للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[فلنتدارك أخطاء الماضي..!]

محمد هاشم الهدية [*]

لقد طالت الحرب في جنوب السودان، وأسرف التمرد الذي يقوده (جون

قرنق) في إطالة أمد الحرب وتوسيع رقعتها، وسمّى ثورته: «تحرير السودان» !

وأعجب عجباً شديداً ممَّ يُحرر السودان؟! أيحررها من العرب والمسلمين؟! أم

يحررها من الإسلام؟!

الذي لا شك فيه أن الاستعمار البريطاني الذي جثم على صدر السودان أكثر

من خمسين سنة، واستنزف خيراته، نجح في قفل الجنوب وبعض المناطق

الأخرى، وعزلها عن الشمال، فلا يدخلها عربي ولا مسلم إلا بتفويض من

السكرتير الإداري للاستعمار، وقد يرسل بعض الموظفين الإداريين من الشمال

لأعمال محددة لا يوجد من يقوم بها من الشماليين.

حرص الاستعمار البريطاني على تمزيق العلاقة بين الشمال والجنوب،

وأذكر عندما كنت موظفاً إدارياً وجدت كتاب مطالعة باللغة الإنجليزية بيد طالب في

إحدى مدارس التنصير الكنسي بين «بور» و «جوبا» من أبرز مواضيع

الكتاب: صورة لعدد من الجنوبيين مجنزرين، وأمامهم تاجر عربي مسلم يحمل

بيده سوطاً يضربهم به، هذه الصورة توحي بمعان كثيرة للطالب الجنوبي، فأولئك

الشماليون هم الذين استرقّوا آباءكم وساموكم سوء العذاب، ونحن الإنجليز جئنا

لنحرركم..!!

وإذا كان الاستعمار لم يسمح للشماليين بالذهاب إلى الجنوب؛ فإنه كذلك منع

الجنوبيين من الذهاب إلى الشمال، فكان الطالب الذي ينجح في الشهادة الثانوية

يُرسل إلى معاهد وجامعات شرق إفريقيا ليتعلم التنصير الكنسي، ولكن لم يستجب

لهم إلا عدد قليل من أبناء بعض قبائل المناطق الاستوائية.

ولما حصل السودان على استقلاله من الاستعمار بالجهد الذي قام به الشماليون،

وفتحوا الجنوب على الشمال، وفُتحت جميع مدارس وجامعات الشمال أمام

الجنوبيين، ووجدوا الرعاية الكاملة، وحصلوا على الشهادات العالية، وتخرَّج

منهم الأطباء والمهندسون؛ استمرت عزلة الجنوبيين، وكانوا وهم في سني الدراسة

متقوقعين على أنفسهم بعيداً عن بقية الطلاب، حتى أركان النقاش في الجامعات

كانت منعزلة عن حلقات الشماليين.

ولمَّا كثر عددهم ولم يجدوا رعاية من الشماليين دخلوا في الغابات، وسبق أن

اقترحنا بمذكرة خاصة لثورة «عبود» ؛ مفادها أن الجنوب يحتاج إلى رعاية

خاصة، وأن الموظفين والعسكريين الذين يُرسَلون إلى العمل في الجنوب لا بد أن

يتميزوا بالنضج وحسن الخُلُق، ويكونوا في سن الخمسين من أعمارهم على الأقل،

ويُوصى كلٌّ منهم بأن يعامِلَ الناس معاملة كريمة تُشعرهم بإنسانيتهم، وألا يُظلم أحد

منهم، أو يُكلَّف من العمل ما لا يطيق، واقترحنا أن يوضع المتعلم منهم في

الوظيفة التي تليق به آنذاك. لكن مع الأسف لم تجد تذكرتنا آذاناً صاغية؛ ممَّا زاد

من الجفوة بين الشماليين والجنوبيين.

والآن اضطر كثير من الجنوبيين إلى النزوح إلى الشمال بسبب الحرب،

وهم يسكنون في كل مدن الشمال وقراه في غاية الراحة والطمأنينة؛ حالهم كحال

غيرهم من أبناء الشمال، ولعل أكثرهم لا يرجع إلى الجنوب مرة أخرى، خاصة

إذا تم الاتفاق على السلام بين الحكومة وجيش التمرد، وهذا يجعلنا نؤكد ضرورة

معالجة الأخطاء السابقة، وتدارك الحال بنظرة عميقة، والسعي الحثيث لدعوتهم

إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ونشر الآداب والأخلاق الفاضلة بينهم،

وهذا هو السبيل القوي للحفاظ على البلد، وحماية خصوصيته العقدية والثقافية.

أما عملية السلام فمن أخطر ما علمناه فيها أن أعضاء الإيقاد قدَّموا مذكرة

يطلبون فيها أن تكون الخرطوم عاصمة قومية يباح فيها كل ما تحرِّمه الشريعة

الإسلامية، ورجاؤنا في الله عز وجل ثم من المفاوضين من الحكومة ألا يقبلوا بمثل

هذه الاقتراحات التي ستزيد من بلاء السودان!


(*) الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية في السودان.