للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[هل يعود المسيح إلى أوروبا؟]

أ. د. محمد يحيى [*]

ظهر هذا العنوان على مقالة في صحيفة «بوستون كرونيكل» الأمريكية في

١٨ يوليو، ورغم عنصر الإثارة الواضح في اختيار الكلمات بهذا العنوان فإنه

تصدّر مقالة تبدو معتادة، وتتحدث عن احتمال انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي

في استفتاء قريب، وأنها ستكون بذلك دولة يسيطر عليها وعلى حكومتها الحالية

الاتجاه الديني المحافظ (الكاثوليكي) ، وتنضم إلى اتحاد يفترض أنه علماني دنيوي.

وأراد كاتب المقال باختياره لهذا العنوان أن يلفت النظر إلى حقيقة دخول دولة

يسيطر عليها الاتجاه الديني والكنسي إلى الأسرة الأوروبية، وقد تتبعها دول أخرى

تمثل الاتجاه نفسه في أوروبا الشرقية؛ مما يعني عودة للاتجاه الديني، أو ما

يسمونه عودة «المسيح» ، إلى الأوضاع في أوروبا بعد عقود طويلة أو حتى

قرون من التوجه الدنيوي العلماني.

ولم يكن الكاتب في الواقع بحاجة إلى تأكيد سيطرة الاتجاه الديني على الحكم

في بولندا بهذه الصورة الدرامية؛ لأن ذلك البلد قد أفصح عن ذلك التوجه الديني

المسيحي القوي والصريح بشكل لفت الأنظار بدعمه ومساندته للدعوة التي أطلقتها

الفاتيكان أولاً، ثم عززها بأوروبا بعد ذلك بأن يُنص في الدستور المزمع وضعه

للاتحاد الأوروبي على أن الهوية النصرانية هي تراث أوروبا، وأن أوروبا هي

ذات هوية مسيحية.

ولم تكن بولندا وحدها في تلك المساندة لدعوة البابا والفاتيكان، بل انضمت

إليها أربعة بلدان من أوروبا الشرقية، على الرغم من وجود فئة أرثوذكسية كبيرة

في تلك البلدان، مع صدور الدعوة عن الجانب الكاثوليكي، ولكن يبدو أنه عندما

تعلق الأمر بالدعوة إلى اعتبار النصرانية وتراثها وهويتها العماد الأساس للذات

الأوروبية الموحدة؛ ذابت الفوارق المذهبية والطائفية بل والعقدية بين جوانب

النصرانية.

وصحيح أن دعوة الفاتيكان قد واجهتها معارضة من جانب فرنسا العلمانية

التوجه من الناحية الرسمية، ولكن من الصحيح كذلك أن تزكية الدول الأوروبية

الأربع لهذه الدعوة البابوية ومعها ثقل الفاتيكان سوف يجعل حظوظ نجاحها كبيرة.

ويجب ألا ننسى أن عدداً متزايداً من الساسة الأوروبيين وليس من اليمين وحده بل

العكس أخذ في الآونة الأخيرة يركز على الدين وعلى الهوية النصرانية الأوروبية،

وذلك في مواجهة الإسلام والمسلمين هناك، وكان من بين هؤلاء رئيس فرنسا

الأسبق فاليري جيسكار ديستان.

لقد ترجم هؤلاء الساسة الدعوة إلى الهوية النصرانية لأوروبا بشكل لا يتسم

بمباشرة دعوة الفاتيكان ووضوحها لكنه لا يقل عنها صراحة؛ حيث دعوا في

مواجهة الحضور الإسلامي والطلبات المتصاعدة من جانب مسلمي أوروبا

بالاعتراف بهم وبمؤسساتهم وعقيدتهم وشعائرهم إلى وضع أو تأليف إسلام جديد

وُصف بمسميات قوية خدَّاعة مثل «الإسلام الفرنسي» أو «الإسلام الإيطالي» ..

إلخ، لكنه في الواقع «إسلام أوروبي» مطلوب منه أن يتغير ويتكيف ويتعدل

ويتماشى في كل جوانبه مع «التراث والهوية الأوروبية» ، وهي بالأساس

المسيحية وليس العلمانية كما يتصور بعض الكتّاب العرب المحبذين لهذه الدعوة.

إن الساسة الأوروبيين، وحتى مَنْ قد يرفع منهم شعار العلمانية، قد أيدوا

بالفعل وفي الواقع دعوة الفاتيكان الصريحة إلى اعتبار النصرانية وتراثها هوية

ثقافية وحياتية لأوروبا، وذلك من خلال الدعوات المتكررة التي نسمعها الآن

للخروج بإسلام معدَّل يتماشى مع الأوضاع في أوروبا ومع الهوية الثقافية والتراثية

لها. ويعني هذا في مجموعه أن مسألة الهوية الدينية لأوروبا؛ قد أصبحت الآن

دعوة مطروحة على مستويات وجوانب عدة، وليس فقط من جانب هيئة دينية هي

الفاتيكان.

ومن الغريب أن أوروبا التي تريد هيئاتها الدينية وبعض دولها وساستها النص

في وثيقتها الدستورية على أن هويتها نصرانية؛ هي نفسها أوروبا التي تدعو

هيئاتها الدينية ومؤسساتها الكبرى وبعض دولها الرئيسية والعديد من ساستها إلى

تقنين العلمانية وتأسيسها في البلاد العربية والإسلامية، والنص في الدساتير

والمواثيق فيها على فصل الدين عن الدولة، مع تنحية الدين (أي الإسلام) عن

جوانب الحياة المختلفة، وإبعاده عن تحديد معنى الهوية والذاتية لتلك البلدان

والمجتمعات.

وتعوّل أوروبا وتساعد وتشجع التيارات والأقلام العلمانية في البلاد الإسلامية،

كما تستخدم أدواتها السياسية والاقتصادية للضغط على الحكومات والأنظمة صوب

ذلك الطريق.

وتسير أوروبا في هذا التوجه على النسق الأمريكي حذو النعل بالنعل؛ ذلك

لأن أمريكا، وهي تُحكم الآن على يد توجه ديني مسيحي أصولي (كما يسمّونه)

صهيوني متطرف [١] ، تشجع العلمانية في البلدان الإسلامية، وتريد فرضها على

المجتمعات الإسلامية بالقوة؛ بما فيها قوتها المسلحة، كما حدث في أفغانستان،

وفي العراق ثم غيرها. ويجري هذا التوافق (الأوروبي الأمريكي) على مستوى

التمسك بدينهم من ناحية، وإرادتهم أن يتخلى المسلمون عن دينهم! في وقت يجري

فيه الحديث حول خلافات بين الطرفين في قضايا جزئية هنا وهناك.

وهنا نعود مرة أخرى إلى بولندا، فإذا كانت بولندا تمثل الآن، وكما قال

الصحفي الأمريكي (عودة المسيح إلى أوروبا) ، فإنها كذلك أصبحت تمثل عودة

العم سام إلى القارة الأوروبية في هيئة الفاتح المسيطر صاحب النفوذ. فوسط أنباء

حول التزام أمريكا نقل قواعدها وقواتها العسكرية من ألمانيا، حيث مركزها

الرئيس في أوروبا إلى بولندا؛ تأتي تلك الدولة كي تدعم الوجود العسكري للاحتلال

الأمريكي في العراق بالقوات الكبيرة العدد، وتعطيها دون غيرها قطاعات العراق

لتسيطر عليه وتحكم عسكرياً. وفي الوقت نفسه تتوافر الأنباء والتقارير في بولندا

حول شعبية أمريكا، إلى وجود أمريكي اقتصادي قوي يدعم بولندا ويحل مشكلات

البطالة وسائر الأزمات الاقتصادية فيها. ويلتقي هذا التوجه مع رغبة أمريكية

شديدة في فتح السوق البولندية لاستثماراتها وشركاتها ورؤوس أموالها.

وهنا وفي بولندا رافعة لواء النصرانية في أوروبا الآن، والتي سبق أن

أسقطت كنيستها الحكم الشيوعي فيها، تلتقي دوائر عودة الدين إلى ساحة البروز

والنفوذ في الغرب بجناحيه الأمريكي والأوروبي، وذلك من ناحية ليكون علامة

الهوية الغربية الجديدة، وليكون كذلك أداة المواجهة وشعارها وسلاحها مع الإسلام.

فليست مصادفة أن تنتقل الجيوش الأمريكية في أوروبا من ألمانيا إلى بولندا مسيحية

التوجه ومعها الثقل الاقتصادي، وليست مصادفة كذلك أن تجتمع قوات أمريكا

الصليبية الصهيونية التوجه مع قوات بولندا رافعة لواء الهوية النصرانية الأوروبية

في احتلال وإذلال بلد هو رمز الخلافة الإسلامية الأصيلة، كما سبق أن اجتمعت

أوروبا ثم أمريكا على إخضاع تركيا بلد الخلافة العثمانية. والمدهش أن البعض،

وتحت دعاوى الثقافة والاستنارة والعصرية، يقف الآن ليصفق للهوية الأوروبية

الدينية الجديدة، ويدعو في الوقت نفسه إلى إسقاط الهوية العربية الإسلامية الدينية!


(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.
(١) راجع في ذلك مقالة جهاد الخازن في جريدة الحياة، يوم ٢٧/٧/٢٠٠٣م.