للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[المرجع الأعلى..!]

أ. د. عبد الستار فتح الله سعيد [*]

[وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ

أُنِيبُ] (الشورى: ١٠) .

طلعت علينا (الفضائيات) المعاصرة بضروب عجيبة من المحاورات،

والمناظرات، والجدليات الصاخبة، جمعت لها أطرافاً تمثل الأضداد والنقائض في

كثير من الأحيان، ثم أذاعت ذلك بالصوت والصورة على جمهور عريض يمتد في

جنبات الأرض وآفاقها، براً وبحراً وجواً، ويتفاوت في الدين والعلم، والثقافة

والفهم، فسمع الناس ورأوا ما لم يسمعوا أو يروا هم وآباؤهم الأولون من عجائب

الأفكار، وغرائب الأقوال والأفعال!!

ومن حيث المبدأ نرحب نحن المسلمين بكل حوار موضوعي؛ لأن «التفكير

فريضة إسلامية» ، ولأن ديننا يقوم على الفقه والفهم، ومعجزته الخاتمة تحث

على الحوار والمناقشة، وتخاطب العقل والفكر، وتعتمد الحجة البرهان، وتدعو

إلى النظر والموازنة، ويسوق الله تعالى لعباده الدلائل في كتابه الكريم على صحة

الدين، ويطالب كل المعارضين أن يثبتوا دعاواهم: [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ

صَادِقِينَ] (النمل: ٦٤) .

ويضع أيديهم على موضع الخلل الرهيب فيما يزعمونه دلائل وبراهين،

فيقول تعالى: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى]

(النجم: ٢٣) .

[وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً]

(النجم: ٢٨) .

* الجدل العقيم:

ولقد كان هذا هو موقف الناس من رسالات الله تعالى من قديم، حين يكثرون

من الجدل.. [وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] (الكهف: ٥٤) ، ويقيمونه على

آفتَيْه: (الظن، واتباع الهوى) في أخطر قضايا الوجود وحقائق الدين والمصير؛

لذلك يكون لجاجاً باطلاً لأنه تجرد من كل دليل صحيح: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ

فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّه]

(الحج: ٨-٩) .

وحينئذ يُهلك الإنسان نفسه، ويدمر حاضره ومستقبله؛ لأنه يقلب على نفسه

أعظم خصائصه التي زوده الله تعالى بها؛ أعني العقل والفكر والبيان، [وَهَمَّتْ

كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ

عِقَابِ] (غافر: ٥) .

وهنا يتبدى لنا فضل الله على الإنسان حين أرسل له الرسل وأنزل الكتب،

وثبّت له معالم الحق، وأصول الدين، وأحكام الشريعة، وسمَّاها: [هُدًى لِّلنَّاسِ

وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ] (البقرة: ١٨٥) .

* التائهون:

ولقد تابعت كثيراً من حلقات هذه الجدليات الفضائية، ولاحظت ما فيها من

شدة الجدال، والصياح، والصخب، والسِّباب، ورفع الأصوات، فتضيع معها

الحقائق والجوانب الموضوعية التي يحتاج إليها الناس، فضلاً عما تقدمه من نموذج

تربوي بالغ السوء في كيفية الحوار، وتبادل الآراء، وهو يناقض النموذج القرآني

الراقي: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]

(النحل: ١٢٥) .

ولكن أسوأ من هذا كله هو عدم الاتفاق بين المتجادلين على تحديد «مرجعية»

يتحاكمون إليها عند الاختلاف، ويردون إليها عند التنازع؛ لأنه كما قيل بحق:

«للناس بعدد رؤوسهم آراء!» ، فإذا لم يقم (ضابط) للحوار صار إلى جدل

فارغ، واندفع به أصحابه إلى غاية الرعونة في الآراء والأفكار، مدفوعين بشهوة

الانتصار؛ ولو على حساب الحق والدين والقيم العليا!!

ولقد هالنا ما رأيناه وسمعناه من بعض هؤلاء المنسوبين إلى الإسلام بالوراثة،

في بعض هذه الحلقات الفضائية، حين يجاهرون في صفاقة بالغة برفض عقيدة

الإسلام وتفرد الله تعالى بالتشريع لعباده، وبالتمادي في رد أحكام الإسلام تبعاً لذلك،

ولو كان الحكم ثابتاً في صريح القرآن والسنة، في الوقت الذي يرتضون بفرح

«مرجعية» وثائق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، ومؤتمرات السكان وأمثالها؛

مع ما فيها من تقرير حرية الإلحاد أو حرية الزنى، والشذوذ الجنسي، والإجهاض

وزواج المثلين!!

وأعجب من ذلك أن تتبجح بهذه الرذالات مجموعة من النساء (المسلمات

جغرافياً) أمام ملايين المشاهدين بلا خجل ولا حياء! وصدق رسول الله صلى الله

عليه وسلم: «إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت» [١] .

وهذا دليل واضح على أن ظلمات الجاهلية المعاصرة قد تغلغلت في أحشاء

بعض المسلمين، وهُمْ وهُنَّ.. لا يزالون ولا يزلن قِلّة منبوذة في ضمير الأمة

الإسلامية، ولكنها قِلّة صفيقة الوجه والقلب واللسان، كما وصفهم الله تعالى:

[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ]

(التوبة: ٦٧) .

ولقد سمعت إحداهن تطالب بإباحة كل الموبقات التي حرمها الله بحجة الحرية

الشخصية!!

وأخرى تطالب بإلغاء حكم الله في الميراث، وهو أحكم ما شرع الله لعباده في

بابه!!

أما الرجال فسمعت أحدهم يفتخر بأنه من الحزب الشيوعي العراقي العمالي،

وأنه سيناضل هو ورفاقه لا في تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي وذيوله؛

وإنما سيناضل في سبيل تقرير الحرية الجنسية للفتيات والفتيان؛ ابتداءً من الخامسة

عشرة أو السادسة عشرة!!

وآخر يندد بعمرو بن العاص - رضي الله عنه - لأنه نشر الإسلام واللغة

العربية في بلده مصر!

ما أحكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين يخاطب أمثالهم: «يا أشباه

الرجال ولا رجال، ودون ربات الحجال..» !

وقد حذَّرنا الله تعالى من هؤلاء وأمثالهم، فقال تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا

تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ

عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ] (النحل: ١١٦) .

وحذَّرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديداً فقال: «سيكون في آخر

الزمان ناس من أمتي يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم!» [٢] .

* تذكرة الدعاة:

وقد عجبت من بعض مَنْ يمثلون الإسلام في مثل هذه الحلقات حين يرتبكون

أحياناً أمام هذه المزاعم المظلمة، أو ينكرونها إنكاراً هشّاً عابراً، ثم يواصلون

المناقشة في الفروع أمام ملايين المشاهدين كأنهم لم يسمعوا هدماً لأصل الأصول في

مرجعيتنا العليا، وكأنه لم تحدث جريمة دينية هائلة كان الواجب الأول دحضها

بصراحة بالغة؛ لتعادل على الأقل وقاحة المنكرين من غير تأخير للبيان عن وقت

الحاجة إليه؛ تصحيحاً للمعايير والأصول، ودفعاً للفتنة التي يروّج لها الجاهلون!

وبعد: فهذا غيض من فيض. ونحن نسوق ذلك تذكرة لكل مسلم ومسلمة إذا

أرادوا سعادة الدارين، وصدق الله العظيم: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ

تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام:

١٥٣) .


(*) أستاذ دكتور في التفسير بجامعتي الأزهر، وأم القرى سابقاً.
(١) رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
(٢) رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.