للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[رحلة إلى مسلمين جدد في أدغال كمبوديا]

أبو عبد الرحمن العامري اليماني [*]

kha٠١٢٣@hotmail.com

كانت فرحة عظيمة، وسعادة غامرة، حينما وصلتنا أنباء عن إسلام ثلاث

قرى من قرى الأدغال الكثيفة في أقصى الشمال الشرقي لدولة كمبوديا، وعلى

صدى الخبر تحركت قافلة دعوية مكونة من معلم وهو كاتب هذه السطور

ومترجمَيْن كمبوديَّيْن؛ وذلك للقيام بالواجب الدعوي نحو إخواننا الجدد، ولاستطلاع

أحوالهم وظروفهم، وللنظر فيما يمكن تقديمه لهم.

- على طريق الذهاب:

انطلقنا من العاصمة الكمبودية (بنوم بنه) على متن سفينة سريعة تشق النهر

بثقة واطمئنان، فأحاطت بنا بعد لحظات لوحة فنية حية؛ الأشجار المتنافسة في

الطول لا تفارق جانبي النهر أبداً، والقوارب الفقيرة تؤدي واجبها اليومي لأصحابها

الذين قد وقفوا عليها بكل مهارة يرمون شباكهم في النهر يبتغون قوتاً، وأشعة

الشمس قد تكسرت بسُحب بيضاء متشابكة الأطراف، وإن كان قد علا بعضها على

بعض؛ مذكرة من اعتبر بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يشبك بين

أصابعه: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» [١] .

أخذت تلك الرحلة النهرية من وقتنا أكثر من خمس ساعات دون أن تدركنا

وعثاء السفر، توقفنا بعدها لنواصل المسير في صبيحة اليوم التالي.

وفي تلك الصبيحة بدأنا رحلة برية على أطلال طريق أثرية عمرها نحو مائة

عام، فهي طريق كان قد بناها المحتلون الفرنسيون بقعر الغابات ليمدوا سيطرتهم

معها، ولم يُعتن بها بعد ذلك، وما هي إلا ساعة حتى بدأنا نشق الغابات غرباء بين

مناظر الطبيعة، والأرض من حولنا مبتلة بماء المطر، والأشجار في غاية

اخضرارها قد سدت كل الآفاق، والحشائش تسللت إلى أطراف ذلك الطريق الأثري

مظهرة غيرتها أن يعبث بجمال بيئتها الطريق الإسفلتي أحد مظاهر العمران

الحديث.

ظللنا نسير مقلِّبين وجوهنا في الجَمال، وكلما اعترضنا أحد فروع النهر

تجاوزناه بجسر خشبي قديم، من أصل فرنسي أيضاً، وربما كان مخرقاً فاقداً

لبعض أخشابه؛ فيحتاج السائق الشجاع الماهر إلى أن يمد عنقه ليدقق فيه ثم يعبره

بثقة يفتقدها الراكبون، وبعد ثماني ساعات بين أرجاء الخضرة وصلنا إلى أقرب

مدينة من قرى المسلمين الجدد (المؤلَّفين) ، وقد بلغ الإعياء بجميع المسافرين

مبلغاً ظاهراً. أسرعنا نبحث عن مكان نبيت فيه لنلقي عنا عذاب السفر؛ فقد كان

أمامنا في الصباح التالي أكثر من ساعة بالدراجة النارية لنصل إلى القرى التي

نقصدها، وذلك على طريق ترابي معبد يُتعب سالكيه ما تفرق به من وحل.

- سكان الأدغال:

لا يزال سكان الأدغال التي قصدناها بعيدين عن المدنيَّة، وكانوا إلى بضع

سنوات مضت يعيشون أشباه عراة لا يسترون إلا السوأتين، حتى ملابسهم الحالية

القصيرة والمخرقة توحي لك بقرب ذلك العهد.

وبتلك الأدغال قبائل كثيرة مختلفة تزيد على العشرين، تعيش في عزلة شديدة

بدأت أخيراً تخفف قبضتها عنهم، وكل قبيلة لها لغة خاصة بها، ولا يعرف منهم

اللغة الرسمية لكمبوديا وهي الخميرية إلا بعض الرجال الذين يغشون الأسواق.

من صور عزلتهم أنهم في شأن قُوتهم؛ إذ لا يزال معظمهم يعتمد على

التحصيل اليومي لقُوته، يقصد بعض النباتات والحشائش في الغابات يتغذى عليها

في يومه ذاك، ومنها أن معظمهم لا يعرف الطب الحديث، ولا يتطبب به حتى في

الأمراض المعروفة كالملاريا، بل يلجؤون إلى نباتات معروفة لديهم، ومنها أنهم لا

يعرفون السنوات ولا الشهور ولا الأيام؛ وعليه فهم لا يعرفون أعمارهم حتى بعض

أعمار صغارهم!

وأغرب من ذلك كله هو حالتهم الدينية؛ فمعظمهم بقلوب خاوية.. لا يتبعون

ديناً، ولا يعرفون الخالق ولا رسله، ولا الثواب والعقاب، ولم يسمعوا من قبل عن

ذلك.

- تمهيد لا بد منه:

يختلف المسلمون في كمبوديا جنساً ولغة عن سائر الكمبوديين ذي الجنس

الخميري؛ فالمسلمون ذوو جنس (تشامي) نسبة لدولة (تشاميا) التي كانت يوماً

تتربع وسط فيتنام الحالية، وبعد سلسلة حروب بين تشاميا وفيتنام سقطت الأولى،

وقامت الثانية بحملة شرسة بقصد إبادة السكان العزل؛ مما دعاهم إلى الفرار

بحياتهم قاصدين أماكن عديدة كان منها كمبوديا.

ومن العجيب أن بعض أولئك اللادينيين - كمن كانت رحلتنا إليهم ومن حولهم

- من جنس المسلمين نفسه، ويتكلمون لغتهم نفسها، حتى إن البعض يقول خطأً

إنهم كانوا على الإسلام ونسوه لعزلتهم، ولكن قد وقع بين لغتيهم بعض الاختلاف

للعزلة التامة بين الفريقين، فهذه بها خشونة صنعتها بيئتها، والأخرى قد زينتها

كثير من الألفاظ الشرعية، ودخلت عليها مفردات من كلام إخوانهم المسلمين

الملايويين المجاورين.

- لقاء المسلمين الجدد:

ما أن وصلنا قرى المؤلَفين واسترحنا في أحد بيوتها حتى تبرع بعضهم بإبلاغ

حاكم القرية بوصولنا، كانت لحظات شوق وأنا في انتظار الحاكم المتبوع، أُعِدُّ له

في نفسي أحسن ما أقدر عليه من الكلام، ثم بينا نحن على ذلك إذ جلس معنا فتى

في الرابعة عشرة من عمره قد بدت على وجهه علامات الاستغراب منا؛ سألته:

من خلقك؟ فأجاب: أبي وأمي!!

توقعت سوء فهم فوضحت قصدي.. ولكن جوابه هذه المرة: (لا أعرف) !!

قلت له: إنما خلقك الله الذي خلق كل شيء ... إلخ، وأنه سبحانه المستحق

للعبادة ... إلخ، والفتى أثناء كل ذلك يصغي إليَّ وقد بدا على تقاسيم وجهه التأمل

في كلام لأول مرة يطرق أذنه أو قلبه.

وما هي إلا لحظات حتى أقبل حاكم القرية، كانت قد ارتسمت في مخيلتي

صورة عنه لطبيعة هؤلاء الناس، ولكن كان على خلاف ذلك، كان رجلاً تبدو

عليه سمات الوقار، يرتدي زِيَّ مسلمي كمبوديا، قد أعفى لحيته وغطى رأسه

بطاقية، ألقى علينا السلام، ثم جلس بجواري، ثم أخذ من نفسه يحكي لي بصوت

كله هدوء وحسرة على مَنْ لم يُسْلم من أهل قريته، ويشرح لي الموانع التي وقفت

أمام إسلامهم، والتي كانت جلها تدور حول انشغالهم التام بلقمة عيشهم، ومكافحة

الفقر المدقع الذي لم يُبق لهم من وقتهم شيئاً، ثم ختم بقوله: وعلينا أن نفعل ما

بوسعنا، وأن ندعو الله لهؤلاء الناس أن يهديهم للإسلام، عندها حبست ما أراد أن

ينحدر من عيني مطأطئاً رأسي، كاتماً ما أجد في نفسي من مشاعر كثيرة أعجز

عن حكايتها.

بعد برهة سألته عن قصة إسلامهم، فقال: كنا نعيش في الغابات لا نعرف

شيئاً مما يدور خارجها، ولما تجاوزنا أسوارها سمعنا أن لنا إخواناً تشاميين مثلنا

ويتكلمون لغتنا، فأحببنا أن نتعرف عليهم، ولما كان ذلك وجدناهم على دين حسن،

فغبطناهم عليه ودخل منا في الإسلام من دخل.

بدأ المسلمون من أهل القرية بالتجمع حولنا يتسمعون كلامنا، وأصبحت

خيوط دخان كثيفة تعلو من سجائرهم التي يُصنع معظمها قبيل شربها؛ بلف أوراق

شجر الموز الخضراء حول خيط من التبغ محفوظ بعلبة لا تفارق أحدهم.

شرعت في الكلام حينئذ، وكان أول لقاء بيننا آثرت الكلام فيه عن توحيد

الربوبية؛ بمنطق أن لكل صنعة صانعاً ولكل شيء خالق، وأضرب ما أعرفه من

الأمثال والأقيسة لتأييد ما أقول عازماً على الانتقال إلى توحيد الألوهية بعد ذلك.

وما أن انتهينا من الكلام حتى جاء وقت الظهر فصليناه في المكان اليومي

لإقامة الجماعة وهو بيت إمامهم الراتب؛ فليس لهم مسجد بعد، وهم ينتظرون

إنشاء مسجد ضخم أهدته لهم سفارة دولة بروناي بكمبوديا - جزى الله خيراً كل

ساع إلى الخير -.

قدَّموا لنا طعام الغداء، تقدم رفيقاي وأحجمت معتذراً، فلم يكن مثله بأرض

قومي، وإني أجدني أعافه؛ فلقد كان أرزاً وقواقع، وبقيت أتفكه بالحديث معهم،

استغربت لكثرة المدخنين فيهم، حتى من شباب وشابات في مقتبل العمر،

فأخبروني أنها من عاداتهم المتوارثة، وأنهم منذ زمن يستعينون بالدخان في طرد

البعوض عنهم عند حراستهم الليلية لحقولهم.

ها هي ذي السماء أخذت تلبس الغيوم الداكنة، ولم يكن بوسعنا أن نبيت

عندهم لقلَّة الأمان في الغابات، ولوجود إشكالات آنذاك بينهم وبين الحكومة؛ سببها

إيواؤهم فيتناميين من جنسهم والحكومة تمنع ذلك، فكان علينا أن نغادر بسرعة قبل

أن يمنعنا المطر أو يقطع أنفاسنا ما سيخلفه من وحل.

بعد عودتنا وعلى فراش النوم تحديداً بت أفكر بعض ليلتي أتساءل.. ولا

أخفي عليك أخي القارئ أني لم ألتمس ما كنت آمله من انجذاب في محاضرة

الصباح، فقادني الرأي إلى أن هؤلاء البسطاء يحتاجون إلى ذلك الموضوع، ولكن

بطريقة أخرى تناسبهم، وهي دعوتهم للتأمل في الآيات الكونية المختلفة ونحوها

من الدلائل.. لا بذلك الأسلوب.

وفي الصباح كان الناس أكثر جمعاً، وبينا هم على توافدهم أخذت في التعرف

إليهم، فكان منهم حاكم قرية مجاورة واسمه نوح، سألته عن معنى اسمه؟ فقال:

هو نبي لله. فأردفت: وهل تعرف قصته؟ فقال: ومن أين لي أن أعرف.. أنا لا

أعرف شيئاً!! بدأت أقص له، وبدأ الحديث يسرق أنظار الناس ويحتكرها،

وتتغير ملامح وجوههم بتغيرات أحداث القصة.

ولما انتهت القصة سألتهم إن كانوا يريدون أن يعرفوا قصة نبي الله إبراهيم

- عليه السلام -، فرحبوا بذلك.

ومرة أخرى بدا الانسجام الظاهر والتفاعل التام مع الأحداث، فعندما كسر

إبراهيم - عليه السلام - الأصنام كانت علامات التعجب والخوف من العاقبة على

وجوههم، وضحكوا كثيراً عند قول إبراهيم - عليه السلام -: [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ

كَبِيرُهُمْ هَذَا] (الأنبياء: ٦٣) .

أحسست أن الله قد قدر لي خيراً مما كنت قد عزمت على الحديث فيه، ولا

أخفي عليكم مرة أخرى أن كاتب هذه السطور كان يقرأ قوله تعالى: [نَحْنُ نَقُصُّ

عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص] (يوسف: ٣) ، ولا يعلم وجوه الحسن فيها، أما الآن فهو

يراها عين يقين.

صدق الله العظيم.. علم من علم، وجهل من جهل. ولكني نسيت أن أخبركم

ماذا حدث حين كنا في قصة نوح - عليه السلام - وقومه، وتحديداً عندما ترجم

المترجم قولي: (فما آمن معه إلا قليل) ، فقد صرف نوح وجهه وتلفظ بكلمات

كان بادياً منها التضجر والتأفف البالغان!! أسرعت أسأل المترجم بطريقة غير

ملفتة للنظر تحسباً لأسوأ الاحتمالات، فكان الجواب أنه قال: (إن قوم نوح مثل

أهل هذه القرى ما آمن منهم إلا قليل) !! جزاك الله خيراً يا نوح!

لم يكن في وسعنا أن نمكث أكثر مما فعلنا.. ثلاثة أيام وأربع ليالٍ جميلة،

وجَمْع أهالي القرية أكثر من ذلك فيه صعوبة تعود إلى ظروفهم الخاصة؛ فبيوتهم

متباعدة، وهم يخرجون في الصباح الباكر إلى حقولهم البعيدة ليعودوا بقُوتهم في

المساء، وحضور أحدهم لمحاضرة خلال اليوم معناه إلغاء عمله اليومي، ولم يكن

بأيدينا أي مساعدات عينية تعوضهم عن ذهاب يوم من عملهم.

أحضرنا معنا بعض المصاحف، ولكنهم لا يستطيعون قراءة القرآن بعد،

أعطيناهم كتيبات عن الإسلام بالخميرية، ولكن قليلاً منهم من يعرف القراءة بها.

قدَّر الله وما شاء فعل.

- على طريق العودة:

باقتراب لحظة الرحيل ودَّعنا إخواننا في الله، وامتدت أيدينا بالمصافحة

الأخيرة، وسألنا الله أن يثبتنا وإياهم على دينه، وأن يجمعنا على خير، وأن يمكننا

من مساعدتهم.

ركبنا دراجاتنا النارية، وما أن وصلنا أطراف القرية حتى لقينا (أيوب) ،

وهو أحد المؤلَفين الذين تعرفنا عليهم، استوقفنا أيوب وسأل عن وجهتنا فعلم أنا

راحلون، وعندها ودَّعنا وودعناه بحرارة، وعدنا إلى دراجاتنا، وعندما تحركنا إذا

بأيوب ينادي رفيقي ويتفوه بكلام كان ظاهراً لي مراده مع أنني ما كنت مدققاً في

كلامه بل لا أفهم لغته، لقد كانت البراءة التي يحملها أيوب لغة كافية للتفاهم، كان

يقول: (قل للأستاذ: لا ينسني أنا أيوب.. قل له: لا ينسني أنا اسمي أيوب ...

أيوب!) .

لا.. كيف أنساك يا أيوب وأنت أخي الذي آثر الإسلام على ما كان عليه

آباؤه وقومه؟! إنك يا أخي مثال لا يُنسى وحكمة بالغة.

ومرة أخرى على متن دراجاتنا نخوض بين الغابات، وبينما نحن في نشوة

التمتع بالطبيعة إذ توقفت إحدى دراجاتنا لعطل أصابها، فنزل سائقها يصلحها،

وبقينا على جناح الانتظار، تقدمت ماشياً خطوات من طريقنا فإذا كشكشة من بين

الحشائش.. التفتُّ فرأيت أحد مظاهر الغابة؛ ثعباناً يطارد ضفدعاً، وما هي إلا

ثوان حتى توقف المشهد، انتظرت ليشرع الثعبان في ابتلاع فريسته، فاقتربت آمناً

لدغه وخفة حركته، ولما كان ذلك اقتربت من خلفه ولكنه لم يكن يسمح.. إذ

استدار مواجهاً، حاولت أخرى وهو على عزمه، فقنعت بذلك القرب، ولما كادت

الفريسة تختفي عاد الطمع بالقرب.. ففعلت، وعندها ولى الثعبان خجلاً يتوارى

بين الحشائش.

بعد إصلاح العطل تحركنا مرة أخرى، وعدنا إلى الطريق نفسها التي بدأنا

منها، حتى وصلنا إلى رحالنا بسلامة الله، فله الحمد على ذلك.

- وأخيراً:

إن دعوة هؤلاء القوم ومساعدتهم وأمثالهم من المؤلَفين تقع على كاهل كل

مستطيع لذلك؛ سواء بماله أو بجهده أو بدعاءٍ صادق منه؛ فمتى يكون منا ذلك؟!

ولنتذكر قول الله تعالى: [هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن

يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ

قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: ٣٨) .


(*) مدرس بمعهد أم القرى الإسلامي بكمبوديا.
(١) أخرجه البخاري، رقم ٢٤٤٦.