للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[ماذا عن مستقبل الجالية الإسلامية في أسبانيا؟]

يوسف شلبي

[email protected]

«رب ضارة. نافعة» مقولة قد تنطبق بصدق على واقع العمل الإسلامي

اليوم في أسبانيا ذلك البلد الأوروبي العريق؛ فلقد كان لظروف البلاد العربية

والإسلامية التي عانت ولا تزال تعاني من الفقر والعوز والحروب الأهلية والفتن

الداخلية التي أكلت الأخضر واليابس أثر في هجرة أبنائها إلى أوروبا عموماً

وأسبانيا خصوصاً.

وقد كان لهذه الجموع الغفيرة من المهاجرين من البلاد العربية والإسلامية

دورها الرائد في تأسيس العمل الإسلامي والدعوي في أسبانيا، وإيجاد البذرة

الصالحة لدعوة السكان الأصليين للدخول في دين الله أفواجاً.

ومع تزايد أعداد المهاجرين بدأت تزداد مشاكلهم بسبب صعوبة الاندماج،

ومن هنا نشأت الحاجة إلى إيجاد أماكن للعبادة والتواصل الروحي والالتقاء والتزاور

ونسج العلاقات الأخوية وإحياء المناسبات الدينية، ولذلك تم استئجار بعض دور

العبادة وإنشاء المراكز الإسلامية والجمعيات والمدارس التعليمية لأداء تلك الوظائف

الدينية والاجتماعية.

اليوم وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمان من الهجرات المكثفة العربية

والإسلامية، وبعد أن وجدت البنية التحتية للوجود الإسلامي في أسبانيا، من مساجد

ومراكز وجمعيات وهيئات وتجمعات إسلامية، بدأت أنوار الهداية تنتشر بين

السكان الأصليين رغم العمق الكاثوليكي المتميز في شبه الجزيرة الأيبيرية؛ لكن

هذا لم يمنع من أن يشق الإسلام طريقه بثقة كبيرة لتوفر كل الظروف الداخلية

والخارجية المواتية لنموه وترعرعه في بيئة مهيأة، كما أن أحداث ١١/٩/٢٠٠١م

أفرزت هي أيضاً عطشاً قلَّ نظيره عند الأسبانيين لمعرفة الإسلام والتقرب من

قضاياه المشروعة، وخاصة في فلسطين والشيشان وأفغانستان والصومال وفي

كل البؤر الساخنة التي يعاني فيها المسلمون من الاضطهاد والحرمان. وبنظرة

فاحصة لحجم المساعدات الأهلية والمدنية والإنسانية الحكومية وغير الحكومية،

تعطينا رؤية صادقة عن المكانة التي يحتلها الإسلام في الواقع الأسباني عموماً،

دون أن ننفي في الوقت نفسه وجود بعض من ردود الأفعال المعارضة للوجود

الإسلامي كوجود حقيقي وفعال، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الاختراق

الذي سجله الإسلام في النسيج النصراني «الكاثوليكي» الأسباني مقارنة بالديانات

الأخرى المنافسة، وإلى الإرث التاريخي الذي يمتلكه الدين الإسلامي في أسبانيا منذ

العهد الأندلسي الذي دام أكثر من ثمانية قرون.

وتسليط الأضواء على الوجود العربي والإسلامي في أسبانيا، كان لزاماً على

أي مهتم بالموضوع أن يطرح هذا السؤال الرئيسي والمصيري: ما هو مستقبل

العمل الإسلامي في أسبانيا؟ في أعقاب أحداث ١١/٩/٢٠٠١م شهد العالم حملة

شرسة ضد الإسلام والمسلمين، وظهر في أمريكا وأوروبا عداء واضح للإسلام

كعقيدة وشريعة وتاريخ وحضارة، ومِن زَعْم أن المسلمين همجيون وإرهابيون

ومتخلفون، وبات الكثير من الناس في تلك الدول مباشرة بعد أحداث ١١/٩/٢٠٠١م

ينعتون الدين الإسلامي بأنه دين إرهاب مهمته الإضرار بالحضارة الغربية

النصرانية، وكأن الدين الإسلامي يدعو المسلمين للقتل والانتحار وتفجير الأجساد

لتكون أشلاء على صرح المواجهة الوهمية بين الحضارة الإسلامية والحضارة

الغربية كما أراد ذلك صاحب صراع الحضارات «هنتنغتون» .

وكان لدور المراكز الإسلامية والنشاطات الدعوية والملتقيات المفتوحة بين

المسلمين والمسيحيين من الأهمية في توضيح الصورة الحقيقية للإسلام وإزالة

الغشاوة عنه، ويأتي المركز الإسلامي في مدريد واحداً من أهم تلك المراكز التي

كان لها جهود طيبة مشكورة على ذلك في أعقاب تلك الأحداث؛ إضافة إلى أن

المركز يمثل فعلاً القلب النابض لأبناء العرب والمسلمين في أسبانيا، وقبلة

المواطنين الأسبان والإعلام المرئي والمقروء لاستجلاء وجهة نظره حول ما حصل

وموقف الإسلام منه، كما أنه أصبح حاضراً في شتى أجهزة الإعلام الأسبانية

بمختلف توجهاتها لتبيان الحقيقة وتوضيح ما أشكل بعدما تدخلت فئات مغرضة

مستغلة الصدمة التي كان وقعها كبيراً على الأنفس، لشن الحملات القاسية المتتالية

على الإسلام والمسلمين، لكنهم وجدوا الإجابة على تساؤلاتهم واستفساراتهم

وهواجسهم «المشروعة» .

وفي هذا البحث نتناول نمط التعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين المهاجرين

في الغرب، وليست الساحة الأسبانية سوى واحدة من الساحات الأوروبية التي لا

يختلف كثيراً بعضها عن بعض وخاصة في تعرضها للقضايا الحساسة التي تتصل

بالإسلام والمسلمين، إنما اتخذناها أرضية لهذا البحث باعتبار أنّنا نعايشها عن قرب،

ونتعامل معها من خلال تجربتنا الشخصية المتواضعة.

* تدريس الإسلام في أسبانيا:

كان لصدور قانون حرية الأديان عام ١٩٦٦م الذي تم بموجبه الاعتراف

بالدين الإسلامي في الدستور الأسباني عام ١٩٧٩م (الدستور الجديد) واختيار

ممثل للمسلمين في اللجنة الاستشارية للحرية الدينية بوزارة العدل الأسبانية كان له

وقعه على مصير الوجود الإسلامي في أسبانيا، لكونها قلعة من قلاع المسيحية في

أوروبا، وهذا بعد تلاشي سلطان الكنيسة الكاثوليكية تدريجياً لحساب أديان أخرى

على رأسها الإسلام، علماً بأنه قبل صدور هذا القانون عام ١٩٦٦م كان محظوراً

على الأديان غير النصرانية أو الكاثوليكية على وجه التحديد أن تمارس أي نشاط

لها داخل أسبانيا، إلى أن سمح بذلك الجنرال «فرانكو» الذي استعان بالخيالة

المغربية للقضاء على تمرد الشيوعيين، ويرجع الفضل في بقائه في السلطة إلى

المسلمين المغاربة، ومنذ ذلك العهد أصبح الجنرال «فرانكو» لا يثق إلا بهم من

الناحية العسكرية، ويكن المودة والاحترام للمسلمين، متبنياً قضاياهم العادلة وعلى

رأسها القضية الفلسطينية؛ حيث كان من الزعماء الأوروبيين القلة الذين لم يعترفوا

بـ (إسرائيل) ، ولم يسمح لها بفتح بعثة أو ممثلية.

* مشكلات المسلمين الأسبان:

لكن يبقى أن مسلمي أسبانيا عموماً يواجهون عدة مشاكل تحول دون تدريس

مادة الدين الإسلامى في المدارس العامة لأبناء المهاجرين، وقد نشرت صحيفة

(البايس) الأسبانية الواسعة الانتشار تحقيقاً هاماً مطولاً عن هذه المشكلة التي تؤرق

الجالية الإسلامية وخاصة المهاجرين المغاربة، وأشارت فيه إلى أن المسلمين في

أسبانيا لم يستفيدوا من القرار الذي صدر عام ١٩٩٢م بالاعتراف بحق المسلمين

الأسبان في دراسة دينهم بحرية داخل المدارس العامة، والقرار الذى صدر عام

١٩٩٥م الذى يحدد ضوابط تدريس أديان الأقليات في المدارس الأسبانية مثل

الإسلام واليهودية والطائفة الإنجيلية، رغبة من السلطات الأسبانية في زيادة اندماج

المهاجرين وأبنائهم داخل المجتمع وبنيته لكى يصبح هؤلاء الأفراد باعتبارهم

يحملون الجنسية الأسبانية قادرين على القيام بأعباء المواطنة كاملة التي اختاروها

طوعاً وبحرية تامة؛ حيث نص هذا القرار على وجوب احترام الآخر، وإعلاء قيم

التسامح والحب بين البشر دون أدنى تمييز بسبب الدين والجنس واللون واللسان.

وتماشياً مع بنود هذا القرار قدمت جميع الطوائف والديانات قوائم بأسماء المدرسين

وعدد المرشحين لهذه الوظيفة، والخطة التعليمية التي تناسب أعمار الطلبة

ومستواهم التعليمي والتكويني واللغوي، وللأسف الشديد لم يتأخر عن الاستفادة من

هذه الفرصة سوى المسلمين كعادتهم حيث لم يقدموا شيئاً يذكر، مما حدا بالسلطات

الأسبانية من باب المسؤولية تجاه مواطنيها الحاصلين على الجنسية الأسبانية إلى

التدخل مباشرة لتعيين المدرسين وتحمل نفقاتهم ومرتباتهم الشهرية.

* ادعاء أن المسلمين عدوانيون - الأسطوانة المتكررة:

يحاول الإعلام الأسباني المتأثر بالدعاية الصهيونية ترسيخ الصورة التاريخية

والنمطية المشوهة للمسلمين في أذهان الأسبانيين من خلال التأكيد على المشاهد

الدموية ومظاهر العنف والاختطاف والحروب في تطرقه لشؤون المسلمين وخاصة

ما يجري في الشرق الأوسط من خلال الصراع الأبدي بين الفلسطينيين

والإسرائيليين، والمغرب العربي من خلال ما يحدث في الجزائر من مجازر

تحز في النفوس وتدمى لها القلوب.

فنرى القنوات الأسبانية العمومية والخاصة تعرض المشاهد والصور

التلفزيونية أمام الرأي العام عن مسلمين متعصبين ينادون بشعارات الموت ضد

أعدائهم يحملون بنادق وسكاكين وكأنهم متعطّشون للدماء، كما أن تحطيم برجي

التجارة في نيويورك ألهب المشاعر المعادية ضد المسلمين، وكان استغلال هذه

الصور في كل حادثة يُتهم فيها الإسلام والمسلمون استغلالاً مُحكماً إلى درجة

أصبحت هذه الصور توحي للمشاهد الأسباني البسيط بحالة من الارتباط بين الإسلام

والعنف والإرهاب، وهو الذي يتلقى معلوماته من التلفزيون الذي أسس وضعاً

إعلامياً وميدانياً يعتقد بأن جميع المسلمين أصوليون، وأن كلمة أصولي تعني

«عدواني» و «متعصّب» . وفي السياق نفسه نقرأ مثل ذلك في أعمدة

الصحف الأسبانية الواسعة الانتشار، ونذكر منها على الخصوص صحيفة

«البايس» اليومية المقربة من الدوائر الصهيونية محاولةً رسم تلك الصورة المشينة

عن الإسلام التي يمكن لها أن تنطبع في ذهن المشاهد وفق جدلية بسيطة لا يختلف

عليها اثنان تقول: «إن المسلمين عنيفون ومتعصّبون لا شك في ذلك» ثم تستقر

هذه الفكرة أو الصورة في ذهنه؛ وخاصة عندما يكثر الحديث عن الإسلام،

وتثار حوله الشبهات، فيكون لديه حينئذ القابلية لهضم أي شيء له صلة بتشويه

الإسلام من قريب أو بعيد، ولديه الحافز لتصديق ذلك؛ كأن يشاهد مسلماً أو يكون

الحديث عن الإسلام أو المسلمين فيعبر عن رأيه من خلال تلك الفكرة التي زُرعت

في ذهنه. ولعلّ هذا لا يبتعد كثيراً عن الواقع خاصة أن بعض المسلمين بسلوكهم

الارتجالي وكلامهم الانفعالي تجاه حدثٍ ما هو الذي يعطي مادة جاهزة للآخرين في

رسم معالم تلك الصورة المشوهة عن المسلمين.

* الكثافة السكانية الإسلامية تزعج الأسبان:

نظراً لتزايد عدد المهاجرين المسلمين في أسبانيا وتضاعفه خلال السنوات

العشر الماضية؛ فإن بعض الأسبانيين يعتقد بأن معدل الإنجاب لدى المهاجرين

المسلمين مرتفع جداً متوهمين أنهم بهذه الوسيلة سيحتلون أسبانيا مستقبلاً، مقارنة

مع المواطنين الأصليين؛ حيث تشهد العائلة الأسبانية تراجعاً في عدد الأبناء

لاقتصارهم على معدل «أوروبي» لا يتجاوز «طفلين / ثلاثة أطفال» في حين

نرى أن المجتمع الأسباني بدأ يشيخ، وأن دور العجزة وإقامات المتقاعدين غزت

المدن والقرى الأسبانية، وأن نسبة الخصوبة سجلت في الآونة الأخيرة تراجعاً

خطيراً جعل الكنيسة الكاثوليكية تتدخل من جديد لدق ناقوس الخطر، وللتنديد

بالسياسة المتبعة من طرف الحكومات المتعاقبة التي لم تشجع الأسرة على النمو

الطبيعي «العددي» نظراً للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحيط بها.

صحيح أن معدل عدد الأطفال في العائلة المسلمة المهاجرة وحتى في العائلة

المختلطة (الزواج بالأسبانيات) حالياً أكبر من معدله لدى العائلة الأسبانية، ولكن

يجب ملاحظة الأمور التالية:

١ - إن العائلة الأسبانية نفسها ذات معدل إنجاب أعلى من الدول الأوروبية

المجاورة.

٢ - في السنوات العشر الأخيرة سُجِّل انخفاض محسوس في معدل نسبة

الأطفال في العائلة المسلمة المهاجرة، بعدما قلصت أسبانيا دعمها الاجتماعي للتكفل

بالعائلات المهاجرة، وسنها لقوانين للحد من النشاطات الاقتصادية والتجارية التي

لها صلة مباشرة بحياة ومعيشة المهاجرين.

٣ - لا يبدو حالياً على المسلمين أي طموح أو دوافع للهيمنة والسيطرة في

المجتمع الأسباني، من خلال الكثافة السكانية، أو الظهور في المناسبات والأعياد

الوطنية والدينية، أو الحضور المكثف أثناء التظاهرات السياسية والاحتجاجية.

* هل الإسلام يعزل المسلمين عن المجتمع؟

يعتقد بعض الأسبانيين عن خطأ وسوء فهم، بأن تزايد المظاهر الإسلامية

كالمدارس الإسلامية والمساجد والمصليات والنوادي والجمعيات الإسلامية والمكتبات

وإحياء المناسبات الإسلامية كصيام وقيام شهر رمضان، والاحتفال بالأعياد

الإسلامية كالفطر والنحر، وانتشار الحجاب والجلباب في الشوارع والأسواق

والإدارات والمدارس، يعني عدم إمكانية تكيّفهم مع المجتمع الأسباني، وصعوبة

اندماجهم في الوسط الاجتماعي، على الرغم من البرامج الحكومية المكلفة في

التشجيع على الاندماج، مع المحافظة على الخصوصية الإسلامية التي تأبى الذوبان أو التنازل عنها، وقد يتعجب بعض منا إذا ما عرف أن الحاجز الرئيسي الذي يقف

دون نمو وتطور المسلمين في أسبانيا هم أنفسهم، من خلال قواعد سلوكهم التي لا

تنسجم بأي حال من الأحوال مع الإسلام وأخلاقه، وقد سجلت التقارير الصحفية

اعتماداً على إحصاءات الشرطة والهيئات الاجتماعية البلدية أن نسبة الإجرام في

الوسط الإسلامي المهاجر في تصاعد خطير، وأن السجون والإحداثيات الأسبانية

بدأت تسجل مستويات عليا من المتورطين في قضايا الإجرام وخاصة تجارة

المخدرات واستهلاكها، والسرقات الموصوفة، وتكوين جمعيات الأشرار، إضافة

إلى تزوير الوثائق والجوازات وتصاريح الدخول والتأشيرات، وتفكيك الخلايا

المتورطة في قضايا ما يسمى بمكافحة الإرهاب.

فالنقص في التربية الإسلامية، وضعف الوازع الديني، بعد توافد عشرات

الآلاف من المهاجرين من الدول المغاربية وخاصة من الجزائر هرباً من الفتنة

الداخلية، أو لأجل الكسب السريع وبأي وسيلة ممكنة، كان من الأسباب الرئيسية

للهلع الذي أصاب الأسبان وجعلهم يتوجسون من الأجانب عموماً والمسلمين

خصوصاً، مما دفعهم إلى مطالبة حكوماتهم بتشريع قوانين صارمة للحد من الهجرة

السرية غير الشرعية، والتقليص من تدفُّق المهاجرين الوافدين من الدول المغاربية.

* المسلمون ومأساتهم مع العنصرية:

يمتاز الشعب الأسباني بأنه شعب منفتح على الآخرين، ولا يعاني من عقد

تاريخية ونفسية، مقارنة مع باقي الدول الأوروبية، ولكن بسبب الأوضاع

الاقتصادية المتدهورة، وتفشي البطالة، وغلاء المعيشة، وعدم الإحساس بالأمن،

أخذ التيار العنصري ينمو تدريجياً في أسبانيا وخاصة من قِبَل الأحزاب الجهوية

وبعض التنظيمات الشعبية، حاولت بعض الأحزاب السياسية مغازلة الشعور القومي

من خلال التحذير من تزايد المسلمين في أسبانيا، وتهديدهم للطابع النصراني

«الكاثوليكي» للشعب والدولة الأسبانية، ولكن هذه الأحزاب أخفقت إخفاقاً ذريعاً

في إقناع الأسبانيين بصحة أفكارهم وطروحاتهم، وإن نجحت فعلاً في التوافق

مع الحكومة الأسبانية في موضوع الحد من الهجرة السرية.

وقد حدثت حوادث عنصرية متفرقة هنا وهناك في بعض المدن الأسبانية أنى

وجدت الجالية الإسلامية بكثافة، تمثلت في الاعتداء على بعض المسلمين من النساء

المحجبات، والمحلات التجارية الإسلامية (محلات اللحوم الشرعية، المخابز،

المطاعم العربية، وبعض محلات بيع الأغذية) ، والمساجد، والمراكز الإسلامية،

وزادت شدتها بعد أحداث سبتمبر / أيلول ٢٠٠١م، وتنامي التيار النازي

«الشباني» الذي يمثله جماعات «السكين هايد» بتقليعات تتمثل في

رؤوسهم الغريبة وملابسهم الجلدية وأدوات زينتهم، وقد عملت الحكومة الأسبانية

على التقليل من هذه الحوادث «المتفرقة» وتطمين الجالية الإسلامية ببعض

المبادرات الميدانية التي تخدم الهدوء والسكينة، فعقدت وزارة الداخلية

اجتماعات مع المؤسسات الإسلامية لتفادي آثار هذه الحوادث، والعمل سوياً للحفاظ

على التماسك الاجتماعي بين جميع أبناء هذا الوطن، وقد أخذت هذه الحوادث حيزاً

مهماً في الإعلام الأسباني الذي غالباً ما يندد بهذه التجاوزات وهنا قوة الإعلام

الأسباني غير المنحاز في غالبه مما جعل منه أداة جمع لا تفريق، وبناء لا هدم.

وكانت الحجة التي ترفعها هذه الأقلية المناوئة للوجود الإسلامي في أسبانيا أنهم لا

يفضّلون إقامة علاقة مع الأجانب وخاصة المسلمين منهم حتى لا تمتزج الدماء

العربية والإسلامية بدمائهم الأسبانية المسيحية الخالصة، وحتى لا يتكرر مسلسل أو

سيناريو فتح الأندلس على أيدي أحفاد طارق بن زياد وموسى بن نصير،

ويعتقدون أن على الأقليات الإسلامية أو غيرها كاليهود مثلاً، أن تتكيف مع العادات

والقيم النصرانية الأسبانية المتوارثة منذ قرون، وخوفهم من تأثير أو تهديد

المهاجرين للثقافة الأسبانية، علماً بأن هؤلاء أقلية صغيرة جداً لا يحسب لها حساب؛

لأن معاداتهم تصب على كل أجنبي، مسلماً كان أو يهودياً أو هندوسياً أو بوذياً.

* اللغة هي المشكلة الأساسية بالنسبة لأبناء المهاجرين:

أصبحت اللغة الأسبانية اللغةَ الأم التي حلت محل اللغة العربية بالنسبة للجيل

السادس والسابع من أبناء المسلمين الذين هاجروا واستقروا هنا حتى نسوا العربية

لغة القرآن، وقاربوا على الذوبان في المجتمع الأسباني بآفاته وعلله، وخاصة أن

الكثير من العرب الذين استوطنوا هنا تزوجوا بأسبانيات أغلبهن ما زلن على

النصرانية وقليل منهن من أسلمت وحسن إسلامها؛ ومن ثَمَّ فإن المأساة الحقيقية

تظهر جلياً بأن الجيل الجديد من أبناء المسلمين في أوروبا عموماً، وفي أسبانيا

خصوصاً هو مسلم بالهوية فقط.

غير أن المسلمين في أسبانيا بدؤوا التفكير الجدي في كيفية القضاء على هذه

المشكلة التي أخذت أبعاداً خطيرة ومستويات مرتفعة تهدد إذا بقي الوضع على حاله

الوجود الإسلامي في حاضرة الأندلس، فكان الحل المقترح يتمثل في تكثيف بناء

المدارس الإسلامية ودور الحضانة ورياض الأطفال عن طريق تبرع المسلمين

لإنشائها وبموافقة من الحكومة الأسبانية وبدعم منها، وأن تدرّس هذه المدارس

المناهج بالأسبانية بالإضافة إلى اللغة العربية والدين الإسلامي، مع السعي الحثيث

أن تكون تكاليف التسجيل في متناول الجميع من أبناء المهاجرين والجالية الإسلامية

دون تمييز.

* المسلمون في أسبانيا يكسبون معركة الحجاب:

كسب المسلمون في أسبانيا العام الماضي حق ارتداء الحجاب الإسلامي في

المدارس بعد معركة طاحنة مع إدارة مدرسة غربي العاصمة مدريد رفضت دخول

طالبة مسلمة وهي ترتدي غطاء الرأس (الخمار) . وكانت مدرسة ثانوية في

«سان لوري نزو ديل إسكوريال» أبلغت الطالبة المسلمة فاطمة (١٣ عاماً)

- وهي ابنة مهاجر مغربي - أنه لا يمكنها ارتداء الحجاب في مدرستها بعدما

صرحت مديرة المدرسة لوسائل الإعلام بأن الحجاب رمز لما أسمته «بالتمييز بين

الجنسين» ، وأيدت وزيرة التعليم قرار مديرة المدرسة بمنع فاطمة من دخول

المدرسة، بينما أعلن والد التلميذة أن ابنته لن تذهب للمدرسة إلا بالحجاب، بعد أن

عقد والد التلميذة مؤتمراً صحفياً بمقر «رابطة العمال المغاربة المهاجرين»

بمدريد، أكد خلاله لوسائل الإعلام أنه لم يجبر ابنته على ارتداء الحجاب،

وإنما هي التي ترتديه بكامل حريتها، نافياً ما نسبته إليه الصحف من إجبار

ابنته على ارتداء النقاب في المستقبل.

لكن مستشار السلطات التعليمية في مدريد وبعد لقائه مع أعضاء المجلس

الإسلامي بأسبانيا، ألغى قرار المديرة واعتبره لا يمثل سياسة أسبانيا في تعاملها مع

مواطنيها من الجالية الإسلامية وتسامحها الديني والفكري، كما يقضي بحقها في

الحصول على التعليم الإلزامي المقرر للأطفال في المدارس الأسبانية بدون أي

شروط مسبقة، مشيراً إلى أنه توجد حالات مماثلة لفتيات مسلمات يذهبن إلى

المدارس في أسبانيا بالحجاب. وقد تصاعدت حملات العداء ضد الحجاب الإسلامي

حديثاً، بعد أن شهدت تزايداً في عدد السكان المسلمين وأغلبهم من الجالية المغاربية

(الجزائر والمغرب وتونس ونوعاً ما موريتانيا) ، كما أن حدة التوتر بشأن

الحجاب الإسلامي وقضايا الاختلافات الثقافية بين الأسبان والجالية الإسلامية

والمهاجرة، زادت بعد التصريحات التي أدلت بها وزيرة التعليم الأسباني «بيلار

ديل كاستيلو» العام الماضي عندما قالت لإحدى الصحف: «إنه يتعين على أطفال

المهاجرين تبني العادات الأسبانية» . وقد وضعت تصريحات الوزيرة السلطات

الأسبانية في موقف حرج، وخاصة أن المسؤولة عن القطاع اتهمت من طرف

الجمعيات المدافعة عن المهاجرين والمسلمين في أسبانيا بوضع العراقيل في وجه

أطفال المهاجرين، وهو ما أدى بالقائمين على التعليم في أسبانيا إلى التحذير من أن

انخفاض نسبة أبناء المهاجرين في المدارس سيؤثر لا محالة على مستقبل أسبانيا

كلها؛ لأنهم سيمثلون عدداً كبيراً لم يحصل على التعليم الكافي؛ ومن ثم لن يدخلوا

سوق العمل بشكل فعال، ويكون الشارع والجريمة وسيلة من وسائل التنفيس عن

النفس، مع الإحباط المشفع باليأس.

* قانون الأجانب. سيف يلوح فوق رؤوس المسلمين:

من جهة أخرى ترددت الأنباء عن نية حكومة «أثنار» الأسبانية، تعديل

قانون الأجانب الحالي بقانون جديد وصارم للحد من الهجرة غير الشرعية والسرية،

خاصة بعد النتائج المشجعة التي حصل عليها «حزب الشعب» الحاكم في

منطقة «الأيخيدو» في «ألمرية» جنوب شرق أسبانيا، في الانتخابات المحلية

الأخيرة، والتي كانت شهدت من قبل أعمال عنف واعتداءات بالغة الخطورة واسعة

النطاق ضد المهاجرين المغاربة المتواجدين في تلك المنطقة بكثافة، والبالغ عددهم

أكثر من عشرين ألفًا، ساهموا جميعًا في النشاطات الزراعية الضخمة للمنطقة

والتي كانت الأفقر في أسبانيا حينها، فأصبحت خلال عشرين عامًا، المنطقة التي

تتمتع بأعلى دخل فردي في البلاد، وأكبر نشاط تجاري مع دول أوروبا، وعدد

كبير ومتنامٍ من الفروع المصرفية في المنطقة، ويرجع الفضل في ذلك إلى معاناة

وتضحية المهاجرين المغاربة وجهودهم الجبارة في تنمية المنطقة. وكان قانون

الأجانب الذي تريد حكومة «أثنار» تمريره مثار جدل عنيف في البرلمان

الأسباني خلال الأعوام الأربعة الماضية؛ إذ إنه يقضي بالسماح بدخول انتقائي

وعنصري منظم للأجانب إلى أسبانيا، وبحيث يفتح الباب على مصراعيه للقادمين

من شرق أوروبا أو أولئك القادمين من دول أمريكا اللاتينية الذين يتكلمون اللغة

الأسبانية ويدينون بالدين المسيحي، ولا يسمح هذا القانون للعرب والمسلمين

والأفارقة بالدخول العشوائي إلى البلاد إلا لمن يتمتع منهم بشروط خاصة يصعب

تحقيقها أو تطبيقها في الميدان؛ لأنه من البداية أعطيت الأولوية والصدارة لملفات

هؤلاء على حساب الجالية المهاجرة المسلمة التي ساهمت في نهضة أسبانيا

الاقتصادية والتجارية! وقد اتهمت الجهات المعنية بملفات المهاجرين من البلاد

العربية ونقابات العمال المهاجرين وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان هذا القانون،

ووصفته بأنه الأكثر عنصرية وشذوذًا في أوروبا، وخصوصاً أن الجالية العربية

والإسلامية يشكلون (٢%) فقط من تعداد السكان في أسبانيا.

* مساجد أسبانيا منابر الهدى:

في أسبانيا حالياً نحو أكثر من ٣٠٠ مسجد ومصلى ملحق ببعضها مراكز

ثقافية ومدارس لتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم للبنين والبنات، ومن

أبرزها على الإطلاق المركز الثقافي الإسلامي في العاصمة الأسبانية مدريد الذي

افتتح عام ١٤١٣هـ / ١٩٩٢م وهو يتبع إدارياً وتنظيمياً لرابطة العالم الإسلامي

في مكة المكرمة. ويضم هذا المركز الجميل مسجداً ومدرسة تتسع إلى (٢٥٠)

طالباً ومكتبة تحتوي على أكثر من ٣٠ ألف كتاب، وقاعة تتسع لأكثر من

(٥٠٠) شخص، ومرافق أخرى للنشاطات الثقافية والتعليمية والاجتماعية

والإعلام الآلي، ومتحفاً إسلامياً.

وأوضح رئيس المركز الثقافي الإسلامي في مدريد أن المركز يعمل على

توحيد كلمة وجهود المسلمين في أسبانيا الذين يقدر عددهم بين ٦٠٠ إلى ٧٠٠ ألف

مسلم منهم حوالي ٢٠٠ ألف مسلم يحملون الجنسية الأسبانية، بينما يقدر عدد الذين

اعتنقوا الإسلام في السنوات الأخيرة بحوالي ٣٠ ألف شخص، لكن هناك بعض

الإحصائيات ولها جانب كبير من المصداقية تشير إلى أن المسلمين في أسبانيا

تجاوزوا هذا العدد بكثير، وأن العدد الحقيقي للمسلمين قد يصل إلى المليون،

ويتجاوز عدد الذين اعتنقوا الإسلام من الأسبانيين الأصليين ١٠٠ ألف مسلم،

ليحتل بذلك الإسلام المرتبة الثانية متجاوزاً اليهود والإنجيليين والبروتستانت

والبهائيين والقاديانيين، وغيرهم.

* المسلمات في أسبانيا - طموح يراعي الهوية:

ربما تختزل صورة المسلمة لدى الأسبانيين والأوروبيين عموماً في مشهد

امرأة ترتدي حجاباً أو جلباباً، وتضع غطاء على رأسها ونقاباً على وجهها،

وتمشي على بعد خطوات وراء زوجها، ولا يسمح لها بالخروج إلا نادراً خارج

منزلها، ولا يسمح لها بالدراسة أو التطلع إلى الجامعة والحصول على الشهادات

العليا، أو العمل من أجل كسب المهارات ولقمة العيش أو مساعدة العائلة إذا كانت

فقيرة أو زوجها، وهي داخل المنزل المضطهدة التي يضربها زوجها «المتوحش»

بسبب أو بدون سبب؛ لأنه هو الرجل وهي المرأة، ولا تزيد وظيفتها على

العناية بالزوج وبأطفاله والبيت والطبخ والخياطة في انتظار عودة زوجها في

المساء، لتبدأ من جديد حياة رتيبة أخرى مملة!!

كما أن هناك من الأسبانيين من يعتقد أن الدين الإسلامي هو السبب في محنة

المرأة المسلمة دون النظر للعادات والتقاليد العربية الإسلامية التي تصون المرأة

المسلمة في بيتها حماية لها من نظرات مرضى القلوب، وسواء استقر عندهم أن

الإسلام هو السبب أو المسلمين، فإن الثابت بالنسبة للأسبانيين هو أن المرأة

المسلمة كائن بشري مضطهد ومهزوم، رغم كل التسويغات والحجج المقدمة من

قِبَل المسلمين، وهذا الوصف قد يكشف لنا مدى التقصير والعجز عن تحقيق الرؤية

الإسلامية في صيانة المرأة باعتبارها كائناً رقيقاً يتطلَّب منا كل الاهتمام والمسؤولية.

* مسلمو أسبانيا في غرناطة: لسنا ورثة الأندلس:

افتتح في مدينة غرناطة في الجنوب الأسباني بعد رفع أذان صلاة الظهر لأول

مرة منذ أن أُخرج العرب المسلمون من الأندلس قبل ٥١١ سنة أول مسجد شيد بعد

غياب الحكم الإسلامي عن الأندلس منذ خمسة قرون، وقد عملت منذ أكثر من

عشرين عاماً مجموعة من الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام على بناء هذا المسجد في

غرناطة أمام قصر الحمراء الذي يمثل بالنسبة للمسلمين أطلال مجد غابر، والذي

كان في السابق رمزاً للنفوذ الإسلامي في أوروبا، ويقع بين كنيسة «سان نيكولا»

وبين دير للراهبات، بعد أن تأجل فتحه طويلاً بسبب رفض محلي ومشاكل تتعلق

بالتصميم إضافة إلى نقص التمويل. وكانت عملية بناء المسجد قد تأخرت هذه المدة

الطويلة بسبب الشكاوى التي تقدم بها الأهالي المعارضون لهذا المشروع خوفاً منهم

من تداعيات بناء مسجد في حاضرة الأندلس وقلبها النابض «غرناطة» عاصمة

آخر خلافة إسلامية في أسبانيا، مما يذكّرهم بالوجود العربي الإسلامي في أسبانيا،

وهو الشيء الذي أثار تساؤلات وتعليقات السكان؛ حيث تساءل بعضهم عمّا إذا كان

ذلك يمثل عودة للإسلام إلى أرض الأندلس التي غادرها قبل خمسة قرون تقريباً.

وهكذا بعد ٥٠٠ عام ونيف من رحيل المسلمين من غرناطة بعد هزيمتهم أمام

الملك أراجون «فرناندو» وملكة قشتالة «إيزابيلا» عام ١٤٩٢م افتتح المسجد

بحضور سفراء الدول العربية والإسلامية، والسلطات المحلية، في غياب سليل

مملكة أراجون وقشتالة الملك «خوان كارلوس» وعقيلته الملكة «صوفيا» ،

ويضم المسجد مركزاً للدراسات الإسلامية وحدائق وكذلك شرفة واسعة تطل على

تلة «سييرا نيفادا» الشهيرة وقصر الحمراء الذي سلم محمد أبو عبد الله - وهو

يذرف الدموع - مفاتيحه إلى الملوك الكاثوليك عام ١٤٩٢م. ولن يكون المسجد فقط

مكاناً للصلاة والعبادة والذكر فحسب، بل أيضاً مكاناً لتأهيل وتكوين وتعليم

المسلمين، ومكاناً للدراسة والبحث، وللمؤتمرات والمعارض والندوات، وسيكون

مفتوحاً أمام العامة. ويقدر عدد السكان المسلمين اليوم في غرناطة بنحو ١٥ ألفاً،

ويتزايد عددهم بسبب الهجرة، وهذا المسجد هو واحد من عشرة مساجد تم بناؤها

في أسبانيا في السنوات الأخيرة فقط.