها جاءت وفق سياق تاريخي

متتابع خاص بالتطور التلقائي الذي مر به التاريخ الغربي، عبر الاكتشافات

والآراء النظرية الفكرية والفلسفية والعلمية؛ فهذا مرتبط بفلسفة التنوير، وليس

هناك لحظة انقلاب من حال إلى حال، ولكنها تراكمات.

- أ. محمد مبروك: هذا صحيح فلم تكن هناك نقطة تاريخية بذاتها مثلت

لحظة انقلاب كلي، ولكن مجمل ما حدث هو انقلاب كلي.. فثورة الفكر الغربي

على الكنيسة تمخضت عن مدرستين هما: «المدرسة المثالية العقلية» (هوبز

وبلوك وهيوم) ، و «المدرسة المادية التجريبية» (بريكلي وكانط وهيجل) ..

وكان بين المدرستين صراعات ومساجلات طويلة تأرجح الفكر الغربي بين

وجهتيها، وكلا المدرستين نتاج لاستبداد العقل الغربي وانفصامه عن الكنيسة

في رسم المنهج البشري، وبناء تصور للوجود، وابتداع القوانين التي تدير شؤون

الحياة.

من هذا المنظور انطلق التطور في الغرب، لكن مع نهاية القرن الـ ١٩

ومع ظهور بعض العوامل المادية التي أشار إليها الدكتور علاء والتي من بينها

أصل الأنواع، ولكن أهمها من وجهة نظري الثورة على وجود إله بحق أو بباطل.

البيان: تقصد هرطقة نيتشة حول موت الإله التي تعد من أخطر الأفكار التي

طرحت في سياق التطور الحداثي؟

- أ. محمد مبروك: ليس (نيتشة) وحده، بل هناك أيضاً (وليام جيمس)

والذي أتت أفكارهما على ما تبقى من قيم، فانحدرا بالفكر الغربي نحو مهاوٍ سحيقة

أبعد من مجرد الكفر بوجود إله، ف (نيتشة) لم يكتف - تعالى الله - بإعلان فكرة

موت الإله، وإنما عمل على محو ظلال الإله؛ وهي القيم التي كان يحافظ عليها

حتى منكرو وجود إله. بمعنى أن الذين أنكروا وجود الإله راعوا قدراً من القيم

التي كانت متعلقة بوجود الإله والتي تمثل إطاراً أخلاقياً عاماً للمجتمع، وهذا لم

يكن متسقاً مع إنكارهم للإله، فجاء (نيتشة) بقوله: «إذا كان الله غير موجود فلا

قيم ينبغي أن تعلق مطلقاً في الهواء» ، وبدأت مرحلة من القضاء على كل القيم.

اللحظة الفارقة أن الفكر الغربي الذي جعل الإنسان الكامل هو الذي يدير

الكون بدلاً من الإله، وهذا لا يعني القضاء على الأديان فحسب؛ بل وعلى

المذاهب الفكرية التأملية التي تصنع مشروعاً بديلاً من خلال العقل الإنساني.

وبمعنى أدق: القضاء على المشروع التنويري الذي نتج عن قمة عصر النهضة،

بمعنى أنه ليس هناك مثاليون، أو ماديون، وهم الذين تبنوا من قبل مشروعات

ثورية على الدين، وحاولوا أن يضعوا تصوراً للحياة من خلال منظومة عقلية أو

مادية.

- د. إبراهيم الخولي: الغرب استهلك النصرانية في عصر الإقطاع، ثم

أقصاها.. ثم استهلك الدين المدني مع (روسو) والدين الوضعي مع (أوجست

كونت) ، وها هو اليوم يشقى بما بعد الحداثة بعد أن دمرت الحداثة بنياته الفكرية

والثقافية، وأُفسد الإنسان وسُحق بمفاهيم الحرية المزعومة التي بشرت بها الحداثة،

وخُرب المجتمع، على طريقة جئتُ ولكن لا أدري من أين ولكني أتيت ولقد

أبصرت طريقاً قدامي فمشيت. منتهى الضياع ومنتهى السقوط وهذا ما نجده أكثر

وأكثر في مبدأ البرجماتية الشهواني الذي أرساه (وليام جيمس) .

- أ. محمد مبروك: (وليام جيمس) كان أخطر الجميع، وكان معاصراً

لـ (نيتشة) ، وطرح فلسفة ليس لها أي احترام على المستوى الأكاديمي، لكنها

من حيث التطبيق العملي هي أخطر ما نتج عن الفكر الإنساني من حيث القابلية

للانتشار والذيوع هذا إذا تحدثنا من خارج النطاق الإسلامي ففكر (نيتشة)

قائم على بعدين أساسيين متجذرين في الحضارة الغربية هما: (أبيقور)

و (السوفسطائيون) : أي «العبث، وليس في الدنيا حقيقة مطلقة» فانطلق من

نقطة عبث، وقال: «ما دمتم تقولون إن المذهبين الأساسيين المادي والعقلاني

لم يوصلاكم إلى حقيقة مؤكدة.. فتحملوا الأفكار التي سأقولها لكم؛ ليس من

باب اليقين، ولكن على الأقل من باب الظن مبدئياً، ولا أريد منكم تصديقها، ولكن

ما دمتم غير مستيقنين من أي شيء.. فخذوا ما أقوله؛ فربما يكون مظنوناً» .

وهو نفس ما انطلق منه (وليام جيمس) فهو أيضاً لم يدّع مبدأً وكأنه يتفق مع

(نيتشة) في هذه النقطة ليس حقيقة، ولكن موقفه يفارق (نيتشة) في التعامل مع

العالم بشيء خطير جداً يحمل الكثير من التلاعب، وهو أنه حمّل (أبيقور) فوق

هذه العدمية، ما دام أنه ليست هناك حقيقة.. والحياة عبث في عبث، لو أن

الإنسان وقف أمام الأفكار المصيرية في الحياة فسيتحول إلى القلق والسأم والجنون؛

لأن افتقاد وجود الإله ليس فقط يسقط القيم كما يعتقد (نيتشة) ، ولكنه يسقط

القواعد القيومية المنطقية التي تنظم العالم في نظام ما؛ لأن من يعيش في هذه

اللحظة بحقيقة كاملة يتآكل ويموت في العبث، وقد يجن الإنسان بالفعل. هذا الكلام

هو ما وعاه (هدجر) .. فكان البديل هو فكرة إلهاء الإنسان عن هذه المواجهة

العاجزة أمام الأفكار المصيرية للحياة.

البيان: سياسة الإلهاء التي تتبناها مؤسسات التوجيه العالمية والمحلية هي

جزء لا يتجزأ من الحداثة التي رسخها نيتشة وطورها وليم جيمس.

- أ. محمد مبروك: ينطلق جيمس من فكرة ساذجة تقول: لا تقل هذا خطأ

أو صواب، ولكن جرب أي فكرة في الحياة وانظر فيها؛ فإذا كانت تأتيك بمنفعة

عملية - المنفعة العملية في التطبيق العملي الأمريكي ستتحول إلى لذة - فهي حقيقة،

وإذا لم تأتك بمنفعة عملية فلا تقل إنها باطل ولا حقيقة؛ لأنها لا تهم، وطبق هذا

ضمن ما طبق على العقيدة في الله تعالى؛ فلا يقول: الله موجود أو غير موجود؛

فهذه القضية لا يشغلون بالهم بها؛ «دعنا نتمتع بإلهنا لو كان لدينا إله» إذن ليس

لديهم دين حقيقي ودين غير حقيقي؛ فإذا تعامل المرء منهم مع الدين بطريقة عملية؛

فمثل له لوناً من الاسترخاء والتخدير ضمن حالة الإلهاء المادي التي يعيشون فيها

فهو في نظر هؤلاء دين نافع.. وإذا عجز عن أداء هذا الدور طلقه وكفر به؛ ومن

هنا انتشر الإلحاد في المجتمعات الغربية، وقد فلسفها (وليام جيمس) بقوله: هذه

طرائق جديدة لأفكار قديمة.

- د. مصطفى حلمي: لقد انتشرت ثقافة اللذة وسلوكها في سائر المجتمعات

من خلال أبواق الإعلام والثقافة، وأمست بضاعة يروج لها أبرز رموز الحداثة في

عالمنا الإسلامي من خلال منتدياتهم وتفاعلاتهم المقروءة والمسموعة والمرئية؛

فالثقافة على سبيل المثال أصبحت منتجاً، وصارت تتمحور في مفهومها حول اللذة

والمتعة وحول ما يشاهده الإنسان دون ما يغيب عنه، ويلجأ كثير من الحداثيين إلى

الفكر الغنوصي لهدم كثير من الثوابت الإسلامية ومن بينها عقيدة الربوبية وصولاً

إلى ما راج في الغرب من أفكار شاذة، وقد رأينا نماذج هذا الطرح في رواية

الوليمة وأخواتها. هذا للأسف هو الطرح الذي تتبناه عدد من الدوائر الرسمية

والدور الثقافية في عدد من بلاد الإسلام باسم الحداثة والتنوير!

- أ. محمد مبروك: الفكر الحداثي طبقاً لجيمس يقدم تسويغاً لما هو موجود

بالفعل في الحياة الأمريكية (للرأسمالية) التي تحول كل الأشياء إلى ماديات وإلى

منفعة، ويقنن البحث عن تجدد المتعة إلى أقصى درجة وجعلها رغبات مستمرة،

بحيث يصاب الإنسان باللهاث وراء تلك الرغبات دون أن يتمكن من تلبيتها،

فيتحول الإنسان في هذه الآلية المتسارعة إلى درجة من الإلهاء الحسي التام بعيداً

عن التوقف أمام الأفكار المصيرية التي تحطمه؛ لأن (وليام جيمس) متيقن أنه لو

توقف أمام هذه الأفكار المصيرية فسيصل إلى مرحلة الجنون.

هذه الأفكار اعترف (جيمس) نفسه بافتقادها للمنطق؛ ولذلك رفضها

الأكاديميون، لكن الفكرة لشهوانيتها وضعف الإدراك أو لنقل الإيمان أمامها غزت

العالم بالفعل كما توقع صاحبها حيث النقد الرديء يطرد النقد الجيد.

البيان: الحداثة سحقت الإنسان حين حولته إلى آلة حيناً؛ وإلى حيوان

بهيمي حيناً آخر؛ لكنها ما زالت تخاتل من خلال أدوات جبارة وأفكار براقة، وقد

رأينا صوراً من البرجماتية التي تحمل على ظهرها روحاً صليبية تسحق بها

الشعوب ليس بالآلة الإعلامية الجهنمية وحدها، بل وبالعتاد الحربي الثقيل؛ ومن

ثم فمن المتوقع أن يصبح الشعار في الأيام المقبلة: لا صوت يعلو فوق صوت

الحداثة؟

- د. مصطفى حلمي: ظاهرة التشيُّؤ التي سيطرت على العقل الغربي في

نظرته للإنسان جعلت من الإنسان مجرد آلة يتم الانتفاع بها انتفاعاً مادياً ثم يرمى

تماماً كما يحدث للآلة بعد أن تستهلك، هذا التفكير سحق الإنسان بالفعل حين حرمه

مرة من إشباع حاجاته الروحية، وجعله مجرد سلعة تباع وتشترى، وأرهقه أخرى

حين رده إلى بهيمية غرائزية أسقطت تعاليم الدين كما أسقطت تقاليد المجتمع، بل

أسقطت مفهوم المجتمع ذاته ليتحول الغرب إلى نزعة فردية قاتلة ذات طابع

عشوائي إغوائي تبرز فيها وسائل إعلام جبارة تصنع لهؤلاء الأفراد رغباتهم

وأفكارهم، وتغيرها متى شاءت دون أن يملك الفرد حق الاعتراض، حتى وإن

استخدمه فإن صوته يذهب هباء وسط هذا الصخب الهائل، وكما يحدث في عالم

الموضة تتم السيطرة على ساحة الفكر باستمرار من خلال إصدارات متتالية يغرق

العقل الغربي في تهويماتها وتفصيلاتها، مستفيدة في ذلك من تطبيقات علم النفس

الاجتماعي في توجيه تلك الشعوب، ومن ثم فإن ما يعبر عنه بالحرية الفردية ما

هي إلا أكذوبة لا تقل فحشاً عن الأكاذيب التي يمتلئ بها عالم الحداثة وما بعدها

اليوم، وكما تم سحق الفرد يتم سحق الشعوب المستضعفة، والعجيب أن تصادر

حريتها باسم الحرية، وتسلب مدخراتها باسم العدالة ويُضيّع مستقبلها باسم حماية

المستقبل.

- د. علاء عبد العزيز: هناك حالة من حالات الخداع التي اكتشفت أنه كلما

ازدادت المعرفة ازداد سلوك الإنسان انضباطاً ورُقياً واقتراباً من المثل العليا، لكن

فجأة وفي وسط هذا التطور الفلسفي والفكري المجرد.. تنفجر أحداث حربين يطلق

عليهما عالميتين، لنكتشف الوجه القبيح لهذه الحضارة: الإبادة بالجملة. كانت

الحرب قائمة فيما مضى على طرفين لا ينسحب طرف إلا بعد هزيمته، وعندما

أصبحت الحرب حرب إبادة مدنيين نساء أطفالاً رجالاً لا يهم فالمهم المكسب..

الوجه القبيح للحداثة ماثل في إلقاء القنبلة الذرية على اليابان وليس ألمانيا؛ لأن

ألمانيا هي جنس أوروبي لكن اليابانيين جنس أصفر لا تهم إبادتهم، ومع أن واقع

التاريخ يؤكد أن اليابان كانت ستستسلم، وأرسلت ما يفيد ذلك ولكن سطوة الرجل

الأبيض المرتبطة بالعنصرية الشديدة طغت على مسالك التفكير.

- أ. محمد مبروك: هم أرادوا أن يكسروا اليابانيين لصالحهم قبل أن

ينكسروا للروس من أجل تحقيق مكاسب لهم قبل الروس، ومن هنا فنحن نموذج

برجماتي بحت.

البيان: هذا «طرح» نموذجي لثنائية «الأنا والآخر» على حقيقتها في

الملة الحداثية، ومثال «صارخ» للتسامح الحداثي المزعوم مع الآخر!!

- د. مصطفى حلمي: الوجه الأخلاقي للحداثة تبدى جليّاً في معاملة الغرب

العنصرية للمجتمعات الأخرى. الحداثة ليست سوى عنصرية واستعمار وتسلط

وعنف، وهي الآن تتبدى في ممارساتها حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها في

ممارسة كل هذه الأخلاق أو تجديدها. المجتمعات التي تفيض عنفاً وشذوذاً،

والتاريخ المليء بأبشع صور الاستعمار وذبح الشعوب، وسرقة ثرواتها، سواء في

عالمنا الإسلامي أو في أمريكا الجنوبية أو حتى في الولايات المتحدة ذاتها، الحداثة

التي تستبطن مبدأ داروين (البقاء للأقوى) هي التي تبعث بجيوشها لتهلك الأخضر

واليابس وتوزّع على الشعوب نصيبها من اليورانيوم المنضب الأمريكي!! وتحول

بقية العالم إلى مصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة، وسوق مفتوحة بشكل دائم

للسلع الغربية. وعصر الحداثة وما بعدها هو الذي شهد إبادة الملايين، وكما يقول

بعض الباحثين: إن هذا الإله الصناعي الحديث [لحداثة] أباد عرقاً بأكمله (العرق

الأحمر) ، أي سكان الأمريكتين الأصليين، وأكل زبدة عرق آخر (العرق الأسود)

عن طريق النخاسة واستعباد ملايين (مما يضع عدد ضحايا هذه العملية نحو مائة

مليون إنسان) باعتبار أن عبداً واحداً يحتفظ به النخاسون الغربيون كان يقتل مقابله

تسعة عبيد. هذا بخلاف الشعوب التي تمت إبادة الملايين منها في دورة الاستعمار

الماضي، والتي تتكرر مشاهدها اليوم في العراق وفلسطين وأفغانستان والبوسنة،

وأمبون وتيمور وكشمير، والشيشان ومورو ... ، فلماذا يريد الغرب منا أن

ندين بالحداثة؟ وإذا كان الغرب يبشر بالحداثة تحقيقاً لصالح شعوبنا فلماذا يدفع إلينا

بجيوشه وعتاده، ويحرّم علينا أسرار التقنية والتقدم التي يسهم في جزء منها

مسلمون وعرب.

البيان: تقول بعض الإحصائيات إن ما ينفق اليوم على السلاح يفوق

بأضعاف مضاعفة ما ينفق على الطعام والدواء، كما تشير إحدى الدراسات إلى

أن إجمالى ما استهلكته الولايات المتحدة (كبير كَهَنَة الحداثة) يفوق مجموع ما

استهلكه الجنس البشري منذ آدم - عليه السلام - وحتى اليوم.

- د. إبراهيم الخولي: الحضارة الغربية بطبعها حضارة عنصرية قائمة

على مركزية الغرب، والحداثة شأنها شأن أي نتاج عن هذه الحضارة، هذه

الحضارة بحداثتها هي التي تجعل اليوم من ٨٠% من سكان العالم فائضاً بشرياً

يجب التخلص منه. والحداثة كما تقوم على سحق الشعوب، تقوم على سحق الفرد

من خلال قيم فردية، يلهث فيها الإنسان وراء ما يقرر له أن يلهث وراءه،

والحريات الفردية أكذوبة كبرى، وإنما هي حريات فرويدية إن صح التعبير.. لم

تشقَ البشرية في تاريخها كما شقيت اليوم وهي كلها لم تعد بمأمن من ضربها

بأسلحة فتاكة.. وحروب لا تدري لِمَ أقيمت ولا متى تنتهي، ومن أمراض نفسية

وبدنية، وسقوط اجتماعي، وضحالة فكرية، وافتقاد الحداثة للمرجعية النصية يعلن

عن إفلاس في القيم وفي الأخلاق ومن ثم إفلاس في الحضارة.

وهل عُهِدَ في الفكر الإنساني وفي تاريخ الثقافات أن تقوم مذاهب على هذا

المستوى المدعى من الشمول..! تقوم وتطور وتموت في عقود ثلاثة كما في

البنيوية وعقدين كما في التفكيكية ثم تنتهي؟

البيان: نتوقف عند هذا الحد، ونستكمل في العدد القادم إن شاء الله

الحديث عن دعوى الحداثي العربي بين الأصالة والعمالة.