للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

الإسلاميون بين دولة ضائعة وفرصة سانحة

(١)

أحمد فهمي

[email protected]

فِكْر الحركة الإسلامية أشبه ما يكون بطلقات ضوئية تنير السبيل للسالكين،

بيد أنها غير بعيد يخبو ضوؤها، وربما ارتبك السائرون فتنكبوا السبيل أو ظلوا

حائرين، وقد خبا ضوءٌ قد التمع قبل أكثر من ثلاثين عاماً لتصبح الحيرة سيد

الموقف في العمل الإسلامي في الآونة الأخيرة، وليصبح فرض الوقت تفقد جذوات

بديلة جديدة نتلمس على نورها خطانا، علَّنا نهتدي السبيل.

وفي هذا المقال وما يليه نتلمس جذوات الحق، ونبحث في تجارب الماضي

عن أخطاء الحاضر ومحاذير المستقبل، لنصل مراحل العمل الإسلامي بعضها

ببعض منذ البداية المباركة قبل أكثر من سبعين عاماً؛ ليكون بنياننا راسخاً على

ما بذل فيه مَنْ سبقونا المهج والأعمار، وليس على حافة هاوية في بقعة نائية،

ومهما تجدد من الفكر وتمحص من المنهج؛ فإن الفضل الأكبر بعد الله عز وجل

يبقى لرعاة العمل الإسلامي الأوائل.

* النهايات الثلاث:

من مشكلات العمل الإسلامي ارتباكه في التعامل مع الفقه المرحلي، فيلجأ

إلى النمطية فيما من حقه التغيير، وإلى التغيير فيما من حقه الثبات، وتحديداً

نقول إن هناك ثلاث عقبات في هذه الإشكالية:

أولها: تحديد المرحلة التي يعيشها العمل الإسلامي.

ثانيها: إدراك مؤشرات نهاية المرحلة.

ثالثها: استيعاب متطلبات الانتقال بين المراحل.

والذي نتناوله تحت العنوان الأخير ما يتعلق بمؤشرات نهاية المرحلة،

ونحسب أنه قد رسخ في ثقافة كثير من الحركات الإسلامية العاملة في الدول

العلمانية أو التي يغلب عليها التوجه العلماني أن المرحلة التي يعيشونها تمتد إلى

نهاية العمر، وأن الذي يتخذ خطوات جادة لإنهاء المرحلة فقط خصوم الحركة

الإسلامية، قياساً على تجارب ماضية؛ أبرزها تجربة عبد الناصر في مصر

عندما اتخذ قراراً بإجهاض الحركة بصورة تامة، وبذلك فإنه ما لم يحدث تصرف

نمطي مشابه فإن المرحلة مستمرة، وقد يؤكد ما نقول أن المراجعة الجدية الوحيدة

التي تم اتخاذها من قِبَل حركة إسلامية في الفترة الأخيرة هو ما قامت به

الجماعة الإسلامية في مصر، واعتبرت بمراجعتها تلك أن الحركة قد انتقلت من

مرحلة إلى أخرى جديدة تماماً، وكانت نتيجة مواجهة رسمية مشابهة لما حدث

في الخمسينيات.

والمراقب لأداء الحركات الإسلامية في الدول العربية العلمانية أو التي يغلب

عليها التوجه العلماني في العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي، وكذا

للتطورات السياسية الإقليمية والدولية؛ يمكن أن يلاحظ ثلاث نهايات للمرحلة

الدعوية الحالية، كل واحدة منها تعضد الأخرى وتؤكدها، فعلى المستوى الداخلي

لكل حركة على حدة؛ بدا واضحاً أن هناك قائمة طويلة من التساؤلات

والإشكاليات التي يقصر المنهج عن تفسيرها، وعلى مستوى العمل الإسلامي بات

واضحاً أن الحركات الإسلامية تعيد نفسها وتفقد توازنها بصورة واضحة، وعلى

المستوى الدولي فقد دُشنت الحرب الأمريكية على الإرهاب، والتي بدأت بالتيارات

الجهادية ثم اتسعت لتشمل الحركات الإسلامية كافة؛ سواء كان منهجها سلمياً أم

عنيفاً.

وهذه النهاية الثلاثية الأبعاد تفرض علينا وقفة شاملة على المستوى نفسه بما

يكفي للتنظير لمرحلة حرجة حالية، ومرحلة قادمة يمكن حسب المعطيات التي

بين أيدينا - وبعد توفيق الله عز وجل - أن تكون فرصة سانحة لتحقيق مكاسب

وإنجازات غير مسبوقة.

* كيف نعرف أن حركةً ما تعيش أزمة فكرية منهجية؟

(متى تحتاج الحركة الإسلامية إلى تجديد الفكر والمنهج؟) :

المنهج أو الفكر الذي تنطلق من خلاله أي حركة إسلامية يشبه بئراً نفطية

إلى حد كبير، ففي أوله تتضاعف التكلفة (التأسيس) ، ثم بعد ذلك يتزايد عائده

وتبدو ثماره، ولكن في نهاية الأمر تفوق تكاليف التشغيل قيمة العائد، ومن ثَمَّ

يصبح الخيار الأصوب تركه والبحث عن غيره، والمشكلة هنا أن كثيراً من

الحركات الإسلامية لا تشعر بالتغيير الأخير، أو لا تقدر على معالجته واتخاذ قرار

بشأنه، أو لا تجد خيراً منه لتنتقل إليه.

وتتوزع الحركات على الحالات الثلاث، وهناك حالة رابعة تتمثل في بعض

الحركات التي تخلصت من كثير من ثوابتها، ولكنها لم تجد بديلاً، فعاشت فترة

من التيه والحيرة انتهت (أو لم تنته بعد) بتشتتها وتفرقها، وهو ما يجعل

جماعات كثيرة تُؤْثر خيار الوضع القائم على ما فيه من دخن وخلل على

وضع التيه والشتات.

وهناك عدد من الطرق يمكن للحركة بواسطتها أن تدرك حاجتها إلى

التجديد الفكري:

وأولها الطريقة المباشرة التي تتمثل غالباً في تعرض الحركة لأزمة مواجهة

عنيفة، ينتج عنها خسائر كبيرة على جميع الأصعدة، ومن ثم تنشأ بعد فترة من

الأزمة محاولات للمراجعة والتجديد، وعادة ما يتم ذلك داخل المعتقلات، حيث

تخرج الجماعة بفكر ومنهج جديدين؛ محورهما الأول قابلية التعايش مع الأوضاع

القائمة.

وفيما عدا هذه الطريقة المباشرة؛ يندر أن توجد جماعة تبادر بنفسها ودون

ضغوط خارجية إلى إجراء مراجعات شاملة ومحاولات للتجديد والتغيير، ويصعب

على كثير من الجماعات أن تعترف بخلل في منهجها أو بفراغ فكري لديها.

ولكن لا يمنع ذلك من وجود علامات غير مباشرة كثيرة تدل بمجموعها

وبقدرِ ما يتوفر منها على المستوى الذي وصلت إليه حركة إسلامية ما، ونذكر

أهمها:

- انقضاء فترة زمنية كافية دون أن يحقق المنهج أهدافه أو قدراً مناسباً منها

حسب الرؤية الذاتية للحركة، ومحاولة معالجة ذلك بترويج مكثف لفكر الصبر

وذاتية الأخطاء والتعبد بالوسائل لا الغايات، في حين أن مفهومات هذه المعالجة

نحتاج إليها في جميع مراحل العمل الإسلامي، وليس فقط عندما تتعقد الأمور.

- تراجع المكاسب والإنجازات التي تم تحقيقها من قبل؛ دون أن يبدو ذلك

التراجع مجرد كبوة أو حالة عارضة.

- حدوث تطورات سياسية واجتماعية وثقافية يعجز المنهج الحالي عن

استيعابها والتعامل معها؛ بحيث تظهر جوانب من الخلل وتناقضات في الأقوال

والمواقف، ويصبح للحركة بعد مدة مذهبان: قديم وجديد.

- تزايد الانشقاقات والخلافات الداخلية.

- تراجع مستوى الانتشار كماً وكيفاً.

- تدني مستوى القيادة والعجز عن إبراز رموز تحظى بشعبية آسرة حتى

داخل الحركة نفسها، فضلاً عن الجماهيرية العامة.

- تراجع في أدبيات الحركة، وندرة الإصدارات التي تقدِّم الجديد.

- تراجع مبيعات الكتاب الإسلامي الفكري والشرعي في أوساط الحركة

وبين أتباعها وقلة الجديد منها.

- حدوث فجوة بين الأجيال داخل الحركة نتيجة تراخي الدعوة في بعض

مستوياتها، وتتعاظم الفجوة على مستوى العمل الإسلامي ككل داخل البلد الواحد

في حال تشارك باقي الحركات في هذه السلبية.

- ارتفاع معدلات الانتكاس، وترك طريق الالتزام والدعوة من قِبَل المنتمين

للحركة الإسلامية.

- غياب أو تراجع دور العلماء في مسيرة الحركة، وتحوُّل الغلبة للرموز

الفكرية والسياسية والحركية.

وينشأ عن غفلة الحركة عن هذه العلامات البارزة، والتي يتكرر أغلبها في

معظم الجماعات، ظاهرة يمكن أن نسميها: التحرك الدائري، ونعني به إعادة

اجترار الأفكار نفسها بصورة مستمرة في مواجهة المستجدات المتغيرة، ولا نريد

هنا إلقاء اللوم بصورة كلية على الحركات الإسلامية، فهي نشأت في الأساس

وليس لديها آلية يومية أو حتى ظرفية للاجتهاد المنهجي، بل كان من ضرورات

النشأة حسب رؤية الكثيرين وقتها الاجتهاد بغلق باب الاجتهاد وثبات المنهج أو

تجمده، ومن ثَمَّ وقعت أغلب الحركات في أسر مناهجها، ولم تستطع منها فكاكاً،

ولم يفلت من هذه الوضعية المعقدة إلا مَنْ تعرض للضغوط المباشرة التي كسرت

جدر الفكر كما سبق الذكر، ودفعت الحركة دفعاً لإجراء المراجعات والتحديثات.

ولكن في ظل العلامات السابقة يمكن أن تستمر الأوضاع الحالية على ما هي

عليه لسنوات طويلة، فما الحل؟

* الفكر القائد:

وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى مأزقين تتعرض لهما حالياً أغلب

الحركات الإسلامية:

أولهما: كثير من الحركات الإسلامية تعيش حالة من السيولة الفكرية وربما

التنظيمية، وتقبل باهتزاز ثوابتها فقط عند تعرضها لضغوط التغيرات السياسية

والثقافية والدينية في المنطقة، بينما تؤثر الجمود وتأبى المراجعة والتجديد الذاتيين

إذا انبعثت الدعوة إليهما من أطراف موالية، وتتراجع القدرة على اتخاذ قرارات

جذرية أو تغييرية لو وجد تصور لها من الأصل؛ لأن ذلك ربما يؤدي إلى إعادة

تشكيل الحركة على خلاف المراد، أو يستحدث منهجية تدفع في اتجاه التفكك

والانهيار.

وقد يكون مفيداً الإشارة هنا إلى أن مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر

تمت في ظروف شبه معملية، لذلك لم تحدث انقسامات واضحة داخل الجماعة،

ولكنها قد تكون مهددة بذلك حقيقة حال انتقالها إلى الهواء الخارجي.

ثانيهما: إشكالية: أجب بنعم أو لا؟ والتي تتمثل في الامتحانات الكثيرة

التي تُعقد للحركات الإسلامية ولقادتها ورموزها من قِبَل الأنظمة العلمانية أو التي

يغلب عليها العلمانية وأبواقها، والتي تمثل مأزقاً؛ كونها لا تتيح مجالاً للمداراة

أو مواربة الفكر في ظلال الفعل فضلاً عن القول، وهذا له تأثيره السلبي على

المصداقية وعلى الثوابت، والتي يمكن أن تتحول تحت الضغط المستمر إلى مجرد

شكليات وأثريات لا أثر لها في الواقع، وبذلك تفجأ الجماعة بأنها أمست لا هي

ناشطة في التجديد، ولا هي قادرة على التجميد.

ومثال هذه الإشكالية: المطالبة المستمرة من قِبَل القوى العلمانية للإسلاميين

بتحديد مواقفهم وآرائهم من قضايا وأحداث شائكة؛ بطريقة تجعل من التجاوب

تنازلاً عن الثوابت، ومن الإعراض تخلياً عن مكاسب جنتها الحركة من أدائها

فيما سبق، والمؤسف أن بعض الإسلاميين باتباعهم مسلكاً صِدَامياً يُعمِّقون من

الآثار السلبية لهذا المأزق، ويتيحون مجالاً أوسع لتقليص ثوابت العمل الإسلامي

من قِبَل العلمانيين.

والحال هكذا يصبح الافتقار واضحاً إلى قيادة فعَّالة تُخرج الحركة الإسلامية

من مكمنها الذي «حُشرت» فيه، أياً كانت هذه القيادة بصورها الثلاث: الفكر

القائد، أو الشخص القائد، أو الحدث القائد. وسبق أن تناولنا هذه القضية في عدد

سابق من البيان (كلمة صغيرة، شهر رجب) ، وذكرنا أن الفكر القائد يعدُّ أقرب

الوسائل إلى التفعيل في وقتنا الحالي، وأقلها مؤونة لإخراج الحركة من حالتها

الساكنة.. «وتزداد أهمية هذا البعد الفكري القيادي في ظل محاولات الترويج

لرؤى فكرية ارتدادية تفكيكية، تعود بالحركة الإسلامية ثلاثين عاماً إلى الوراء

لتجد نفسها منشغلة - بعد كل هذا العناء - بلملمة ما تبعثر من ثوابتها، وترميم

ما اهتز من أصولها، ومَن ثَّم كان لا بد أن تتوفر في هذه الرؤية المجددة الفكر

القائد قدرتان: القدرة على مقاومة الفكر الارتجاعي، والقدرة على تحريك

العمل الإسلامي والأمة بأسرها خطوات إلى الأمام» .

هذه الدعوة إلى قيادة فكر جديد لا تعني أبداً إهدار الإنجازات الفكرية التي

تراكمت طيلة عقود ماضية، فلا شك لدينا في ثرائها، ولكنها لا ترقى إلى مستوى

القيادة المطلوب؛ لأنها فقدت قدرتها على الموائمة الظرفية الزمنية؛ لذا بدا

واضحاً: التعثر، والتكرار، والتناقض، في أداء الحركات الإسلامية تحت وطأة

التداعيات السياسية في العقد الأخير، حيث انتهى الأمر إلى أن أصبح منهاج الفعل

ينحصر لدى بعض الناس في أعمال تفجيرية، تُدمي العمل الإسلامي قبل أن تخدش

أعداءه، أو مبادرات فردية لا تحرك الماء الساكن، بينما قنع آخرون بمنهاج رد

الفعل، واعتبروه الأسلم والأحكم.

* حقائق مهمة:

وقبل الاستغراق في التفاصيل يحسن بيان ما تهدف إليه هذه المقالة وما

يليها؛ لكي تتراكم الأفكار بصورة صحيحة تتساوق مع النتائج المرجوة:

- الجماعات الإسلامية التي نشأت في الدول العلمانية التي رُزئت لعشرات

السنوات تحت أسر الاستعمار الغربي قبل أن تبتلى بالعلمانية؛ ربما تكون الإنجاز

الأعظم الذي قدمته الأمة الإسلامية في سياق تفاعلها مع مصيبة سقوط الخلافة

الإسلامية عام ١٩٢٤م.

- لم ينته عصر الجماعات ولم يمض عهدها، بل الأقرب أن المرحلة

القادمة تستلزم ازدهاراً لها.

- استخدام المثاليات المجردة بعيداً عن موائمة الظرف (الزمان - المكان)

يعطي نتائج وتوجهات خاطئة، ربما من أبرزها في هذا المجال اعتبار تعدد

الجماعات واختلافها (الطبيعي) ظاهرة سلبية تماماً، وتبنِّي الدعوة إلى توحيدها

ووحدتها، بينما يصرخ الظرف فينا: دعوا الأمور كما هي، فلكل صراع مقال

وفِعال، وليس هذا موطن التجديد المطلوب في زمننا.

- ما عدا الأصول والثوابت الشرعية؛ فليس هناك مرجعية فكرية أو حركية

تُلزم الحركات الإسلامية بأنماط جبرية من السلوك في الخطاب والفعل.

- تقع الحركات الإسلامية منذ أكثر من سبعين عاماً دوماً في أنماط متكررة

من الأخطاء التي تتشابه قلوبها، وإن تباينت قوالبها.

- إذا كانت الحركة الإسلامية قد ضيعت فرصة ذهبية لإقامة دولة إسلامية

في بداية عهود الاستقلال، ثم فوتت فرصاً ثمينة في السبعينيات، فإنه رغم

صعوبة الظرف الحالي تلوح بين يدي الحركة الإسلامية فرصة سانحة تفتقر

إلى من يستثمرونها.

- فقه أو «فن» المواجهة مع الكيانات العلمانية هو أكثر ما تعاني

الحركات الإسلامية من فقده، ويمكن توضيح ذلك بالمثال التالي: لو افترضنا أن

ركب العلمانية متمثل في عربة سريعة الانطلاق؛ فإن مواقف الإسلاميين من حولها

نجدها تتوزع كما يلي: فئة تعتبر العنف أسرع الوسائل لتحقيق المُبتغى، فتُهرع

إلى الوقوف أمام العربة.. والنتيجة معروفة، وفئة أخرى تمتطي العربة لتلجمها

وتوجهها، فإذا بها تتوجه هي معها، وفئة ثالثة تركض بجوار العربة، فلا هي

سبقتها ولا هي منعتها، وفئة رابعة ارتأت أن السير عكس اتجاه العربة ينأى بها

عن المشكلات والفتن، أما الفئة الخامسة فهي ما نفتقده في أداء الحركة الإسلامية،

وهي التي ستعمل على إعاقة تقدم العربة بإذن الله؛ بحمل الأثقال عليها ومن خلفها،

فتُبطئ مسيرتها وتعرقل تقدمها وتوجهها، وهو ما سنترجمه لاحقاً بمشيئة الله

تعالى.

* هل اختلاف الجماعات رحمة؟

في الفترة الثلاثينية الأخيرة، والتي تميزت بتعدد الجماعات الإسلامية

واختلافها، نستطيع القول بأن هذا التعدد والاختلاف في حد ذاته كان والله أعلم

سبباً مهماً في بقاء الحركة الإسلامية وحفظها من الزوال في كثير من البلدان

العربية العلمانية؛ مثل: مصر - الجزائر. ويتضح ذلك لو قارنّا هذه البلاد بغيرها

ممن لم تتمتع بهذا القدر من التعدد والتنوع: تونس - سوريا، فسنجد أن التعدد كان

بتوفيق الله عاملاً حيوياً في بقاء الحركة، بل لو أخذت المقارنة بعداً تاريخياً على

مستوى الدولة الواحدة - في مصر مثلاً - لوجدنا أن الحركة الإسلامية لما تفردت

وهو ليس عيباً قطعاً قبل ثورة يوليو كان في ضربها إجهاض للعمل الإسلامي على

مستوى البلد، ولكن تغير الحال في السبعينيات وما تلاها.

ولكن ما الذي يجعل لتعدد الجماعات الإسلامية هذه المزية الفريدة؟ هناك

أسباب عدة، من أبرزها:

- تعدد سياسات المواجهة، فالأسلوب المتَّبَع دوماً في حالة التعدد طرح

قائمة أولويات قابلة للتغيير، يكون على رأسها أكثر الحركات الإسلامية «نشاطاً»

في العادة، ولا يمكن بحال حسب تجربة التاريخ أن تشمل كل الجماعات في

وقت واحد.

- صعوبة الاختراق الكامل للحركات الإسلامية من قِبَل أعدائها.

- تعتبر الجماعات وسائل فعالة لترسيخ مختلف المفهومات الإسلامية بين

المسلمين، حيث المنابر المتعددة، والاجتهادات المتفاوتة، والخطابات المتنوعة،

والتي تتغلغل في أوساط الناس بطريقة شمولية، ويكفي أن ننظر إلى منظومة

الدعاة الجماهيريين في أي بلد لنكتشف أنهم ينتمون تقريباً إلى كل التيارات داخل

هذا البلد، فهل لو كانت الجماعة واحدة متوحدة سيتحقق شيء من ذلك؟ ربما يقول

بعض الناس إن هذا حدث بالفعل في مصر عندما نشأت الحركة الإسلامية بعد

سقوط الخلافة العثمانية، ولكن هناك اختلاف بارز بين الحقبة الحالية وتلك الحقبة

الماضية من وجهين: فلا الظروف الدينية والاجتماعية والسياسية متشابهة، ولا

الحركة نفسها هي الحركة التي كانت قبل أكثر من خمسين عاماً، فقد تغيرت أفكار

كثيرة، وتبلورت رؤى مختلفة نوعاً ما في فترة الانبعاث الثاني في السبعينيات.

* قصة الخضر والحركات الإسلامية:

التقسيم المرحلي للعمل الإسلامي لدى كثير من الحركات الإسلامية يبدو

منتظماً ومتساوقاً مع هدف إقامة الحكم الإسلامي (الدولة الإسلامية) ، وأغلب

أنماط العمل لدى الجماعات يمكن ربطها بصورة مباشرة أو غير مباشرة بهذا الهدف،

فضلاً عن كون أدبياتها تتحدث عنه بلا مواربة، نعم قد يترسخ في أذهان

الكثيرين في وقت ما حجم الصعوبات الهائلة التي تحول دون تحقيق هذا الهدف،

ولكن تظل مع ذلك أنماط العمل مرتبطة به إلى حد كبير؛ دون تغيير للأسباب التي

سبق أن أشرنا إليها، ونتيجة لذلك؛ فإن تقويم العمل من قِبَل الإسلاميين وفق هذا

التقسيم سوف يكون محبطاً إلى درجة كبيرة من ناحية، كما أنه لن يصلح منطلقاً

لتجديد الفكر في مرحلة قادمة من ناحية أخرى، وهذا يلفتنا إلى أن هناك تقسيماً

مرحلياً آخر ينتج عن هدف مغاير للحقبة التي بدأت أوائل السبعينيات، وهذا

التقسيم ينعكس في الأذهان بصورة تلقائية عند المراقبة الحيادية لآثار تطبيق التقسيم

المرحلي الأول؛ بمعنى أن ما نراه من أخطاء وتجاوزات وتراجعات تبلور بصورة

آلية في رؤية معالجة لمواطن الخطأ والتراجع، وفي مقدمتها الهدف الذي يتمحور

حوله العمل الإسلامي، وهذا التقسيم المرحلي يمثل رؤية جديدة في حد ذاته يمكن

أن تنتظم من حولها منظومة الإيجابيات والسلبيات التي تحققت في هذه الفترة،

وبطريقة ترفع كماً كبيراً من الإحباط عن كاهل الإسلاميين، والهدف الذي نتحدث

عنه هو: الانتشار والنشر، انتشار دعوة الحركات الإسلامية بين مختلف الفئات

والقطاعات، ونشر تعاليم الإسلام الصحيحة من غير تحريف ولا بدعة - وسيأتي

بيان ذلك لاحقاً بإذن الله -.

وحتى لا نذهب بعيداً نقول إن أبرز ما يمكن أن تتغير نظرتنا نحوه وفق

هذا التقسيم أو الرؤية الجديدة هو قضية التعدد والتنوع والخلاف بين

الحركات الإسلامية، والتي يعتبرها الكثيرون المشكلة الأكبر التي تواجه العمل

الإسلامي، والذي نخلص إليه أن هذا التعدد ربما يكون من ضرورات المرحلة

الحالية والقادمة - بالاعتبار السابق -. ونحاول فيما يلي الاسترشاد في هذا

الصدد بالحكمة المستنبطة من قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام -،

وتحديداً من قوله عز وجل: [فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا

أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ

أَجْراً] (الكهف: ٧٧) ، ثم بعد ذلك وفي سياق الشرح يقول الله عز وجل حاكياً

عن الخضر: [وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا

وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن

رَّبِّكَ] (الكهف: ٨٢) .

فنحن هنا أمام تصرف من الخضر استعصى فهمه على نبي الله موسى

- عليه السلام -، وهو أن معطيات الموقف كانت تحتم هدم الجدار أو تركه

مهدماً وليس إقامته من جديد، ثم تبيَّن بعدها أن واقع الأمر كان خلاف ما

يوحي به المنطق العاجل، فقد كان هدم الجدار كشفاً لكنز الغلامين قبل أوانه،

ومَنْ تعجَّل شيئاً قبل أوانه عُوقب بحرمانه، وكان في إقامة الجدار صيانة للكنز

وحفظ له حتى يأتي الوقت المناسب لاستخراجه مع القدرة على حمايته.

وأوجه التشابه هنا أن كنز العمل الإسلامي هو إقامة دولة إسلامية، وهدم

الجدار يتضمن أموراً؛ منها الدعوة للتوحد ونبذ التعدد بين الجماعات وفق رؤية

تتسامى لتصل إلى أمل الجماعة الواحدة في البلد الواحد، وإقامة الجدار هو إقرار

للوضع على ما هو عليه باعتباره الأنسب وفق موازين القوى الحالية.

وتطبيقاً لهذا المفهوم على واقع الحركات الإسلامية نقول: إن هناك

طريقتين للتفكير في هذه القضية:

الأولى: مباشرة وتتعامل بصورة تبدو منطقية للوهلة الأولى، فالإقامة لا

تعني إلا الإقامة، والهدم لا يعني إلا الهدم، والمنطق يقول إن الهدم يسبق

البناء أو الإقامة.

الطريقة الثانية للتفكير: تناسب الأوضاع المعقدة المتداخلة، وتتعامل مع

الإقامة بمعنى الهدم، والهدم بمعنى الإقامة، وإن بدا ذلك غير منطقي للوهلة

الأولى وربما الثانية، ولكنها متطلبات المرحلة الاستثنائية التي تعيشها الأمة، وهل

تعيش الأمة إلا أوضاعاً استثنائية منذ عشرات السنين؟!

ونلفت الأنظار هنا إلى أن الواقع من حولنا يحمل لنا خبرات كثيرة غير

متناهية، ولكننا نقصّر في استيعابها، والله عز وجل رحيم بنا، قد بيّن لنا فيما

حولنا ما قد يشق علينا استخراجه والتنقيب عليه في غياهب التاريخ، فنحن نعيش

زمناً تداخلت فيه المراحل حتى على مستوى البلد الواحد، فما كان يحتاج منا إلى

عقود طويلة لمعايشته وتجربته وسبر عواقبه؛ نراه ماثلاً أمام أعيننا في لحظة

واحدة، وقد سبق أن ذكرنا تجربة الحركة الإسلامية في كل من مصر والجزائر

وسوريا وتونس؛ بما يكشف أثر التعدد في حفظ الحركة الإسلامية من الزوال،

ففي الجزائر على سبيل المثال لما تناولت معاول المواجهة الجبهة الإسلامية

للإنقاذ، كانت حركات النهضة وحماس أو حمس بمنأى عن ذلك، ولما دخلت

الجماعة الإسلامية في مصر في مواجهات عنيفة مع السلطات كانت الجماعات

الأخرى بعيدة نسبياً عن معايشة الأجواء نفسها، وعلى خلاف ما حدث مع الحركة

الإسلامية في بداية حكم عبد الناصر.

مثال آخر يتضمن شرحاً لمعنى التعجل بهدم الجدار رغبة في استخراج

الكنز في غير أوانه، فما كادت جبهة الإنقاذ في الجزائر تهدم جدارها لتستخرج

كنزها؛ حتى تكالبت القرية الظالمة عليها وحالوا بينهم وبين كنزهم، وفي السودان

تمكنت الجبهة بالفعل من هدم الجدار واستخراج الكنز حقيقة، ولكن ماذا حدث

بعدها؟ تكاثرت القرى الظالمة عليهم لسرقة كنزهم قطعة قطعة، حتى لم يبق بين

أيديهم إلا القليل الذي يخضع للمساومة والفصال، واختلف الغلامان وتفرَّقا في

مرحلة تبغي التوحد.

والذي نخلص إليه من ذلك أن مرحلة إقامة الجدار هي التي نعيشها واقعاً،

والتي ينبغي أن نعايشها فكراً ومنهجاً، وهي مرحلة تبغي التعدد والتنوع، نستأنس

فيها بقول يعقوب - عليه السلام - لبنيه: [وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ

وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ

تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ] (يوسف: ٦٧) .

أما مرحلة هدم الجدار التي يريد بعض الناس أن يعيشها واقعاً، فهي من

قضايا المستقبل التي لا يلزمنا أن نعايشها فكراً حالياً، كما أننا لا نعيشها واقعاً،

والتي يمكن لنا أن نستأنس عند تحققها بقول الله عز وجل في قصة موسى

- عليه السلام -: [قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ

البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة:

٢٣) .