للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

نظرات في منازلة النوازل

(٣)

العمل الإسلامي.. نحو حلول ممكنة لأزمات مزمنة

د. عبد العزيز كامل

[email protected]

نشأت بدايات العمل الإسلامي الجماعي منذ ما يزيد عن سبعين عاماً في

ظرف ضرورة، وزمان أزمة، وحقبة اغتراب خيمت على المسلمين في العالم بعد

انفراط عقدهم بإلغاء نظام الخلافة لأول مرة بعد ثلاثة عشر قرناً من عمر الدعوة،

وكان على العاملين للإسلام في ذلك الوقت أن يواجهوا طوفاناً من الفتن الهاجمة

على الأمة بعد غياب سلطان الإسلام عنهم وتحالف أحزاب الشيطان عليهم، دون

أن يكون لهم معسكر يفيئون إليه، أو أرض ينطلقون منها، أو قوة كبرى يعتمدون

عليها، لم يكن أمامهم إلا الاعتماد على الله والاستناد إلى ركنه المكين، وهم

ينشدون نشر الدعوة وإعادة المنعة لهذا الدين.

وتطور العمل الإسلامي وتوسع في البلدان بأطياف مختلفة وأهداف متنوعة،

تشكلت للعمل لأجلها جماعات كثيرة، اتخذت كل منها سبيلاً للوصول إلى غاية

مفترضة واحدة، وهي إعلاء كلمة الله، ونشر دعوة الإسلام. فكان من تلك

الجماعات ما تخصص في العلم ونشره، ومنها ما تفرع للدعوة والأعمال التربوية،

ومنها ما توجه نحو مشاريع الرعاية الاجتماعية والأنشطة الخيرية، وبينما انتصبت

جماعات للسعي في الإصلاح ليكون الإسلام هو الحل من خلال وسائل وقنوات

سياسية، رأى آخرون أن ذلك الحل لن يتحقق إلا عبر مشروعات تغيير جهادية،

تقوم على فرض حلول عسكرية للنوازل التي بدأت عسكرية، بغزو الكفار للمسلمين

في عقر ديارهم حتى وصل الأمر إلى ذروته باحتلال الإنجليز لعاصمة الخلافة

الأخيرة (إسطنبول) - القسطنطينية سابقاً - عام ١٩١٨م وكان ذلك تتويجاً لمسيرة

طويلة من الاجتياح العسكري لبلاد المسلمين، اشتركت فيها الدول الاستعمارية

بمذاهبها النصرانية الثلاثة: البروتستانية، والكاثوليكية، والأرثوذكسية، فالإنجليز

البروتستانت اشتركوا مع الفرنسيين الكاثوليك منذ وقت مبكر في التربص بجزيرة

العرب، فضربوا مدينة جدة عام ١٨٥٨م، ثم احتل الإنجليز الإمارات الخليجية عام

١٨٦٦م، واحتلوا مصر عام ١٨٨٢م، والسودان عام ١٨٩٩م، وكانوا قد بسطوا

هيمنتهم على جنوب اليمن قبل ذلك في العام ١٨٣٩م واحتلوا عُمان عام ١٨٥٨م،

هذا في القرن التاسع عشر أما في القرن العشرين فقد احتل الإنجليز العراق عام

١٩١٧م، وفلسطين عام ١٩١٨م، وسوريا عام ١٩٢٠م، وها هم يعودون إلى

العراق في القرن الحادي والعشرين بالاشتراك مع الأمريكيين في العام ٢٠٠٣م،

ولا يزالون يتربصون مع الأمريكيين بقائمة أخرى من البلدان العربية والإسلامية

في السنوات القليلة المقبلة. وأما فرنسا الكاثوليكية فقد احتلت مصر عام ١٧٩٩م،

واحتلت الجزائر عام ١٨٣٠م، وتونس عام ١٨٨٢م، والمغرب ١٩١١م،

وموريتانيا ١٩٠٣م، وسوريا ١٩١٨م، واحتل كذلك الإيطاليون الكاثوليك إريتريا

عام ١٨٧٨م وليبيا عام ١٩١١م، وحتى النمسويون احتلوا أراضي المسلمين في

البوسنة والهرسك عام ١٨٨٧م.

أما الروس الأرثوذكس، فقد بطشوا بالمسلمين أيام روسيا القيصرية، وفي

عهد روسيا الشيوعية وإلى اليوم بعد أن عاد الروس نصرانيتهم الأرثوذكسية، فقد

احتلوا بلاد القوقاز عام ١٨٦٤م، وطشقند عام ١٨٧٨م، وأوزبكستان وتركستان

الغربية عام ١٨٩٠م، وضموا طاجيسكتان عام ١٩٢٩م، وتركمستان عام ١٩٢٥م،

وهم إلى اليوم يتربصون بالوجود الإسلامي في آسيا؛ فبعد غزوهم لأفغانستان عام

١٩٧٩م؛ غزوا الشيشان عام ١٩٩٤م، ثم انسحبوا منها، ثم غزوها مرة أخرى

عام ١٩٩٩م.

وقد رأى الذين اختاروا الحل المسلح أن المنافقين العلمانيين الذين خلفوا

المستعمرين الكفار في بلاد المسلمين لم يكونوا يقلون عن الأعداء الظاهرين إفساداً

وعداءً للإسلام وأهله، لأنهم نابوا عنهم في كل ما جاؤوا من أجله: إقصاء

الشريعة ... مطاردة الدعوة.. هدر الثروات.. شق الصفوف.. إفساد الأجيال..

ترسيخ التبعية ... توطين الطغيان ورهن الأوطان؛ فقد كانوا باختصار خلفاء

للاستعمار باسم مستعار وهو: الوطنيون الأحرار.

وبغض النظر عن تعيين الخيار الأنجع والأوقع من بين تلك الخيارات التي

توزع إليها العمل الإسلامي؛ فإن الأمة بمجموعها كانت تحتاج إلى التنويع بين كل

ذلك؛ فاختلاف أحوالها زمانياً ومكانياً؛ كان يفرض بين آن وآخر ومكان وآخر؛

التركيز على لون من ألوان تلك التوجهات؛ فبينما وجد الإسلاميون أنفسهم في

ساحات معينة غير قادرين إلا على التوسع في النشاطات السلمية الرسمية، اضطر

آخرون لاتخاذ موقف الدفاع في جبهات معارضة سياسية، أو أقحموا في منازلات

ومواجهات عسكرية، وبخاصة عندما كان يأتي الخطر من الخارج عبر الداخل من

خلال المنافقين أو المغفلين، مثلما حدث في كل البلاد التي احتلها الكفار وآخرها

أفغانستان التي احتلها الروس الملحدون في أول القرن الهجري الحالي، ثم احتلها

النصارى الصليبيون آخر الربع الأول منه، وكذلك العراق التي احتلت مؤخراً،

ووجد الإسلاميون فيها أنفسهم فجأة في مواجهة عدو غازٍ محتل، لا يملكون خياراً

في مواجهته إلا حمل النفس على حمل السلاح دون سابق إعداد أو استعداد. لقد

كان كل فصيل من فصائل العمل الإسلامي في الجملة يقوم بدور مكمل لأدوار

الآخرين، بحيث لا يمكن الزعم بأن جهداً واحداً منهم كان يمكن أن يغني عن جهود

الآخرين، فلم يكن بوسع الأمة في مرحلة ما أن تتحول كلها إلى مجاهدين، ولم

يكن مطلوباً منها في أخرى أن تفرغ كل جهدها خلف السياسيين، ولم يكن واجباً

عليها في يوم من الأيام أن تحول كل العاملين إلى علماء أو طلاب علم أو مفكرين،

كما أنها لم يكن في مستطاعها أن ترهن كل أنواع التغييرات التحتية انتظاراً

للتغييرات الفوقية.

كان لا بد للسفينة أن تمضي وتسير مهما حاربتها الرياح وعرقلتها الأعاصير،

صحيح أن فصائل العمل الإسلامي لم تنسق مسبقاً لتوزيع الأدوار، ولم تتفق قبلاً

على تنويع المهام، إلا أن الأمور سارت بقدر من الله نحو تكامل معقول أدى فيه

العاملون للإسلام بمجموعهم ولا يزالون الكثير مما كان يجب أن تقوم به الأنظمة

والحكومات، تلك التي كانت في غالبها الأعم لا تكتفي بكف يدها عن الإصلاح

الشرعي المطلوب لأحوال الأمة، وإنما تعدت ذلك إلى سد الأبواب أمام المصلحين،

وفتحها أمام المفسدين والمنحرفين.

لقد كان هذا التكامل - غير المقصود - بين تخصصات العمل الإسلامي

برهاناً على خيرية الأمة، ودليلاً على قابلية التشريع؛ لأن يعيش فيها وبها في ظل

أحلك الظروف، فحتى مع غياب الكيان الجامع المسؤول عن القيام بكل هذا في

عالم المسلمين - أعني به نظام الدولة الواحدة (الخلافة) - فإن سفينة الإسلام

سارت ولا تزال تسير - ويا للعجب - بغير ربان ولا قبطان.

وعندما أقول أنها سارت ولا تزال بلا ربان ولا قبطان؛ فإني أعني بذلك

غياب الولاية العالمية العامة للمسلمين، بشقيها: السياسي والعلمي لنحو قرن بين

الزمان، فلم يكن لهم طوال أكثر من قرن مضى ولاية سياسية موحدة تُخضع

الجميع، ولا ولاية علمية عامة تقنع الجميع وتجب لها طاعة الجميع كما أمر الله

تعالى في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ

مِنكُمْ] (النساء: ٥٩) .

لهذا سارت السفينة خلال قرن مضى تعترضها الأخطار، وتصارعها

الأمواج، وتصفق فوقها الصواعق والبروق فلا تنتهي، وتجري عكسها الرياح بما

لا تشتهي، كل ذلك وقلة من المخلصين من ركابها ينوبون عن ربانها الغائب في

القيادة الجماعية القائمة على غير خبرة أو اختصاص، وعلى غير ترتيب سابق ولا

تنسيق لاحق، لكن السفينة سارت، وبقيت في سيرها للآن محاولة الوصول إلى بر

الأمان.

إن أي تقويم لنتائج العمل الإسلامي في حقبه السابقة لا بد أن يستصحب

ويستحضر هاتين المقدمتين المهمتين: غياب الولاية السياسية العامة، وغياب

الولاية العلمية العامة؛ لأن غيابهما قد حول أحوال الأمة إلى ظرف استثنائي،

تعسّر فيه علاج المعضلات على أصولها، وتعذَّر جمع الآراء حول حل لها،

فأصبح الضعف العام في الأمة لذلك يكاد يبدو بدهياً في ظل تلك الأوضاع غير

الطبيعية.

* إنجازات رغم الصعوبات:

مع كل ما اقترن بمسيرة العمل الإسلامي من عراقيل وعقابيل؛ فقد أنجز

العاملون للإسلام على اختلاف أطيافهم وانتماءاتهم إنجازات كبيرة في ظل ظروف

الأزمة تلك، ويمكن تعداد أبرزها فيما يأتي:

- إحياء كثير من معالم الدين التي كادت تندرس منهجياً وعملياً وبث الروح

في صلة المسلمين بعقائدهم المستمدة من أصول أهل السنة، مع توسيع دائرة النفور

من الابتداع وأهله.

- تحريك الضمير الديني العام للأمة نحو أهمية العودة للإسلام منهجاً وسلوكاً،

وجعل تطبيق الشريعة قضية عامة على مستوى الشعوب، بعد أن كانت مطلباً

خاصاً للجماعات الإسلامية.

- تحقيق قفزة هائلة نحو إنقاذ شباب الأمة من الضياع، باستقطاب شريحة

كبيرة منهم نحو الالتزام الديني، واتضاح ذلك من خلال ظاهرة عمران المساجد

وتفعيل الأنشطة الدعوية بعناصر شبابية.

- إحياء الكثير من سَمْت الإسلام المعلن وشعائره الظاهرة بين الرجال

والنساء، وإعادة الاعتبار بشكل معقول لفريضة الحجاب في كثير من البلدان رغم

الحرب السافرة لأنصار السفور.

- إعادة الحياة لشرعة الجهاد ضد المعتدين من الكفار تحت رايات إسلامية،

دون تحرج من الاتهامات المعتادة بالإرهاب والتطرف، ووضع حد لظاهرة الجرأة

على استعمار بلاد المسلمين وإطالة احتلالها، كما حدث خلال القرنين الماضيين.

- كسر حاجز الخوف من الاحتساب على الظلم والظالمين، وخوض

المنازلات ضد الجبروت والجبارين، ومباشرة المواجهة ضدهم، كما حدث في

الملحمة الأفغانية السابقة وما تلاها من ملاحم في الشيشان والبوسنة والصومال،

وما يحدث الآن في فلسطين والعراق.

- إبراز إفلاس العلمانية براياتها المختلفة، من خلال وضع حكوماتها تحت

مجهر المحاسبة الشعبية في ضوء المعايير الشرعية، حيث تركزت الأضواء لكشف

إخفاقها العام سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، وبطلانها شرعياً واعتقادياً.

- النجاح في ابتكار منابر إعلامية إسلامية، بجوار المنابر الأصلية في

المساجد، وتحقيق قفزة إعلامية نسبية، أصبحت مرشحة على تواضعها أن تنافس

إمبراطوريات الإعلام الفاسدة داخلياً وخارجياً، وتحقق شيئاً من الندية معها في

صناعة الرأي العام الإسلامي.

- إيجاد صوت سياسي إسلامي قادر على إيصال إرادة الأمة لمن بيدهم

السلطان، مع التمكن من إعادة نظريات الحكم والسياسة في الإسلام إلى موقع

الأهلية للتطبيق.

- أسلمة كثير من العلوم الإنسانية، وإضفاء ضوابط شرعية على بعض

العلوم التطبيقية، إضافة إلى المشاركة في النهوض بمستوى التعليم الديني

بالانخراط في المدارس والمعاهد والجامعات المتخصصة في تخريج أجيال من طلبة

العلوم الشرعية.

- فضح زيف المناهج الفكرية والأطر المذهبية المناوئة للإسلام عقيدة

وشريعة في العصر الحاضر، من خلال شن هجوم مضاد على المستشرقين

والمستغربين، وبروز رموز فكر إسلامي قادرين على جهاد الكلمة ضد جراءة

الإلحاد والعلمنة والتغريب والانحلال مع كشف عوار المبادئ الأرضية المنافسة

للشرائع الإلهية في أوطان المسلمين، كمبادئ الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية

والشيوعية والماركسية ونحوها.

ويمكن إضافة الكثير والكثير من التفاصيل حول تلك الإسهامات الإيجابية لما

اصطلح على تسميته بـ (الصحوة الإسلامية) تلك الصحوة التي جاءت تحقيقاً

قدرياً لما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إن الله يبعث لهذه

الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» [١] .

وبما أن لفظة (مَنْ) في الحديث تصدق على الفرد والمجموع، ولمَّا لم يشهد

أحد لفرد واحد بالقيام بكل ما سبق، فقد ثبت أن ذلك التجديد هو من فعل المجموع؛

فكل العاملين للإسلام شركاء في تلك الإنجازات المتنوعة بتنوع تخصصات هؤلاء

العاملين، وبفضل الله تعالى ثم بفضل تلك النجاحات فإنه لا يسع أحداً أن ينكر أن

أحوال الأمة في الربع الأول من القرن الخامس عشر، أفضل منها بكثير عن قرن

مضى من حيث صلتها بالدين علماً وعملاً.

ولكن إنباء الرسول صلى الله عليه وسلم عن تجديد الدين مع بداية كل قرن،

لم يرافقه إخبار بالتمكين له مع مطلع كل قرن؛ فصحيح أن الدين من حيث جوهره

قد تجدد مصداقاً لتلك السنة الإلهية، إلا أنه لم يتمكن بعدُ؛ لأن تمكنه خاضع لسنن

أخرى ليست زمانية قدرية، ولكنها شرعية دينية. فإذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ

الدين بحفظ كتابه وتجديد منهاجه كوناً وقدراً، كما في قوله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا

الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: ٩) ، وقوله عز وجل: [فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ

قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] (القيامة: ١٨-١٩) فإنه سبحانه جعل التمكين للدين

موكولاً لأهله شرعاً وديناً كما قال جل شأنه: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن

لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] (محمد: ٤) ، وقال: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ

لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: ٤٠) ، وعلى هذا الصعيد أخفق المسلمون بعامة،

والإسلاميون منهم خاصة في تحقيق الحد الأدنى من التمكين الذي تترتب عليه إعادة

رفعة المسلمين ليكونوا كياناً مهاب الجانب مرهوب القوة نافذ السلطان، فالإسلام

كلمة الله لا بد أن يكون لأهله سلطان مهاب مطاع، حتى يتمكن الدين من أن يكون

متاحاً مباحاً لكل العالمين، ليقبلوا عليه مختارين ويدخلوا فيه أفواجاً. ولعل هذا

سبب اقتران الفتح بالنصر في قوله تعالى: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ

النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً]

(النصر: ١-٣) .

إن تجديد الدين وإحياءه علمياً لا يغني عن التمكين له عملياً، إلا أن ذلك

التجديد مقدمة ضرورية تسبق التمكين، فتسهل مهماته، وتساهم في إزالة معوقاته،

وقد أخفق الإسلاميون في أن يوظفوا ثمرات التجديد في حمل راية التمكين من جديد،

وحجج الاعتذار هنا لا تساعدهم، ومنطق التسويغ لا يشفع لهم؛ لأن فرصاً كثيرة

ضاعت مع أن اقتناص فرصتها كان متاحاً لولا الاختلاف والارتجال.

* إخفاقات رغم الإمكانات:

بالإضافة إلى الإخفاق الكبير في إعادة التمكين للمسلمين رغم مرور عشرات

السنين، فإن تحت هذا الإخفاق إخفاقات أخرى، فبالرغم من ضخامة كل ما سبق

ذكره من إنجازات للعمل الإسلامي في العقود القليلة السابقة، فإن تلك الإنجازات

ستبدو متواضعة إذا وضعنا على خلفيتها بُعدين مهمين:

أحدهما: أن الإمكانيات الكامنة في الأمة كانت تسمح بأكبر من هذه النتائج

والإنجازات.

الثاني: أن عدم الوصول إلى تحقيق الغاية الكبرى، وهي إقامة دولة الإسلام

العالمية المُمكنة مرة أخرى، وتطاول الفاصل الزمني بين عهدي الاستضعاف

والتمكين، يهيئ فرصة كبيرة للأعداء لكي يعيدوا الكرة، ويسلبوا الإنجازات،

ويذهبوا بنا بعيداً عن تحقيق بقية الغايات.

ومن هنا تظهر جسامة المهمة وعظم المسؤولية في وجوب تجاوز الطرق

التقليدية في التعامل مع نوازلنا، وبخاصة في الأوقات الراهنة؛ حيث الظروف

الاستثنائية التي تحتاج إلى جهود استثنائية.

نحتاج - نحن الإسلاميين - أن نتعود على استحضار إخفاقاتنا، كما نتغنى

بنجاحاتنا؛ فالنظر إلى النجاحات فقط يصيب بالغرور، كما أن النظر إلى

الإخفاقات فحسب يوقع في الإحباط، ونحن المسلمين بحمد الله أكبرُ بديننا وإيماننا

من أن نُحبط أو نيأس؛ فإنه [إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ]

(يوسف: ٨٧) ، وإذا ذكرنا إخفاقاتنا فليس ذلك مدعاة لاستجلاب يأس أو استحضار

إحباط، ولكن لاستشعار حجم المشكلات وتطوير القدرات لحلها والتصدي لها.

إننا إذا تأملنا النتائج الموضوعية لمسيرة جمهور الصحوة الإسلامية خلال ما

مضى من عمرها، سنرى كمّاً من الإخفاقات التي كان من الممكن تجاوزها في

فترات السلامة النسبية الفائتة. فمن ذلك:

- إخفاق في تفعيل فقه الوفاق ووحدة القلوب بين الفصائل والتيارات بالرغم

من التقارب النسبي بين كثير من المناهج مقارنة بما مضى، وقد ترتب على ذلك

تقصير في تحقيق حد أدنى من التعاون العملي المباشر بين تلك الفصائل في مواجهة

الأخطار الداخلية والخارجية، عملاً بشرعة البنيان المرصوص وفريضة الاعتصام

بحبل الله.

- تأخر في تفعيل دور جماعي للعلماء، وتردد في تكوين مرجعية علمية عامة

يرجع إليها المسلمون إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، أو نزلت بهم كوارث

عامة أو خاصة.

- قلة التأصيل العلمي لمناهج التغيير الشرعية التي ابتليت بالخوض فيها

العديد من الفصائل الإسلامية بلا ضوابط علمية، سواء في العمل السياسي أو

الجهادي أو الجماهيري.

- ضعف الهمة في تجاوز العقبات المعطلة للعمل مثل الحزازات الحزبية

والنزعات الإقليمية والنزغات العنصرية، والتعامل معها وكأنها قدر سابق أو قضاء

محتوم، مع شح الوسائط الدعوية المشتركة والمبادرات الإصلاحية التي تذيب

الفوارق وتكسر الحواجز النفسية بين الجماعات والتيارات المختلفة، إضافة إلى

شدة العناية بجوانب الفرقة والاختلاف، على حساب الرعاية لجوانب الاتفاق

والائتلاف.

- غياب نقد الذات لحساب نقد الغير، وقلة بلورة النقد الذاتي في حال وجوده

إلى مراجعات جادة بدلاً من التراجعات الحادة.

- اعتماد صيغة ردود الأفعال في التعاطي مع النوازل بعد نزولها بدلاً من

المواجهة المدروسة لها عند وقوعها فضلاً عن التحسب لها قبل حدوثها.

وإذا كان ما سبق، أزمات داخلية واجهت العمل الإسلامي فلم يوفق في

تجاوزها؛ فإن هناك نازلات خارجية أخرى غلب على الإسلاميين تجاهلها، مع

أنهم هم الوحيدون الذين يعنيهم شأنها بعد ذهاب زمن الحلول الثورية والشعارات

الوهمية.

إن الوسط الإسلامي يشهد ما يشبه الغياب التام عن وضع تصورات نظرية أو

عملية لكيفية التصدي المبكر لكوارث يتوقع وقوعها، ونوازل يخطط الأعداء

لإنزالها، وليس غير الإسلاميين في وارد الاهتمام لها أو العمل لأجلها، ولهذا فليس

من المقبول منهم طي ملفاتها انتظاراً لحدوث موانع قدرية قد لا تكون مقدورة، أو

كرامات غيبية قد لا تكون مكتوبة، خذ أمثلة على ذلك من مخططات ومؤامرات

معلنة منشورة؛ دعك مما هي غامضة مستورة:

١ - خطط الغزو لمزيد من البلدان العربية والإسلامية بذرائع مصطنعة،

كتلك التي حيكت شباكها للعراق، حيث ستنفتح شهية الأمريكيين وحلفائهم لاستئناف

برنامج الغزو إذا وجدوا مهمتهم سهلة في العراق، وإذا ما استمر عدم الإجماع على

موقف إسلامي فاعل وموحد مما يحدث فيها وفي أفغانستان.

٢- الخطط اليهودية المبيتة منذ عقود لهدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل

اليهودي الثالث على أنقاضه، تلك الخطط التي تشكلت لأجل تنفيذها أكثر من

عشرين جماعة صهيونية، يهودية أو نصرانية؛ مع توزيع تلك الجماعات

للتخصصات اللازمة لتنفيذ المخطط في الوقت المناسب، وبالرغم من أن

المتصدرين لتنفيذ هذا المخطط المعلن جماعات لا حكومات؛ فإننا لم نسمع عن

خطة واحدة مضادة لجماعة واحدة فضلاً عن حكومة واحدة أو هيئة عربية أو

إسلامية أو عالمية واحدة لردع هؤلاء الشياطين النشطاء.

٣ - البرنامج الصهيوني المدعوم أمريكياً وغربياً باستكمال خريطة (إسرائيل

الكبرى) من النصف الغربي للعراق إلى النصف الشرقي من مصر، ومن جنوب

تركيا إلى شمال الجزيرة العربية على حدود المدينة المنورة، تلك الأراضي التي قد

يجد أهلها وعلى رأسهم الإسلاميون أنفسهم بين ليلة وضحاها في مواجهة مباشرة مع

يهود أو نصارى، دون أن يكونوا قد أعدوا من قبل للأمر عدته، أو أخذوا له أهبته،

كما يحدث الآن لأهل العراق وأهل فلسطين وأهل أفغانستان.

٤ - التوجه العارم نحو ضرب المفاهيم والقيم الإسلامية، من خلال الإعلام

والتعليم وتمييع ما سبق إحياؤه وتثبيته من قضايا مهمة تتعلق بالولاء والبراء

والجهاد في سبيل الله وفريضة الحجاب، وشرعة الحسبة والحكم بما أنزل الله؛

حيث لم تتضح للإسلاميين خطة في مواجهة هذه الهجمة المرسومة قديماً والتي بدأ

تطبيقها حديثاً.

٥ - الحرب الأمريكية المفتوحة على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب؛

حيث تكتفي الغالبية العظمى من الإسلاميين بالوقوف في أحد أبراج المراقبة عن بعد،

بانتظار مجيء الدور، إما إدراجاً في قوائم الإرهاب، أو تجميداً للأرصدة

وتحديداً للأنشطة، أو تهديداً بالتصدير إلى (جوانتانامو) .

٦ - الإصرار من عموم الكفار على استهداف الحركات الإسلامية الجهادية

المجمع على مشروعيتها، وبذل كل الجهود في محاصرتها وخنقها، بعد وصمها

بالتطرف والإرهاب والخروج على الشرعية الدولية، كما يحدث الآن ضد فصائل

المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية، والمقاومين الكشميريين والأفغانيين

وغيرهم من جماعات التصدي المشروع للعدوان على الحرمات والمقدسات.

* الإسلاميون ومعطيات عصر جديد:

عندما أعلن جورج بوش (الأب) عن قيام ما أسماه (النظام العالمي الجديد)

بعد حرب الخليج الثانية، لم يحالفه الحظ في إرساء معالم هذا النظام بسبب سقوطه

السريع الذي حرمه من فترة رئاسية ثانية يُتم بها ما بدأه، ولكن جورج الابن أراد

أن يكمل نقص أبيه، فشرعت الولايات المتحدة الأمريكية في عهده في رسم ملامح

هذا النظام الجديد، وتمخض هذا عن معطيات جديدة، لا بد للعمل الإسلامي الذي

سيستمر بإذن الله ألا يتجاهلها عند رسم برامجه الآنية ومخططاته الآتية المستقبلية،

ومما يخص المسلمين من هذا (اللانظام) ما يأتي:

أولاً: توجه العالم نحو نمط إدارة واحدة يكاد رئيس الولايات المتحدة فيها أن

يكون (رئيس العالم) واتفاق هذا العالم شرقه وغربه مع الولايات المتحدة على

(شطب) شيء اسمه نظام إسلامي ودولة تحكم بالشريعة وتقيم العقيدة مهما كان سبيل

إقامتها، سواء كان طريق مجيئها بالانتخابات النيابية، أو الثورات الشعبية، أو

الانقلابات السلمية أو غير السلمية، فلن ترضى الآن أمريكا ولا أوروبا ولا روسيا

ولا حتى الصين بقيام مثل تلك الدولة وانضمامها للمجتمع الدولي، اللهم إلا إذا

كانت دولة إسلامية على الطريقة الأمريكية شبيهة بتلك التي قامت على الطريقة

الروسية في الشيشان والتي بدأ العالم يعترف بها وبرئيسها العميل المعمم (أحمد

قديروف) .

إن الخطر الذي سيلاحق الدولة الإسلامية المؤمل قيامها، لن يكون قانونياً فقط

برفض (الأمم المتحدة) الاعتراف بها، بل قد تواجه الحظر السياسي والحصار

الاقتصادي، والتربص العسكري كما حدث لدولة الطالبان وقبلها دولة الشيشان وما

قد يحدث لدولة السودان، وهنا نقول: هل من المناسب في ضوء ذلك أن يظل

هدف إقامة الدولة الإسلامية النموذجية في هذه المرحلة على رأس أولويات الحركات

الإسلامية في أنحاء العالم، كما كان العهد في العهود الماضية بحيث تتمحور حولها

البرامج وتتركز التحركات؟! أم يتحول الجهد إلى إزالة العقبات من أمامها،

وتأسيس الأرض الصلبة لإنشائها؟!

ثانياً: انتهاء عصر الاستقلال بانتهاك مفهوم سيادة الدول بالمعنى القديم

المعهود وخاصة الدول الإسلامية، حيث برزت في السنوات القليلة الماضية ظاهرة

التدخل المباشر في شؤون الدول الضعيفة، وتوجيه سيادتها عسكرياً واقتصادياً

وسياسياً وأمنياً، دون الرجوع في أحيان كثيرة إلى من يفترض أنهم (المسؤولون)

في هذا البلد أو ذاك، ولن نضرب المثل بما يحدث الآن في أفغانستان أو العراق،

فذلك أمر قد فُرغ منه، بل انظر إلى ما يحدث في باكستان وإندونيسيا والسودان،

حيث تُفرض الحلول الأمريكية فرضاً، حتى وصل الأمر في بعض الحالات إلى

انتهاك المجال الجوي لبعض الدول من أجل تعقب من تطلق عليهم أمريكا

(الإرهابيين) ، وما أمر اليمن منا ببعيد عندما دخلت الطائرات الأمريكية لتعقب

سيارة مدنية بها أشخاص تشتبه بهم، ومثلما حدث عندما أغار الأمريكيون في عهد

كلينتون على كل من السودان وأفغانستان دون مقدمات بزعم ضرب أهداف معادية.

ثالثاً: التغيير الحاد في مفهوم (سيادة القانون) بما فيها القانون الدولي؛ فمع

ما ندين الله به من بطلان كل قانون بشري مخالف لشريعة الإسلام، دولياً كان أو

إقليمياً، إلا أن تلك القوانين على عجزها عن تحقيق العدالة المطلوبة، تقيَّد الآن،

لتكون شريعة الغاب أو الغرب هي سيدة الموقف، بما فيها من تسلط وكبرياء

وغطرسة، لا تفهم إلا القوة ولا تعترف بحقوق الإنسان إلا إذا كان إنساناً غربياً أو

بالأحرى نصرانياً أو يهودياً! فأين سيادة القانون الدولي الآن مما يحدث في فلسطين،

وأين «سيادته» مما يحدث في العراق وأفغانستان والسودان والبلقان وإندونيسيا

والشيشان؟!

الأمر مرشح لمزيد من الفوضى القانونية الدولية، وخاصة أن أمريكا تمضي

قُدماً في تطبيق مفهوم (الحرب الوقائية) و (الضربات الاستباقية) التي ستغير

كل ما كان معهوداً من أعراف تتعلق بإعلان الحروب واستعداد الشعوب لدخولها قبل

أن تقحم بها.

إننا مقبلون فيما يبدو على عصر (اللاقانون) مع عصر (اللانظام) ، فإذا

كان القانون الدولي يداس الآن بأقدام أمريكية، فإن القوانين المحلية سيجري الجري

فوقها لا مجرد دوسها، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين، ولذلك فإن الرهان

على عودة الاستقرار في الساحات المتوترة، لا ينبغي أن تفضل فيه الأسباب

الخارجية عن الداخلية.

رابعاً: تعاظم دور الجاسوسية في العالم باسم (المخابرات) ؛ فالحرب

العالمية ضد ما يسمى بـ (الإرهاب) يبدو أنها ستحتاج إلى تجييش الجواسيس من

مستوى الخفير إلى الوزير، بل إلى رئيس الدولة، وما لنا نذهب بعيداً وبوش

الأكبر، الذي كان رئيساً لأكبر دولة، تولى المنصب الأكبر في قيادة الجاسوسية

الأمريكية حيث كان رئيساً لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) قبل تولي

الرئاسة. وكذلك فإن الدولة التي كانت تمثل القطب الثاني في العالم (روسيا)

يترأسها الآن رجل الجاسوسية الروسية الضليع (فلاديمير بوتين) الذي كان ضابطاً

في المخابرات السوفييتية (KGB) .

ولهذا لم نستغرب ولن نستغرب أن تكون أشهر المبادرات والتحركات

السياسية الخاصة بالشرق الأوسط في الوقت الراهن يديرها قادة في المخابرات،

من أمثال (جورج تينت) الذي تولى منصب وكالة المخابرات المركزية منذ عام

١٩٩٦م والذي وضع منذ فترة فترة ما يعرف بخطة (تينت) .

يبدو أننا أيضاً في عالمنا الإسلامي سنشهد بعد حقبة الحكومات العسكرية،

حقبة جديدة من الحكومات المخابراتية! وهي حقبة سيحتاج فيها الإسلاميون ولا

شك لطرق أخرى في التعامل مع الواقع.

خامساً: تقلص دور الحكومات في العالم النامي وأغلبه إسلامي بعد أن

كرست أحداث السنوات الأخيرة عجز أغلب تلك الحكومات عن مواجهة التحديات،

وهذا سيضاعف من مسؤولية الشعوب في تحمل أعبائها بنفسها، والإسلاميون

شاؤوا أم أبوا هم طليعة تلك الشعوب، وهم قادتها الحقيقيون، ومع ذلك ويا للمفارقة

فهم المعنيون قبل غيرهم بالعداوة الصليبية واليهودية الراهنة، ولا خيار لهم في

تحمل مسؤولياتهم المزدوجة في حماية أنفسهم وحماية الأمة.

سادساً: تحول وظيفة إنقاذ الأجيال إلى مهمة عسيرة، في ظل اختراق

الإعلام لخصوصيات الشعوب، وهذا المعطى ليس خاصاً بالحرب الأمريكية على

الإسلام وما تشكله من نظام دولي جديد، بل هو من عوامل تغير الزمن، وظهور

الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكنه مؤثر على كل حال في أهم

وظائف العمل الإسلامي وهو تربية الأجيال؛ فبالأمس القريب كان الدعاة يتحدثون

عن خطر (الغزو الفكري) وتأثيره الضار على الأجيال، مع أن خطر الغزو

الفكري وقتها ربما اقتصر على شرائح معينة تتعامل مع وسائل الثقافة والإعلام

المخاطِبة للطبقة المتعلمة.

أما اليوم فلم يعد الأمر أمر كتاب أو شريط أو فيلم، وإنما أضحى طوفاناً من

الفساد المبثوث عبر القنوات الفضائية والشبكات الحاسوبية، أصبحت معه مهمة

الدعاة بالغة الصعوبة في توسيع دائرة المنتمين للدعوة من الأجيال الجديدة، بل إن

الخطر لم يعد يحاصر الأطفال والفتيان والفتيات، بل غدا يطارد الكبار أيضاً،

فأصبحنا بين خطرين: خطر العسر في المحافظة على مكتسبات عقود ماضية من

شريحة الملتزمين بالدين بتآكل أطرافها، وخطر المخاوف من تقلص الفرص في

جلب شرائح جديدة إلى صفوف الملتزمين الجادين بسبب صعوبة التمسك بالدين في

ظل انفجار تيار الفجور.

بمعنى آخر: نحن نسير بسرعة متهورة نحو ظاهرة (خفة الدين) ، ولا بد

للدعاة أن يعكفوا على إيجاد حلول لتلك النازلة؛ لأن المراحل القادمة في مصير

الأمة لا يصلح للتعامل معها خفاف الدين، صغاراً أو كباراً.

سابعاً: التحول من الهموم العامة إلى الهموم الخاصة؛ فعلى مستوى المسلمين

عموماً تكرست العزلة بين ما يسمى بـ (العالم الإسلامي) وبين ما يسمى بـ

(العالم العربي) بفعل القوميات، ثم تجذرت العزلة بين أجزاء كل عالم منهما بعد

ذلك بفعل الوطنيات؛ فالهَمُّ المحلي الآن هو منتهى اهتمام الجميع، حتى إن بعضهم

أضحى يقول: أنا ومن بعدي الطوفان! ومن إفرازات هذه الظاهرة على الأرض ما

يحدث الآن في فلسطين؛ حيث جُردت قضيتها بشكل شبه نهائي من بُعدها العربي،

بعد فصلها عن بُعدها الإسلامي، وأصبحت (قضية العرب والمسلمين الأولى)

مجرد همٍّ فلسطيني، وقس على ذلك الهم السوداني والأفغاني والشيشاني، والبلقاني؛

فالكل مشغول عن الكل بنفسه أثرة وشحاً، أو عجزاً وضعفاً.

وأخشى ما نخشاه أن تنتقل هذه العدوى إلى العمل الإسلامي، فتصبح كل

ساحة منكبة على نفسها، منغلقة على ذاتها، تاركة هموم غيرها وراء ظهورها،

وبخاصة عندما يكون لحمل تلك الهموم ضريبة لا يريد الكثيرون دفعها.

* ضعفنا وقوتهم:

قد يكون المسلمون اليوم بالفعل أضعف من اللازم وهم مقبلون على منازلة ما

ذكر من نوازل حاضرة ومستقبلة، إلا أن ما عند الله تعالى من نواميس السنن،

كثيراً ما يجري بخلاف ما يظن البشر من عادات ومجريات الزمن؛ فالضعيف قد

يقوى بعوامل لم تكن مقدورة للبشر ولا منظورة، والقوي قد يضعف بمستجدات

مكتوبة وغير محسوبة.

والذي أشعر به أن الله تعالى يُودِع قوة المسلمين اليوم في ضعفهم، كما يضع

ضعف أعدائهم في قوتهم، كحال وحوش كبيرة ثقيلة كاسرة، محصورة في ميدان

محدود، تطاردها طيور صغيرة عنيدة في فضاء غير محدود، فتهزم تلك الضعاف

الخفاف بطلاقتها وخفة مؤنتها، تلكم الوحوش المحشورة في مرابض الأشر والبطر!

طابق - إن شئت - هذه الصورة المتخيلة على ما حدث مع فرسان الصحابة

حينما خرجوا من جزيرة العرب خفافاً وثقالاً، ينازلون الفرس ويناوشون الروم

وغيرهم من طواغيت العالم، فهزوا عروشهم ثم أورثهم الله أرضهم وديارهم

وأموالهم، وطابق الصورة على ما كان قبل الإسلام من غلبة المستضعفين

المطاردين من أتباع موسى - عليه السلام - لطاغية ذلك العصر فرعون، حيث

جعل الله ذله على أيديهم ونهايته أمام أعينهم حتى قبل أن يُكتب الجهاد عليهم:

[وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ

* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ]

(القصص: ٥-٦) .

ثم طابقها على ما كان بعد ذلك من قيادة داود الشاب - عليه السلام - لقومه

المستضعفين المطرودين من أرضهم، حيث جبر الله كسرهم فاقتحموا على

الجبارين أبواب حصونهم: [قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا

عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة:

٢٣) . فحين مد داود يده وأمسك بقطعة الحجر، وقذف بمقلاعه نحو الجبار

جالوت؛ كان هذا إيذاناً بتحول موازين القوى، وتغير الأوضاع لدى قومه،

فتحولوا من شراذم تفر أمام الأعداء إلى جيوش نظامية حقيقية لها وجود.

ولا تظن أخي القارئ أن زمان هزيمة الطغيان على أيدي المستضعفين من

أهل الإيمان قد ولَّى؛ فقد أرانا الله في عصرنا من هذا آيات، ليس آخرها ما كان

من انهزام إمبراطورية الإلحاد السوفييتي السابق، ثم انهدام بنيانها وتفكك اتحادها،

تحت ضربات المستضعفين من المؤمنين من أنحاء الأرض آنذاك، الذين جاؤوا في

ذلك الوقت لنصرة إخوانهم الأفغان الذين استنصروهم في الدين؛ فقد ادخر الله

تعالى للمستضعفين منهم شرف إسقاط تلك القوة الطاغوتية الإلحادية الكبرى التي

كانت تعد القوة العسكرية الأكبر في العالم وقتها، هذا في حين لم يكن للمجاهدين فيه

دولة فتحاصر، ولا سفارات فتغلق، ولا جيش نظامي فيدمر.

صحيح أن أن أمريكا كان لها دور في الدعم من وراء ستار، ولكن ذلك كان

من تأييد المؤمنين بتسخير الكفار، ثم انظر أيضاً إلى روسيا الصليبية الأرثوذكسية

التي ورثت روسيا الإلحادية الشيوعية؛ حيث أذل الله اتحادها الروسي الفيدرالي،

على أيدي المستضعفين الشيشانيين الذين لا يتجاوز عدد شعبهم ٨٠٠ ألف نسمة،

في مقابل ما لا يقل عن ١٥٠ مليون نسمة هم سكان الاتحاد الروسي.

ونعيد نظرك بعد ذلك إلى ما حدث ولا يزال يحدث في فلسطين، وإلى ما

حدث ولا يزال يحدث في العراق، حيث تُغير الطيور الحرة الطليقة، بغايات

شريفة ومؤن خفيفة على الديناصورات ذات الترسانات، فتدمي أنوفها، وتغرس

الشوك في عيونها، وتعلن للعالم أن قول الله تعالى: [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً

كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: ٢٤٩) . لا يزال، ولن يزال باقي

الصلاحية في إحداث التغيير والفاعلية.

ومع هذا، لا نقول للمسلمين عامة، والإسلاميين خاصة حوِّلوا العالم كله إلى

ساحات حرب وميادين نزال، لا ... ، فلا تزال الدنيا تتطلع إلى سماع صوت

دعوتكم، قبل سماع سوط سخطكم على المتآمرين وصريخ ثأركم من الجبارين، لا

يزال المسلمون والبشرية كلها معهم في أشد الحاجة إلى فقه العالم منكم، وثقافة

المفكر، وحلم السياسي، وصبر المربي، ومثابرة الداعية، بما لا يقل عن الحاجة

إلى مصابرة المرابطين، ورباطة جأش المجاهدين في المشروع من الميادين، لم

نسدَّ بعدُ نحن الإسلاميين وإن كثرنا فرض الكفاية لأمتنا [٢] من الأطباء الشرفاء

والمهندسين الأكفاء، والمعلمين والمهنيين الذين يكفون الأمة عار أن تظل عالة على

عالم الكفاية، ليس مطلوباً من الإسلاميين فقط أن يكونوا خير الأدلاَّء على طريق

النجاة في الآخرة، بل المطلوب منهم أيضاً أن يكونوا في طليعة المصلحين للدنيا؛

فصلاح الدنيا، ورعاية مصالح الخلق مطلب شرعي أصيل، وغاية التشريع

الإسلامي الذي تشرئب إلى تحقيقه وتطبيقه كافة الفصائل الإسلامية؛ هي الإصلاح

فيما يمنع وفيما يمنح، فيما يُحل وفيما يُحرم؛ لأن من أنزل هذا التشريع سبحانه لا

يريد بالناس إلا بيان الحق والهداية إليه وإصلاح الدنيا والآخرة به. قال تعالى:

[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً]

(النساء: ٢٦-٢٧) .

وشريعتنا شريعة القرآن تتوخى مع إصلاح الخلق، رعاية مصالحهم ولا أدل

على ذلك من أن قسماً من الواجبات فيها يتعلق بكل ما يعود بمصلحة عامة، وهذا

القسم يتمثل في الواجبات الكفائية التي توجب كل ما من شأنه عزة المسلمين

واستغناؤهم عن غيرهم.

والذين يظنون أن مهمة الإسلاميين هي تعليم الناس أحكام العبادات

والمعاملات فقط، هم مخطئون؛ لأن عبادة العبد تعود إلى العبد، ومعاملاته ترجع

إليه، والله تعالى غني عن العالمين، فلم يجعل الشريعة قاصرة فقط على رفع

درجة العباد في الآخرة، بل شاملة لما يصلح شأنهم في الدنيا.

يقول الإمام الشنقيطي - رحمه الله -: «وإنه من المعلوم من الدين

بالضرورة أن الله جل وعلا غني لذاته الغنى المطلق، وجميع الخلق فقراء إليه

غاية الفقر والفاقة والحاجة، ولكنه جل شأنه يشرِّع ويفعل لأجل مصالح الخلق

المحتاجين إليه لا لأجل مصلحة تعود إليه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً»

[٣] .

* وبعد:

لم تنته بعدُ النظرات في النوازل ومنازلتها؛ لأن موضوعها أكبر من أن

يستوعب بنظرة متأمل، أو قلم كاتب، في سطور وصفحات، وإنما تحتاج إلى

دراسات ودراسات، ومع هذا فالأمر لا يمنع من مساهمات قد تفتح مجالاً لحوار،

أو تلفت نظراً لمراجعة نظرية أو عملية.

إن الأزمات التي واجهها وسيواجهها العمل الإسلامي يظل علاجها داخلاً في

إطار الممكن والمشروع، أمَّا ما ليس ممكناً ولا مشروعاً من الأعمال؛ فإنه يطيل

أمد النوازل من جهة، ويضيع الجهود ويفرق الصفوف ويقوي الأعداء من جهة

أخرى؛ ولهذا فإن المواءمة والموازنة بين الإمكانية والمشروعية في العمل

الإسلامي، وتصفية خلاصة إيجابية منها من بين ركام المشروعات المستحيلة وغير

المشروعة؛ تحتاج إلى وعاء يجمع خلاصة فقه وفكر وتجربة خلصاء هذه الأمة،

وهنا لا يحتاج الأمر فقط إلى معالجات فقهية لنوازلنا وإن كان الفقه مفتاح الحلول

وإنما يحتاج إلى عمل مؤسسي بحثي شامل يتبناه الأثرياء، ويشرف عليه العلماء

يتخصص في رصد مشكلات الأمة ونوازلها ورصد أزمات العمل الإسلامي في

التعامل معها، وتحديد ضوابط سيره، وتجديد الدماء في عروقه بمعرفة عوامل

قوته وأسباب ضعفه؛ فمن غير المعقول أن تعقم عقول أمة تقارب ربع سكان

المعمورة عن حل مشكلات حاضر غير مستقر، بانتظار مشكلات مستقبل غير

واضح، في زمن لا يمهل المهمل حتى ينشط، ولا المتأخر حتى يتقدم، صحيح أن

المشوار طويل، ولكن نهايته محسومة لصالح ديننا الأغر، وحضارته الباقية بلا

دولة في مواجهة دولة الباطل القائمة بلا حضارة [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا

يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض] (الرعد: ١٧) .


(١) أخرجه أبو داود في سننه، (٣٧٤٠) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٥٩٩) .
(٢) الواجب الكفائي: هو الذي يدرك القائم به تأدية الفرص ونافلة الفضل، ويخرج من تخلف عنه عن المآثم، وهو الفرض الذي إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الكل، وإذا قعد عنه الكل أثم الجميع، انظر: الرسالة للإمام الشافعي، ص ٣٦٣، ومن أمثلته: استيعاب العلوم البحتة والتطبيقية إلى حد الاكتفاء عن الغير.
(٣) تفسير أضواء البيان، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، (٤/٦٥١) .