للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[أسلحة الدمار الشامل.. واستهداف سوريا]

الأبعاد الاستراتيجية والواقعية.. بين المصيدة والمخرج

نبيل شبيب

هل أصبحت سورية هي الهدف الأوّل في قضية «نزع أسلحة الدمار الشامل»

بعدما بدت الأحداث الأخيرة للمراقب عن بعد في صورة تطويع إيران، وانبطاح

ليبيا، والمماطلة مع كوريا الشمالية؟ .. وإذا كانت سورية لا تملك هذه الأسلحة كما

يقال باستمرار، أو لا تملك منها ما يشكّل خطراً حقيقياً على أحد؛ فهل المقصود

الأهمّ من الحملة الراهنة تطويعها لأهداف سياسية؛ فإن لم يتحقّق ذلك كان البديل

هو الإعداد لحملة عسكرية على غرار ما جرى في العراق، بتنفيذ أمريكي أو تنفيذ

إسرائيلي أو بصورة مشتركة؟ .. ثمّ ما هي الأوراق التي تستطيع سورية أن

تستخدمها في مواجهة الحملة الراهنة؟

* تثبيت معطيات أولية:

أمر لا بدّ من إيضاحه وتأكيده باستمرار، كلّما دار الأمر حول أسلحة الدمار

الشامل، وهو أنّ القضية المطروحة تحت هذا العنوان، ليس بالنسبة إلى سورية

فقط، وإنّما عالميّاً، لا يمكن وصفها كما يقال رسمياً على الدوام بتعبير: «نزع

أسلحة الدمار الشامل» بل يجب وصفها بتعبير: «احتكار أسلحة الدمار الشامل» .

فالحديث لا يدور حول تخليص البشرية من أسلحة الدمار الشامل، بمختلف

أنواعها: النووية والكيمياوية والحيوية المكدّسة في المخازن الأمريكية والروسية

والبريطانية والصينية والفرنسية وغيرها، والمنتشرة مع قابلية استخدامها في كل

مكان، برّاً وبحراً وجوّاً، بل يدور الحديث حول «الاحتفاظ» بهذه الأسلحة

وتطويرها لدى عدد محدود من الدول؛ فهي لا تتلف منها إلاّ ما بات قديماً

ليستعاض بأحدث منه، كما يدور الحديث في الوقت نفسه حول «حرمان» بقية

دول العالم، ولا سيما في المنطقة الإسلامية، من امتلاك شيء «رادع» تجاه

استخدام تلك الأسلحة والتهديد باستخدامها، أو حتى امتلاك التقنيات المشتبه بإمكانية

توظيفها لصناعتها، مهما كانت ضرورية لتحقيق التقدّم في الميادين غير العسكرية.

الجديد.. أو الجانب القديم الذي تضاعف التركيز عليه منذ سقوط المعسكر

الشرقي، هو أنّ عملية «الاحتكار.. والحرمان» هذه لم تعد تقتصر على مستوى

توازن القوى الدولي الشامل في الشمال وعالمياً، بين معسكرين كبيرين وأتباعهما،

كما كان الأمر في حقبة الحرب الباردة، بل بدأت الجهود لتطبيق الصورة نفسها

على مستوى إحداث الخلل في توازن القوى إقليمياً، في كلّ منطقة على حدة، وهنا

استطاعت باكستان تجاوز «المصيدة» في مواجهة الهند، ولا يراد «عالمياً

بزعامة أمريكية» أن تتجاوزها بلدان إسلامية أخرى، بما فيها البلدان العربية في

مواجهة الكيان الإسرائيلي، المندمج عسكرياً وسياسياً ومالياً بالدولة الأمريكية.

أمر آخر يحتاج إلى تثبيت وإيضاح، هو أنّ الحملة على أي بلد من البلدان

العربية والإسلامية بشأن حرمانها من قوّة عسكرية رادعة، وليس المقصود حرمانها

من قوّة عسكرية فاعلة فحسب، بل ومن قوّة عسكرية دفاعية كافية.. هذه الحملة

تجري بغضّ النظر عن نوعية الحكم القائم في أيّ بلد من هذه البلدان، بما في ذلك

سورية؛ فلا يفيد الحديث في هذا الموضوع كما لو كانت له علاقة ما بما يُطرح

تضليلاً بشأن الديمقراطية ونشرها في المنطقة العربية بالذات، كما لا ينبغي

بالمقابل طرحه في مواجهة المطالبة الداخلية بالحريات والحقوق، وبأوضاع سياسية

قويمة، إنّما تُطرح قضية أسلحة الدمار الشامل في صيغة العمل المتواصل القائم

بحدّ ذاته، مهما كانت نوعية العلاقات بالقوى الدولية أو ما هي نوعية الحكم الداخلي،

من أجل أن تكون هذه المنطقة بسائر بلدانها «مكشوفة» أمام أيّ قوّة عسكرية

خارجية، ومن ثم أن تكون تحت تأثير الابتزاز العسكري (وغير العسكري) على

الدوام، وهو ما يمكن وصفه بصيغة الهيمنة الأجنبية أو «الاستعمار الخارجي»

الذي يختلف عمّا عُرف بعنوان «الاستعمار الحديث» من حيث إنه لا يعتمد على

ترسيخ التبعيات السياسية والاقتصادية «المحلية» كبديل عن وجود قوّات عسكرية

أجنبية في حقبة «الاستعمار التقليدي» القديم.

الأمر الثالث والأخير الذي يجب تثبيته وتوضيحه: أنّ مفهوم «الردع» أو

«الردع المتبادل» لا يمكن إسقاطه من الحسابات الدولية والإقليمية، مهما قيل من

ادّعاءات بشأن وجود نظام حكم «ديمقراطي» يشعر بالمسؤولية فلا يستخدم تلك

الأسلحة أو عدم وجوده، ولا يكاد يوجد خلاف يستحق الذكر بين الباحثين والمحلّلين

الغربيين من ذوي الاختصاص في قضايا التسلّح ونزع التسلّح على ثلاث نقاط

رئيسية، وهي:

١ - منذ النشأة الأولى للأسلحة الكيمياوية والحيوية فالنووية، كانت تُستخدم

في الحروب العدوانية والدفاعية على السواء، ما دام الطرف الآخر لا يملك قوّة

رادعة، وبغضّ النظر عن «نوعية» الحكم القائم في الدولة التي استخدمتها،

بدءاً باستخدام الغازات السامّة من جانب ألمانيا النازية في عهد هتلر، ومروراً

باستخدام السلاح النووي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وانتهاء بعشرات

الحالات لاستخدام الأسلحة الفتاكة المحرّمة دولياً في فيتنام وأفغانستان وكامبوديا

وفلسطين وجنوب لبنان.

٢ - لم يكن العامل الرئيسي الذي حال دون تحوّل الحرب الباردة إلى حرب

ساخنة على امتداد أربعين عاماً، عاملاً «أخلاقياً.. أو ديمقراطياً» ، إنّما كان هو

عامل الردع العسكري المتبادل فقط، بل كانت السياسة الدولية قائمة من الأصل

على ترسيخ هذا الردع المتبادل للحيلولة دون نشوب حرب مدمّرة، وكان أبرز دليل

على ذلك اتفاقية عام ١٩٧٢م بين الدولتين الكبريين على امتناعهما عن نشر

صواريخ «دفاعية» ضدّ الصواريخ الهجومية البعيدة المدى من الطرف الآخر،

ليبقى لدى كلّ منهما الإحساس بالخوف من ضربة مضادّة قائماً، فتمتنع من جانبها

عن توجيه ضربة عسكرية أولى.

٣ - ينبني على ذلك أنّ السياسة الأمريكية الجديدة بعد سقوط المعسكر الشرقي

التي تضمّنت الانسحاب من هذه الاتفاقية الدولية، والشروع في تنفيذ ما عرف

بالدرع الصاروخي، مع ممارسة سياسة «حرمان» الأطراف الأخرى، من القوى

الأصغر إقليمياً، من قوّة «رادعة» ، إلى جانب ممارسة سياسة توسيع الهوّة

الفاصلة بين حجم تسلّحها وتسلّح القوى الدولية «الكبرى» الأخرى، علاوة على

تبني ما عُرف بمبدأ «الحرب الاستباقية» .. هذه السياسة بمجموع عناصرها

تستهدف في حصيلتها إلغاء «العامل الرئيسي» لمنع نشوب الحروب، وعلى

وجه التخصيص الحروب العدوانية التي تمارسها الدولة الأمريكية بالذات؛ وذلك

من خلال إزالة عنصر الخوف لديها وهي الطرف المسلّح أكثر من سواه، من

احتمال تلقّي ضربة مضادّة. ومن ثم فإنّ دعم هذه السياسة أو الاستجابة لها،

خضوعاً أو تطوّعاً، يعني الإسهام في مضاعفة الأخطار على الأمن الإقليمي

والعالمي، وفق النظرة الدولية نفسها، وإنّ رفض هذه السياسة وعدم الاستجابة لها،

هو الأمر الأبلغ أهميّة المفروض على كلّ طرف يريد أن يساهم واقعيّاً في دعم

الأمن والسلام الدوليين.

* قضية فلسطين والقضاء على «قوّة الردع» :

ليس مجهولاً أنّه من المستحيل الفصل بين قضية فلسطين وبين مختلف

القضايا الأخرى في المنطقة، ولا سيّما قضية تجريد البلدان العربية والإسلامية من

أسلحة رادعة؛ فالمشروع الصهيوني قام واستمرّ، ولا يمكن أن يتابع طريقه

ويحقّق أهدافه الاستيطانية والعدوانية والتوسعية إلاّ بالقوّة، وتكفي الإشارة إلى أنّه

بغض النظر عن الأوضاع الداخلية في البلدان العربية في الستينيات والسبعينيات

الميلادية، فإنّ مجرّد وجود قوّة عسكرية «رادعة» لدى بعض الدول العربية

المجاورة، ورغم أنّ انعدام التعاون وفق ميثاق الدفاع العربي المشترك جعلها دون

مستوى التوازن الضروري مع القوّة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً.. لم يكن من

المتصوّر آنذاك مثلاً أن تصنع القوّات الإسرائيلية ما تصنعه في الوقت الحاضر

بأبناء فلسطين وأراضيهم وثرواتهم، دون أن تضع في حسابها احتمال تدخّل بلد

عربي أو أكثر.

إنّ السياسة الدولية بمشاركة الطرفين الأمريكي والسوفييتي كانت في تلك

الحقبة قائمة على إيجاد تفوّق عسكري إسرائيلي واستمراره، اعتمد على «فرقة»

البلدان العربية، وليس على الناحية الكمية أو النوعية للتسلّح فقط، أمّا الآن فباتت

السياسة الدولية بزعامة أمريكية مفروضة أو متفق عليها في إطار المساومات الدولية

القائمة على «المقايضة» تعتمد على تحويل هذا التفوّق إلى خلل مطلق، بمعنى

أن يكون الكيان الإسرائيلي قادراً على توجيه ضربة عسكرية، حيثما شاء ومتى

شاء، دون أن «يخشى» من أن يتلقّى ردّاً عسكرياً، ولو محدوداً، وليس هذا

أمراً «مبتكراً» لقضية فلسطين بالذات، بل اتّجهت إليه السياسات الأمريكية

الإسرائيلية المندمجة فيما بينها، منذ سنوات عديدة، وانعكس على أرض الواقع

مثلاً في اعتماد تطوير الأسلحة الجويّة والصاروخية لاستخدامها عن بُعد قبل خوض

أيّ معركة مواجهة بريّة مباشرة.

وبالمقابل فإنّ السياسة العربية التي اعتمدت بين نكبتي ١٩٤٨ و ١٩٦٧م

عنصر المواجهة دون إعداد عسكري «مشترك» على المستوى الكافي لتحقيق

أهداف المواجهة، تحوّلت بعد حرب ١٩٧٣م وعلى وجه التحديد منذ مسيرة كامب

ديفيد الأولى، إلى «سياسات» عديدة أسقطت البقية الباقية من أركان الأرضية

العربية المشتركة؛ ممّا شمل في الدرجة الأولى تفتيت القضية المحورية إلى قضايا

ومشكلات، عبّرت عنها تسميات «مشكلة الشرق الأوسط» و «النزاع

الفلسطيني الإسرائيلي» وما شابه ذلك، وغطّت عليها إعلامياً شعارات «السلام

الدائم والشامل» ، ولكن بغضّ النظر عن التسميات والشعارات، بقيت الحصيلة

واحدة، وهي انفراد الطرف الإسرائيلي بكلّ طرف عربي على حدة، فباتت مصر

على استعداد للتعاون مع الدول العربية الأخرى بما فيها سورية، في بعض الميادين،

ولكن ليس في ميدان مواجهة الخطر الإسرائيلي، وباتت الأردن على استعداد

لممارسة علاقاتها المتقلّبة مع سورية في مجالات مختلفة ما عدا تثبيت سياسة

مشتركة في مواجهة الخطر الإسرائيلي، وأصبحت قضية إيران ثمّ قضية العراق

في الصدارة بالنسبة إلى مجموعة الدول الخليجية العربية.. هذا ما جعل سورية

منفردة كسواها في مواجهة الطرف الإسرائيلي ومن ورائه الأمريكي على صعيد

قضية فلسطين بما في ذلك تحرير الجولان، رغم أنّ حكومتها أعلنت منذ سنوات

عديدة الاستعداد النظري والعملي لما سمّي السلام الشامل والدائم، أو ما يقال تحت

عنوان «الأرض مقابل السلام» ، أو ما نُشر من مبادرات عربية متتالية منذ

مشروع السلام في فاس في مطلع الثمانينيات الميلادية، إلى مشروع السلام في قمة

بيروت عام ٢٠٠١م، وهو أيضاً ما يضعها منفردة في الميدان في قضية «أسلحة

الدمار الشامل» الآن.

* «التفتيش» على التسلّح:

لقد كان التركيز على قضية العراق في التسعينيات الميلادية تحت عنوان

«نزع أسلحة الدمار الشامل فيه» مقدّمة لعنصر جديد في التعامل مع هدف

الهيمنة الأمريكي الإسرائيلي العدواني تجاه المنطقة بكاملها، واختير النموذج

العراقي بعناية فائقة، سواء من حيث علاقات نظامه الوثيقة سابقاً مع الأمريكيين

وسواهم من الدول الغربية، أو من حيث وصوله إلى شوط أبعد من سواه على

صعيد صناعة السلاح في حقبة الحرب ضدّ إيران، أو من حيث نوعية علاقات

المواجهة التي قامت تلقائياً أو اصطنعت اصطناعاً بينه وبين دول الخليج العربية

الأخرى.

يتمثّل هذا العنصر الجديد من ناحية تجريد المنطقة من قوّة رادعة: في عدم

الاكتفاء بتعهدات سياسية واتفاقيات عالمية وتقديرات دولية ودراسات معاهد التسلّح

المرموقة عالمياً، وهو الطريق الذي اختاره نظام الحكم في مصر في عهد الرئيس

مبارك، وأنظمة عربية أخرى، في غفلة خطيرة، على أنّه يمثل عند القوى الدولية،

ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، خطوة مقبولة مرحلياً، ولكنّه لا يمثل

ضماناً لعدم التعامل مع هذه الدول أيضاً وفق المنظور الجديد، أو العنصر الجديد

القائم على الانتقال إلى خطوة أبعد مدى، تتمثل في «التفتيش المباشر» ، وهو ما

يحقّق عدداً من الأهداف دفعة واحدة:

١ - الهدف العسكري الرئيسي وهو التأكّد المباشر من عدم وجود أسلحة أو

عناصر تصنيع أسلحة متطوّرة عموماً، بما يشمل أسلحة الدمار الشامل، كما يشمل

أسلحة من المستوى الثاني، مثل الصواريخ المتوسطة المدى، بغض النظر عن

علاقتها بأسلحة الدمار الشامل.

٢ - الهدف العسكري الأبعد مدى، وهو ما يتحقّق عن طريق الحصار

والمقاطعة بالقوّة لحصول الدولة المستهدفة على ما لا تملكه محلياً، فتستورده من

عتاد أو تقنيات أجنبية لدعم قدراتها العسكرية الذاتية.

٣ - تدمير جزء من القدرات العسكرية للدولة المستهدفة، دون حرب، وهو

ما يعني اشتراكها ذاتياً في إضعاف قدرتها الرادعة إلى أدنى حدّ ممكن، وإن كانت

الحرب مبيّتة كما كان واضحاً في مثال تدمير صواريخ عراقية قبل حرب الاحتلال

الأمريكية مباشرة.

٤ - الهدف التقني بمنع وصول تقنيات حديثة، كتقنيات الحاسوب المتطوّرة،

إلى البلدان المستهدفة، وفق النظرية العسكرية المعروفة. إنّ «التوازن

العسكري» لا يقوم على المقارنة بين عدد قطع السلاح فقط، بل على مقارنة

مستويات التقدّم الاقتصادي والصناعي عموماً.

٥ - الهدف السياسي على أكثر من صعيد:

أ - السياسة المتبعة أمريكياً ودولياً حوّلت امتلاك سلاح رادع، كحقّ معترف

به في القانون الدولي، إلى «تهمة» ، وساهمت السياسات العربية بالمقابل في

ذلك بأسلوب «نفي التهمة» ومن ثم القبول باعتبارها تهمة يجب التنصّل منها.

ب - تحويل الدول الإقليمية غير المستهدفة في مرحلة راهنة، إلى قوى

محلية تضغط على «الدولة المستهدفة» لتستجيب إلى الضغوط الدولية، بدلاً من

أن تكون سنداً لها، وهي سياسة فيها من قِصَر النظر ما لا يمكن استيعابه؛ فجميع

الدول مستهدفة، على مراحل، وما يجري القبول به بحقّ أحدها، يتحوّل إلى

سيف مسلّط على الدول الأخرى التي تقبل بذلك.

ت - إبراز عنصر «الخضوع» المطلق إلى درجة الإذلال لسياسات الهيمنة

الأمريكية والإسرائيلية؛ فعملية التفتيش بحدّ ذاتها، لا تعني مجرّد اتهام الدولة

المعنية بالكذب السياسي، وإنّما تعني تخلّيها عن سيادتها، فإذا كان هدف الحروب

عادة، هو تقييد السيادة، فإنّ هذا الهدف بات يتحقّق مسبقاً من خلال التعامل

السياسي وهو «إلقاء السلاح» من جانب تلك الدولة تجاه «العدوّ الخارجي» .

* استهداف مصر بعد سورية:

إنّ وصف قضية فلسطين بأنها قضية محورية، وصف يطابق الواقع لأسباب

عديدة، من أهمّها أنّها باب من الأبواب الرئيسة لترسيخ الهيمنة الأمريكية

الإسرائيلية على كامل المنطقة، وليس في صيغة وجود الكيان الإسرائيلي على

أرض فلسطين فقط، وكان خروج مصر في «كامب ديفيد» من المعادلة السياسية

والعسكرية لقضية فلسطين إقليمياً ودولياً بمثابة كسر ما سمّي لفترة من الزمن

«دول الطوق» ، وهو ما أدّى سريعاً إلى سقوط الجناح الأردني الضعيف أصلاً

في الطوق نفسه، وأصبح العراق رغم الخلاف المعروف بين جناحي حزب

البعث، بمثابة «العمق الاستراتيجي» البديل لسورية ولبنان، وكان من

المفروض أن ترى الدول العربية منذ حرب الخليج الثانية ضدّ العراق، أنّه بغض

النظر عن «تحرير الكويت» ، يبقى أنّ سقوط العراق من المعادلة السياسية

والعسكرية في قضية فلسطين، لن يكون إلا مرحلة أخرى، تليها مرحلة «إسقاط

سورية» من المعادلة أيضاً، ومن ثم الوصول بهدف نشر الهيمنة الأمريكية

الإسرائيلية في المنطقة إلى مداها الأقصى في المرحلة التاريخية الراهنة.

إنّ استهداف سورية بهذا المنظور يعني استهداف مصر بعدها بالوسائل نفسها،

وصحيح أنّ الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية بعد كامب ديفيد،

وتضمّنت تقليص حجم القوات العسكرية، وانخفاض مستوى تسلّحها، والقيام

بمناورات عسكرية مشتركة مع القوات الأمريكية، جعلها من الناحية العسكرية أشبه

بكتاب مفتوح، ولكنّ الخطأ الكبير والفاحش في هذه التصوّرات والخطوات الرسمية

المصرية، يكمن في عدم تقدير وجود أهداف أبعد مدى من القضاء على أسلحة

الدمار الشامل أو برامج تصنيعها، فالمشكلة لا تنحصر في إعطاء الأدلّة على عدم

وجودها، وقد أظهرت حرب الاحتلال العدوانية ضدّ العراق ذلك بكلّ وضوح، فلم

تمنع من الإقدام على الحرب عمليات التفتيش الدولية، ولم يكن مجهولاً لدى

واشنطن ولندن كما ثبت من الكشف عن عمليات «تزوير» المعلومات

الاستخباراتية أنّ العراق لم يعد يملك تلك الأسلحة، ولا يستطيع صناعتها في

المستقبل المنظور، إنّما وقعت الحرب رغم ذلك، لتحقيق تلك الأهداف الأبعد مدى،

بما فيها القضاء على الطاقة العلمية والصناعية الذاتية في العراق.

مصر هي المرشّحة بعد سورية على الطريق ذاتها؛ لأنّها تبقى هي الدولة

العربية الأكبر التي يمكن أن تؤثر التطوّراتُ الداخلية فيها في المستقبل، بمجرى

التطوّرات في المنطقة عموماً، وستجد مصر نفسها آنذاك منفردة في هذا الميدان،

بعد أن ساهم انفرادها هي في عهد الرئيس السابق السادات بمسيرة كامب ديفيد، في

أن تجد «دول الطوق» الأخرى بالإضافة إلى العراق وحتى ليبيا نفسها منفردة،

فسقطت واحدة بعد الأخرى وإن اختلفت «صور» السقوط ما بين أقصى درجات

العنف حرباً عدوانية في حالة العراق، وبين أقصى درجات التسليم ذاتياً في حالة

ليبيا.

إنّ الصيغة التي تتبعها مصر رسمياً، ودول عربية أخرى، والتي يمكن

تبسيطها بالقول: إعطاء الأمريكيين ما يطلبون سلماً، كيلا يعملوا على تحصيله

ضغوطاً وحرباً، صيغة بعيدة كلّ البعد عن مقتضيات السياسة الواقعية؛ فكلّ ما

يحصل عليه الأمريكيون، ومعهم الإسرائيليون سلماً يوظفونه للحصول على المزيد

سلماً أو حرباً.. وهي أيضاً صيغة تغفل بصورة خطيرة، عن أنّ ما يريده

الأمريكيون والإسرائيليون، لا يقتصر على ما يطالبون به هذه الدولة العربية أو

تلك، في اللحظة الآنية.. إنّما هو على الدوام جزء يقدّرون قابلية تحصيله أو

انتزاعه فيعلنون عنه بإلحاح، تاركين «الأجزاء الأخرى» لمرحلة تالية.

* الأوراق السورية:

المحلّلون داخل سورية يؤكّدون أنّ الحالة السورية حالة متميّزة، لا يسري

عليها ما يسري على سواها، وأنّ سورية كانت على الدوام قادرة على أن توظّف

عدة «أوراق» في وقت واحد، ويشيرون بصدد أسلحة الدمار الشامل على وجه

التخصيص إلى عدة أمور أبرزها أمران رئيسان: أحدهما: مسارعة أوروبا إلى

عقد اتفاقية شراكة مع دمشق ردّاً على ما سمّي بـ «قانون محاسبة سورية»

الأمريكي، كإشارة إلى عدم تلاقي الأمريكيين والأوروبيين على «عزلة سورية»

والثاني: المناورة السورية في مجلس الأمن بتقديم طلب لحظر أسلحة الدمار الشامل

إقليمياً أي بما يشمل الترسانة الإسرائيلية، والذي يوصف بأنّه خطوة إحراج

للأمريكيين تمنعهم من الإلحاح في مطالبة سورية بالقبول بعمليات تفتيش بشأن

أسلحة الدمار الشامل. ومن المؤكّد أنّ أصحاب هذه التحليلات سيضيفون بعد زيارة

الرئيس السوري لتركيا أمراً ثالثاً هو قدرة السياسة السورية على اختراق جدران

العزلة الإقليمية التي تسعى واشنطن لإقامتها حولها، وأن تفتح أبواباً كانت موصدة

لفترة طويلة.

من الناحية المبدئية يمكن القول إنّ سياسة المناورات السياسية، وتعدّد

الأوراق سياسة واقعية تستفيد من المعطيات المتوفّرة لمواجهة الأزمات الطارئة،

ولكن: هل يمكن وصفها بالسياسة القائمة على معطيات استراتيجية لمواجهة أهداف

استراتيجية معادية، ذات غايات ونتائج بعيدة المدى؟

بهذا المنظور يبدو أنّ التعامل الرسمي السوري مع الضغوط الراهنة تحت

عنوان «نزع أسلحة الدمار الشامل» ينطوي على نقاط ضعف يُخشى من نتائجها،

وفي مقدّمتها:

١ - استحالة الاعتماد على القوى الدولية الأخرى في هذه القضية؛ فمن حيث

الأهداف لا يوجد أيّ خلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها القدماء في

أوروبا الغربية، أو الجدد في شرق أوروبا بما في ذلك الاتحاد الروسي؛ فجميع

هذه القوى الدولية تشارك في المساعي المبذولة لتحقيق «الاحتكار.. والحرمان من

الردع» على صعيد أسلحة الدمار الشامل بالنسبة إلى سائر البلدان العربية

والإسلامية.

ومن حيث الوسائل لا يصل الاختلاف عليها، كما أظهرت حالة العراق، إلى

مستوى القطيعة أو المواجهة أو المشاركة في الدفاع عن بلد ما، وإذا كانت

المعارضة الدولية القوية، المرتبطة بمصالح كبرى، منها الاقتصادية والنفطية، لم

تمنع واشنطن ولندن عن التحرّك العسكري في قضية العراق، فلن تمنع مثل تلك

المعارضة المحتملة واشنطن ولندن وتل أبيب، عن التحرّك العسكري في حالة

سورية.. بغض النظر عن العواقب الدولية.

٢ - إنّ التحرّك العسكري ضدّ العراق بدعوى تجريده من أسلحة الدمار

الشامل أتى رغم وجود حدّ أدنى من المحاولات العربية لرأب الصدع معه، وقبل

أن يبلغ «حجم التصدّع» في السياسات العربية المشتركة درجة الانهيار المطلق،

بينما أصبحت سورية الآن منفردة أكثر ممّا مضى في ميدان «الامتناع» عن

المضيّ إلى آخر الشوط، كما صنعت ليبيا طوعاً، أو إيران كرهاً، ولا يبدو أن

مشاريع إصلاح جامعة الدول العربية ستأخذ مداها بالسرعة الضرورية، لإنقاذ

المنطقة عموماً، وليس سورية فقط، من مخاطر عدوان أجنبي.

٣ - ما تزال غالبية التصوّرات المستقبلية المطروحة من جانب المحلّلين من

داخل سورية، تعتمد على مقاييس «سياسية منطقية» ربّما كان لها دور كبير أو

صغير في صناعة السياسة الدولية والتعامل معها قبل فترة من الزمن، أمّا في

الوقت الحاضر فإنّ سياسات الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية الاندماجية، لا تستند إلى

أيّ منطق سياسي تقليدي، بل أصبح كبار المحللين والمتخصصين في الشؤون

الدولية في أوروبا خاصة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها جزئياً، يعتبرون

هذه السياسات «هوجاء» لا تكفي مواجهتها بالمنطق السياسي، وعلى الأقل لا

يكفي بناء التوقّعات المستقبلية بصددها على ما يقول به المنطق السياسي وحده.

٤ - لعلّ ممّا تضعه السياسة الرسمية السورية في حسابها أنّ مواصلة

المناورات السياسية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٤م في الولايات

المتحدة الأمريكية، ستوصل إلى وضع جديد في مواجهة سياسة أمريكية جديدة

محتملة.

والواقع أنّ مثل هذه التوقعات التي اعتمدت عليها السياسات الرسمية العربية

في قضية فلسطين خاصة، زمناً طويلاً، لم تُثبت خطأها فقط، بل عبّرت أيضاً

عن عدم إدراك واقع صناعة القرار في الدولة الأمريكية، وهو ذو صفة

«استمرارية» على الصعيد الخارجي الدولي، منفصلة تماماً عن التبدّل الجزئي

على مستوى السياسات الاقتصادية والداخلية، ولا يتوقع تبدّل ذلك في المستقبل

المنظور على الأقل، ولا يكاد يوجد خطّ منهجي في السياسات التي مارسها الرئيس

الأمريكي جورج بوش الابن، إلاّ وكانت له بداية منظورة يمكن الرجوع بها إلى عهد

الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان على الأقل، أي آخر رئيس أمريكي من حقبة

الحرب الباردة.

إنّ الطاقة الهجومية الشرسة التي تتعرّض لها المنطقة العربية والإسلامية

عموماً، والتي يمكن أن يُوجّه رأس حربتها إلى سورية في المرحلة المقبلة، تحتاج

إلى قوّة ذاتية رادعة، وإذا كانت سورية لا تملك أسلحة دمار شامل، أولاً تملك في

ميدان صناعتها ما يمكن أن يجعل منها قوّة رادعة بمعنى الكلمة، فإنّ القوّة الرادعة

التي يتركّز مفهومها على خشية الطرف الآخر من تعرّضه لخسائر ضخمة في حالة

ممارسته العدوان، لن تتوفّر في سورية إلاّ عندما تتحوّل حكومة وشعباً، إلى كيان

ملتحم بأهدافه واستعدادته على كلّ صعيد؛ بحيث تصبح أي مغامرة عسكرية ضدّ

سورية، خطوة غير محسوبة النتائج، ليس في لحظة انطلاقها فقط، وإنّما فيما

يترتّب عليها عبر استحالة استقرار نتائجها، واستحالة أن تكون مقاومتها محدودة

في إطار فئات دون أخرى من فئات الشعب، سواء نتيجة «نقمة» بعضها على

نظام الحكم، أو نتيجة عدم استعدادها للمقاومة موضوعياً، والناجم عن إقصائها عن

مثل هذا الاستعداد، واقتصاره على فرق أو قوى عسكرية وشبه عسكرية مرتبطة

مباشرة بالنظام السياسي القائم.

هذا أحد الأسباب الحيوية الموجبة والملحّة التي تستدعي الارتفاع بهدف

الإصلاح السياسي الداخلي على كلّ صعيد أمني أولاً، ودستوري تشريعي ثانياً،

واقتصادي ثالثاً، إلى مرتبة الأولوية المطلقة، وهذا ما لا تظهر حتى الآن للأسف

دلائل أو مؤشرات قويّة توحي بأنّه دخل فعلاً إلى حيّز «الاقتناع» ناهيك عن

التخطيط والتنفيذ بالسرعة اللازمة لدى المسؤولين في سورية.