للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة

[معالم منهجية من العقيدة الواسطية]

أمين نعمان الصلاحي [*]

إن الاشتغال بمدارسة علم التوحيد والتفقه في مسائل الإيمان هو أجلُّ العلوم،

وعليه تنبني صحة الأعمال وسعادة الدارين [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ

لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ] (محمد: ١٩) .

والسعيد من وفقه الله لتلقي الاعتقاد الصحيح الذي من أجله أنزل الله الكتب

وبعث الرسل، وعلى أساسه انقسم الناس إلى فريقين: [فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ

فِي السَّعِيرِ] (الشورى: ٧) .

ولقد كان نبع التوحيد - في هذه الأمة - نبعاً صافياً عذباً رقراقاً، من شرب

منه ارتوت روحه بالإيمان ونجت من ظمأ الشرك والجهل والكفران.. ثم إنه

تفجرت ينابيعُ أُخر إلى جانب هذا النبع الصافي؛ فكانت ينابيع الهوى والشك

والشبهات وضلالات الأفكار، واختلت على بعض الناس الينابيع، فجاء توحيدهم

مختلطاً بشرك، ومعرفتهم ممزوجة بشبهة، وشرعتهم مسربلة ببدعة.

فقيض الله لهذا الدين أئمةً مجددين، علماء عاملين، حنفاء ربانيين، نفضوا

عن الملة غبار الشك والشبهة والبدعة، ودعوا الناس إلى النبع الصافي، نبع

الكتاب والسنة، وحذروهم من ينابيع البدعة والهوى، وبينوا ما فيها من الضلالة

والعمى والكدر.

وكان من أولئك الأئمة الأعلام شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن

عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (٦٦١ - ٧٢٨هـ) ، جاهد في سبيل الله

بسنانه ولسانه وقلمه وبيانه؛ فعليه من الله الرحمة والرضوان.

وبين أيدينا الآن «العقيدة الواسطية» وهي العقيدة التي كتبها بيده، وأوذي

بسببها وامتحن، فكان يقول لخصومه في ثقةٍ بالغة وإعزاز كبير بها:

- «قد أمهلت كل من خالفني في شيءٍ منها ثلاث سنين؛ فإن جاء بحرف

واحد عن أحد من القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك» [١] .

- «أنا أمهل كل من خالفني ثلاث سنين أن يجيء بحرف واحد عن أئمة

الإسلام يخالف ما قلته» [٢] .

- «كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه» [٣] !

* سبب تأليف العقيدة الواسطية:

إن كتابة شيخ الإسلام للعقيدة الواسطية لم يكن منه ابتداءً، وإنما كان بعد

طلب وإلحاح من أحد قضاة واسط.

يقول شيخ الإسلام: «كان سبب كتابتها أنه قدم عليّ من أرض واسط بعض

قضاة نواحيها - شيخ يقال له» رضي الدين الواسطي «من أصحاب الشافعي -

قدم علينا حاجاً وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي

دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم [٤] ، وسألني أن أكتب له

عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيتُ من ذلك، وقلت: قد كتب الناسُ عقائد

متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة

تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر» [٥] .

* معالم منهجية في العقيدة الواسطية:

حينما نتحدث عن المعالم المنهجية في العقيدة الواسطية إنما نتحدث عن

منهجية شيخ الإسلام في عرض وتقرير العقيدة، ولعلنا نقدم إجابة متواضعة للسؤال

الذي يقول: كيف ندرس العقيدة؟

إنك إذا تأملت في العقيدة الواسطية أسرتك بسلاستها، وجزالة ألفاظها،

وعذوبة معانيها، ووضوح برهانها، وقوة حجتها، وغزارة علمها، وبعدها عن

التكلف.. ومن المعالم الرئيسة فيها:

١ - الربانية:

الربانية نسبة إلى الرب، ويقال للرجل: ربّاني «إذا كان وثيق الصلة بالله

عالماً بكتابه، عاملاً به، معلماً له، قال تعالى: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ

تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: ٧٩) .

والربانية هي إفرادُ الله بالقصد وبالتلقي؛ فالرباني مقصوده ومطلوبه الأعلى

وغايته: إرضاء الله، ومصدر التلقي عنده هو الوحي المعصوم وعنه وحده تؤخذ

شرائع الإيمان والأعمال، وقد برز هذا المَعْلم بوضوح في العقيدة الواسطية من

خلال السمات الآتية:

أ - القرآن الكريم والسنة الصحيحة هما مصدر الاعتقاد:

في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية كانت الكتب الكلامية في الاعتقاد قد صيغت

على نحوٍ من التعقيد والجفاف والجدل العقيم بحيث أفسدت على المسلمين طعم

الإيمان وجعلت من الإيمان مجرد مسائل ذهنية باهتة لا تقدم ولا تؤخر؛ وما ذلك

إلا بسبب بعدها عن هدي الكتاب والسنة، حتى إنك لتقرأ عشرات الصفحات فلا

تقع عينك على آية أو حديث وإنما تقرأ: قالت الفلاسفة، قالت الحكماء ... ونحو

ذلك.

فجاءت العقيدة الواسطية لتؤكد على ربانية المصدرية، فكان جُلها آيات

قرآنية وأحاديث نبوية.

ولما عُقد مجلس المناظرة حول ما جاء في الواسطية حرص شيخ الإسلام على

أن يكون هذا المعلَم واضحاً، فلما سُئل عن الاعتقاد الذي يدعو إليه قال بحزمٍ

ووضوح:» أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني، ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن

الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فما كان في القرآن

وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري

ومسلم.. « [٦] .

وكانت منهجية شيخ الإسلام واضحة تقوم على الاستدلال بالكتاب وصحيح

السنة واعتقاد أن فيهما الهداية الكاملة والغنية والكفاية عما سواهما، ولقد كان من

المآخذ التي أخذها شيخ الإسلام على بعض من صنف في الاعتقاد من أهل السنة

أنهم يوردون الأحاديث الضعيفة ويبنون عليها مسائل في الاعتقاد [٧] .

ب - عدم ربط العقيدة بشخص أو بمذهب:

حرص شيخ الإسلام على أن يربط العقيدة بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة،

وإن تحمل في سبيل ذلك العناء والمشقة؛ ففي المجلس الأول من المناظرة على

العقيدة الواسطية وبعد ظهوره على من خالفه بالحجة والبرهان حاول الأمير فصل

النزاع بقوله للشيخ: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد. يقول شيخ الإسلام:» ولما

رأى هذا الحاكم العدل: ممالأتهم وتعصبهم، ورأى قلة العارف الناصر، وخافهم

قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول هنا اعتقاد أحمد، يعني والرجل

يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع

مخاصمة الخصوم، فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ليس للإمام

أحمد اختصاصٌ بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلِّغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله

عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله، وهذه

عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم [٨] «.

وأمام هذا الإصرار عقد المجلس الثاني لشيخ الإسلام، فصال وجال وظهر

على خصومه بالحجة والبرهان، فقال بعض الأكابر من الحنفية لشيخ الإسلام: لو

قلت هذا مذهب أحمد وثبتَّ على ذلك لانقطع النزاع. يقول شيخ الإسلام:» فقلت:

لا، والله! ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة

وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضاً: هذا اعتقاد رسول صلى الله عليه وسلم وكل لفظ

ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً « [٩] .

إذن فشيخ الإسلام ربط العقيدة بالكتاب والسنة ورفض رفضاً مطلقاً ربطها

بشخص أو بمذهب، وأصر على موقفه هذا، وامتُحن بسببه وأوذي وسجن، وقد

كان المشفقون عليه يودون منه لو قال: هذا اعتقاد الإمام أحمد إمام المذهب؛ ليقطع

بذلك أذى الخصوم عن نفسه، وكان خصومه يودون لو يظفرون منه بتلك الكلمة!

ولكنه أبى ذلك أشد الإباء، فليت الذين يربطون العقيدة ببعض الأشخاص

ويحرصون على تقديم العقيدة من خلال الأشخاص يتعلمون هذا الدرس ويعوه جيداً!

إنه لمن خلل المنهج ومخالفة أسلوب الحكمة أن يأتي الداعية إلى بيئة قد

شوهت فيها سيرة الأئمة المصلحين فيعمد إلى ربط معتقد أهل السنة بهم وتقديمه من

خلالهم. إن الشأن ليس أن نصحح نظرة الناس عن أولئك الأئمة الأعلام إنما الشأن

كل الشأن أن نصحح عقيدتهم وتوحيدهم بآيات الكتاب وصحيح السنة، وما عدا ذلك

يأتي تبعاً.

ج - الحرص على الألفاظ الشرعية، والبعد عن الألفاظ المحدثة والمجملة:

ومن الربانية الحرص على الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة؛ ذلك

أن اللفظ الشرعي أقوى وأعمق وأدل على مقصوده مما سواه، وأما المصطلحات

الكلامية الفلسفية كالجوهر والعرض ونحوهما فهي مصطلحات باهتة جافة لا حياة

ولا روح فيها، وليس من علم نافع يرجى من ورائها، وكذلك الألفاظ المجملة التي

تحتمل حقاً وباطلاً؛ فإن أكثر ضلال الخلق فيها.

وفي مناظرة الواسطية بيّن شيخ الإسلام حرصه في هذا الأمر ودقته في

استعمال الألفاظ؛ فهو مثلاً عدل عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف؛ ويقول عن

ذلك:» إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف؛ لأن التحريف اسم جاء

القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة (يعني العقيدة الواسطية) اتباع الكتاب

والسنة، فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر لفظ التأويل بنفي ولا إثبات؛

لأنه لفظ له عدة معان.. « [١٠] .

ويقول أيضاً:» ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه؛ لأن التمثيل نفاهُ

بنص كتابه حيث قال: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء] (الشورى: ١١) وقال: [هَلْ تَعْلَمُ

لَهُ سَمِياًّ] (مريم: ٦٥) وكان أحب إليَّ من لفظ ليس في كتاب الله، ولا في سنة

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإن كان قد يُعنى بنفيه معنى صحيح، كما قد

يعنى به معنىً فاسد « [١١] .

٢ - السهولة والوضوح:

وقد برز هذا الْمَعْلَم من خلال السمات الآتية:

أ - السهولة والوضوح في العرض:

جاءت العقيدة الواسطية سهلة المأخذ، واضحة المعنى، بعيدة عن الغموض

والتعقيد، على منهاج السلف الصالح - رضوان الله عليهم -؛ فلقد كانوا

» يأخذون العقيدة واضحة سهلة قريبة من النفوس بدون تكلف ولا تعقيد ولا أخذٍ

ورد؛ العقيدة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة صافية

نقية كما أخذها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، بل كما كان يأخذها الأعرابي

الذي يأتي من أطراف البادية ويجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً

وساعتين ليعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان وأصول الاعتقاد وأصول

الأشياء العلمية، ثم ينصرف إلى قومه مسلماً، بل ينصرف إلى قومه داعية إلى الله

سبحانه وتعالى.. « [١٢] .

لقد اعتصم شيخ الإسلام بالوحي؛ فالعقيدة عنده آيةً محكمة، أو حديث ثابت

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت العقيدة الواسطية لتشق طريقها وسط

ركام هائل من الكتابات الكلامية والآراء الفلسفية، ولم تتأثر بتلك الأقوال والآراء

والشبهات؛ لأن هداية الوحي كاملة؛ ومن اعتصم بها وفقهها أغنته عما سواها.

ب - البعد عن إيراد الشبهات:

لقد كان» علماء السلف يكرهون مناظرة أهل البدع والجلوس معهم، بل

ونهوا عن نقل شبهاتهم أو عرضها على المسلمين؛ وذلك لخوفهم من ضعف الناقل

لها وعجزه عن إبطالها وتزييفها، فيفتن بها بعض من سمعها أو قرأها؛ وفي هذا

صيانةً لقلوب المسلمين وحماية لعقولهم وأفكارهم؛ زيادةً على كون ذلك فيه إهانة

للمبتدعة ومحاصرةً لآرائهم وعدم جعل الكتب السلفية جسوراً تعبر عليها تلك الآراء

المنحرفة؛ ولهذا فإن المؤلفين من أهل السنة ينهجون في مؤلفاتهم منهج العرض

لعقيدة السلف مدعمة بالأدلة النقلية والعقلية دون عرض للشبهة أو أدلتها ونادراً ما

يخالفون هذا المنهج. وأما المؤلفات التي تتسم بمنهج الرد لآراء الخصوم فإنها

تعرض الشبهة موجزة وبصورة مختصرة. هذا هو منهج السلف في تقرير العقائد

الدينية؛ والمطلع على مصنفاتهم في العقيدة يتبين له ذلك « [١٣] . وعلى هذا

المنهج جاءت العقيدة الواسطية.

ج - عدم تقرير العقيدة بأسلوب رد الفعل:

بعض المصنفات في العقيدة جاءت بأسلوب رد الفعل (قالوا، وقلنا) ، وبهذا

الأسلوب يشوش كثيراً خاصة على المبتدئين، وينمي ويغرس حب الجدل في

النفوس أكثر مما يغرس وينمي الإيمان، وليس هذا هو المنهج الصحيح في تقرير

العقيدة.

٣ - ربط العقيدة بالعمل (التزكية) :

جاء الدور الكلامي ليحصر العقيدة في مسائل ذهنية ومعارف فكرية ومقدمات

فلسفية وأقيسة منطقية، واقترن ذلك بالجدل العقيم، فتحولت العقيدة من قوة إيمانية

حيةٍ دافعة إلى مسائل جدلية باردة هامدة، وليست هذه هي العقيدة عند أهل السنة

والجماعة، ولكن العقيدة عندهم مرتبطة بالعمل، ولها ثمارٌ ولوازم لا بد أن تظهر

في سلوك المسلم، وهذا ما أكدت عليه العقيدة الواسطية؛ فبعد أن قرر فيها شيخ

الإسلام الأصول العلمية ذكر الأصول العملية عند أهل السنة، فقال:» ثم هم مع

هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة.

ويرون إمامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً،

ويحافظون على الجماعات ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى

الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً - وشبك بين

أصابعه» وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم

وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر

والحمى» . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمُر

القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى

الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً» ويندبون إلى أن تصل من

قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة

الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق

بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير

حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها.. «ا. هـ[١٤] .

ومن المعلوم قطعاً أن هذه الأخلاقيات لن تأتي من مجرد حفظ واستظهار

العقيدة الواسطية، ولكنها تتكوَّن عبر منهج تربوي سليم. قال صلى الله عليه وسلم:

» إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم « [١٥] .

إن إلقاء الدروس عابرة في مسائل الإيمان أمر سهلٌ ميسور، ولكن تربية

المتعلمين على أخلاقيات الإيمان والأخذ بأيديهم شيئاً فشيئاً ليرتقوا في معارج

الإحسان هو الأمر الشاق الذي يحتاج إلى جهدٍ وصبرٍ ومصابرة وحكمة وروية:

[وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران:

٧٩) .

٤ - الوسطية:

الوسطية من أهم وأبرز خصائص العقيدة الإسلامية [١٦] ؛ فالإسلام دين وسط

بين الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.

والمقصود بالوسطية هنا: ما وافق الحق ف» الوسط من كل شيءٍ أعدله،

ومنه قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: ١٤٣) ، أي: عدلاً «

[١٧] .

فالوسطية هي: حق بين باطلين، وصواب بين خطأين، وخير بين شرين،

واعتدالٌ بين طرفين؛ ذلك أن صراط الله مستقيم، وسبل الضلالة تتشعب عن

يمينه وشماله؛ فمن كان على ذلك الصراط المستقيم فهو على الوسطية الربانية.

وقد أكد شيخ الإسلام على هذا المَعْلَم في العقيدة الواسطية فقال:» بل هم أي

أهل السنة الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في

باب صفات الله سبحانه وتعالى: بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة،

وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله

بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين

الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى

الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج « [١٨] .

٥ - الشمول:

العقيدة الإسلامية جاءت شاملة؛ والواجب أن تقدم شاملة كاملة كما جاءت من

عند الله. والشمول في دراسة العقيدة يفرض نفسه؛ ذلك أن موضوعات العقيدة

متداخلة ومترابطة بعضها مع بعض، ولهذا فإن إهمال بعض المسائل العقدية يؤثر

ولا شك في بقية المسائل.

والناظر في العقيدة الواسطية يرى أنها جاءت ببيان شامل لأمور الاعتقاد

(سواء منها ما يتعلق بالإيمان بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته، أو الإيمان بالملائكة

والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره شره، أو ما يتعلق بالإيمان وما يشمله

من القول والاعتقاد والعمل، أو ما يتعلق بالموقف من الصحابة والأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر.. وغير ذلك) [١٩] .

ومَعْلَم الشمولية وإن كثر مدَّعوهُ؛ فإن واقع الحال ينبئك عن مخالفات صارخة

لهذا المَعْلَم؛ فمثلاً: ترى البعض يركز الحديث على توحيد الربوبية أو على مسألة

من مسائله ويهمل الحديث كُليةً عن توحيد الألوهية!

يقول العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -:» من العجب أن أكثر المصنفين

في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون

أقواماً ينكرون وجود الرب - وإن كان يوجد من ينكر الرب - لكن ما أكثر

المسلمين الواقعين في شرك العبادة « [٢٠] .

وفي المقابل ترى من يهمل الحديث عن توحيد الربوبية بدعوى أن توحيد

الربوبية قضية بديهية فُطر الخلق عليها ولم ينازع فيها حتى المشركين! [٢١] .

والواجب يقتضي الاهتمام بكلا النوعين؛ فكثير من آيات القرآن جاءت لتقرر

توحيد الربوبية وتستدلُّ به على توحيد الألوهية؛ ذلك أن توحيد الربوبية مستلزم

لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية.

مثال آخر: قد ترى البعض يهتم بدراسة توحيد الأسماء والصفات، ويهمل

الركن الرابع من أركان الإيمان وهو الإيمان بالرسل؛ مع أن باب النبوات من

أخطر أبواب العقيدة، وعلى أساسه يقوم البناء العقدي كله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:» والإيمان بالنبوة أصل النجاة

والسعادة؛ فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والإيمان

والكفر؛ ولم يميز بين الخطأ والصواب « [٢٢] .

وقد يفرض واقع الحال العناية بقضيةٍ أو مسألةٍ ما من مسائل الاعتقاد

وإعطائها قدراً زائداً من البيان والتوضيح؛ لكن ذلك لا يعني أن تُهمَل قضايا

ومسائل اعتقادية وأصول إيمانية أخرى، ولا يكون ذلك مسوغاً لانتقاص حقها من

الدراسة والعناية والرعاية.

وختاماً: أسأل الله أن يوفقنا لخدمة دينه، والحمد لله رب العالمين، وصلى

الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


(*) مدرس مادة العقيدة في المعهد العالي للمعلمين في الجند - تعز - اليمن.
(١) مناظرة العقيدة الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (٣/١٦٩) .
(٢) المصدر السابق (٣/٢٦٥) .
(٣) المصدر نفسه (٣/١٦٣) .
(٤) أي ذهاب الدين والعلم.
(٥) مناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (٣/١٦٤) ، ومنه يعلم سبب تسميتها بالواسطية.
(٦) مجموع الفتاوى (٣/١٦١) .
(٧) أحمد بن عبد الرحمن الصويان، منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة، ص: ٧٥.
(٨) مجموع الفتاوى (٣/١٦٩) .
(٩) مجموع الفتاوى (٣/١٦٩) .
(١٠) المصدر السابق (٣/١٦٦) .
(١١) المصدر السابق (٣/١٦٦) .
(١٢) سلمان بن فهد العودة، الإغراق في الجزئيات، ص: ٢٢.
(١٣) د / أحمد بن سعد الغامدي، مقدمة كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي.
(١٤) العقيدة الواسطية، بتعليق الشيخ عبد العزيز بن مانع، ص: ٥٣ - ٥٤.
(١٥) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني برقم (٣٤٢) .
(١٦) الدكتور يوسف القرضاوي، الإيمان والحياة، ص: ٤١ - ٤٧.
(١٧) مختار الصحاح، مادة (وسط) .
(١٨) العقيدة الواسطية، بتعليق الشيخ ابن مانع، ص: ٢٦ - ٣٠.
(١٩) موقف ابن تيمية من الأشاعرة، للدكتور عبد الرحمن المحمود (١/٢٦٨) بتصرف يسير.
(٢٠) القول المفيد على كتاب التوحيد (١/٦) .
(٢١) والحقيقة أن المشركين أقروا بأصل توحيد الربوبية؛ لكن أخلَّوا ببعض تفاصيله.
(٢٢) كتاب النبوات (ص ١٤٣) ، دراسة وتحقيق محمد عبد الرحمن عوض، ط دار الكتاب العربي، ط الأولى.