للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حوار

[الشيخ جعفر إدريس في حوار خاص مع البيان]

الخوف من الإسلام يوجه السياسة الأمريكية

البيان: نبدأ مع فضيلة الشيخ في تفسير تأثير البعد الديني في الأداء

السياسي الأمريكي، خاصة في الإدارة الحالية، حيث تبدو إشكالية تتباين فيها

الآراء؛ هل الدين يحرّك هذه الإدارة أو أنها تستغل الدين في تحقيق مصالحها؟

- بسم الله الرحمن الرحيم، أولاً تدل الإحصاءات التي تُجرى في الغرب أن

أمريكا تعتبر أكثر البلاد الغربية تديناً، يعني مثلاً عدد المؤمنين بوجود الخالق نسبة

كبيرة في أمريكا، يقولون إنها ٩٥%، مع أنها في بلاد غربية أخرى أقل من هذا

بكثير، أظن أن أخفض نسبة هي في السويد. ففي مجرد الإيمان بوجود الخالق هم

أحسن من غيرهم، ثم يتبع ذلك الإيمان بالنصرانية والذهاب إلى الكنيسة،

والقنوات الدينية كثيرة جداً، بل يقولون إن الإحصاءات تدل الآن على أن الإقبال

على الدين في ازدياد.

أما هذه الإدارة، فالذي يقال عنها إنهم أناس متدينون، فمؤلف كتاب (بوش

محارباً) ، يذكر اسم الطائفة النصرانية التي ينتمي إليها، ويقول إن له كتاباً يجلس

ليدعو منه في الصباح الباكر من كل يوم. فهذا يدل على أنه رجل يأخذ دينه مأخذ

الجد، وسئل مرة: من فيلسوفك السياسي؟ فقال: المسيح.

ومعروف أيضاً عن أشكروفت أنه كان يعقد جلسات لدراسة ما يسمّى بالكتاب

المقدس في مكتبه، حتى احتج على ذلك كثير من الأمريكان وقالوا نحن دولة

علمانية، فما ينبغي أن تُستغل المكاتب الرسمية لمثل هذا. وهكذا سائرهم: باول،

رامسفيلد، كوندوليزا رايس.. إلخ. بل يقال إن الصلة الأساس بين هؤلاء هي

الصلة الدينية، فكلهم ينتمون إلى التيار الذي يطلق عليه اسم «المحافظون الجدد» ،

وهم قوم معروفون بشدة تمسكهم بدينهم وتسخير نشاطهم السياسي لخدمته.

الانتماء الديني حتى على المستوى الشخصي لم يبرز في الماضي بهذه

الطريقة الصارخة، فإذا كان الرئيس بوش يصرّح بأن فيلسوفه السياسي هو المسيح؛

فقد ذهب غيره إلى أكثر من ذلك، رئيس الأغلبية في الكونجرس يقول: أنا

مهمتي أن أنشر المسيحية. بهذا الوضوح، وسمعتم عن هذا الرجل الذي هو نائب

رامسفيلد، ومسؤول عن المخابرات، وضابط كبير، هذا كان يذهب إلى الكنائس

ويتكلم عن المسيحية وهو الذي تكلم في إحدى هذه الكنائس عن الإسلام كلاماً سيئاً؛

حتى إن المسلمين طالبوا بفصله عن عمله، لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث. بل عندما

كتبتْ عن كلامه هذا صحيفة لوس إنجليس تايمز؛ كان كل الذي قاله بوش: إن ما

يقوله لا يمثل رأي الدولة.

عندما نقول إن دوافعهم دينية؛ إنما نعني في الغالب مثل هذه المواقف السلبية

من الإسلام. أما أن لهم ديناً معيناً هم متفقون عليه وداعون إليه فلا، نقل شيخ

الإسلام ابن تيمية عن أحد العلماء الذين خبروا النصارى قوله: «إنك لو سألت

عشرة قساوسة سؤالاً أعطوك أحد عشر جواباً» . وإذا كان هذا في زمن ابن تيمية؛

فأظن الأجوبة الآن تكون عشرين أو أكثر.

قبل يومين أو ثلاثة كتب أحدهم مقالاً عن تدين السياسيين، وقال إن الناس

في أمريكا ليسوا متعصبين، بوش كان في طائفة كذا انتقل إلى طائفة كذا، هاوارد

دين المرشح الديمقراطي للرئاسة، يقول إنه ترك كنيسته لأنه اختلف معهم في

شارع كان يرى إقامته. والكنيسة كما تعلمون ليست مجرد مكان للعبادة كالمسجد،

بل هي انتماء إلى جماعة أو طائفة معينة، فتحول الإنسان من كنيسة إلى أخرى

كخروجه من طائفة إلى أخرى. وذكر عن مرشح آخر أنه نصراني من طائفة كذا

لكن أبناؤه يهود، ربما لأن أمهم يهودية.

بل إن مما يأخذونه على المسلمين ويرونه تشدداً وسيراً ضد تيار العصر

(والعصر عندهم هو السائد في حضارتهم) ؛ هو أخذ المسلمين لنصوص دينهم مأخذ

الجد، لأن غالبيتهم لا يعتقدون أن نصوص كتبهم هي كلام الله تعالى، وإنما هي أو

معظمها كلام بشر تأثروا بالجو الثقافي الذي كان سائداً في زمانهم، فلا معنى إذن

لفرض ثقافتهم على عصر مختلف عن عصرهم. لكن مشكلتهم - التي هي من

علامات غرورهم - أنهم يرون أن كل دين لا بد أن يكون كدينهم أو أسوأ. ولهذا

السبب قال كلينتون كلمته تلك الوقحة جداً؛ أنه لو كانت السيارات موجودة في زمان

الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لسمح لزوجاته بقيادتها. وقد قلت تعليقاً على

كلامه الوقح هذا في كلمة باللغة الإنجليزية: إنه لو كان السبب الذي اعتمد عليه

العلماء الذين أفتوا بعدم جواز قيادة المرأة للسيارة هو ما ذكر الشيخ كلينتون وهو

عدم وجودها في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما حصروا المنع في القيادة!

بل لقالوا إنه لا يجوز لهن ركوبها، بل لعمموا هذا على الرجال والنساء، بل

لشمل المنع كل وسائل المواصلات الحديثة من الدراجة إلى السيارة إلى الباخرة إلى

الطائرة أو المركبة الفضائية!

ولعل أكبر دليل على عدم أخذهم لدينهم مأخذ الجد ما حدث أخيراً في الكنيسة

الإنجيلية بأمريكا، فقد اختارت هذه الكنيسة شخصاً يستعلن بانحرافه الجنسي ليكون

قسها الأكبر، وقد بلغت به الصفاقة أن جاء إلى الاجتماع ومعه صاحبه، ورغم ذلك

انتُخب بنسبة ٦٠% من الأصوات! ولكن الأغرب من هذا أنه قال كلاماً حرصت

على حفظه لكي أستدل به على اتخاذهم دينهم لعباً، قال هذا الرجل بعد انتخابه:

«إن الذين عارضوا انتخابه كانوا محقين؛ لأن هذا الأمر مخالف لتقاليد الكنيسة،

ومخالف لتعاليمها، ومخالف لنصوص الكتاب المقدس، لكن هذا لا يعني أنه

خطأ» ! فكنا نقول لإخواننا في أمريكا إن هذا كمثل مسلم يقول إن هذا الأمر

مخالف لنصوص القرآن، ومخالف للأحاديث الصحيحة، ومخالف للإجماع، لكن

كل هذا لا يعني أنه خطأ.

ولكن يبدو أن خوفهم من الإسلام هذا على نصرايتهم الشكلية هذه أمر قديم،

بالأمس حكى لي أحد إخواننا السودانيين، عن رجل كان في وظيفة كبيرة في زمن

النميري، قوله إنه عندما أعلن الرئيس النميري الشريعة الإسلامية جاءني مندوب

من السفارة البريطانية وآخر من السفارة الأمريكية وطلبَا مني أن أبلّغ الرئيس بأن

هذا البلد أصله بلد نصراني ونحن لا نقبل أبداً أن يتحول إلى بلد إسلامي. وقد

قابلت الرئيس نميري وتحدثت معه بعد الإطاحة به، فوجدته معتقداً اعتقاداً جازماً

بأن الذي أزاحه عن الرئاسة ليس الانتفاضة كما يظن الناس، وإنما هم الأمريكان،

وأن السبب الأساس هو إعلانه للشريعة. فالغربيون مصابون بنوع من الهلع من

الإسلام.

البيان: ولعل هذا ما أشار إليه فوكوياما في نظرية نهاية التاريخ، حينما

ذكر أن التحدي الفاشي والنازي والشيوعي انتهى، ولم يبق إلا التحدي الحضاري

الإسلامي؛ لأن المسلمين يشعرون بأن عندهم حضارة؟

- نعم! ذكر هذا، قال كل العالم سائر في اتجاه الديمقراطية الليبرالية

والرأسمالية، وذكر أن الأمة الوحيدة التي تشعر أن لديها بديلاً أحسن هم المسلمون.

إنهم يقولون الآن إن الحرب القادمة حرب أفكار، ونحن نقول إذا كانت حرب

أفكار هُزمتم. إن كثيرين منهم يعتقدون - وهم محقون في اعتقادهم - بأن القوة

المادية عسكرية كانت أو اقتصادية لا تكفي، فلذلك لا بد من نوع من المحاربة

للإسلام ما دام هو العدو الوحيد الباقي في هذه المعركة بعد سقوط الشيوعية.

البيان: لكن هذه الخلفية الدينية في السياسة الأمريكية؛ ما انعكاسها على

الحملة الأخيرة، يعني في العالم العربي، سواء فيما يتعلق بقضية الحرب على

العراق وقبلها أفغانستان أو الحرب على ما يسمى بـ (الإرهاب) ؟

- نعم! إنهم يريدون أن يُضعفوا أي مصدر يعين على انتشار الإسلام.

بالنسبة لطالبان، يقول كثير من الأمريكان أنفسهم من خصوم بوش وصحبه إن

المشكلة الأساسية لم تكن الإرهاب، وإن حوداث ١١ سبتمبر وإن لم تصنعها الإدارة

الأمريكية إلا أنها أعطت هذه الفئة فرصة لم تكن تحلم بها لأن ينفِّذوا أجندة كانوا هم

أصلاً قد أعدوها. بالنسبة للعراق الشيء نفسه، كثير منهم يتكلم بنوع من الزهو

والبطر عن أنهم يحتلون الآن بلداً كان عاصمة المسلمين الفكرية والثقافية ومصدراً

من مصادر اعتزازهم وفخرهم. ثم إن السبب الأساس لغزو العراق، كما يعترف

بذلك بعض الأمريكان حتى من الذين أيَّدو الغزو، إنما كان الخوف على إسرائيل،

والخوف على إسرائيل أيضاً داخل في مسألة الإسلام؛ لأن إسرائيل هي سلاحهم

الذي يحاربون به المسلمين، فإذا زالت إسرائيل، ربما يمهد هذا لانتشار الإسلام.

وكانوا يعتقدون أن العراق سيكون إلى جانب ثروته البترولية قاعدة ثقافية للفكر

الغربي بعد إسرائيل. كانوا يعتقدون أنهم وجدوا طلبتهم في بلد أهله مستعدون

لاستقبالهم لما عانوا من حاكمهم. كانوا يحلمون وأظنهم ما زالوا بأن يقيموا في

العراق دولة ديمقراطية على النمط الغربي تفصل بين الدين والدولة، وتتبنى الثقافة

الغربية، فتكون بذلك مثالاً تطالب الجماهير في البلاد الأخرى بأن تحذو بلادهم

حذوه، وأن نفطها سيغنيهم عن الحاجة إلى السعودية حتى يتفرغوا أكثر لشن حربهم

الثقافية عليها. ولفرط اهتمامهم باحتلال العراق كانوا يحذرون قومهم من أن لا

يتوقعوا انسحاباً منها إذا حصل موت وتضحيات أي أنهم لن يفروا منها كما فروا من

لبنان والصومال حين استحر فيهم القتل. ومما فعلته الحكومة في هذا المجال أنها

أصدرت قانوناً يمنع عرض جثث القتلى من الجنود على شاشات التلفاز كما كان

يحدث في الماضي.

وفعلاً ما أظن أحداً كان يتصور أن يستمر الموت بهذه المعدلات، والإدارة

تصر على الاستمرار في الاحتلال. بالطبع هنالك أسباب أخرى لكنها أيضاً متعلقة

بالدين. خذ البترول مثلاً الذي يرى بعض الناس أنه هو الدافع الوحيد أو الأهم

لغزو أمريكا للعراق، لكنهم ينسون أن البترول له علاقة بقوة المسلمين. لعلكم

قرأتم في الصحف عن الوثائق السرية التي نشرت، والتي بينت أنهم كانوا يفكرون

في غزو السعودية والكويت سنة ١٩٧٣م، وأنا أذكر جداً كلاماً لكيسنجر قبل

ثلاثين عاماً؛ يثبت هذا. فقد قال آنذاك كلاماً فحواه أنهم لا يمكن أن يدعوا أمريكا

تؤثر فيها مصادفة جغرافية (يعني وجود البترول في العالم العربي الإسلامي) !

حتى الكلام عن دعم الديمقراطية وجعل العراق أنموذجاً تحذو الدول العربية

الأخرى حذوه مرتبط بهذه الدوافع الدينية، لقد ساعدوا في الماضي على وأد

الديمقراطية في مصر وسوريا والعراق والسودان؛ لأنهم وجدوا أن الحركة

الإسلامية ترعرعت في ظلها. وهم يقولون الآن إنهم كانوا مخطئين، وإنهم

يريدون الآن تشجيع الديمقراطية، لكن السبب واحد؛ وذلك أنهم يرون الآن أن

الديمقراطية هي التي ستُذهب بريق الحركات الإسلامية، وتقرّب الجماهير من نمط

الحياة الغربية. ويريدون الديمقراطية أيضاً لأنهم يرون أن الدكتاتورية هي التي

ساعدت على الإرهاب؛ لأن المواطنين أصبحوا يرون أن أمريكا هي التي تساند

الحكومات التي تذلهم وتخنق أنفاسهم، لذلك يتوجهون بجام غضبهم إليها.

يتساءل بعضهم: ماذا نفعل إذا أتت الديمقراطية بحكومات غير موالية لنا؟

يقولون: لا، نحن سنعمل على أن تكون الديمقراطية لمصلحتنا.

بل إن هنالك سبباً دينياً مباشراً للاهتمام بأحوال العالم الإسلامية، ولا سيما

الجماعات الخيرية وجماعات الدعوة والمناهج الدراسية؛ لأنهم يرون أن هذا كله ذو

علاقة وثيقة بسرعة انتشار الإسلام في أمريكا، وهو أمر يخيفهم. فالمسألة إذن

ليست محصورة في محاربة الإرهاب بمعنى العدوان المسلح، بل تشمل كل نشاط

ثقافي علمي يساعد على نشر الإسلام أو حتى تحسين صورته في الغرب.

البيان: لكن عامة الشعب الأمريكي هل هو منسجم مع السياسة الأمريكية؟

- تركيزنا في معظم ما قلناه كان على تلك الفئة المسماة بـ «المحافظون

الجدد» ، والتي تمثل أمريكا رسمياً الآن، لكن من الإنصاف أن نذكر أننا عندما

عمَّمنا القول لم نكن نعني كل فئات الشعب الأمريكي، فهذا الشعب كما يقول بعض

المختصين باستطلاعات الرأي العام هو الآن منقسم انقساماً حاداً لم يشهد له مثيل في

تاريخه، حتى إن بعضهم صار يتحدث عن شعبين أو أمتين. لكن إذا فصَّلنا القول

عنهم بعض الشيء فيمكن أن نقول إن بعضهم يؤيد سياسة حكومته للأسباب التي

تذكرها له لا لدوافعها الحقيقية، وكثير من هؤلاء يتحول متى ما استبانت له الحقيقة.

دوافعهم ليست كدوافع بوش وأشكروفت، ولكن هذه الإدارة استغلت محركاً من

أقوى المحركات في البشر، هو حرصهم على أن يعيشوا آمنين حتى لو كان ذلك

على حساب حريتهم وأكلهم وشربهم. حتى خصوم هذه الإدارة يعترفون بأنها

نجحت في استغلال هذه المسألة النفسية استغلالاً كبيراً، ماذا تتوقع من إنسان يقال

له إن هؤلاء القوم المسمون بالمسلمين هم سبب الرعب والخطر الذي يحدق بك

وببلدك؟ ومما ساعد على ذلك شيء معروف عن الشعب الأمريكي خاصة هو جهله

الشديد بالعالم. وهنالك جماعات ليبرالية لعل أكثر من يمثلها من المرشحين

الديمقراطيين هو «هاوارد دين» . فهؤلاء خلافهم مع المحافظين الجدد ليس خلافاً

سياسياً بالمعنى الضيق بل هو خلاف نابع من جذور أيديولوجية، فهذا الرجل كان

هو الوحيد الذي وقف صراحة ضد شن الحرب على العراق، وهو الوحيد الذي

صرَّح بأن على الولايات المتحدة أن تكون متوازنة في موقفها من الفلسطينيين

والإسرائيليين، ويقولون إنه يمثل عدداً كبيراً من المثقفين لأن الاتجاه الليبرالي هذا

يشيع بينهم أكثر من شيوعه بين عامة الأمريكان، وهم أكثر معرفة بالعالم وقضاياه

من بقية مواطنيهم، ولكنهم لا يمثلون أغلبية الشعب فيما يبدو.

ولكن عندما نقول إن دوافعهم في حربهم لنا دينية؛ لا نعني أنهم سيجعلون هذه

الحرب همهم الأوحد، ويضحّون في سبيلها بكل مرتخص وغال، بل يبدو أنه إذا

كان هنالك أمل في أن لا ينجح بوش في الانتخابات القادمة؛ فلن يكون بسبب

رفض الناس لسياسته، بل سيكون لأسباب اقتصادية إذا ما تدهور الاقتصاد، أو

لكثرة عدد الموتى. سيقول كثير من المعترضين إننا بحساب الكسب والخسارة لم

نكسب من هذه الحرب ما وعدنا به بل كنا نحن الخاسرين.

البيان: لكن هذه السياسة هل المتوقع أن تتغير مع الحزب الديمقراطي، أو

أن القضية عبارة عن استراتيجية للسياسة الأمريكية ليست مرتبطة بالحزب

الحاكم؟

- هذا سؤال صعب، لكن الذي يبدو أنها لن تتغير تغيراً كاملاً؛ لأن من

أوائل الناس الذين أيدوا بوش كلينتون، وكلينتون قائد ديمقراطي كبير، لكنه أيضاً

من الذين يتحدثون عن الإسلام حديثاً سلبياً من منطلق ليبرالي لا منطلق ديني.

وكان قد ألقى محاضرة مهمة في جامعة جورج تاون قال فيها كلاماً فحواه أن

المسلمين يعتقدون أن الحق كله معهم، ولذلك يستهينون بحياة من يخالفهم ويبيحون

قتلهم. وقد كنت من الذين ردوا عليه في عدة أحاديث بيَّنت فيها أن كلينتون ينساق

مع خطأ شائع هو الخلط بين الموقف من الاعتقاد والموقف من المعتقدين، فنحن لا

نتردد في مسألة العقائد في القول بأن الحق معنا، وأن كل ما خالف الإسلام فهو

باطل، لكن هذا لا يعني كما ظن كلينتون وغيره أننا نستنتج من هذا أن كل من

خالفنا يستحق أن يُقتل، بل نقول إن حقه علينا أن ندعوه ونجادله ونعامله معاملة

حسنة ما دام مسالماً، ولا نلجأ لحربه إلا إذا كان هو الذي يلجأ إلى الحرب.

وموقفنا في مسائل الدين هو موقف كل إنسان عاقل عرف الحقيقة في أمر ما؛

إذ لا بد له من الاعتقاد بأن من خالفه لا بد أن يكون مبطلاً، سواء كانت الحقيقة

التي عرفها فيزيائية أو بيولوجية أو جغرافية أو غيرها، فلا أحد عاقل يقول أنا

أعرف أن الأرض مكورة، لكن قد يكون الذي يقول إنها مسطحة على حق أيضاً.

ولا أحد عاقل يقول إن من يخالفني ويجهل هذه الحقيقة وينكرها يستحق مني عقاباً.

فكلينتون من الذين قالوا كلاماً كهذا، ومحاضرته في جدة تدلكم على عدم

احترامه للمسلمين ودينهم، وما أظنه إلا قد خرج منها أكثر احتقاراً للمسلمين بعدما

رأى التصفيق الذي قوبل به كلامه. وإذا كان هذا قول كلينتون ففي أقوال

المرشحين للرئاسة الآن كثير مما يدل على عدم احترامهم للمسلمين، وتأييدهم

الكامل لإسرائيل مهما عملت. ولذلك فمع ظني بأن السياسة ستتغير إذا ما جاء

الديمقراطيون إلا أنني لا أظن أنها ستتغير تغيراً كاملاً، فسياسة الديمقراطيين لن

تكون قائمة على أساس ديني بالمعنى الإيجابي، وموقفهم من الحريات والتشدد في

فصل الدين عن الدولة سيكون أحسن.

البيان: تحدثتم فضيلة الشيخ قبل قليل عن حرب الأفكار، وفي بداية الحملة

على العراق تحدث الرئيس بوش عن تغيير في منطقة الشرق الأوسط في خلال

السنوات العشر القادمة، وبعدها أطلق وزير الخارجية الأمريكي كولن باول مبادرة

الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية لتطوير منطقة الشرق الأوسط؛ فما هي الرؤية

الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام؟

- الرؤية الأمريكية بالنسبة للعالم كله هي رؤية غربية لكن فيها مبالغة بالنسبة

للأمريكان، هم يريدون للناس أن يكونوا مثلهم، وأن يحذو حذوهم، إذا كان عندهم

دين فينبغي أن يفهموا الدين كما فهموا هم دينهم، قيمهم الخلقية ينبغي أن تكون مثل

قيمهم، نظامهم السياسي يجب أن يكون مثل نظامهم، مع شرط واحد هو أنهم يجب

أن يكونوا مع ذلك موالين لأمريكا. رغبة الناس بل حرصهم؛ أن يكون سائر

الناس مثلهم حتى في الأمور التافهة، بل حتى فيما يعلمون أنهم فيه على باطل،

فالناس لا يأنسون إلا لمن كان على شاكلتهم، ألم يقل الله تعالى: [كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ

أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ] (الأنعام: ١٠٨) ؟! ألم يقل سبحانه: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا

فَتَكُونُونَ سَوَاء] (النساء: ٨٩) ؟! بل ألم يقل: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ

يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقّ]

(البقرة: ١٠٩) ؟! ثم إن حالنا وحال كثير من الأمم غير الغربية صار فتنة

للغربيين، جعلهم يعتقدون أنهم فعلاً أحسن من سائر الناس عقلاً وقيماً وفكراً ومقدرة

على إدارة شؤون الحياة، وإلا فلماذا يقول لهم الناس إنهم يريدون أن يكونوا مثلهم؟

ثم هنالك سبب آخر هو أن أمريكا فقرها بين عينيها، فهم في خوف شديد وهلع من

أن يفقدوا هذه القوة وهذه المكانة العالية، فهنالك قوة وغرور، وفي الوقت نفسه

هلع وخوف، ولذلك تجدهم حريصين على أن يقضوا على كل بادرة يرون فيها

تهديداً لقوتهم ومكانتهم، سواء كانت بادرة عسكرية، وهذا هو السر فيما يسمى

بأسلحة الدمار الشامل، أو بادرة ثقافية. فهم يعتقدون أن قوتهم الحالية لا تتمثل فيما

يسمونه بالقوة الصلبة قوة السلاح والاقتصاد التي يعترف الناس كلهم بتفوقهم فيها،

بل يعتقدون أنهم أقوياء فيما يسمونه بالقوة اللينة أيضاً، أعني القوة الثقافية. فلا

يريدون لأحد غيرهم أن ينافسهم في أي من القوتين حتى لو كانوا إخوانهم

الأوروبيين. وإذا لم يكن العالم العربي ذا قوة صلبة فربما تمثل قوته اللينة

(الإسلام) خطراً. لذلك ترونهم بدؤوا يزيدون من اهتمامهم بنشر ثقافتهم في عالمنا

العربي، فمجلة نيوزويك تُطبع الآن باللغة العربية، قبل أيام رأيت مجلة اسمها

(السياسة الخارجية) مترجمة من الإنجليزية، وسمعت أن وزارة الخارجية ستصدر

جريدة خفيفة للشباب اسمها (هاي) ، وهناك إذاعة (سوا) ، ولذلك انتقد بعضهم

حكومة بوش في تضييقها على الطلاب العرب ولا سيما السعوديين، قالوا كيف

سنؤثر فيهم إذا كنا سنمنعهم من الدراسة عندنا؟! وأظنهم لذلك سيغيرون هذه

السياسة، ربما يراقبون الطلبة أكثر لكن سيفتحون الباب من جديد لهم.

البيان: لكن يلاحظ بأن التيارات الليبرالية والعلمانية في بلادنا الإسلامية

والعربية تؤيد توجهات التغيير الأمريكي، ومن الضغوط التي تواجه العالم

الإسلامي، أن هناك توافقاً فكرياً بين الأجندة الأمريكية والأطروحات العربية

العلمانية، إلى أين سوف يصل هذا الحال؟

- لعل من الإنصاف أن نقول إن العلمانيين عندنا نوعان، فنوع عندهم وطنية

يرون أن هذا بلدهم، ولا يريدون له أن يكون تابعاً من الناحية السياسية

والاقتصادية وغيرها لا لأمريكا ولا لبلد آخر، بل بعضهم فيما يبدو قد خاب ظنه

في أمريكا وربما في الغرب بصفة عامة. وكان سبب فتنته بأمريكا والغرب بصفة

عامة، اعتقاده بأنهم مثال للديمقراطية والحرية وسائر القيم التي كان يربط بينها

وبين العلمانية، لكنه الآن يرى أن الأمر ليس كذلك.

النوع الآخر هو الذي ينطلق والعياذ بالله من كراهيته للإسلام، لقد كنا نقول

لبعض زملائنا أنتم هدفكم فقط هو محاربة الإسلام. ولذلك حتى اليساريون منهم

الذين كانوا في الماضي يعدُّون أمريكا أكبر عدوٍّ؛ هم الآن بعدما سقط الاتحاد

السوفييتي صاروا مع الغرب، بل صار كثير منهم كالعملاء له، وذلك لأنهم ضد

الإسلام وليسوا مع شيء معين. فللغرب إذن قوة طابور خامس في داخل بلادنا،

إنهم من قومنا ومواطنون مثلنا من أبناء جلدتنا، يتكلمون لساننا ويعيشون بيننا،

لكنهم موالون لأعدائنا.

ومما يساعدهم على هذا أنه حتى أصحاب الدين منا صار كثير منهم متأثراً

بفكرة الوطنية، فهو يرى أنه ما دام الشخص من أبناء وطنه فلا بد أن يكون ولاؤه

لهذا الوطن حتى لو كان معروفاً بكفره وردته، بل إننا صرنا تبعاً للتأثر بالثقافة

الغربية نخشى من وصف الإنسان بالكفر ما دام مواطناً يتكلم بلساننا واسمه كأسمائنا

مهما قال أو عمل. فلم يعد هنالك حد فاصل بين المؤمن والكافر في البلاد الإسلامية.

وكل هذا من مصلحة الغربيين ولا سيما الولايات المتحدة، وخاصة أن كثيراً من

هؤلاء الموالين لها هم أصحاب النفوذ في السياسة والاقتصاد والإعلام والمؤسسات

العسكرية.

إن المعتدي لا يستطيع أن يغزو بلداً ويحل بها آمناً لكي يسيّر أمورها إلا إذا

وجد في تلك البلد من يواليه ويعينه، حدث هذا في الماضي ويحدث الآن، حدث

هذا في أفغانستان، ويحدث الآن في العراق. وكلما كثر عدد هؤلاء وتمكنوا كان

الاحتلال أهون على المعتدين.

البيان: لكن على المدى البعيد هل تتوقعون نجاح المشروع التغريبي في

البلاد العربية؟

- يعتمد هذا، والله أعلم، أولاً على وعي المتدينين وفقههم ونشاطهم،

وإدراكهم للخطر الذي يحدق الآن ببلادهم، فإذا أدركوا هذا ركزوا على القضايا

الكبيرة المؤثرة فعلاً، والتي هي بحمد الله تعالى محل إجماع بينهم، ولم ينشغلوا

عنها بما هو أقل منها خطراً. كل هذا من الفقه، لأن الفقيه هو الذي يعرف كيف

يضع الأمور في نصابها، يقدم ما يقدم في الوقت المعين، ويؤخر ما يؤخر وكذا.

فإذا ما أدرك المستمسكون بدينهم أن عدوهم لا يفرق بينهم، وأنهم جميعاً هدف؛

أدركوا أن عليهم أن يتعاونوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونسوا في سبيل ذلك

انتماءاتهم الجماعية والحزبية، ولم يجعلوها معيار الحكم على الناس بالصدق في

الاستمساك بالدين.

لماذا لا نتعاون مثلاً على تقديم حلول إسلامية عملية لقضايانا المعاصرة، بل

لقضايا عالمنا، ونثبت بذلك أن عندنا فعلاً ما نقدمه ونعتز به ولا نحتاج إلى أن

نكون دائماً مقلدين، وإن كنا مستفيدين من تجارب غيرنا؟! رجائي أن نؤثر بذلك

في الغرب نفسه وليس فقط على العلمانيين في بلادنا.

إن كثيراً من العلمانيين من النوع الأول الذي ذكرته قد راجعوا دينهم وصاروا

من خير الدعاة إليه، فأنا مع دعوتي للحذر منهم لست يائساً من أمرهم. من الأمور

المبشرة في هذا الصدد ما لاحظه كاتب ومفكر فلسطيني اسمه طيباوي، كان يكتب

في الخمسينيات والستينيات الميلادية باللغة الإنجليزية في بريطانيا، لاحظ هذا

الكاتب - عليه رحمة الله - أن هنالك ظاهرة في العالم الإسلامي، هي أن كثيراً من

المثقفين ممن يكونون في شبابهم بعيدين عن دينهم ومتأثرين بالفكر الغربي، لا

يلبثون أن يعودوا إليه مع كبر سنهم وازدياد علمهم وعقلهم وتجاربهم. وأقول إن

ملاحظته هذه ما زالت صادقة، تدل عليها شواهد كثيرة فيمن نعرف من المثقفين

في مصر والسودان مثلاً، نعرف في هذه البلاد أناساً كانوا من قادة الشيوعيين مثلاً

ثم هداهم الله تعالى، حتى قال لي أحدهم إن الروس كانوا قد لا حظوا هذا، وقالوا

لهم أنتم الشيوعيون السودانيون لا فائدة ترجى منكم. يكون الواحد منكم شيوعياً في

ما بين العشرين إلى الخامسة والثلاثين، فإذا ما تجاوز ذلك ذهب للحج!

البيان: يعني هل الصحوة الإسلامية بمختلف تياراتها تفقه هذا الصراع

وعلى مستوى التحدي؟

- لا، أبداً، ومن مشكلاتنا، سواء في الصحوة الإسلامية أو الدراسات

الإسلامية أو كذا، أننا عزلناها عن الواقع، حتى الدراسات الإسلامية في الجامعات

تتناول كثيراً من الدراسات الإسلامية وكأنها تاريخ لا صلة له بواقع الأمة، ولذلك

صار كثير من أفاضل علمائنا يجيدون من علوم الشريعة تلك التي لا تتغير مع

الزمن، وهي بحمد الله كثيرة ومفيدة، بل هي أساس الدين فجزاهم الله خيراً. لكن

علماءنا لم يكونوا في الماضي كذلك، فهم قد علموا أن في الدين أشياء تكفل الله

تعالى ببيانها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشياء ندب الناس

إلى معرفتها، فنحن ركزنا في دراساتنا الرسمية على النوع الأول، وهو كما قلت

الأهم والأساس لغيره، لكنه مع عظم قدره لا يكفي لتسيير حياة بشرية اجتماعية،

ولذلك ندبنا الله تعالى للاهتمام به، وعلم أنه في نطاق قدراتنا وإمكاناتنا. لكن

الكثيرين منا عدُّوا هذا من أمور الدنيا التي لا شأن لهم هم بها، وقد أدى هذا إلى

فتن وعواقب وخيمة، بيد أننا بدأنا الآن نسير في الطريق الصحيح، ونسد هذا

النقص في ثقافتنا الإسلامية، فكثير من الذين تخصصوا في علوم مثل الاجتماع

والتاريخ والاقتصاد والسياسة، بل والعلوم الطبيعية والفلسفية ثقَّفوا أنفسهم ثقافة

إسلامية. وكثير من الذين لم ينالوا حظاً من هذه الدراسات في معاهدهم وجامعاتهم

الإسلامية؛ نالوا قدراً كبيراً منها بمجهوداتهم الفردية.

لكننا ما زلنا بحاجة أكثر إلى معرفة العالم الذي نعيش فيه، وإلى التفكير في

طريقة التعامل معه، بطريقة مفصلة لا تعتمد فقط على المبادئ العامة والشعارات.

فكما أننا احتجنا إلى أن نفصل في أمور العبادات، بل وأمور العقيدة، فنحن

محتاجون إلى أن نفصل في الطريقة التي نتعامل بها مع عالمنا. إذا عرف المسلم

العالَم الذي يعيش فيه، وعرف الخطر الذي يواجه المسلمين، وعرف مدى ضعفهم

بالنسبة لأمم الغرب؛ كان هذا قميناً بأن يوقظه من سباته، يشحذ همته ويدفعه لأن

يستفرغ وسعه في نصرة دينه وأمته بحسب ما أعطاه الله تعالى من إمكانات، وهيأ

له من أسباب، إن من أسوأ الغفلات أن يظن الإنسان أن حدود العالم هي حدود البلد

يعيش فيه ولا يدري الأخطار المحيطة به.

البيان: ما زال الحديث في الصحوة الإسلامية، ربما في الفترة الأخيرة

أصبح التيار السلفي في واجهة الصراع مع الغرب؟

- الحقيقة أن هذا ليس بالأمر الجديد، وإن كان قد صار الآن أكثر ظهوراً.

حدثني قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أحد إخواننا من قادة هذا التيار في الولايات

المتحدة أن المخابرات اتصلت به، فقال لهم: لماذا أنتم مهتمون بنا، فنحن أناس لا

دخل لنا بالسياسة ولا عمل لنا إلا تعليم الناس العقيدة؟! قال: فكان جوابهم: نحن

نعرف هذا، ولكننا نرى أنكم أنتم الخطر! أو كلاماً هذه فحواه.

على الدعاة إذن أن يستمروا في الاستمساك بدينهم ودعوتهم، وأن لا يخطر

ببالهم أنهم يمكن أن يرضوا أعداء دينهم بغير التنازل عنه، كما قال تعالى عن

المصرّين على باطلهم من اليهود والنصارى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ

النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: ١٢٠) ، قلت المصرّين؛ لأن الآية ليست

على عمومها؛ إذ لو كانت شاملة لكل فرد يقول إنه يهودي أو نصراني لما آمن

منهم أحد، كيف ونحن نعرف أن الكثيرين منهم ما زالوا يسلمون، وكيف ونحن

نرى الكثيرين منهم يساعدون المسلمين ويدافعون عنهم؟!

من ناحية أخرى هذا السلوك ليس قاصراً على اليهود والنصارى، بل هو

شامل لكل أنواع المشركين المصرّين على باطلهم مهما تعددت أديانهم واختلفت

أسماؤهم من شيوعيين وعلمانيين.

لكن عدم المداهنة وعدم التنازل لا يعني إهمال أقوالهم أو عدم الرد على

شبهاتهم. وإذا كانوا يأخذون على الأفراد منا أو على جماعاتنا أموراً نحن نعلم أنها

مخالفة لديننا؛ فيجب أن نعترف بأنها خطأ؛ لأن المهم هو الدفاع عن دين الله تعالى

لا عن تصرفاتنا.

إننا نعيش في حالة ضعف والضغط علينا شديد، لكن لا بد من الصبر

والاستعانة بالله تعالى على أخذ الدين بقوة، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا

توفيق إلا بفضل الله، ألم يقل الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [وَإِن كَادُوا

لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن

ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً] (الإسراء: ٧٣-٧٤) ؟! هذه آية مخيفة جداً،

لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد كاد ولم يفعل، وإذا كان ما كاد أن يفعله

ولم يفعله شيء قليل، فما بالنا نحن؟ ثم علينا نحن المؤمنين بالطريق الصحيح أن

نمشي فيه ولا نحزن كثيراً لمن يتخلف، فقد نهانا ربنا سبحانه عن الحزن،

والحزن عاطفة سلبية، قال العلماء إن الحزن لم يرد في كتاب الله تعالى إلا منهياً

عنه أو تقريراً لأمر واقع، فلم يرد مأموراً به ولا مثنى على فاعله.

البيان: هناك دعوات قوية جداً في العالم الإسلامي لتجديد الخطاب الديني،

وتتبناه بعض المؤسسات الرسمية، لكن أيضاً بعض أبناء الصحوة الإسلامية لهم

دور كبير جداً في هذا، فهل يمكن أن يكون لذلك تأثير في قواعد الصحوة؟

- لا، إذا كان الخطاب بمعنى أن تكلم الغربيين أو المثقفين عندنا أو كذا أو

كذا بطريقة يفهمونها، فهذا طبعاً ما تميزت به الصحوة الإسلامية. نحن عشنا في

السودان مثلاً في زمان كان الذي يدرس عندنا في المدرسة والجامعة لا يستطيع أن

يقرأ الجلالين؛ لأنه لا يفهم لغته، فعندما جاء رجل كـ (سيد قطب) وكتب بلغة

يفهمها الناس؛ انتشر كتابه بين هذه الفئات، فإذا كان المقصود بهذا هو هذا فلا

شيء فيه. فنحن مأمورون بأن نخاطب الناس بما يعقلون.

البيان: لكنهم يقصدون تمييع أحكام الإسلام؟

- التمييع هو ما قال الله تعالى عنه [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] (القلم: ٩) ،

إن مهمتنا أن نبلغ دين الله تعالى كما هو، وأن نبذل وسعنا في بيانه وتحبيبه إلى

الناس، لكن التحبيب لا يعني المساومة أو التبديل، قال الله تعالى لرسوله صلى الله

عليه وسلم: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ

رِسَالَتَه] (المائدة: ٦٧) ، نعم إن الذين يكرهون ما أنزل الله تعالى سيفرحون

بتغييره، ويوالون من يفعل ذلك ويمدحونه، كما قال تعالى في آيات الإسراء التي

ذكرناها آنفاً: [وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً] (الإسراء: ٧٣) .

نسأل الله تعالى أن يجعلنا أئمة في الاستمساك بدينه، وأن يوفقنا بالوفاء

بشرطي هذه الإمامة، [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا

يُوقِنُونَ] (السجدة: ٢٤) ، لا بد من الصبر، ولا بد من اليقين، أما إذا كان

الإنسان متردداً وجزعاً خائفاً فإنه لا ينصر ديناً ولا يقمع عدواً.

البيان: لو سمحتم نتوجه إلى العراق، الوضع في العراق لا شك أنه في

غاية التعقيد، والأيدي الأمريكية تعبث في العراق بشكل واسع، والسنة ربما

يكونون هم من أقل الناس تحركاً في مثل هذه الأحداث، فما هي رؤيتكم لأوضاع

أهل السنة تحديداً في العراق؟

- إذا قلنا إن المستهدف في هذه الحملة الجديدة الجائرة على الإسلام؛ فهم في

المكان الأول الذين يمثلونه تمثيلاً صحيحاً، فمن المعلوم أن أقرب الناس إلى هذا

التمثيل الصحيح هم أهل السنة على درجات متفاوتة، وقد تكلم هؤلاء الأعداء كثيراً

عن أهل السنة حتى قبل الغزو، وذكروا أن من أهدافهم إنهاء حكم ما أسموه بالأقلية

السنية في العراق، فهم في النهاية أصدقاؤهم الشيعة.

وإذا كان أهل السنة هم أقرب الطوائف الإسلامية إلى حقيقته؛ فإن كل من

بعد عنهم كان أبعد عن الدين الصحيح، وهذا يشمل طوائف مثل الشيعة وغيرهم

من أهل الأهواء، كما يشمل المارقين عن دين الله، لقد أدرك كثير من الغربيين

قوة هذا الدين لما رأوا مقاومته للشيوعية، رغم أنهم كانوا آنذاك قد استفادوا من هذه

المواجهة لكنهم ربما يكونون قد قالوا لأنفسهم إذا كان هذا الدين قد وقف ضد

الشيوعية كما لم يقف أي دين ولا أي عقيدة أخرى في العالم، فهو الذي يقف الآن

ضد الفكر الغربي، وأن الذي يمثل هذا الموقف الصلب هم أهل السنة، فلا بد إذن

من العمل على إبعادهم وإضعافهم.

البيان: ما وصيتك لعلماء السنة في العراق على وجه التحديد، وعموم

المسلمين في العراق؟

- يبدو أنهم حتى من غير وصية من أمثالي قد أدركوا أنهم لا بد أن يتجمعوا،

وأن يكون لهم ما يشبه التنظيم والقيادة؛ لأن الناس إذا لم يفعلوا هذا لا يستطيعون

أن يؤثروا تأثيراً كبيراً. لكن المشكلة في التنظيم أن العمل يكون فيه مكشوفاً تسهل

محاربته. فلا بد إذن من نوعين من العمل، لا بد من العمل السياسي الدعوي

الواضح المكشوف، ولا بد أيضاً من أشياء لا تعلن، وهذا موجود في العالم كله،

الحكومات البريطانية والأمريكية ما كل سياساتها معلنة، ولذلك يقول لك الأجندة

الخفية وكذا، فلا بد أن يكون لأهل السنة في العراق مثل هذه الأجندة الخفية ثم إن

أهل السنة في العراق هم الآن رأس الرمح في هذه الحرب الحضارية الجديدة، لا

بد إذن من إعانتهم والوقوف معهم كلٌّ بحسب استطاعته، ونحن حين نفعل هذا لا

ندافع عن العراق فحسب ولكن ندافع عن أوطاننا أيضاً، فالعدو يقاتلنا كافة.

نسأل الله تعالى العون والنصر، وأن لا يجعلنا فتنة للذين كفروا وظلموا.