للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[المحاولات الأمريكية لاستغلال أكراد العراق]

د. فرست مرعي الدهوكي [*]

لقد أذهلت تصريحات جلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني

العراقي، وغيره من قادة الأحزاب الكردية في العراق؛ العرب والمسلمين حول

دعم الجيش الأمريكي ومساندته في غزو العراق واحتلاله، والذي يُعَدُّ المرحلة

الأولى لتغيير خريطة المنطقة العربية والإسلامية وإعادة رسمها من جديد.

هذه التصريحات الغريبة والمتناقضة مع كل ما هو وطني وإسلامي؛ أساءت

إلى حد كبير إلى سمعة الشعب الكردي الذي كانت له وقفات بطولية في التصدي

لأعداء الأمة؛ سواء في مجابهة الصليبيين عندما حاولوا غزو المشرق الإسلامي

إبان العصر الإسلامي، أو في مجابهة الروس عندما حاولوا غزو الدولة العثمانية

أثناء الحرب العالمية الأولى، أو غيرها من معارك الجهاد والشرف التي ساهم فيها

الكرد، كما في التصدي للإنجليز والروس في العراق وإيران، والفرنسيين

والطليان واليونانيين في تركيا وسوريا.

هذه الأمجاد والبطولات حاول جلال الطالباني وغيره من زعماء الأحزاب

الكردية لطخها بالوحل؛ عندما أبدوا استعدادهم للتعاون مع أمريكا، وجعلوا أنفسهم

جنوداً تحت الطلب (مرتزقة) في خدمة الآلة الحربية الأمريكية؛ بدون ثمن سوى

أن تدنس بغداد وتسقط تحت جحافل الغزو المغولي الجديد للتشفي والانتقام

والسيطرة، ولم يدر بخلدهم أن سقوط بغداد عار عليهم قبل غيرهم من الشعوب

الإسلامية؛ لأنهم الأجدر بحمايتها لأنها عاصمتهم، وسبق لأجدادهم أن دافعوا عنها،

وليس بعيداً جهاد الشيخ محمود الحفيد على رأس قوة من المجاهدين الكرد في

التصدي للإنجليز ومقاتلتهم في البصرة مع المجاهدين العرب.

وهكذا أصبح من شبه المؤكد أن دور الكرد في شمال العراق (كردستان)

سيشبه إلى حد بعيد دور تحالف الشمال الأفغاني، حيث سيقع على عاتقهم مهمة

المحافظة على احتلال بغداد؛ كما فعل الآخرون عندما احتلوا كابول وسلموها

للأمريكان.

ومما تجدر الإشارة إليه؛ أن مبعوث الرئيس الأمريكي زلماي خليل زاده لم

يشر في كلمته أمام مؤتمر المعارضة الأخيرة في منتجع (صلاح الدين) إلى حقوق

الشعب الكردي ولا إلى الفيدرالية التي يطالب بها زعماء الأحزاب الكردية في كل

حين، ولا يزال بعض زعماء الكرد العراقيين سادرين في غيهم بخصوص دعم

جهود أمريكا وحلفائها في المنطقة؛ بعكس توجهات الدول الإقليمية كتركيا وإيران

وسوريا والعراق، وكأن لسان حالهم يقول ما دامت أمريكا إلى جانبنا فلتذهب القوى

الإقليمية جميعها إلى الجحيم، ولم يدر بخلدهم أنهم سيكونون الضحية الأولى في

هذه المعركة؛ لأنهم الحلقة الأضعف، فتركيا دولة إقليمية كبيرة ذات تاريخ مجيد

وعضو في حلف الناتو، وأمريكا بحاجة إليها أكثر مما هي محتاجة إليها، أما إيران

فهي الأخرى دولة إقليمية كبيرة ذات تاريخ قديم وتمثل الجانب الإسلامي الشيعي،

كما أن العراق وسوريا دولتان عربيتان، ولا تستطيع أمريكا أن تضحي بعلاقاتها

مع أكثر من عشرين دولة عربية ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية لأجل عيون

بعض الميلشيات الكردية، وأمريكا تحاول بشتى السبل وضع نهاية للصراع العربي

الإسرائيلي؛ فكيف تقوم هي نفسها بصنع مشكلة جديدة، وهي منح الاستقلال أو

الفيدرالية للأكراد.

أنا على يقين بأن زعماء الأحزاب الكردية على دراية تامة بهذا الموضوع،

ولكن العناد والتشفي ومحاربة الإسلام وكل ما هو عربي جعلهم يمضون إلى حتفهم

، وليتهم فعلوا ذلك وحدهم، ولكنهم سيجرّون الشعب الكردي المسكين المغلوب على

أمره إلى مصير أسود، وبعد ذلك سيستغلون مأساة هذا الشعب للوصول إلى مأربهم

كما فعلوا مع مجزرة حلبجة والأنفال [١] .

وكان جلال الطالباني قد عقد مباحثات مع الحكومة العراقية في سنة ١٩٨٣ -

١٩٨٤م، وتوصل إلى هدنة لوقف القتال، وخلال ذلك طلبت منه الحكومة العراقية

تصفية القيادات الحزبية العراقية والكردية المعارضة؛ مثل: الحزب الديمقراطي

الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، والحزب الاشتراكي الكردستاني بقيادة

الدكتور محمود عثمان [٢] ، والجيش الإسلامي الكردستاني بقيادة عباس الشبكي [٣] ،

والحزب الشيوعي العراقي بقيادة عزيز محمد [٤] ، فقام بهذا العمل خير قيام،

وتمت تصفية هذه الأحزاب وقتل العشرات من أفرادها، وليست مجزرة بشت آشان

(منطقة في جبل قنديل) في سنة ١٩٨٢م عنا ببعيدة.

وبعد إخفاق المفاوضات بين جلال الطالباني والحكومة العراقية؛ بدأ في

الانحياز إلى النظام الإيراني، وتعبيراً عن حسن نيته تجاه زعماء الملالي في إيران

قام بتصفية بعض زعماء وأعضاء الأحزاب الكردية الإيرانية من الديمقراطي

والكوملة، وقدمهم على طبق من ذهب إلى النظام الإيراني، وهذا مما سهل له

الدخول في تحالف قوي مع النظام الإيراني رغم الاختلاف الأيديولوجي الحاد بين

الطرفين، فجلال الطالباني عقيدته ماركسية ماوية، بينما النظام الإيراني إسلامي

شيعي راديكالي ينادي بتصدير الثورة الإيرانية الشيعية إلى بقية أنحاء العالم

الإسلامي.

ورغم هذا الاختلاف الجذري بين الطرفين؛ فإنهم دخلوا في تحالف براغماتي

(مصلحي) جمعهم العداء للنظام العراقي، فكان أفراد حزب جلال الطالباني بمثابة

أدلاء للمخابرات والجيش الإيراني في دخولهم إلى العراق، ومهاجمة المدن

والقصبات الكردية ومعسكرات الجيش العراقي وحقول النفط في كركوك، وبلغ هذا

التحالف ذروته في دخول الجيش الإيراني ومعه تحالف الأحزاب الكردية بقيادة

جلال الطالباني إلى منطقة حلبجة الكردية، حيث تم نسف جسر «برده كون»

(الجسر القادم) الواقع على نهر «أحمد آواه» الذي يصب في بحيرة «سيروان»

لقطع الطريق على القوات العراقية والأفواج الكردية المتجحفلة معها لمنعها من

الخروج ومحاصرتها؛ مما أدى إلى فرار كثير من أفراد الجيش العراقي وعناصر

الأفواج الكردية الموالية لها، فيما وقع الكثير منهم في الأسر، وقد حاول أهالي

حلبجة والمناطق المحيطة بها الفرار إلى المناطق الحدودية الآمنة، ولكن مفارز

الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة شوكت حاجي مشير منعتهم بحجة أن المنطقة

محررة، وأن الحكومة العراقية لن ترجع إلى هذه المنطقة بتاتاً.

أما الحكومة العراقية فكان ردها بشعاً جداً فبدلاً من أن تلقي الأسلحة الكيمياوية

على المحتل الإيراني ومقاتلي الأحزاب الكردية المتجحفلة معها، من الاتحاد

الوطني الكردستاني، والحزب الاشتراكي الكردستاني، والحزب الشيوعي العراقي،

والمتمركزة في المناطق المحيطة بحلبجة؛ فإنها بادرت بإلقاء السلاح الكيمياوي

على أهالي مدينة حلبجة المسالمين وضواحيها في ١٦/٣/١٩٨٨م، فكان أن قتلت

منهم في الحال حوالي (٤٥٠٠) شخص ما بين رجل وامراة وطفل، وجرحت

آلافاً آخرين لا يزال قسم كبير منهم يئن من أمراض السرطان والعقم وغيرها،

وكان دور الإيرانيين والأحزاب الكردية يتجلى فقط في نقل بعض الجرحى إلى

الأراضي الإيرانية تمهيداً لمعالجتهم، واستغلال هذه المأساة البشعة أمام الإعلام

الغربي [٥] لمصلحة إيران.

وهكذا أصبحت مأساة أهالي مدينة حلبجة قميص عثمان بيد بعض زعماء

الأحزاب الكردية، حيث حاولوا بهذه الطريقة دق إسفين بين العرب والكرد،

وصنع حاجز نفسي تمهيداً للوصول إلى الأهداف التي نذروا أنفسهم من أجلها،

وهي محاولة تغريب الشعب الكردي، ومحاولة فصله عن الجسم الإسلامي اقتداءً

بسيدهم كمال أتاتورك، وتنفيذاً لمخططاتهم العلمانية التي تتوائم مع توجهات أعداء

الإسلام.

وكان الكثير من الحكماء والعقلاء يحذرون زعماء الأحزاب الكردية من السير

في هذا الطريق الوعر والشائك (دعم ومساندة إيران) ضد بلدهم العراق،

واستغلال إيران لهم كورقة ضغظ سيتم رميها متى انتفت الحاجة إليها، ولكن هؤلاء

الزعماء لم يلقوا بالاً لهذه المناشدات، وكانوا يعتبرونها نوعاً من الضعف والسذاجة

السياسية، ويرون أن عليهم استغلال هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العراق،

والتي قلما يجود الزمان بمثلها!

وأخيراً سنحت الفرصة لصدام حسين قبيل انتهاء الحرب العراقية الإيرانية

بأشهر عديدة، عندما رجحت الكفة لصالحه، واستطاع الحرس الجمهوري (غالبية

أفراده من العرب السنة) تسديد ضربات قاصمة للجيش الإيراني، فحشد عدة فرق

عسكرية يساندها العشرات من الأفواج الكردية المسلحة الموالية للحكومة العراقية

للهجوم على المناطق الجبلية الوعرة الخارجة عن سيطرة الحكومة، والتي تتمركز

فيها مقرات الأحزاب والتشكيلات العسكرية الكردية، ولم يستطع مقاتلو الأحزاب

الكردية، وتحديداً الاتحاد الوطني الكردستاني، الصمود أمام الهجمات التي شنتها

القوات العراقية لضخامتها وقوتها النارية، فتمكن الجيش العراقي من الدخول إلى

المقرات الرئيسية للاتحاد الوطني الكردستاني، وتم احتلال مقرهم الرئيس في

سركلو، فيما انسحب بقية المقاتلين إلى داخل الأراضي الإيرانية، فأضحى الشعب

الكردي المنتشر في تلك المناطق ضحية لإجرام النظام، حيث تم سوق أكثر من

مائة ألف كردي وبصورة قسرية على يد جلاوزة الأمن العراقي إلى صحارى جنوب

العراق في عمليات ما يسمى «بالأنفال» ، حيث تم فصل الرجال عن النساء، ثم

قاموا بحشر الرجال والفتيان في سيارات خاصة محكمة الإغلاق أشبه بحاويات

الشحن، حيث بقوا أياماً طويلة بدون غذاء وماء، وتم نقلهم على جناح السرعة إلى

صحارى المناطق الجنوبية والغربية في العراق، ويقال إنه تم حفر أخاديد عميقة

في الأرض بواسطة البلدوزرات، وتم إلقاء هؤلاء الكرد الأبرياء والبائسين فيها

تحت وابل من النيران التي أطلقها عليهم زبانية الأمن والاستخبارات العراقية،

ومن ثم تم ردمهم بالتراب في حين كان بعضهم لا يزال على قيد الحياة [٦] .

وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي ما حدث قبيل الحرب الأخيرة،

حيث قامت الجماهير الكردية بمظاهرات ضد التدخل أو الغزو التركي لكردستان

العراق، وقامت الجماهير الكردية الغاضبة المسيّرة بحرق العلم التركي في مدينتي

أربيل وعقرة ووطئه بالأقدام؛ مما أثار حفيظة الزعماء والشعب التركي على حد

سواء، فكان هذا أحد الأسباب التي جعلت القيادة التركية تغير من أسلوبها في

التعامل مع أمريكا والقضية العراقية، وكان البرلمان التركي قد سبق له أن أصدر

قراراً منع بموجبه وجود قوات برية أمريكية على الأراضي التركية تمهيداً لغزو

العراق، ويبدو أن الأمريكيين هم الذين أوحوا للزعماء الكرد للقيام بمظاهرات من

أجل استفزاز الأتراك وجعلهم يقدمون على فتح المجال الجوي للطائرات الأمريكية

للدخول إلى العراق، وهذا ما حصل فعلاً، ففي ٢٦/٣/٢٠٠٣م تم إنزال حوالي

١٠٠٠ مظلي أمريكي من الفرقة ٧٣ المحمولة جواً في مطار حرير الواقع على بعد

٧٥ كم شمال مدينة أربيل، وقبلها تم إنزال مظليين أمريكيين في مطار طاسلوجة

بالقرب من مدينة السليمانية لدعم الاتحاد الوطني الكردستاني في مقاتلة جماعة

أنصار الإسلام.

وقد صدرت تصريحات نارية من الجانبين الكردي والتركي بهذا الخصوص،

فالكرد سيقاومون الغزو ويجعلون من كردستان مقبرة للغزاة الأتراك! والجيش

التركي سوف يدخل كردستان عاجلاً أو آجلاً لمنع قيام دولة كردية أو محاولة الكرد

السيطرة على مدينة كركوك الغنية بالنفط التي فيها وجود تركماني، ومدينة

الموصل التي كان يضمهما سابقاً ما يطلق عليه اسم (ولاية الموصل) ، وخرج

منها العثمانيون بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى في سنة ١٩١٨م حسب هدنة

مودوروس.

فإذا كان الكرد لا يقبلون بالتدخل التركي في شؤونهم؛ فإن الجيش التركي

موجود الآن في مناطق عديدة من كردستان العراق لدعم الحزب الديمقراطي

الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني؛ في قتاله لحزب العمال الكردستاني التركي

بقيادة عبد الله أوجلان، فعلى سبيل المثال لا الحصر: هناك وجود لعدد لا بأس به

من الدبابات التركية في قاعدة بامرني، وفي مناطق أخرى على الحدود العراقية

التركية، والجيش التركي يدخل المنطقة الكردية عن طريق قصبة إبراهيم الخليل -

زاخو، أو عن طريق الحدود التركية العراقية بصورة اعتيادية، أو متى ما أرادت

القيادة العسكرية التركية.

فلماذا ظهرت الحمية والنخوة الكردية على كردستان العراق أخيراً، وقد كانت

كردستان العراق في عهد الأحزاب الكردية من سنة ١٩٩١م لغاية كتابة هذه السطور

مسرحاً لصولات وجولات القوى الإقليمية من ترك وإيرانيين، والدولية من أمريكان

وبريطانيين.

أما جلال الطالباني الذي يعرف قواعد اللعبة السياسية واللعب على الحبال

أكثر من أي زعيم كردي آخر، فكانت تصريحاته تجاه تركيا أكثر مجاملة؛ لكون

مناطق نفوذه بعيدة عن تركيا نسبياً وعلى تماس مع إيران، وسبق له أن قاتل حزب

العمال الكردستاني مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في مناطق زاخو، وعلى

الحدود العراقية التركية، وفي مناطق جبل قنديل وقره داغ.

وهنا يثار تساؤل: لماذا المظاهرات والاستنكارات ضد الغزو التركي،

والترحيب على استحياء بالتدخل الأمريكي؟ أليس هذا استهانة وتفريط بمصالح

الشعب الكردي على المدى البعيد، فالغزو هو الغزو؟! وقد سألت إحدى الفضائيات

العربية قيادياً كردياً حول سبب استنكارهم للتدخل التركي وترحيبهم بالتدخل

الأمريكي، فكان جوابه: بأن الأمريكان قادمون لإنقاذ العراق من نظام صدام حسين

وإقامة نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي، بينما الأتراك سوف يسيطرون على المنطقة

وتحديداً منابع البترول في كركوك والموصل، فضلاً عن مطامعهم التاريخية في

ولاية الموصل، واستغلال التركمان لهذا الغرض.

ومهما يكن من أمر؛ فقد حاولت أمريكا رأب الصدع الذي حدث بين حليفها

تركيا وأصدقائها الكرد، فأرسلت مبعوثها زلماي لعقد اجتماعات ثلاثية مع الأتراك

والكرد في أنقرة، وفعلاً تم التوصل ظاهرياً بعد مباحثات شاقة إلى حل وسط

بموجبه ستبقى القوات التركية متمركزة في مواقعها الحالية في كردستان، وإذا ما

استجد أمر ما فإنها تستطيع أن توسع من رقعة وجودها إلى مسافة ثلاثين كيلو متراً

داخل العمق الكردي العراقي تحت ذريعة العوامل الإنسانية، بينما ستكون القوات

الكردية تحت القيادة المشتركة لأمريكا.

وفي الوقت الذي حاول الزعماء الكرد بشتى الوسائل ثني تركيا عن الدخول

إلى كردستان العراق؛ لكي يتسنى لهم مساندة أمريكا في التقدم نحو بغداد عن طريق

الموصل وكركوك، وتصفية حساباتهم القديمة مع النظام العراقي، والدخول إلى

كركوك التي يعدها جلال الطالباني (قدس كردستان) والموصل تحت غطاء جوي

أمريكي، والسماح أو غض النظر في أسوأ الاحتمالات عن قيام بعض الغوغائيين

غير المنضبطين للقيام بمجازر ضد العرب والتركمان للأخذ بثأر حلبجة والأنفال من

أهالي الموصل، وتكملة الدور الذي قام به أسلافهم في سنة ١٩٥٩م؛ عندما ساند

بعض الكرد نظام حكم عبد الكريم قاسم والشيوعيين في المجازر التي ارتكبوها ضد

سكان الموصل من العرب، وفيما بعد ضد التركمان في كركوك، والتي ما زالت

لها تأثيرات عميقة لم تُمسح من ذاكرة أهل الموصل وكركوك على حد سواء.

وبالرغم من بعض التصريحات التي صدرت من السيد مسعود البارزاني

رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني؛ بأن أنصاره لن يتقدموا شبراً واحداً نحو

الموصل؛ فإن التصريحات الكثيرة التي كانت تصدر من جلال الطالباني كانت تدل

على الرغبة في التقدم نحو بغداد وإسقاط النظام؛ حتى يكون لهم نصيب كبير من

الكعكة العراقية، والتي يتوهمون أنهم سيحصلون عليها بالتعاون مع المعارضة

الشيعية بزعامة محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.

إن جلال الطالباني حاول جاهداً الربط بين جماعة أنصار الإسلام في

كردستان العراق على الحدود الإيرانية وتنظيم القاعدة، ولفق وزور معلومات بهذا

الخصوص، ومع علم أمريكا بعدم دقتها فقد حاولت اللعب على هذا الخط، وهذا ما

بدا واضحاً في التصريحات الصحفية العديدة التي صرح بها أركان الإدارة

الأمريكية، وما استند عليه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في شهادته أمام

مجلس الأمن الدولي في شباط ٢٠٠٣م.

ويبدو أن جلال الطالباني سلم السي آي إيه معلومات استخبارية ولوجستية عن

أماكن وجود الجماعة الإسلامية في كردستان العراق في منطقة خورمال، وأنصار

الإسلام في بيارة وطويلة في سفوح جبال هاورامان المحاذية للحدود الإيرانية.

وقد صرح أخيراً الشيخ علي بابير أمير الجماعة الإسلامية في كردستان

لصحيفة هاولات الكردية (المواطن) ؛ بأن جلال الطالباني أرسل برقية في الساعة

التاسعة من مساء يوم الجمعة ٢١/٣/٢٠٠٣م إلى الشيخ محمد البرزنجي المرشد

الروحي للجماعة الإسلامية؛ يخبره فيها بأن الأمريكيين سوف يضربون قواعد

أنصار الإسلام، وقد اتصل الشيخ علي بابير بجلال الطالباني وأبلغه بأن

الأمريكيين ما فتئوا يهددون بضرب أنصار الإسلام.

غير أن الأمريكيين نظراً لعداوتهم الشديدة للإسلام وتحديداً الجماعات

الإسلامية؛ بدؤوا بالجماعة الإسلامية في كردستان العراق، وهي في حقيقة الأمر

حزب إسلامي يحمل السلاح، ولكنه على وفاق مع الاتحاد الوطني الكردستاني

وغيره من الأحزاب الكردية، بعكس أنصار الإسلام الذين هم في صراع مع

الأحزاب الكردية العلمانية بشتى اتجاهاتها.

وكانت الجماعة الإسلامية، وأنصار الإسلام والحركة الإسلامية في كردستان؛

يضمهما جميعاً حزب الوحدة الإسلامية في كردستان العراق، والذي تألف أصلاً

من اندماج الحركة الإسلامية في كردستان العراق بقيادة الشيخ علي بن عبد العزيز،

وحركة النهضة الإسلامية بقيادة الشيخ صديق بن عبد العزيز، والتي كانت في

الأصل إحدى خطوط جماعة (الإخوان المسلمون) العراقية فرع كردستان العراق.

وقد شكل الشباب المجاهد من أعضاء الحركة الإسلامية الأم تنظيمين؛ أولهما:

أطلق عليه تنظيم حماس، وغالبية أعضائه من أهالي محافظة أربيل. وثانيهما:

أطلق عليه حركة التوحيد، وأعضاؤه من أهالي محافظة السليمانية. وفي حقيقة

الأمر أن غالبية أعضاء التنظيمين المذكورين أعلاه كانوا من أعضاء «هيز (قوة)

سوران» التي كانت متمركزة أيام الحركة الإسلامية في منطقة بيارة، ونظراً

لتقارب الأفكار بين الجماعتين، فقد تم اندماج التنظيمين في جماعة واحدة أطلق

عليها اسم (جند الإسلام) بقيادة أبو عبد الله الشافعي أمير «هيز سوران» سابقاً،

وبعد فترة تغير اسم الجماعة إلى (أنصار الإسلام) ، وانضم إليهم الملا كريكار

عضو المكتب السياسي لحركة الوحدة الإسلامية سابقاً، والمقيم حالياً كلاجئ سياسي

في النرويج، حيث تولى منصب المرشد العام للجماعة، فيما أصبح الشيخ أبو عبد

الله الشافعي نائباً له.

كانت حركة (جند الإسلام) ، والتي أطلق عليها فيما بعد (أنصار الإسلام) ؛

تضم شباباً مجاهدين لم يرضوا بالقيادة التقليدية لحركة الوحدة الإسلامية وتوجهها

السلمي مع قيادات الحزبين الكرديين الرئيسيين، وقاموا بعدد من العمليات العسكرية

ضد مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني. وقد بدأت هذه العمليات العسكرية

تقض مضجع جلال الطالباني، فحاول إلصاق تهمة الإرهاب بهؤلاء الشباب،

وحاول أن يحتل مواقعهم عسكرياً ولكنه أخفق إخفاقاً ذريعاً. وبعد هذا الإخفاق

لجلال الطالباني وأنصاره في مجابهة أنصار الإسلام؛ فإنه التفت إلى الجماعات

الإسلامية المسالمة، حيث خطط لعملية اغتيال الشيخ عبد الله قسري عضو المكتب

السياسي للجماعة الإسلامية، والتي ليس لها ناقة ولا جمل في هذه المعمعة، فتم

اغتياله مع أربعة من أفراد حمايته في مفرق طاسلوجة عند مغادرته السليمانية قاصداً

مدينة رانية؛ بحجة أنه من قيادي أنصار الإسلام، وبعدها اعتذر جلال الطالباني

وأعلن عن تشكيل لجنة للتحقيق في هذا الخطأ غير المقصود؟! ورفضت الجماعة

الإسلامية التفسير الذي قدمه جلال الطالباني.

وكانت أمريكا قد اتهمت أنصار الإسلام بصنع أسلحة كيمياوية في معاقلها على

الحدود الإيرانية، وهذا مما أثلج صدر جلال الطالباني، واعتبرها فرصة سانحة

للتخلص من أنصار الإسلام الذين أذاقوه الويل والثبور.

وقبل قيام أمريكا بضرب العراق وغزوه بأيام ظهر الشيخ علي بابير أمير

الجماعة الإسلامية في كردستان على شاشة تلفزيون الجزيرة، وأعلن أنه لن يقاتل

أمريكا إلا إذا قاتلته، وأنه يرحب بها إذا جاءت فقط للقضاء على النظام الصدامي

الظالم، ومع قيام أمريكا بضرب العراق وغزوه في ٢٠/٣/٢٠٠٣م لم تتخذ الجماعة

الإسلامية تدابير الحيطة والحذر، حيث فاجأها القصف الأمريكي الغادر على

مقراتها في ليلة ٢١ - ٢٢/٣/٢٠٠٣م؛ مما أدى إلى استشهاد حوالي ٥٠ مجاهداً

من مقاتليها؛ بينهم اثنان من أعضاء المكتب السياسي، وتم تدمير أربع مقرات لها

في مصيف «أحمد آواه» الواقع في جبل هاورامان، بينما لم يسقط من جماعة

أنصار الإسلام سوى اثنين وعدة جرحى في القصف الأول، ويبدو أن هذا القصف

الإجرامي الغادر جاء في معرض الابتلاء والتمحيص الذي أراده الله لهذه الجماعة.

لقد أكدت أمريكا بأن جهة حزبية هي التي زودتهم بمعلومات استخبارية

ولوجستية عن مقرات وقواعد الجماعتين الإسلاميتين، وهذه الجهة بدون شك هي

الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، هذه الجهة هي الوحيدة التي

تملك هذه المعلومات، إن هذا الإجراء الذي اتخذه جلال الطالباني بالتعاون مع

أمريكا في ارتكاب مذبحة خورمال القريبة من حلبجة؛ أعاد إلى الأذهان مجزرة

حلبجة في سنة ١٩٨٨م.

إن مجزرة خورمال كفيلة بمراجعة إسلاميي كردستان العراق لواقعهم وأخذ

الدروس والعبر، وترك الخلافات الحزبية والمناطقية والتفرق كلياً لمواجهة الهجمة

الشرسة التي تقودها أمريكا وحلفاؤها لتصفية الإسلام؛ بشقيه الجهادي والمعتدل كما

يطلقون عليه هم أنفسهم، وعلى الإسلاميين الكرد التنبه لما يحاك ضدهم من

مؤامرات محلية وإقليمية ودولية، واعتبار هذه المجزرة التي قامت بها أمريكا

بالتعاون مع الطالباني وحزبه مفترق طرق بالنسبة لهم لتوحيد جهودهم وتشكيل

جبهة إسلامية موحدة؛ تضم كل القوى الإسلامية الكردية بشتى اتجاهاتها؛ لكي

تستطيع الوقوف أمام أعدائها صفاً واحداً، وعليها اللعب بذكاء في مجريات الصراع

الإقليمي والدولي دون الإخلال بالثوابت الشرعية لعقيدة الأمة الإسلامية، كما أن

عليهم ألا ينساقوا وراء الصيحات القومية الضيقة التي ينادي بها القوميون

والعلمانيون الذين يعتبرون أمريكا هي قدوتهم وبيدها مفاتيح الحل، فإن الغرب

وبالتحديد بريطانيا هي التي مزقت كردستان وجعلت المسألة الكردية ورقة تتلاعب

بها مع أمريكا متى شاءت للضغط على الدول التي يشكل الكرد جزءاً منها، وهذا ما

اعترف به مسعود البارزاني عندما قال: (كفانا ورقة بيد الآخرين يحركونها متى

شاؤوا) .

وعلى الإسلاميين الكرد التعاون مع الشعوب الإسلامية ونظرائهم من الأحزاب

الإسلامية العربية وغير العربية؛ لأن العرب والمسلمين هم الملاذ الأخير بعد الله

تعالى للشعب الكردي، وقد آلمهم وأحزنهم الصور التي بثتها القنوات الفضائية

العربية لصور شهداء مجزرة خورمال، وجعلت الكثير من العرب والمسلمين

يغيرون قناعاتهم بأنه ليس كل الكرد متعاونين ومتواطئين مع أمريكا، فمثلهم مثل

بقية الشعوب الإسلامية قد ابتلوا بزعماء علمانيين متعاونين مع أمريكا، بينما بقية

المسلمين وقياداتهم هم مع أبناء دينهم ضد الغطرسة الصليبية الأمريكية.


(*) أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد في جامعة صنعاء.
(١) قامت المخابرات الإيرانية باغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو واثنين من رفاقه، أحدهم هو الدكتور فاضل رسول (عراقي الجنسية) في تموز ١٩٨٩م، بعد استدراجهم إلى أحد الفنادق في برلين؛ بحجة عقد مفاوضات مع الجانب الإيراني لحل المسألة الكردية في إيران.
(٢) طبيب من أهالي السليمانية التحق بالحركة الكردية المسلحة في سنة ١٩٦٢م، وكان الطبيب الخاص للزعيم الكردي الراحل ملا مصطفى البارزاني، أصبح فيما بعد عضواً في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وبعد انهيار الحركة الكردية ١٩٧٥م نشر مذكرات انتقد فيها بشدة قيادة ملا مصطفى البارزاني، بعد ذلك شكل الحزب الاشتراكي الكردستاني مع صالح اليوسفي ورسول مامند، وبعد انتفاضة آذار ١٩٩١م رشح نفسه لانتخاب قائد للحركة القومية الكردية؛ منافساً فيها مسعود البارزاني وجلال الطالباني، ولكنه نال أصواتاً قليلة، يعيش حالياً في لندن.
(٣) كردي من منطقة الفضيلية شرق الموصل؛ انضم إلى جماعة (الإخوان المسلمون) في مطلع شبابه، وكانت له شخصية ديناميكية، في سنة ١٩٦٨م قاد حركة انشقاق داخل صفوف الإخوان المسلمين في الموصل؛ مما أدى إلى طرده حيث التحق بصفوف البارتي، بعد قيام الحرب العراقية الإيرانية هاجر إلى إيران وأنشأ الجيش الإسلامي الكردي بدعم من المخابرات الإيرانية، ولكن جلال الطالباني استطاع القضاء على قواعده ومقراته الحزبية داخل كردستان العراق، بعد انتهاء الحرب غادر إيران إلى سوريا.
(٤) كردي من أهالي أربيل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي من سنة ١٩٦٣م لغاية ١٩٩٢م، قرب العناصر الكردية على حساب العناصر العربية الشيعية الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من أعضاء الحزب الشيوعي العراقى، اعتزل الحياة السياسية وقام بدور الوساطة بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أثناء اقتتالهم، طلبت عائلته اللجوء السياسي في عدة دول أوروبية.
(٥) إن هذه المجزرة البشعة تذكرنا بأفعال نيرون، وهولاكو، وجنكيزخان، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذه الحادثة في سورة البروج التي تتلى إلى يوم القيامة؛ عندما تكلم عن أصحاب الأخدود المؤمنين، عندما حفر لهم ذو نواس الحميري أخدوداً وأشعل فيه النيران وألقاهم فيه، حيث قضى هؤلاء المؤمنون حرقاً شاكين إلى ربهم ما تعرضوا له من ظلم، وهذا عين ما تعرض له هؤلاء الكرد البائسون، مع الفارق أنهم تعرضوا إلى إطلاق النيران بدلاً من الحرق بالنيران، وإلى الله المشتكى، والغريب أن الحكومة العراقية أطلقت على هذه العملية اسم (الأنفال) ، وهو تدنيس لاسم سورة قرآنية؛ مما جعل الكثير من المسلمين الكرد ينظرون لهذه السورة الكريمة بمنظار آخر، فضلاً عن أن (الأنفال) معناها: أن نساء وأموال الكفار مباحة للمسلمين، وأرادت الحكومة العراقية بهذا الإجرام استحلال أعراض وأموال وحياة الكرد، وهذا مما خلق جرحاً عميقاً بين الكرد وإخوانهم العرب؛ من الصعب اندماله ومسحه من ذاكرة الشعب الكردي.
(٦) في سنة ١٩٩٤م أسس السيد صلاح الدين محمد بهاء الدين مع نخبة إسلامية من الشباب الكردي تنظيماً إسلامياً يدعى الاتحاد الإسلامي في كردستان، وهذا التنظيم يتبنى فكراً إصلاحياً ينبذ العنف، ويعتمد على الأسلوب السلمي والحوار الهادئ مع خصوصية كردية اقتضتها الظروف الصعبة التي مرت بها كردستان العراق.