للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[موريتانيا بين الإسلام والعلمنة]

يحيى أبو زكريا [*]

منذ استقلال موريتانيا وتعيين فرنسا مختار ولد دادة رئيساً لموريتانيا، وكل

الأمور الصغيرة والكبيرة بيد العسكر الذين تلقّى العديد منهم تكوينه العسكري في

المعاهد العسكرية الفرنسية، ومنذ ١٩٦٠م وإلى سنة ألفين لم تخرج مقاليد الأمور

من يد العسكر الذين كانوا يديرون لعبة الحكم بالتراضي أحياناً وبالتصادم أحياناً،

وفي أحايين أخرى كانوا يتقاسمون النفوذ والمصالح. ودائماً كانت الرتب العليا في

المؤسسة العسكرية حكراً على حملة الثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية، وكانت

المعاهد الفرنسية يغلب عليها الطابع الفرانكفوني. وكانت السلطات الفرنسية تدعم

باستمرار هذه المعاهد الفرنسية، على عكس المعاهد العربية التي كانت تلقى

الإهمال والإجحاف، وكان خريجو المعاهد العربية لا يجدون وظائف بعد تخرجهم

في الجامعة. وللإشارة فإنّ المعاهد العربية لم تكن تتجاوز ثلاثة معاهد في مناطق

بوتيليمين وإطار وكيفة، بينما أخذت المدارس الفرنسية تتكاثر وتتوالى عليها

المساعدات من المراكز التعليمية الفرنسية التي كان مقرّها في داكار في السنغال.

بالإضافة إلى هذا فإنّ الدستور الذي حكم موريتانيا لأزيد من عقدين كان نسخة

طبق الأصل عن الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة، على أساس أنّ الشعب

الموريتاني وفي عهد الاستعمار الفرنسي أيّد الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة

وكان ذلك في ٢٨/٩/١٩٥٨م.

ومن رحم هذه الأجواء الثقافية الفرانكفونية نشأت النخبة العسكرية الموريتانية

التي وجدت نفسها صاحبة الحل والعقد في دولة كل سكانها من المسلمين، وقد

عملت هذه النخبة على:

- طمس الهويّة العربية والإسلامية للشعب الموريتاني.

- ملاحقة كل التيارات الوطنية والإسلامية التي تنهل من العروبة والإسلام

والتي كانت تتحرك من منطلق إرجاع موريتانيا إلى دائرتها العربية والإسلامية.

ولم تتمكن هذه النخبة الفرانكفونية من فرض الثقافة الاستعمارية بالقوة؛ إذ إنّ

الشعب الموريتاني الذي لعب أجداده دوراً كبيراً في إيصال الإسلام واللغة العربية

إلى إفريقيا، ظلّ محافظاً على أصالته. ولأجل الدفاع عن الهويّة المسلوبة تأسس

العديد من الأحزاب والتيارات التي كانت تهدف إلى استرجاع الهويّة المسلوبة، وقد

قرعت الأحزاب الوطنية والإسلامية جرس الإنذار باكراً، وبدأت تدفع الشعب

الموريتاني باتجاه العودة إلى أصالته، وهذا ما جعل العسكر يصعّدون حملاتهم ضدّ

هذه التيارات التي كانت تحمل مشروعاً مغايراً لمشروع السلطات المتعاقبة على

موريتانيا.

* خارطة الأحزاب السياسية في موريتانيا:

على الرغم من أنّ موريتانيا دولة صغيرة وهي شبه معزولة عن العالم،

وتعيش صراعاً مريراً بين الأصالة والمعاصرة، وبين التقاليد والعصرنة، وبين

فكر القبيلة وفكر المدينة، إلا أنّها تشهد حركة حزبية وسياسية نشيطة منذ استقلالها

وإلى يومنا هذا.

وكثرة الأحزاب السياسية في موريتانيا تعكس التوق الكبير إلى الحرية وانفتاح

الموريتانيين على كافة التيارات والمذاهب الفكرية والسياسية، وكثيراً ما كانت

موريتانيا تتأثر بالأفكار القادمة من المشرق العربي وحتى من بقية الدول المغاربية،

والتيارات السياسية في موريتانيا هي في الواقع انعكاس للحركات السياسية في

المشرق العربي وبقيّة الدول المغاربيّة.

ومع أنّ منطق القبيلة هو المسيطر على المسلكية الاجتماعية في موريتانيا إلاّ

أنّ ذلك لم يحل دون انتشار الأفكار السياسية من كل الألوان في هذه القبيلة أو تلك،

إلى درجة أنّ باحثاً موريتانيّاً وفي مضمار حديثه عن القبائل الموريتانية أشار قائلاً

بأنّ القبيلة الماركسية والقبيلة الإسلامية في إشارة إلى رواج الأفكار الماركسية في

هذه القبيلة والأفكار الإسلامية في القبيلة الأخرى.

ومن أقدم الأحزاب السياسية في موريتانيا حزب الشعب الموريتاني الذي تمّ

حلّه إثر انقلاب يوليو ١٩٧٨م. وهناك أحزاب كانت تعمل في السرّ كالحركة

الديموقراطية الوطنيّة والتي تأسست سنة ١٩٦٨م، وحزب النهضة الذي أسسه

أحمد بابا مسكي في الستينيات، وحزب الكادحين الموريتانيين الذي تأسس في سنة

١٩٧٣م، وحزب العدالة الموريتاني الذي تأسس في باريس في سنة ١٩٧٤م،

وحزب البعث الاشتراكي الموالي للعراق وهو من أقدم الأحزاب العاملة في

موريتانيا، وقد أتهم هذا الحزب مراراً بمحاولة قلب نظام الحكم، آخرها محاولة

انقلابية للإطاحة بحكم الرئيس معاوية ولد طايع، وذلك بالتنسيق مع العراق كما

جاء في بيان اتهام هذا الحزب.

ومن الحركات السياسية التي كانت تنشط في موريتانيا الحركة الناصرية التي

كانت متأثرة بفكر الرئيس جمال عبد الناصر.

ونتيجة للاضطرابات السياسية وتوالي الانقلابات العسكرية فقد برزت

عشرات الأحزاب السياسية إلى الوجود، وانقرضت أخرى، بسبب حظر

الحكومات المتعاقبة على الحكم في موريتانيا قيام أحزاب سياسية وخصوصاً تلك

التي تقوم على أساس ديني.

وقد بدأت الحركة السياسية في موريتانيا تزدهر بعد إقرار الدستور الجديد

الذي وضعه الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع، وقد نصّ الدستور على مجموعة

مبادئ عامة منها جميع مبادئ حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وأكد الدستور الجديد

على أنّ الإسلام هو دين الدولة، وأنّه المصدر الوحيد للقانون والذي يتلاءم مع

متطلبات العلم الحديث، وبهذا الشكل أرضى الدستور التيارات الإسلامية التي كانت

تطالب بتطبيق الشريعة الإسلاميّة، وأرضى التيارات العصرية التي كانت تطالب

باحترام حقوق الإنسان والمرأة.

وأكد هذا الدستور على أنّ الشعب الموريتاني شعب مسلم عربي وإفريقي

مصمم على السعي من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي والأمة العربية وإفريقيا.

وأقرّ الدستور الجديد على أنّ اللغة العربية هي لغة رسمية من دون شريك في

رسميتها ومن دون ازدواجية في سيادتها، وبهذا الشكل أرضى الدستور القوميين

الموريتانيين الذين يؤمنون بعروبة موريتانيا، وبتأكيد الدستور على الانتماء

الموريتاني إلى إفريقيا أرضى الزنوج الذين يرفعون شعار موريتانيا الإفريقية،

والذين يتحدثون في خطاباتهم السياسية على ضرورة تحرير موريتانيا من البيضان.

وأكد الدستور على أنّ اللهجات الإفريقية السائدة في موريتانيا وهي: البولارية

والولفية والونيكية هي لغات وطنية في موريتانيا، ونصّ الدستور أيضاً على

المساواة بين جميع المواطنين من دون تمييز في الأصل والجنس والعرق

والمكانة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه نصّ الدستور على أنّ القانون يعاقب كل

دعاية إقليمية ذات طابع عنصري وإقليمي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ مجموعة من الزنوج الموريتانيين كانوا قد أسسوا في

السبعينيات حزباً أطلقوا عليه اسم: جبهة تحرير الأفارقة في موريتانيا، وكانت هذه

الجبهة تهدف إلى إقامة دولة سوداء في موريتانيا، التي ستحمل اسم دولة والو والو

في حال نجاح خطة هذه الجبهة، وقد حاولت جبهة تحرير الأفارقة القيام بانقلاب

عسكري أحبطته السلطة الموريتانية في ذلك الوقت.

وكانت جبهة تحرير الأفارقة التي أسسها وول فوغوي تطالب بتحرير

موريتانيا من البيض، وكانت على علاقة ببعض الدول الإفريقية المرتبطة بفرنسا،

كما كانت على علاقة بالأجهزة الأمنية الفرنسية.

ومن الأحزاب التي تأسست في وقت لاحق حزب اتحاد القوى الديموقراطية

الذي أنشأه أحمد ولد دادة وهو حزب يساري، والحركة الوطنية الماركسية التي

تخلت عن أيديولوجيتها وتكيفت مع المتغيرات العالمية، وحزب العمل من أجل

التغيير الذي كان يتزعمه مسعود ولد بلخير وهو شخصية سياسية منشقة عن حزب

اتحاد القوى الديموقراطي، والرابطة الديموقراطية الموريتانية وهي حزب كان

شكلياً في خانة المعارضة وجوهرياً من أقرب الأحزاب إلى نظام معاوية ولد طايع.

وقد تحول حزب البعث الموريتاني إلى حزب الطليعة وكان يتزعمه خضري

ولد طالب جدو، ثمّ تولى زعامة الحزب عبد الله ولد أمحيمد الذي اعتقل بتهمة

تدبير انقلاب ضدّ نظام معاوية ولد طايع بالتعاون مع المخابرات العراقية.

ومن الحركات السياسية الأخرى في موريتانيا حزب التحالف الشعبي التقدمي

وهو ذو ميول ناصرية وقومية وكان الناطق باسم هذا الحزب هو محمد الحافظ ولد

إسماعيل، وحزب الجبهة الديموقراطية الموحدة وتزعمه الحضري ولد خطري،

وحركة الحراثين بزعامة مسعود ولد بلخير، وحزب الاتحاد الشعبي بزعامة محمود

محمود ولد أمّاه، وحزب اتحاد التخطيط من أجل إعادة البناء والذي نال الاعتماد

في بداية التسعينيات.

أمّا الحزب الحاكم الذي يتزعمه الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع فهو

الحزب الجمهوري الديموقراطي الحاكم والذي كان باستمرار يتصدّر الطليعة في

الانتخابات التشريعية، وكان رئيس الحزب هو رئيس الدولة على الدوام.

كانت تيارات اليسار الموريتاني من أنشط التيارات في الستينيات

والسبعينيات، وقد أسس اليساريون الموريتانيون والذين كانوا متأثرين باليسار

الجزائري والفرنسي والروسي والصيني العديد من الأحزاب السياسية وتمكنوا في

بعض المحطات السياسية من إيلام السلطة وذلك من خلال حركة الإضرابات في

المعاهد التربوية والمعامل.

ويقول الباحثون إن السلطة كانت على الدوام تغضّ الطرف عن التيارات

اليسارية والقومية وحتى التيارات الانفصالية الموالية لفرنسا؛ لأنها كانت تخشى

جانب التيارات الإسلامية التي مُنعت من تأطير نفسها سياسياً.

وقد فضل التيار الإسلامي التحرك في الساحة السياسية الموريتانية من خلال

استراتيجية مغايرة لاستراتيجيات التيارات السياسية الأخرى، والتي ذاب العديد

منها في الحزب الجمهوري الديموقراطي الحاكم.

ويمكن التوضيح أكثر من خلال تشريح الخارطة السياسية الموريتانية على

الشكل التالي:

- التيار الإسلامي الذي يتحرك من خلال حزب الأمة غير المرخّص له

وهيئات الإغاثة الإسلامية، ومراكز نشر الثقافة الإسلامية وجمعيات إسلامية ذات

اهتمام اجتماعي وثقافي، ويؤمن التيار الإسلامي بمشروع الدولة الإسلامية، لكن

ليس على طريقة جمهورية معاوية ولد طايع الإسلامية، بل من خلال المواءمة بين

النظرية والتطبيق.

- التيار القومي والعروبي الذي يضمّ كافة الأحزاب التي تؤمن بعروبة

موريتانيا في مواجهة سياسة التغريب والفرنسة، ولهذا التيار أحزاب مرخّصة

وتعمل في الساحة السياسية بشكل علني وشرعي، وأنتقل بعضها من المعارضة إلى

السلطة من خلال دخول شخصيات قيادية قومية في الحزب الجمهوري الديموقراطي

الحاكم.

- التيار الفرانكفوني التغريبي واليساري والذي يعادي مشروع تكريس هوية

موريتانيا ذات البعدين العربي والإسلامي، ولهذا التيار القدرة على الحركة

السياسية، ويتمتع بديناميكية من خلال تغيير التحالفات والتكيّف مع الأوضاع

المستجدة، ويسيطر على الإعلام الموريتاني بنسبة كبيرة.

- التيار الانفصالي الكياني ويضمّ هذا التيار الغالبية من الزنوج الذين

يطالبون بالاعتراف بالهوية الإفريقية تماماً كما يطالب بربر الجزائر بضرورة

الاعتراف باللغة الأمازيغية البربرية ولهذا التيار ارتباطات قوية بفرنسا ويعتمد اللغة

الفرنسية في خطابه السياسي والإعلامي، وتستقبل فرنسا العديد من الطلبة

الموريتانيين الزنوج في الجامعات الفرنسية.

- التيار القبائلي والمناطقي، ويوجد في خانة هذا التيار العديد من القوى

السياسية المناطقية كتلك التي تنتمي إلى جمهور الحراثين وهم العرب السود الذين

كانوا عبيداً في الماضي وحرروا، وهناك حزب باسمهم وهو حزب الحراثين كان

يتزعمه مسعود ولد بلخير.

وفي موريتانيا تيارات سياسية تنتمي إلى قبيلة الترارزة في جنوب موريتانيا

والمجاورة للسنغال وبالأخص أغلب أبناء قبيلة بوتليميت في جنوب موريتانيا

والمجاورة للسنغال وهي قبيلة كبيرة عرفت بعلاقاتها الوطيدة بالسنغال والإدارة

الفرنسية، وقد تضررت كثيراً من النظام العسكري الذي أعقب عهد مختار ولد دادة،

حيث إن كثيراً من أفراد هذه القبيلة كانوا يتمتعون بمرتبات وامتيازات عديدة في

عهد مختار ولد دادة، كما تضررت منطقة الترارزة اقتصاديّاً بعد إغلاق الحدود مع

السنغال.

وهناك طبقة المستقلين التي تضمّ المثقفين والأساتذة في الجامعة والمعاهد

الثانوية والمتوسطة، وهذه النخبة تؤثر بشكل محدود في الحياة السياسية.

وتعتبر الساحة السياسية الموريتانية فسيفساء يتداخل فيها السياسي بالعرقي

بالطائفي والقبائلي والمناطقي، والفكري والثقافي والأيديولوجي. وعندما تجري

انتخابات تشريعية أو رئاسية في موريتانيا فإنّ أبناء الأسرة والخيمة الواحدة

يختلفون فيما بينهم حول هذا المرشح أو ذاك، فينقسم الشارع والقبيلة والأسرة

الواحدة حول دعم هذا المرشح أو ذاك، ويصادف أن يدعم الزوج مرشحاً والزوجة

مرشحاً آخر.

ويذهب بعض الباحثين إلى القول إنّ التجربة الديموقراطية في موريتانيا هي

أقرب إلى ديموقراطية الخيام السمحة، فأثناء الانتخابات العامة تنصب الخيام

وتكون هذه الخيام تابعة لهذا المرشح أو ذاك وكلها متقابلة، وفي إحدى المرات

تعطل ميكروفون خيمة منافسة فتضامنت معها الخيمة التي كانت تقوم بالدعاية

لحزب آخر فتوقفت عن استعمال الميكروفون حتى أصلحت الخيمة الأخرى

ميكروفونها؛ علماً أنّ كل خيمة كانت تقوم بالدعاية لتيار سياسي مغاير. وعندما

تنتهي هذه الخيام السياسية من تبادل الشتائم والتحريضات كانت تلتقي كل الأطراف

على أكواب الشاي الموريتاني الأصيل.

والحركات السياسية الموريتانية لا تملك برامج سياسية متكاملة، والكثير منها

كان وليد الأحداث السياسية المضطربة وغير المستقرة التي مرّت بها موريتانيا،

وكانت السلطة السياسية في بعض الأحيان توعز إلى بعض السياسيين لتشكيل

أحزاب سياسية للإيحاء أنّ المناخ الديموقراطي هو السائد في موريتانيا، وخصوصاً

أنّ السلطة الفرنسية كانت تدفع العسكريين في موريتانيا إلى تبني خطاب سياسي

أكثر انفتاحاً على المعارضة الموريتانية.

ومن الأحزاب السياسية الموريتانية التي حاولت الإطاحة بالنظام القائم في

موريتانيا عن طريق القوة حزب البعث الموريتاني الموالي للعراق والذي تبلورت

ملامحه منذ نهاية الستينيات وتحول إلى تنظيم مستقل بعد انفصال الناصريين عن

الحزب سنة ١٩٧٠م. وقد تزعّم هذا الحزب لدى تأسيسه محمد بحظية ولد الليل،

ومنذ تأسيسه ارتبط بحزب البعث العراقي ولم تكن له أي علاقة بالبعث السوري،

ولم تختلف شعاراته عن شعارات حزب البعث العراقي، وكان ملتزماً بالقيادة

القومية في العراق باعتباره فرعاً من فروع حزب البعث العراقي الأم. وقد دخل

البعثيون الموريتانيون العمل السرّي منذ بداية وجودهم على الساحة السياسيّة،

وعلى امتداد العهود السياسية في موريتانيا كانوا عرضة للملاحقة والاعتقالات وهو

ما جعل حزب البعث الموريتاني من أكثر الأحزاب تنظيماً وهيكلية، واستطاع هذا

الحزب أن يستقطب العديد من المثقفين والمنضمين إلى الجهاز التعليمي.

وتمكن البعثيون الموريتانيون من اختراق المؤسسة العسكرية، واستمالوا

العديد من الضبّاط؛ كما اعتُبروا حلفاء للانقلاب العسكري الذي وقع في سنة ١٩٧٨م

الذي أطاح بالرئيس مختار ولد دادة، وبعد الانقلاب تمّ تعيين ولد بريد الليل زعيم

حزب البعث الموريتاني وزيراً للإعلام ثمّ وزيراً للوظيف العمومي، ولكن شهر

العسل مع النظام العسكري لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما جرى اعتقال البعثيين

الموريتانيين في سنوات ١٩٧٩، ١٩٨٢، ١٩٨٧، ١٩٨٨، ١٩٩٥م، وبعد ذلك

أيضاً كان البعثيون باستمرار عرضة للاعتقالات، ووصلت ردة فعل موريتانيا إلى

ذروتها عندما قطعت علاقاتها مع العراق متهمة إياه بتمويل حزب البعث الموريتاني

وتحريضه على الإطاحة بالنظام القائم في موريتانيا.

ومن التيارات السياسية المتداخلة والمتشعبة التيار الإسلامي الذي يضمّ بين

دفتيه جماعات عديدة تختلف ظروف نشأتها وتكوينها وتطورها اختلافاً كليّاً عن نشأة

الأسر الحزبية الأخرى. وداخل التيار الإسلامي هناك جماعات تقليدية قديمة

وعريقة ساهمت سابقاً في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لموريتانيا، وهناك

جماعات حديثة ومعاصرة تأثرت بالأفكار الإسلامية السائدة في المشرق العربي

ومغربه.

ومثلما عرفت الساحة السياسية الموريتانية تنوعاً وتعدداً في الأحزاب السياسية

والأفكار والأيديولوجيات، فكذلك الأمر بالنسبة للتيارات الإسلامية التي تعددت

مشاربها، ومنها المتأثر بفكر المتصوفة، ومنها المتأثر بفكر مالك بن نبي وسيد

قطب وأبو الأعلى المودودي وراشد الغنوشي وحسن الترابي والخميني. وما

زال التيار الإسلامي بمختلف مشاربه يبحث عن آلية للعمل السياسي وعن

استراتيجية تخوله البروز في ظلّ وضع معقد ومتداخل كالوضع الموريتاني.

* الأحزاب الإسلامية في موريتانيا:

لعبت المحاظر - المعاهد الإسلامية التقليدية - في موريتانيا دوراً كبيراً في

الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية الموريتانية، ويعود تاريخ المحاظر إلى

القرن الثاني عشر، وكان اسمها في الماضي الزوايا، وفيها يبدأ الصبيّ حفظ

القرآن الكريم المكتوب على ألواح بالخط العربي الجميل، واللوح ذاته لوحة فنيّة،

وكان دور المحاظر في الماضي إعداد الدعاة وسط الصحراء وعند التخوم لخدمة

الرسالة الإسلامية. وامتزجت في هذه المحاظر أو الزوايا الحركة الصوفية مع

البيئة الصحراوية، وبفضل هذه المحاظر تحول الشعب الموريتاني من مجموعة من

الرعاة إلى شعب يملك تراثاً ثقافياً إسلامياً عميق الجذور في غرب إفريقيا،

ويشترك الصبيان والفتيات في الدراسة بهذه المحاظر ويعيش الطلبة ظروف تقشف

قاسية حيث يأتي الطالب ببقرته أو عنزته التي يشرب من لبنها، ويعيش في خيمة

متفرغاً للعلم في هذه المحاظر، وفي كثير من الأحيان يُشاهَد الطلبة وهم يجلسون

على قارعة الطريق يقرؤون القرآن الكريم ويطالعون كتب الأدب العربي والتاريخ

والسيرة النبوية والفقه والمنطق وعلم الكلام، ويكتبون على ألواح انتزعوها من

الأشجار ويكتبون بأحبار مستخرجة من الثمار، وأحياناً يكون الطالب فقيراً معدماً

فيساعده السكان بالمال والغذاء، ويتبرع بعض الأهالي بمنازلهم ليبيت فيها الطلبة،

ولا يطلب صاحب المدرسة أو المعلم أيّ أجر عن التعليم، وإنّما يقوم بهذا العمل

الجليل طالباً ثواب الآخرة، ويقدم أهالي الطلبة الميسورون ما يسمى بجراي القرآن

وهي عبارة عن مساعدة رمزية.

وقد وقفت هذه المحاظر أو الزوايا والطرق الصوفية سدّاً منيعاً في وجه

الاستعمار الفرنسي، وكانت هذه المحاظر مراكز للمقاومة ضدّ المشروع الاستعماري

الفرنسي وضدّ الإرادة الفرنسية في فرض اللغة الفرنسية على موريتانيا. وعلى

الرغم من أن عشرات المؤسسات التعليمية قد تمّ تشييدها في موريتانيا منذ

الاستقلال، إلاّ أنّ الأكواخ المكوّنة من سقف النخيل والخيام ومن وبر الجمال ما

زالت تقوم بدورها في تحفيظ الطلبة القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية.

ومن رحم هذه الأجواء بدأت تتشكّل التيارات الإسلامية في موريتانيا، وتعود

البدايات الأولى للحركة الإسلامية الموريتانية إلى النصف الثاني من الستينيات،

وكانت هذه الحركة تضع ثقلها السياسي في الجامعات والمعاهد التربوية والتعليمية،

وتأثرت هذه الحركة الإسلامية بالفكر الإسلامي الوافد من المشرق العربي وآسيا

الإسلامية وبقية الدول المغاربية؛ حيث استلهمت شخصيات إسلامية موريتانية

الكثير من فكر سيد قطب وأبو الأعلى المودودي ومالك بن نبي وراشد الغنوشي.

ولم تتبلور الحركة الإسلامية الموريتانية في هيكل تنظيمي كما هو شأن أقدم

حركة إسلامية في المغرب والتي هي منظمة الشبيبة الإسلامية التي أسسها عبد

الكريم مطيع، أو الجماعة الإسلامية في تونس التي أسسها راشد الغنوشي وعبد

الفتّاح مورو، أو الجماعات الإسلامية في الجزائر، كجمعية القيم التي أسسها عبد

اللطيف سلطاني وأحمد سحنون وغيرهما، والسبب يعود إلى أنّ السلطة

الموريتانية كانت تحظر قيام أحزاب على أساس ديني.

والنخبة السياسية التي كانت تصنع القرار السياسي في موريتانيا كانت ذات

ولاء للغرب وتحديداً فرنسا وهو الأمر الذي حال دون نجاح مشروع ديموقراطي

فعلي، وحال دون أن تكبر الأحزاب السياسية بمختلف مشاربها الفكرية

والأيديولوجية.

وينقسم التيار الإسلامي الموريتاني إلى ثلاثة مجموعات رئيسيّة أهمها

مجموعة السلفيين، وأغلب المنضوين تحت لواء هذه المجموعة هم خريجو جامعة

أم القرى في مكة المكرمة، ويصنّف هؤلاء ضمن القوى التقليدية في المجتمع التي

ستلعب دوراً مهماً في المرحلة القادمة لا كقوة حزبية مستقلة، بل كقوة مؤثرة

وضاغطة داخل حزب الرئيس معاوية ولد طايع وخارج الحزب الحاكم.

والجمعية الثقافية الإسلامية هي تعبير عن هذه المجموعة السلفية التي تضم

أيضاً رجال أعمال مثل: عبدو مجم، وحاجي الذي توفي في وقت سابق، وتضم

الداعية محمد فاضل ولد الأمين المدير العام لمعهد ابن عبّاس للعلوم والدراسات

الإسلامية، والداعية محمد المختار كاكي الذي يعمل مفتشاً في التعليم الأساسي،

وتضم هذه الجمعية أيضاً مجموعة من الشخصيات والوجوه التقليدية من أبناء الأسر

العلمية العريقة مثل الحضرمي والحظري.

وهذه المجموعة تتحرك في الخط الفكري والثقافي والاجتماعي العام، ولها

وجود كبير في مدينة نواكشوط بالإضافة إلى كبريات المدن الموريتانية مثل نواذيبو

وغيرها، وتؤمن هذه المجموعة بعروبة وإسلامية موريتانيا، وتعمل على تكريس

مبادئ الإسلام من خلال النشاط الفكري والثقافي، ولأنّ هذه المجموعة غير سياسية

فانّ العديد من الأحزاب المعتمدة وحتى الحزب الحاكم تعمل على استقطاب

شخصيات من هذا التيار الإسلامي الهادئ والذي له علاقات محدودة بالقوى

السياسية. ومجمل نشاطات هذه المجموعة في الجامعات والثانويات والمعاهد

التعليمية، ولا تملك هذه المجموعة منابر إعلامية، بل إن الشخصيات التي تنتمي

إلى هذا التيار لها حضور محدود في الصحافة الموريتانية.

أمّا المجموعة الثانية فمعروفة باسم التيار الإسلامي وهي متأثرة بحركة

النهضة التونسية التي يتزعمها راشد الغنوشي، والجبهة القومية الإسلامية التي

يتزعمها الدكتور حسن الترابي. وحاولت هذه المجموعة أن تميّز نفسها عن

المجموعة الأولى بقولها إنّها تملك أطروحة إسلامية شاملة ولها أهداف سياسية،

ومن أبرز شخصيات هذا التيار الإسلامي بومية ولد أبياه وهو أستاذ نقابي معروف

يعمل في مدرسة تكوين الأساتذة؛ ولهذا التيار نشاط مركّز في المساجد والمعاهد

التربوية، ويتفاعل سياسياً مع الكثير من الأحداث في العالم العربي والإسلامي.

ولا يوجد لهذا التيار هيكلية محددة وتنظيم خاص وصحف ناطقة باسمه، بل يتحرك

في كل المواقع الجغرافية مع تركيز ملحوظ على العاصمة الموريتانية نواكشوط،

ونواذيبو وغيرها.

أمّا المجموعة الثالثة فهي أكثر حركية ولها علاقات مع الإسلاميين خارج

موريتانيا، وتعرف هذه المجموعة باسم حاسم وهو اختصار للحركة الإسلامية

الموريتانية، وبدأت ملامح هذه الحركة تتشكل في نهاية السبعينيات وقد تأثرت بفكر

مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران الخميني، وأول بيان أصدرته هذه الجماعة

كان في سنة ١٩٨٥م. وعلى الرغم من أن عناصر هذه الحركة الإسلامية قد تأثروا

في بدايات نشأتهم بحركة الإخوان المسلمين المصرية والجماعة الإسلامية

الباكستانية ودرسوا كتب سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، إلاّ أنّهم وبعد الثورة

الخمينية في إيران باتوا يطالعون كتب محمد باقر الصدر وعلي شريعتي والخميني،

وقائد هذا التيار هو محمد ولد عبد الله أستاذ التاريخ في جامعة نواكشوط.

وقد انقسمت الحركة الإسلامية الموريتانية حول الموقف من الحكم والتعامل

معه، وفي سنة ١٩٨٣م حاول ولد هيدالة أن يغطي حكمه الديكتاتوري القمعي

بالادّعاء أنّه يطبّق الشريعة الإسلامية كما فعل جعفر النميري في السودان وتحديداً

في آخر عهده، وكان إعلان هيدالة كفيل بإخراج الناس إلى الشارع داعمة له،

وبعض المجموعات الإسلامية رفعت شعار هيدالة بطل السلام والإسلام، علماً أن

السجون الموريتانية كانت تعجّ بالإسلاميين المعارضين والوطنيين من مختلف

التيارات السياسية، ولإرهاب الناس وتخويفهم أسست الحكومة في عهد هيدالة لجان

التهذيب الوطنية، وكانت هذه اللجان أشبه بأفواج قطّاع الطرق.

ويقول باحث موريتاني إنّ المجتمع الموريتاني مجتمع إسلامي حقيقي

بفطرته، ويتميّز إسلامه بالتسامح، وهو مجتمع يحترم بطبعه التقاليد والعادات،

وهو مجتمع محافظ، ويعتبر الموريتانيون أنفسهم أنّهم حاملو راية الإسلام،

ويعتزّون بكونهم هم الذين أدخلوا الإسلام إلى غرب ووسط إفريقيا السوداء،

والغالبية الساحقة من الموريتانيين تؤدّي الفرائض الدينية.

وحسب مثقف إسلامي موريتاني فإن الحركة الإسلامية في موريتانيا وجدت

في جوّ لم يساعدها على التبلور الصحيح وعلى التحدد كحركة ثورية نتيجة لإخفاق

المشروع التغريبي الذي لم يؤت أكله في موريتانيا، والعامل الثاني - حسب هذا

المثقف الإسلامي - والذي حال دون تبلور حركة إسلامية قوية هو القبيلة المعادية

للحركة الإسلامية؛ فللقبيلة فكرها الخاص وانتماؤها المحدد، ولا تعترف معظم

القبائل الموريتانية إلا بالتصوف الذي يدعو إلى الزهد في الدنيا والانصراف عن

ملذاتها وشهواتها، والسلطة هي أبرز مصداق لهذه الملذات؛ ولذلك لا تعني القبائل

كثيراً مسألة السياسة الإسلامية، ورغم ذلك فإنّ بعض القبائل في شرق موريتانيا

احتضنت السلفية، وقبائل أيدو علي احتضنت الصوفية.

ومع أن الحركة الإسلامية الموريتانية موزعة على مجموعات عديدة، إلا أنّه

لا أحد يشك في أنّها موجودة، وقد تتحول إلى رقم مهم في معادلة السياسة

الموريتانية.

* بين موريتانيا والكيان الصهيوني:

عندما لجأت موريتانيا إلى تطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية، وفتحت سفارة

لتل أبيب في نواكشوط لم تقدم للرأي العام الموريتاني والعربي على السواء

المسوّغات الموضوعية التي دعتها إلى اتخاذ هذه الخطوة التي أعتبرت بأنها تشكّل

خرقاً لمواثيق الجامعة العربية القاضية بوقف التطبيع بكل أشكاله مع الدولة العبرية

ريثما يتجلى ما سوف تكون عليه المفاوضات النهائية. وجاء الإعلان عن إقامة

علاقات موريتانية - إسرائيلية بعد لقاءات سرية هنا وهناك أفضت ودون علم

الموريتانيين إلى عرس التطبيع في واشنطن بحضور ممثلي الديبلوماسية عن كلا

البلدين.

والواقع أنّ موريتانيا لجأت إلى التطبيع لأسباب كثيرة منها أن موريتانيا كانت

على الدوام تشعر أنّها مهددة من قِبَل الجزائر والمغرب ومعروف أنّ موريتانيا تحدّها

من الشمال الشرقي الجزائر ومن الشمال الغربي المغرب؛ فالجزائر في عهد

هواري بومدين سبق لها أن أطاحت بنظام مختار ولد دادة في نواكشوط بسبب

وقوف هذا الأخير إلى جانب المغرب في قضية الصحراء الغربية التي كانت تدعمها

الجزائر، كما أن المغرب كانت ترفض جملة وتفصيلاً قيام الكيان الموريتاني،

وكانت الرباط تعتبر أنّ موريتانيا كيان مختلق، وهي في الواقع امتداد للأرض

المغربية شأنها شأن الصحراء الغربية. وعندما منحت فرنسا الاستقلال لموريتانيا

في ٢٨/١١/١٩٦٠م كانت المغرب تنظر بعين الريبة إلى هذه المناورة الاستعمارية

الجديدة، وبدوره جمال عبد الناصر في مصر كان لا يعترف باستقلال موريتانيا

التي كان يعتبرها أرضاً مغربية وهو الأمر الذي خلق عقدة موريتانية رسمية من

الفكرة القومية التي كان يمثلها جمال عبد الناصر.

وعندما نعود إلى بدايات تشكل الكيان الموريتاني نكتشف أنّ فرنسا ساهمت

بالدرجة الأولى في إقامة الدولة الموريتانية الحديثة، ولما كانت موريتانيا ترزح

تحت السيطرة الفرنسية أصدرت باريس قراراً يقضي بأن موريتانيا يحق لها ترشيح

نائب واحد يمثلها في البرلمان الفرنسي، وسمح هذا المناخ السياسي بتأسيس أحزاب

في موريتانيا ومنها الاتحاد التقدمي الموريتاني بقيادة مختار ولد دادة وحزب الوفاق

الموريتاني بزعامة خورما ولد بابانة، وقيل في موريتانيا إنه كان عميلاً للسلطات

الفرنسية وأسس حزبه للتصدي لرجال الدين وشيوخ الإصلاح.

وفي سنة ١٩٥٦م أخذت فرنسا تفكر في إدارة مستعمراتها في الشمال الإفريقي

بطريقة مغايرة حتى تتمكن من التصدي للثورة الجزائرية التي كانت ملتهبة في ذلك

الوقت، وبناءً عليه أنشأت فرنسا مجلساً حكومياً في موريتانيا رئيسه فرنسي ونائب

الرئيس موريتاني، وقد اختار الفرنسيون مختار ولد دادة لمنصب نائب الرئيس،

وعندما قرر الفرنسيون منح الاستقلال لموريتانيا دعموا وصول مختار ولد دادة الذي

أصبح رئيساً لجمهورية موريتانيا، وقد أقرّ الدستور الموريتاني أنّ اللغة العربية

والفرنسية هما لغتان رسميتان في موريتانيا، وقد ساهمت البنية الفرانكفونية للنظام

الموريتاني في دفع نواكشوط باتجاه التطبيع على اعتبار أن فرانكفونيي المغرب

العربي يعتبرون أنهم أقرب إلى المحور الغربي الإسرائيلي منهم إلى محور العالم

العربي والإسلامي.

ويضاف إلى عاملي الخوف الموريتاني من الجزائر والمغرب والبنية

الفرانكفونية للنظام والنخبة الحاكمة الموريتانية عامل آخر دفع باتجاه التطبيع

الموريتاني الإسرائيلي ويتمثل في بداية تصدع العلاقات الفرنسية الموريتانية حيث

إن باريس ما فتئت تطالب نواكشوط بضرورة تحسين وضع حقوق الإنسان وإطلاق

التعددية السياسية في موريتانيا، ووصل الأمر بالسلطات الفرنسية أن اعتقلت

رسميين موريتانيين في فرنسا بحجة قيام هؤلاء الرسميين بتعذيب سياسيين

موريتانيين، ونواكشوط التي كانت تشعر بالضعف من جارتيها القويتين الجزائر

والمغرب خافت أن يؤدي تراخي علاقاتها بالحليف الفرنسي إلى تكريس ضعفها

أكثر من اللازم، وراحت تبحث عن حليف أشد سطوة وقوة وهو حالياً الولايات

المتحدة الأمريكية والوصول إلى هذا الحليف يقتضي المرور بالدولة العبرية الممر

الضروري باتجاه واشنطن، وكان لنواكشوط ما تريد خصوصاً أنّها تبحث عن

حلول لأزماتها الاقتصادية المتفاقمة.

وقد صادف هذا التوجه الموريتاني هوى في نفس تل أبيب وواشنطن لأسباب

عديدة منها أنّ موقع موريتانيا حساس للغاية؛ فهي تطلّ غرباً على المحيط الأطلسي،

وجنوباً على دول إفريقية عديدة منها السنغال ومالي، وحول مدينة شنقيط

الموريتانية تقع ثروة موريتانيا الأسطورية - الحديد - الذي ينتشر على شكل

سلاسل جبليّة، ويقال إنه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية شكا الطيارون من

حدوث تغييرات على مؤشر البوصلة في كل مرة يطيرون فيها فوق الجبال المحيطة

بشنقيط، وبعد أن وقفت الحرب جاء الخبراء لكشف سرّ تلك الظاهرة، وما كادوا

يبدؤون عملهم حتى اتضح لهم أنّ جبل سفريات وجبل كديت الجلد ما هي إلا كتل

هائلة من الحديد، وثبت أنّ حجارة هذه الجبال تحتوي على ٥٢.٩٤ من أكسيد

الحديد، وهذه النسبة تضارع أعلى نسبة حديد موجودة في مناجم العالم.

ويبدو أن موريتانيا وثرواتها الطبيعية أصبحت تحت المجهر، وأن تطبيعها

مع الدولة العبريّة لن يكون لصالح موريتانيا بل ضدّها؛ وما خبر المطبعين عنّا

ببعيد!!

* ماذا جرى في موريتانيّا؟

لم يتمكّن النظام الموريتاني بقيادة معاوية ولد طايع من تحقيق التقدم السياسي

والاقتصادي لموريتانيا شأنه شأن العديد من النظم العربية التي حققت العديد من

التراجعات الكبيرة والتي أفضت إلى إحداث احتقان شديد في الواقع السياسي

والاجتماعي، فسياسيّاً ظلّت المؤسسة العسكريّة الموريتانيّة والتي يتزعمها دستوريّاً

الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع تشرف على تفاصيل صناعة القرار مبعدة بذلك

كل القوى السياسية الموريتانية وتحديداً القوى الوطنية والإسلاميّة التي تشكّل الرقم

الأقوى في المعادلة السياسية الموريتانية، وكان النظام الموريتاني يتعامل مع

الوطنيين العروبيين والإسلاميين تعاملاً خاصاً؛ وكثيراً ما كان يقصيهم عن

المؤسسات السياسية ومؤسسات القرار، بل كان يستأصلهم تماماً كما فعلت السلطة

الجزائرية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ عقب فوزها في الانتخابات التشريعية الملغاة

في الجزائر سنة ١٩٩٢م.

ولم يكتف النظام السياسي الموريتاني بحرمان التيارات الوطنية والإسلامية

من المشاركة الإيجابية في الحياة السياسيّة، بل قرر النظام الرسمي الموريتاني

وبدون الرجوع إلى البرلمان إقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية مع الكيان

الصهيوني، وأصبحت السفارة الإسرائيلية محروسة بكثافة من قِبَل عناصر الأمن

الموريتاني في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط، وقد أفضت هذه العلاقات

الثنائية بين النظام الموريتاني والكيان الصهيوني إلى قطع كل جسور التواصل بين

المعارضة الموريتانية الوطنية والإسلامية والنظام الموريتاني، وقد تفاعل النظام

الموريتاني بعد ذلك مع أحداث ١١/٩/٢٠٠١م في أمريكا متبنياً النهج الأمريكي في

التعاطي مع الحركات الإسلاميّة وشنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين

والوطنيين، وجرى تعذيب المعتقلين بشكل وحشي كما اعترف بذلك العديد من

المعتقلين السياسيين.

وانفتاح موريتانيا على الكيان الصهيوني وبعد ذلك على المشروع الأمريكي

الأمني القاضي بملاحقة كل ما يمتّ بصلة إلى الإسلام أوحى لكثير من الضبّاط

الموريتانيين الشباب بضرورة التحرك خصوصاً أنّ العديد من الضبّاط الشباب هم

من الذين تشبّعوا بالثقافة العربية والإسلامية، وكانوا مستائين إلى أبعد الحدود من

التوجهات السياسية لنظام بلادهم الذي عزل موريتانيا بالكامل عن محيطها العربي

والإسلامي، وتجرأ في أوج الانتفاضة الفلسطينية أن يوفد رسمييه إلى الكيان

الصهيوني لإعطاء الشرعية لرئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون.

وتعليقاً على المحاولة الانقلابية التي جرت في موريتانيا والتي قادها عقيد

عسكري سابق في سلاح المدرعات الموريتاني وهو العقيد صلاح ولد حنّانة الذي

أقيل من الجيش الموريتاني في السنة الماضية بسبب توجهاته القومية المعارضة

للدولة العبريّة والذي كان معارضاً بشدّة لإقامة علاقات رسميّة بين نواكشوط وتل

أبيب، قال العسكري المغربي أحمد رامي المقيم في العاصمة السويدية استوكهولم

وقد كان أحمد رامي يشرف على سلاح المدرعات في الجيش المغربي واشترك في

المحاولة الانقلابية التي قادها الجنرال أوفقير ضدّ الملك المغربي الراحل في تمّوز

يوليو من عام ١٩٧٢م والذي فرّ إلى العاصمة السويدية ستوكهولم بعد إخفاق

المحاولة وحصل فيها على حقّ اللجوء السياسي: إن المحاولة الانقلابية التي شهدتها

موريتانيا كانت متوقعة بسبب وجود تململ داخل صفوف الضبّاط الشباب الذين لم

يقبلوا على الإطلاق بسياسة رئيس بلادهم معاوية ولد طايع الذي انفرد بإقامة

علاقات رسمية مع الدولة العبريّة متجاوزاً بذلك توجهات الشعب الموريتاني ذات

البعدين العربي والإسلامي، واستطرد رامي قائلاً: إنّ القيادات المركزيّة في

الجيش الموريتاني قيادات علمانية فرانكفونية مشبعة بالثقافة الفرنسية وتخرجت من

الأكاديميات العسكرية الفرنسية؛ غير أنّ جيل الشباب في الجيش الموريتاني هم من

الذين أتيحت لهم فرصة التعرّف على الثقافة العربية والإسلامية ومن ثم من

المتفاعلين مع هذه الثقافة.

ورغم المحاولات التي بذلها معاوية ولد طايع لتطهير الجيش من العناصر

المعارضة للعلمنة والتغريب والفرنسة إلاّ أنّه لم ينجح في إقامة مؤسسة عسكرية

بعيدة عن واقعها العربي والإسلامي، ودائماً كانت المؤسسة العسكرية وبحكم تكوينها

الفرانكفوني تخشى العناصر العربية والإسلامية، وأصحاب هذه التوجهات كان يتمّ

باستمرار طردهم من الجيش وإقالتهم قبل أن يصلوا إلى المراتب العليا.

واستشهد أحمد رامي بتجربته عندما رفض رئيس الأركان المغربي في

الستينيات طلبه بالانضمام إلى الكلية العسكريّة في مدينة مكناس المغربيّة؛ لأنّه كان

من المعجبين بالتوجهات السياسيّة لجمال عبد الناصر والكتابات الفكرية لسيّد قطب

وتحديداً كتابه معالم في الطريق.

وتفيد مصادر موريتانية أخرى شديدة الاطلاع على ما يجري في موريتانيا أنّ

الوضع الموريتاني سيبقى هشّاً حتى لو استطاع المحيطون بالرئيس الموريتاني من

إسقاط المحاولة الانقلابيّة؛ لأنّ الجيش الموريتاني يعجّ بالخلايا العسكريّة غير

المنسجمة مع التوجهات الرسمية للنظام الموريتاني، وتستشهد هذه المصادر

بالتاريخ الموريتاني الذي كان ينتج انقلابات متواصلة والتي كانت من إنتاج محلي

وأحياناً من إنتاج دول إقليمية مجاورة لموريتانيا، ومهما حاول النظام في موريتانيا

من فرض التوجهات الشاذة على الشعب الموريتاني إلاّ أنّ الشعب الموريتاني

المتمسك جداً بأصالته الإسلامية قد يفاجئ النظام القائم في أي لحظة.

والمحاولة الانقلابيّة التي جرت في موريتانيا هي رسالة قويّة على طاولة

الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع، فإمّا الاستمرار في النهج السياسي المنفتح إلى

أبعد الحدود على واشنطن وتل أبيب، ومن ثم توقع محاولات انقلابية في أي لحظة

خصوصاً في ظل توفر الأرضية والشروط من داخل المؤسسة العسكريّة، أو تغيير

النهج السياسي الذي أفضى إلى المحاولة الانقلابية، ووضع استراتيجية جديدة

تتماشى مع تطلعات الشعب الموريتاني ولا تتضارب معه، وبدون ذلك ستبقى

موريتانيا حبلى بالمفاجآت كما كانت دائماً.


(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.