للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

«مجلس الحكم»

ووهم الديمقراطية المصطنعة في العراق

خليل العناني [*]

[email protected]

جاء الإعلان عن تشكيل «مجلس الحكم الانتقالي» في العراق كي يزيل

الشكوك، ويكشف النقاب عن حقيقة «النموذج الديمقراطي» الذي تتبناه الولايات

المتحدة باعتباره الأصلح والأنسب لمنطقتنا العربية الغراء. فالمجلس الذي تشكل

في الذكرى الأولى لسقوط الملكية في العراق في ١٤/٧/١٩٥٨م، جاء متناقضاً مع

أهم متطلبات الديمقراطية وهو حرية الاختيار؛ حيث جاء وفقاً لإرادة المحتل

الأمريكي وحسب هواه، وهو ما يُفقد المجلس العديد من سلطاته وصلاحياته

المحدودة أصلاً. وفضلاً عن كون المجلس لا يعبر عن التمثيل الحقيقي للشعب

العراقي رغم ما يبدو عكس ذلك ظاهرياً فإنه يضم بين جنباته شخصيات غير

مرغوبة فيها عراقياً وعلى رأسهم أحمد الجلبي الذي استقبله الشعب العراقي

بالاستنكار والشجب منذ أن وطئت قدماه أرض العراق.

ورغم ما تحاول أن تروجه إدارة الاحتلال الأمريكي في العراق بأن المجلس

هو أول خطوة في طريق الألف ميل نحو الديمقراطية، إلا أن طريقة تشكيل

المجلس وطبيعة أشخاصه لا تبشران ببدء هذا الطريق المزعوم أبداً. فالوالي

الأمريكي في العراق بول بريمر قد قام باختيار وتعيين أعضاء المجلس وفق رؤيته

وحسب تقييمه لكلٍ منهم، ولذا فقد استغرق تدشين المجلس أكثر من ثلاثة شهور،

كما أنه حاول إيهام الجميع بمراعاة الخلفية الدينية والإثنية في العراق من خلال

إعطائه الأغلبية في المجلس للأعضاء الشيعة وليس صحيحاً أنهم الأغلبية، معتبراً

أن ذلك يحقق الأمان ويجلب الاستقرار المفقود في العراق والذي أخفقت قواته في

ترسيخه مدار الثلاثة أشهر الماضية. وقد غاب عن بريمر أن الديمقراطية ليست

بالتمثيل الطائفي فقط بقدر ما هي بالمساهمة الفعلية للشعب في تحديد هذه النسب

التمثيلية، كما غاب عنه أيضاً أن الشعب العراقي شيعة وسنة وأكراد لا يهمه هذا

التمثيل طالما لم يساهم هو بنفسه في صنعه ويحدد وجهته. ولذا لم يكن غريباً أن

تندلع المظاهرات السنية والشيعية في العراق احتجاجاً على صيغة المجلس الموعود

وتشكيلته، واعتباره صناعة أمريكية خالصة لا تحظى بالقبول الشعبي.

ويمكن القول إن هذا المجلس قد وُلد ميتاً أصلاً، نتيجة للعديد من العوامل

التي يأتي في مقدمتها عدم اختيار الشعب العراقي لأعضاء المجلس ومن ثم عدم

اكتساب المجلس لأي شرعية حقيقة قد تؤهله لأداء الدور المنوط به، وثانيها أن

المجلس لا يحوز ثقة الشعب العراقي وذلك إما لنظرة الشعب العراقي ذاته لأعضاء

المجلس واعتبارهم نبت أمريكي جاء لإضفاء الشرعية على الاحتلال الموجود من

ناحية، وإما لعدم توافر الإمكانات والأدوات التي يمتلكها المجلس ويضمن بها توفير

الشعور بالأمن والأمان لدى العراقيين أنفسهم لكسب تعاطفهم من ناحية أخرى،

وثالث هذه العوامل أن قرارات المجلس ستظل رهينة لإرادة الوالي الأمريكي ولن

تصبح نافذة إلا إذا جاءت متناغمة مع ما يقتنع به هذا الوالي وإدارته في واشنطن.

أما رابع هذه العوامل وآخرها فهو محدودية الصلاحيات والسلطات الممنوحة

للمجلس وامتلاك بريمر لحق الاعتراض «الفيتو» على أي قرار قد يتخذه المجلس

ولا يتماشى مع هوى إدارة الاحتلال، وهو ما يجعل من المجلس مجرد شكل

وواجهة لإخفاء الأصابع الأمريكية التي تديره من وراء الستار، وهو ما يتشابه إلى

حد بعيد مع مجالس الحكم غير المباشرة التي شكلها الاحتلال الفرنسي في

مستعمراته إبان القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين.

وربما ليس غريباً أن تأتي الولايات المتحدة بهذا المجلس المزعوم وذلك بهدف

تحقيق حزمة من الأهداف الشيطانية يتمثل أولها في محاولة ضرب المقاومة العراقية

في مقتل من خلال إدانة المجلس الموقر لأعمالها واعتبارها أفعالاً ضالة لفئات بعثية

هاربة، وثاني الأهداف يتركز في محاولة الخروج من مأزق الفضيحة المدوية التي

فجرتها أجهزة الاستخبارات في واشنطن ولندن والمتعلقة بالخداع الأمريكي في

ملف الأسلحة العراقية الذي كان الركن الأصيل في شن الحرب على العراق. أما

ثالث الأهداف فيكمن في الإيحاء بصدق النوايا الأمريكية فيما يتعلق بمزاعم إرساء

الديمقراطية في العراق ومن بعده بقية الدول العربية من خلال صيغة المجلس

المطروح. ويتعلق الهدف الرابع والأخير بالحفاظ علي استمرار التواجد في العراق

باعتباره (المجلس) غير مؤهل علي الأقل في الفترة القادمة لقيادة عمليات إعمار

العراق. وهو ما عبر عنه صراحة الجنرال المتغطرس دونالد رامسفيلد وزير

الدفاع الأمريكي، وذلك حين أشار إلى احتمالات إطالة التواجد الأمريكي في العراق

لفترة قد تتعدى أربع سنوات، مما أثار ذعر الجنود الأمريكان في العراق.

بيد أنه كان من الممكن لهذا المجلس أن يصبح بادرة نحو إرساء الديمقراطية

الحقيقية في العراق التي تهدف بالأساس إلى تحسين أحوال العراقيين؛ وذلك إذا ما

جاء بناء على اختيار الشعب العراقي ذاته ووفقاً لإرادته. ولو كانت الولايات

المتحدة صادقة في مزاعمها في هذا المنحى لسمحت للعراقيين بتحقيق ذلك بل

وشجعت عليه، ولكن يبدو أن السيناريو الأمريكي في أفغانستان سيتكرر في العراق

من حيث الإهمال وعدم الاهتمام بتنفيذ شعارات الديمقراطية المزعومة التي تروج

لها واشنطن في كل بلد تحط فيه قواتها المسلحة.

ويتسق إنشاء هذا المجلس الأمريكي إلى حد كبير مع نظرة الولايات المتحدة

لما يجب أن تكون عليه نظم المنطقة؛ حيث ترى أن الشعوب العربية غير قادرة بل

وغير مدركة لمفهوم ومبادئ الديمقراطية والحرية، ومن ثم فلا بد من صنع نماذج

ديمقراطية بالمقاس بحيث تتناسب مع ظروف كل بلد عربي وحسب «قُماشته» .

واستمراراً لمسلسل الخداع الكبير تواصل واشنطن مزاعمها بشأن ترسيخ

مبادئ الديمقراطية وفق النموذج العراقي وبما يتلاءم مع الرؤية الأمريكية لمستقبل

المنطقة ككل. فالولايات المتحدة تدرك جيداً أن الديمقراطية الحقيقية والتي تعني في

جوهرها انتخابات حرة ونزيهة وحرية تعبير ومشاركة فعلية ... إلخ، لن تجلب لها

سوى المتاعب والقلق وسوف تأتي بنخبٍ لا تتفق مع المزاج الأمريكي، ومن ثم

فمن المفيد لها أن تظل النخب الحالية مرابطة في كراسي الحكم مع إجراء تعديلات

شكلية وهمية تسهم في إقناع الناس بحدوث التغيير. ولذا لم يكن غريباً أن تحافظ

واشنطن على علاقاتها الوثيقة مع بعض النظم العربية التي تقتنع واشنطن في

سريرتها بأنها غير ديمقراطية على الإطلاق، بل وعلى يقين من عدم جديتها في

إحداث التغييرات المطلوبة لتحسين أحوال شعوبها.

من هذا المنطلق يصبح من المنطقي أن تتبع الولايات المتحدة في رؤيتها لدول

المنطقة منهج «الديمقراطية المعلبة» والتي صُنعت في واشنطن خصيصاً

لهذه البقعة من الكرة الأرضية. كما تصر واشنطن على استخدام استراتيجية

«ديمقراطية القوالب» التي اتبعتها من قبل في اليابان وألمانيا دون مراعاة

لاختلاف الظروف والبيئات والمعتقدات.

ويصبح من المؤسف أن تنجرف فئة ممن يدعون الثقافة والفكر في بلادنا

العربية وراء هذه الرؤية الأمريكية للديمقراطية العربية إن جاز لنا التعبير بل

والأكثر من ذلك أن تجد منهم من يؤيد ويشجع هذا التصور الأمريكي لمستقبل

المنطقة.

ولو توقف هؤلاء لبرهة قليلة وقارنوا بين شعارات الديمقراطية الأمريكية التي

صورت للعالم عشية الحرب أن العراق سيصبح مهد الديمقراطية في العالم العربي،

وبين ما يحدث حالياً في جلسات الكونجرس الأمريكي حول فضيحة «عراق غيت»

لما تجرأ أحد على وصف هذا المجلس العراقي بأنه بداية عهد جديد للديمقراطية

العراقية، ولما اعتبره بمثابة إنجاز أمريكي حقيقي في بلاد العرب المتهرئة.

فالكذب الأمريكي فيما يخص ملف الأسلحة العراقية كفيل بهدم أي دعاية

أمريكية لإرساء الديمقراطية ومحو أي محاولة أمريكية لإقامة نظام ديمقراطي في

العراق أو غيره.

كما أنه من غير المقنع أنه في الوقت الذي تنهار فيه أهم مبادئ الديمقراطية

في الداخل الأمريكي متمثلة في مبادئ الشفافية والصدق، وتهتز فيه ثقة العالم في

نزاهة السيد الأمريكي فيما يخص العراق، ونظل نحن العرب نغط في وهم

الديمقراطية الأمريكية ونشيد بإنجازاتها ونفرح بما تقدم عليه في العراق باعتبارها

«الوصي» على ما قد يحدث للشعوب العربية.

كما أنه من المؤسف حقاً أن تظل النخب العربية الحاكمة تتمسح بالولايات

المتحدة والنظر إليها باعتبارها الضمانة الوحيدة للبقاء في كراسي الحكم، وهو ما

يتضح جلياً في نظرة أعضاء المجلس العراقي للمحتل الأمريكي باعتباره صاحب

الفضل في اختيارهم والضامن للبقاء في مناصبهم.

وقد عبرت ردة الفعل العربي تجاه تكوين المجلس المزعوم عن كل ما سبق؛

حيث تراوحت بين اتجاهين: أحدهما جاء متحفظاً تجاه هذه الخطوة الأمريكية،

والآخر أخذ طابعاً سلبياً كما هي العادة العربية المفضلة ورفض التعليق على ما

حدث باعتباره يقع خارج نطاق اهتماماته. كما يأتي رد الفعل هذا متوافقاً مع طبيعة

الموقف العربي ذاته ومكملاً لصورته التي رُسمت عشية الإعداد للوليمة الأمريكية

في العراق. تلك الصورة التي تقوم في مجملها على التزام الصمت وترك الأمور

للقدر كي يقول كلمته، والاكتفاء بإرسال عبارات الشجب والندب والتنديد دون

الإقدام على أي فعل مادي حقيقي يمحو جزءاً من العار الذي لحق بالأمة العربية

وأفسد ذمم كثير من حكامها.

وما يلفت الأنظار حقاً هو رد الفعل العربي الشعبي تجاه تكوين المجلس

العراقي والذي اتسم باللامبالاة والتبلد، وهو ما قد يعود لأحد عاملين هما: إما

الإيمان بعدم جدوى الاعتراض وعدم الاقتناع بفائدته خاصة في ظل الصمت

الرسمي المشين، وإما لانشغال الشعوب العربية بالهموم الحياتية التي أغرقتها فيها

نخبها الحاكمة وفي كلتا الحالتين فالوضع سيئ للغاية.

وفي ظل هذا الانصياع العربي الذي تتزايد ملامحه يوماً بعد الآخر فمن

المتوقع أن يظل السيد الأمريكي يرسم ويخطط وينفذ ما يحلو له في الخريطة

العربية، بل وقد يزداد الأمر سوءاً ويصبح من حق هذا السيد أن يحدد نظام وشكل

الملبس والمأكل والمشرب الذي نمارسه في طقوسنا اليومية، هذا إن لم يكن بالفعل

قد قام بهذا.


(*) كاتب ومفكر مصري.