للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!

[وترجل الفارس ...]

د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

[لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً

وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً] (النساء:

٩٥) .

[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي

سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى

بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة:

١١١) .

[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم

مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: ٢٣) .

[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ

عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] (آل عمران: ١٦٩-١٧٠) .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير

خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش،

فاطَّلع عليهم ربك اطَّلاعة، فقال: ما تبغون؟ فقالوا: يا ربنا! وأي شيء نبغي

وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا

يُتركون من أن يُسألوا قالوا: نريد أن تردَّنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى

نُقتل فيك مرة أخرى لِمَا يرون من ثواب الشهادة فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت

أنهم إليها لا يرجعون» [١] .

«السر يكمن في الإرادة، وإيمان الإنسان بالمبدأ الذي يسير عليه، فالدنيوي

يقول: لو أن الدنيا ذهبت فقد خسرت كل شيء، لكن الإنسان المؤمن الذي يؤمن

أنه ذاهب إلى جنة عرضها السموات والأرض يريد أن ينتقل من دنيا فانية إلى

الراحة والطمأنينة والاستقرار عند رب العالمين، فهو ينتظر هذا اليوم، ويستبسل

ويقاتل من أجل الفوز في هذا اليوم، ويثبت في الميدان حتى آخر رمق في حياته»

الشيخ أحمد ياسين.

فالمؤمن يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة.. حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله ...

فالله ربهم الذي قتلوا في سبيله، يظل يتعهدهم بالهداية بعد الاستشهاد ويتعهدهم

بإصلاح البال، وتصفية الروح من بقية أوشاب الأرض، أو يزيدها صفاء لتتناسق

مع صفاء الملأ الأعلى الذي صعدت إليه، وإشراقه وسناه.

فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون.

وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملأ الأعلى، ويزيدها هدى، ويزيدها صفاء،

ويزيدها إشراقاً، وهي حياة نامية في ظلال الله.

إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده،

والموت في سبيله وحده، والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.

لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي

العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي

أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.

وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد،

ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة.. إلا تلك الراية وإلا هذا

الهدف، لا ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات.

فهؤلاء ناس منا، يقتلون وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها، ويفارقون

الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها، ولكن لأنهم: «قتلوا في سبيل الله» وتجردوا له

من كل الأعراض، والأغراض الجزئية الصغيرة، واتصلت أرواحهم بالله فجادوا

بها في سبيله؛ فهم ليسوا أمواتاً، وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء

عنده، وأنهم يرزقون فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء.

إنها تعديل كامل لمفهوم الموت متى كان في سبيل الله وللمشاعر المصاحبة له

في نفوس المجاهدين أنفسهم، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم، وإفساح

لمجال الحياة ومشاعرها وصورها؛ بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة، كما تتجاوز

مظاهر الحياة الزائلة، وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز

التي تقوم في أذهاننا وتصوارتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة، ومن حياة

إلى حياة.

* سبحان الله!

قبل أن يجف مداد القلم وأنا أكتب الجزء الثاني من مقال «كامب ديفيد..

ربع قرن بلا سلام» محاولاً التدليل على مراوغة الصهاينة وعدم جديتهم في السلام؛

لأنهم أعداءه؛ وإذا برسائل الهاتف الجوال تتوالى عليَّ لتبلغني بخبر استشهاد

الشيخ أحمد ياسين نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً بقصف صاروخي، فقلت:

يا سبحان الله! اليهود هم اليهود، فرفعت يدي داعياً: اللهم ازرقني ما رزقت به

الشيخ أحمد ياسين من الشهادة والظفر والفوز.

ولقد تأملت تفاصيل الحدث فوجدت الشهادة جاءت للشيخ لتتوج هذا الكفاح

المرير الدامي في سبيل مقدسات المسلمين؛ فقد كنا للتو قد انتهينا من شهر الله

المحرم وهذه مفارقة، وكان الشيخ خارجاً بعد أن أدى صلاة الفجر، ومن صلى

الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، وبعد أن أكمل الشيخ ورده الصباحي، ولعله كان

صائماً حيث كان اليوم هو الإثنين، جاءته الشهادة سريعة مشتاقة على ثلاثة

صواريخ وجهتها مروحيات عسكرية إلى الشيخ المشلول كهدف سهل لا يحتاج إلى

عناء.

وما كان من طبيعة الشيخ الهروب والاختفاء، وكأن الصاروخ قد قصد تقطيع

الشيخ إلى ثمانية أشلاء ليدخل كل جزء من جسده إلى الجنة من أحد أبوابها الثمانية،

ولا أريد التألُّه على الله في ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: «أنتم

شهداء الله في أرضه» [٢] ، وما شهدنا إلا بما علمنا من جهاد الشيخ وصبره

وتضحياته، فكان جزاؤه شهادة مستحقة يغبطه عليها العاملون المخلصون،

ويتجنبها الجبناء المتخاذلون، فلا نامت أعين الجبناء!!

إن من يطلب الشهادة بصدق يبلِّغه الله إياها ولو مات على فراشه، وقد كان

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أيام خلافته يطلب الموت شهيداً وهو في

عاصمة الإسلام الأولى المدينة المنورة، فكانت ابنته حفصة - رضي الله عنها -

تقول له: يا أبتِ! من طلب الشهادة سعى لها في الثغور وأنت هنا في المدينة من

أين تأتيك؟ فكان يقول: يا ابنتي! إن كتبها الله لي فستأتيني في مدينة رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وقد كان؛ فمن يصدق اللهَ يصدقه اللهُ.

وقد كان تاريخ الشيخ أحمد ياسين كله دلائل صدق على طلب الرجل للشهادة،

وقد عانى من الاحتلال حتى نال الشهادة أخيراً، وكأن كل معاناته السابقة كانت

تخليصاً وتطهيراً للشيخ من أدران الدنيا حتى يلقى ربه طاهراً مطهراً.

لقد عانى الشيخ من شظف الحياة والاحتلال منذ ولادته وحتى لقي ربه؛ فقد

مات والده وهو في الخامسة من عمره، واضطر إلى اللجوء إلى قطاع غزة عقب

هزيمة عام ١٩٤٨م، واقتات هو وأهله على ما كان يتبقى من معسكرات الجيش

المصري هناك، ثم اضطر الشيخ ياسين لترك الدراسة لمدة سنة في عام ١٩٤٩م

ليعين أسرته، ثم تحول خطيباً مفوهاً في الخطابة، وكان كالشهيد المجاهد عز الدين

القسام الذي استخدم منبر الخطابة للدعوة إلى الجهاد والصمود.

وقد اعتقلته السلطات الإسرائيلية عام ١٩٨٢م، ووجهت إليه تهمة تشكيل

تنظيم عسكري وحيازة أسلحة، وحكمت عليه بالسجن ١٣ عاماً، لكنها اضطرت

إلى إطلاق سراحه في عملية لتبادل الأسرى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،

ثم عاد الشيخ أكثر قوة ونضجاً وخبرة عام ١٩٨٧م في الانتفاضة التي رسخت اسم

حماس في أذهان الجماهير العربية والإسلامية، وهي الانتفاضة التي اشتهرت

بانتفاضة المساجد.

وفي أغسطس ١٩٨٨م داهمت السلطات الإسرائيلية منزله وهددته بالنفي إلى

لبنان، وفي عام ١٩٨٩م، اعتقلته السلطات الإسرائيلية حيث حكمت عليه عام

١٩٩١م بالسجن مدى الحياة، لكنه خرج بعد محاولة الاغتيال المحبَطة التي قامت

بها إسرائيل ضد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في العاصمة الأردنية،

مما وضع (إسرائيل) في حرج وخاصة أنها كانت قد وقَّعت معاهدة سلام مع

الأردن مما اضطرها للإفراج عن الشيخ المجاهد.

وفي عام ١٩٩٨م وفي أعقاب عملية استشهادية جريئة قامت بها حماس قامت

السلطة على الرغم من اعتراض الكثير من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني،

على فرض الإقامة الجبرية على الشيخ، وقد قام الشيخ أيضاً في تلك الفترة بحملة

علاقات عامة واسعة لحماس في جولة شملت العديد من الدول العربية والإسلامية.

وقد بقي الشيخ شوكة في خاصرة الكيان اليهودي، وخصوصاً وهو يعلن

الثوابت التي لا تنازل عنها في سبيل زوال كل الاحتلال عن فلسطين، فحاولت

اغتياله في سبتمبر ٢٠٠٣م، لكن المحاولة أخفقت، وأخيراً نجحت إسرائيل في

مسعاها يوم الإثنين ٢٢/٣/٢٠٠٤م، ومن المضحك المبكي أن هذا التاريخ يشهد

ذكرى إنشاء جامعة الدول العربية، وعلى بضعة أيام من ذكرى اتفاقية كامب ديفيد.

كان الشيخ يعاني من أمراض عديدة؛ فبالإضافة إلى شلله التام الذي ألزمه

الكرسي لفترة تجاوزت نصف قرن، فهو يعاني من فقدان البصر في العين اليمنى

بعدما أصيبت بضربة خلال التحقيق معه على يد المخابرات الإسرائيلية المجرمة

أثناء فترة سجنه، إضافة إلى ضعف شديد في قدرة إبصار العين اليسرى، والتهاب

مزمن بالأذن، وحساسية في الرئتين، وبعض الأمراض والالتهابات المعوية

الأخرى.

وكان الرجل قد بلغ السادسة والستين من العمر، ولو تركته إسرائيل مع هذه

الأمراض لمات في أجله المحتوم، ولكنها الشهادة التي صدق الله في طلبها فلم

يحرمه منها. قال تعالى: [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ] (آل

عمران: ١٤٠) .

لقد عاش الشيخ بين اليتم والشلل، وعندما أعطى حياته لأمته عاش بين

الاعتقال والاغتيال، وكان دائماً يقول: «إن من مظاهر وعلامات السلامة أن

تشعر الأمة بقلق إزاء قضية فلسطين، قضية الأمة، ولكن المقاومة مستمرة، وفي

كل يوم هناك عمليات وشهداء وتضحيات» .

نقولها بكل ثقة: إن شهادة الشيخ أحمد ياسين ستجعل من كل حماس أحمد

ياسين، بل من من كل مسلم صادق وغيور أحمد ياسين وكل شباب الحركة

الإسلامية في النهج والصدق والثقة بالله ونصره أحمد ياسين، وبالثبات والصمود

حتى يصدق الوعد ويحق الوعيد على بني صهيون؛ فالاستشهاد بداية الحياة

وليس نهايتها. قال تعالى: [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]

(العنكبوت: ٦٤) ، لكن مشكلتنا في الذين لا يعلمون إلا [ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: ٧) .

إن الشهادة بداية العطاء وليست نهايته؛ فكلامنا كالدمى تدب فيها الحياة إذا

سقيناها بدمائنا، وكل كلمة خرجت من هذا الرجل ستكون منهجاً لأبناء الدعوة

والصحوة في العالم كله، وقد قال الشيخ ياسين ذات مرة: «أؤكد لكم أن الله غالب

على أمره، وأن ثقتنا في الله أولاً، ثم في شعوب أمتنا الإسلامية، الشعوب المؤمنة

كبيرة وعالية، وإننا بفضل الله ثم بدعائكم ودعمكم سننتصر، وسيجعل الله لنا ولكم

بعد عسر يسراً» .

* مسيرة الدماء والتضحيات:

لقد كان دائماً المخذولون والمتواطئون يحاولون أن يغطوا سوءاتهم وتخاذلهم

عن نصرة الأقصى بالهجوم على الحركة الإسلامية واتهامها باستغلال الدين لتحقيق

مصالحها الدنيوية؛ فأين هي المصالح الدنيوية التي تحققت للحركة الإسلامية وهي

تدفع شلالات الدماء من أرواح أبنائها وشبابها، سواء في ساحات الوغى في

فلسطين أو خارجها على أعواد المشانق؛ حيث وجد اليهود فيهم خطراً على بقائهم

في الأرض المقدسة.

فمنذ قيام ما يسمى بدولة إسرائيل والحركة الإسلامية تحولت إلى قافلة شهداء

لا تتوقف، بل من قبل ذلك، ولقد ذكَّرنا استشهاد الشيخ أحمد ياسين باستشهاد

الشيخ فرحان السعدي خليفة عز الدين القسام في قيادة التنظيم القسامي.

إذ إنه بعد أن فجَّر القساميون المرحلة الثانية من الثورة (سبتمبر ١٩٣٧م)

وأخذت العمليات الجهادية تتسع وتزداد، سعت القوات البريطانية إلى القبض على

الشيخ فرحان، واستطاعت بالفعل القبض عليه في ٢٢/١١/١٩٣٧م ولم تجد دليل

إدانة (قانونياً) ضده سوى بندقية قديمة في بيته، لكنها ساقته إلى محاكمة عسكرية

في ٢٤ نوفمبر وحاكمته محاكمة صورية استمرت ثلاث ساعات، وأصدرت حكمها

بإعدامه، ولم تأخذ المحكمة بدفاع المحامين من أنه لم يُقبض عليه وهو يحمل

السلاح، ولا بكبر سنه الذي قارب الثمانين، كما أنها سارعت بتنفيذ الإعدام في

٢٧/١١/١٩٣٧م (١٤ رمضان ١٣٥٦هـ) ولقد لقي الشيخ المجاهد فرحان

السعدي ربه وهو صائم، ورفض المندوب السامي تأجيل الحكم إلى ما بعد رمضان

على رغم أنه لم يحدث في تاريخ البلاد أن أعدم شيخ في مثل عمره وهو صائم.

* ما الفرق بن الجلاد وسوطه؟

نحن نعتبر أمريكا وإسرائيل في الجريمة سواء؛ فأمريكا لم تدعُ إسرائيل إلى

ضبط النفس وهي تجتاح المدن الفلسطينية وتقتل المدنيين وتبيد الأطفال والنساء،

وتهدم المنازل على رأس ساكنيها، ولم تدن كل العمليات الوحشية التي قامت بها

إسرائيل وتقوم بها؛ فليس من حق أمريكا أن تخرج بأسلحتها وجيشها المدجج

بالسلاح المتطور لتجتاح الدول الأخرى وتسقط أنظمتها وتتحكم بمصائر شعوبها

وثرواتهم، لكنها لا تعطي نفس هذا الحق لمن يريد أن يدافع عن عرضه وأرضه،

ويحرر أرضه المحتلة.

فما الفرق بين الجلاد وسوطه؟ فالجلاد هو راعي البقر، والسوط هو

إسرائيل؛ فلماذا تنهال الشتائم والتهم والإدانات والاستنكارات على السوط الذي هو

بلا إحساس وحراك، ويُترك الجلاد بلا أدنى عقاب، إلا إذا كان هذا الجلاد هو

الشرطي الذي يخيف المنطقة ولا يملك أحد أن يقول للظالم: يا ظالم! أنت ظالم؟

حتى تبرأ الذمة بين يدي الله ينبغي أن نقول للحكام والرؤساء والعلماء الشعبيين

والنظاميين إن من لم يتبرأ من اليهود وأمريكا فقد تبرأ الله منه، وهذا ليس افتراءً

عليهم، بل مصداقاً لقوله تعالى: [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ

مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] (المجادلة: ٢٢) ، وهؤلاء لم يحادوا الله ورسوله فقط،

بل أعلنوها حرباً صريحة مباشرة على الأمة الإسلامية ودينها وهويتها، وآن للغافل

والمخدوع أن ينتبه إلى عسل الشعارات البراقة الخداعة المغشوشة بدماء شعوب

المنطقة.

لقد تدخلت أمريكا وللأسف الشديد حتى في أرقام ومقاسات ملابسنا الداخلية،

وما يجوز وما لا يجوز منها، وكلما فصّلوا ثوباً، وكلما خاطوا سروالاً لبسناه رغبة

أو رهبة مهما كان شكلنا شاذاً أو مضحكاً في لبسه، بل أصبح ساسة أمريكا (ملالي)

يفتون في: «الدين الإسلامي، ويصنفون المسلمين كما يشتهون: فهذا معتدل،

وهذا متطرف، وهذا منفتح، وهذا منغلق» .

لقد وصف الشيخ الشهيد أحمد ياسين المهرولين بقوله: «هؤلاء المهرولون

الذين انتصروا لمعصية الله» وأكد أنهم «لا يصلحون أن يدافعوا عن قضايا الأمة،

وأن يقفوا في وجه الأعداء، وسيلفظهم التاريخ كما لفظ مَنْ قبلَهم، والأيام دول،

وصدق الله العظيم القائل: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] (آل عمران:

١٤٠) ، وصدق الله العظيم القائل: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ

الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: ١٠٥) ؛ فهؤلاء مفسدون لا بقاء لهم

في سجل الخالدين لا أحياء ولا أموات» .

* حياة العز:

لقد آن للمسلمين أن يحددوا ما يريدون منهجاً للحياة: هل يريدون إسلاماً

قاديانياً صنع في مصانع الغرب، أم إسلاماً جهادياً صنع على هدى من منهج

الرحمن؟ والحركة الإسلامية كذلك بالخيار: هل تريد أن يكون الجهاد الصحيح في

مكانه وزمانه أصلاً في منهجها وتربية أبنائها، أو أن يكون الذل والجور والضعف

والانبطاح للسلاطين والحكام هو الأصل المسيطر؟ فهم بالخيار: أن يكونوا عبيداً

لمنهج الله الشامل الكامل، أو عبيداً لمصالحهم وأهوائهم وضعفهم ونزغهم، وهم إما

أن يأخذوا بالدين الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وترك أمته عليه

كالمحجة البيضاء بكل تشريعاته وفرائضه وتكاليفه، أو يأخذوا بدين صنعته إياد

متخاذلة، وصاغته أجهزة الاستخبارات ليخرج جنيناً مشوهاً على يد علماء السوء

الذين يغدق عليهم أهل الباطل ليزينوا للناس القعود، ويثبطوهم عن تكاليف الدين

الصحيح؟

لا بد أن نربي الأمة على أن الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة، وأن الدنيا

عرض زائل، نسأل الله السلامة من الفتن فيها، لكننا لا نتهرب من مسؤولياتنا

وتكاليف هذا الدين العظيم الذي جاء ليضمن العزة لأمة الإسلام، ويسود الدنيا.

لا بد أن نربي الأمة على معاني العزة والإباء والخوف من الله وحده؛ فهو

الرزاق وهو المعطي وهو المانع، ولا نخاف من غيره أبداً، ولتستقر هذه الحقيقة

في القلوب والوجدان.

ويجب أن نربي أبناءنا على أن نعيم الدنيا وشرابها وطعامها أمر عارض

مؤقت، وأن الآخرة هو الحيوان، وليكن لهم في الصحابة - رضوان الله عليهم -

خير قدوة؛ فعندما يرمي أحدهم بسهم يقول - رضي الله عنه - وهو يرى حنوطه

الحور العين له: فزت وربِّ الكعبة! وليتعلموا أن المجاهد الكبير شيخ الإسلام ابن

تيمية الذي يكل أمره إلى الله بكل شؤونه، ويعلنها لا مواربة: «ماذا يصنع

أعدائي بي، إن جنتي في قلبي؛ فقتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة»

فإذا لم تكن القلوب هي القلوب، والعقول هي العقول، والأرواح هي الأرواح، فلا

خير فينا إذا لم تتمكن هذه القيم العزيزة من نفوسنا، حتى لا تتحول إلى سبة وعار

على الإسلام والمسلمين؛ فكيف نربي أبناءنا على فروض الولاء والبراء لله،

ونحن نطعمهم ليل نهار من وجبات اللحوم التي تربى في إسرائيل، وتعجن من

راعي البقر عليه من الله ما يستحق.

إن تربية الأبناء على الانتماء لهذه الأمة تربية شعورية في الضمير أمر لا

يحتمل التردد وأنصاف الحلول، فيجب أن يشعر أبناؤنا بما تعيشه الأمة من محن

وفتن، وأن يعرفوا أعداءها وكيف يكيدون لها، ونعرفهم أن طريق العزة لا يمر

باسترضاء راعي البقر ولا سوطه المسلط على رقابنا، ولنتذكر كيف كانت الدنيا

هينة لا تساوي عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، وهي أساساً لا

تعدل عند الله جناح بعوضة.

لنعلمهم كيف ترك صهيب الرومي أمواله وتجارته في مكة وهاجر إلى مدينة

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً:

«ربح البيع أبا يحيى!» ولنقص عليهم قصة مصعب بن عمير وكيف تنقل

من الترف إلى خشونة العيش طاعة لربه ومرضاة لدينه، ولنقص عليهم شجاعة

أنس بن النضر وإقدامه على الجنة في غزوة أحد.

إن على الحكام إن أرادوا استقراراً حقيقياً لأممهم وشعوبهم أن يخلعوا ثوب

أمريكا ثوب الذل والهوان، وليلبسوا ثوب التلاحم مع دين الله وشرعه، والتلاحم

مع شعوبهم وأمتهم، وأن تعلن الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي نقضهم لكل

مواثيق الذل والاستسلام والعودة إلى أمتهم، وليتها تكون صحوة ... ولو متأخرة!!

* ياسين إلى خلود وإسرائيل إلى زوال:

إن كانت غارة فجر عام ١٩٦٧م قد حطمت طائرات الناصرية والقومية

وأحيت المارد الإسلامي، فإن استشهاد أحمد ياسين في فجر عام ٢٠٠٤م ستؤكد

الخيار الإسلامي لدى شعوب المنطقة، وستحرق كل معاقل اليهود ومراكز قواهم

ومن ولاَّهم ولو بعد حين.

نعم! إن اغتيال أحمد ياسين عمل إجرامي من الدرجة الأولى، وما كانت

إسرائيل لتقدم على هذا العمل الوحشي الشنيع لولا أن لها قدوة في الدول العربية

التي تعتقل وتعذب وتسجن وتغتال الآلاف من أمثال الشيخ أحمد ياسين في سجونها

ومعتقلاتها وعلى أعواد المشانق.

لقد حرك الشيخ ياسين النفوس الآن وهو ميت مثلما حركها وهو حي، وربما

سيقتل من اليهود بموته أكثر مما لقوا حتفهم أثناء حياته، فسيبكي اليهود طويلاً

مقتله، وإن كان قد ذهب الشيخ إلى الحياة والرضوان؛ فإن اليهود لن يذوقوا طعم

الراحة بعد الآن إلا مع زوال دولتهم ونزوحهم عن فلسطين المباركة المقدسة.

لقد تابعتُ شبكة الإنترنت بعد مضي ١٢ ساعة على اغتيال الشيخ فوجدتها

مشحونة بآلاف التعليقات والرسائل؛ فمنهم القائل: «اللهم أمتني شهيداً» ومنهم

القائل: «موتوا على ما مات عليه» ومنهم من كتب: «نقبل التهاني لا التعازي

في الشهيد ياسين» .

لقد باتت إسرائيل الآن في خوف وهلع لا من إدانات أصحاب الياقات البيضاء

وطاولات المفاوضات والاستنكارات والإدانات، بل من رد المقاومة العنيف

والمزلزل الذي ينتظرها، فباتت شوارعها خالية، والقلوب هلعة، والنفوس ضيقة؛

وسيطرت حالة من الرعب الشديد لدى الإسرائيلي الغاصب المحتل.

لقد حاولت إسرائيل أن تخلخل بنية حركة حماس قبل انسحابها من غزة من

خلال اغتيال الشهيد أحمد ياسين، وربط هذه العملية القذرة بموجة محاربة الإرهاب

وأنى لهم ذلك! فسيرتد كيدهم إلى نحرهم.

وإن كان الشيخ أحمد ياسين يرقد في سلام فهم لن ينعموا بالراحة أبداً، ولعل

استشهاد الشيخ جاء استجابة لدعائه في وقت السحر، توجه به بقلبه لربه، فلم

يحرمه الله الشهادة.


(١) رواه مسلم.
(٢) رواه البخاري.