للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

رب همة أحيت أمة

بإذن الله

خباب بن مروان الحمد

لله درُّ المتنبي حين قال في ميميته الرائعة مادحاً الباحثين عن المتاعب بلا

ملل ولا سأم:

عجبت لمن له حد وقد ... وينبو نَبْوة القضم الكهام

ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام

ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام

يرتسم في هذه الأيام على وجوه الكثير من أبناء المسلمين حالةٌ مرعبة من

الحزن والكآبة، ويسري في نفوسهم دخان الهزيمةَ والوهن؛ وذلك لما يرونه أو

يسمعونه في وسائل الإعلام العالمية بشتى أنواعها، عن صور لمآسي المسلمين في

أصقاع المعمورة؛ فمنهم المقتول قتلاً لا يحتمل المسلم أن يراه، ومنهم الذي سجن

في صورة تأبى النفس البشرية أن تراها لحيوان فضلاً عن أن تراها لإنسان له

شعوره وأحاسيسه، ومنهم تلك الثكلى التي فقدت زوجها وأبناءها تحت البيت الذي

هدمته أسلحة الدمار التي لا ترحم، وتلك المنكوبة تبكي وتتأوه..... ولا نصير!!!

صور تتعدد، ومآسٍ تتكرر، اعتادت العين على رؤيتها، والأذن على

سماعها.

في ظل تلك الأحداث المفجعة، والأزمات الموجعة، وفي أزمة الصراع

العالمي بين الإسلام والكفر، وفي عصر الانقسامات والحزبيات، وفي زمن اليأس

والقنوط الذي خيم بكلكله على قلوب كثير من المسلمين، وأطبق على أفئدتهم.. في

ذلك كله ... ألا يجدر أن تتحدث الأقلام عن أهمية بروز القائد الذي يصنع الأجيال،

ويربي الأبطال، ويبرز المواهب، ويصقل النفوس فيربيها على الإيمان والجهاد،

ويعيد إكسير الحياة العزيزة إلى قلوب حطمتها أمم الكفر، وأذاقتها مر الويلات.

القائد الذي تنبع أفعاله وأقواله من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ويحكم

الناس بلا إله إلا الله؛ فهي شريعة كاملة ومنهج حياة.

القائد الذي يمسك بزمام المبادرة لنصرة الإسلام، ويتحدث أمام العالم أجمع

بأن المسلمين هم الأحق بالصدارة والريادة على جميع الأمم.

القائد الذي يزأر لصرخات المنكوبين، ويستعلي على علو الطغاة والكافرين،

وتستروح النفوس لسماع كلماته، وجميل عباراته في إغاظة أعداء الدين.

ذلك القائد الذي يبدأ مفعوله من همة تحاكي القمة، وعزيمة تصنع الإباء،

وجرأة بحكمة يسطرها التأريخ.

إنه أمل لأمة تحلم به منذ زمن بعيد، ويا له من أمل!

أمل إليه هفت قلوب الناس في الزمن البعيد.

أمل له غور القديم كما له سحر الجديد.

وبعد هذه الطرق لأوصاف هذا القائد الذي ينتظر المسلمون قدومه من وقت

مديد، فإني وبكل صراحة أقول:

أيها القارئ الفاضل إنني أخاطبك بكل شفافية وهدوء.....

أخاطب فيك عقلك الكريم، ونفسيتك الجذابة، وهمتك الوثابة، فأقول: لِمَ

عَوَّدْنا أنفسَنا منذ أن خُلقنا لحالات الترقب والانتظار في أي شيء سيحصل للمسلمين،

وأبعدْنا النُّجعةَ عن العمل لهذا الدين، وصناعة الحدث، وصياغة القرار؟

عذراً؛ فهذه هي الحقيقة، ولا بأس أن تطرح لتعالج، وقد قيل: (المؤمنون

نَصَحَة، والمنافقون غَشَشَة) ؟

لماذا إذا قرأنا عن القائد الذي سيقود الأمة إلى بر السلام والأمان قلنا: ومتى

يأتي؛ فلطالما انتظرناه، وهفت قلوبنا للقياه؟ وهو ابن من؟ وما أوصافه؟ وما

هي مؤهلاته؟ ومن أي بلد هو؟ وأين يقطن؟ .. إلى غيرها من الأسئلة

والاستفسارات التي ترطن بها ألسنتنا، وتبوح بها أفئدتنا، ونبقى نكررها إلى أن

يوافينا الأجل.

ألم تفكر - أيها الأخ الكريم - أن تكون هذا الرجل المنتظر، والقائد المظفر؟!!

نعم! لِمَ لا يكون هو أنت؟!! فيغير الله على يديك ميزان التاريخ لصالح

المسلمين، ويصلح بك الرحمن هذا العالم، بعد همة ومثابرة وعزم وتصميم وعلم

وعمل؟

لقد حان هذا الوقت لتضرب بيدك على صدرك، قائلاً بأعلى صوتك للقيادة

القادمة: أنا لها.. وتردد منشداً:

ما دام عرقي نابضاً ... لن تعرف النفس ارتياح

إنها صناعة الحياة، وصياغة النجاح التي تجعلك كبيراً عند ربك، وكبيراً

في تفكيرك، وكبيراً عند مجتمعك، بل كبيراً في كل شيء. تخرج للناس لتعلمهم

درساً لن ينسوه بأنه (رب همة أحيا الله بها أمة) ، تخرج لهم وتقول:

بُغْضُ الحياة وخوفُ الله أخرجني ... وبيع نفسي بما ليست له ثمنا

إني وزنت الذي يبقى ليعدله ... ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا

وكأني بسؤال يدور في خيالك، ويسيح في بالك، فينطق به لسانك قائلاً:

وهل أنا أصلح لهذه القيادة، ثم هل أستطيع بفردي أن أنفع أمة الإسلام،

وأصلح على يدي فئاماً من البشر قد ركنوا إلى الدنيا وابتعدوا عن منهاج ربهم الذي

رسمه لهم.....؟ فأقول لك بملء فمي: نعم!!

فلِمَ الاحتقار للذات، والانكفاء على النفس، والعزلة عن فعل الخير،

والانكماش والانغلاق، وعدم محاولة الإصلاح والكفاح؟! ودعني أوضح لك حقيقة

لا بد أن أبين عورها، وأكشف ضررها، وهي:

إن من مشكلات هذا الزمن الصعب (مشكلة التفكير الخاطئ) ؛ وذلك بأن

يرسم المرء لنفسه خطة يسير عليها في حياته، ومن ثم يطبقها على أرض الواقع،

وهي من ألفها إلى يائها غلط في غلط ... وخذ مثلاً: ها أنت ترى بعضاً ممن هم

حولك يقولون في مجالسهم إننا في زمن انطبق فيه حديث رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع

القطر، يفر بدينه من الفتن» [١] .

ثم يسوقون أحاديث العزلة التي ذكرها الخطابي، وابن أبي الدنيا - رحمهما

الله - في كتابيهما (العزلة) ، ومن ثم يقولون: نحن في زمن جدير بنا أن نعتزل

أهل الفساد في شرهم؛ فلن نستطيع التغيير، ولن يجدي الإصلاح شيئاً.

مرددين قول الشاعر:

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجربِ

ثم يختمون أمسيتهم بقولهم: ما أجمل ما قاله سفيان الثوري - رحمه الله -:

ما العيش إلا القفل والمفتاحُ ...

وغرفة تصفقها الرياحُ ...

لا صخب فيها ولا صياحُ ...

وأنا لا أتكلم من واقع خيال؛ فإن هذا واقع بعض أهل الاستقامة والديانة،

والذي ذكرته آنفاً تشخيص لمثل من مشكلات التفكير المخطئ لأي عمل يراد القيام

به، سُقته لك لمناسبته للمقام.

ولا شك أن تلك العقلية ليست هي عقلية المجدد القيادي الذي يقيم الله به الدين،

وينصر به الملة.

غير أنه من الجيد أن يعرف الإنسان نفسه؛ فبعض الناس وهم قلة ولله الحمد

لا يستطيعون الإصلاح، ويخشون على أنفسهم من الفتن، ويرون أن السلامة هي

الابتعاد عنها، وعدم مخالطة أهلها، وهذا علاج نافع لهم، (ورحم الله امرأً عرف

قدر نفسه) لكن من الخطأ ظن بعضنا أن الذي يعتزل الناس ولم يصبر على أذاهم

أفضل من ذلك الذي يخوض معامع المعارك، وصولات الحق على الباطل،

ومراغمة الكفار وأهل البدع، ومناصحة المؤمنين، وتعليم الناس العلم، والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في جميع نواحي الحياة.

كلاَّ.. فلا مقارنة بين عابد معتزل، وقائد يقود الناس بالكتاب الهادي،

والسيف الناصر مع الأذى والابتذال؛ فأين الشرق عن الغرب، وأين السماء عن

الأرض؟! لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس

ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»

[٢] .

وعوداً إلى كلام بدأت به: فأنت تستطيع أن تعمل، وتكون قائداً ينفع الله بك؛

وكل الذي تحتاج إليه أن تنفث في واقعك همة من هممك، وتحاول أن تصلح

وتغرس، فتحيي الموتى في حياتهم، وتستنهض همم الباقين.

فانهض؛ فقد طلع الصباح ولاح مُحْمَرُّ الأديم!

فإن الناس في سبات عميق، وبُعدٍ عن منهج الله ودينه سحيق، هذا مع تبلد

الإحساس، وحب الدَّعة والراحة، والله المستعان.

تبلد في الناس حب الكفاحِ ... ومالوا لكسبٍ وعيش رتيب

يكاد يزعزع من همتي ... سدور الأمين وعزم المريب

وقد مضى عصر الكسل والنوم والخمول، وأقبل عصر العمل والتعب؛ فلا

خمول........ وكأني بك قد اقتنعت بما كتبت، ولكن بقي لديك إشكال وهو قولك:

كيف وأنا فرد أستطيع أن أهدي أمة من الأمم، وأصلح شعباً من الشعوب،

أو أقود المسلمين بالإيمان والجهاد ...

كيف يكون ذلك؟!

فأجيبك جواباً يشفي غليلك، ويحل إشكالك؛ حيث سأذكر موقفين ذكرهما الله

في كتابه العظيم تكمن فيهما الإيجابية الفعالة في المبادرة الذاتية للإصلاح والتغيير،

وأعقبهما بموقف ثالث لأحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأذكر هذه المواقف الثلاثة حتى نعلم أن من يريد العمل والإنقاذ فإنه لا بد أن

تظهر تلك السمة القيادية على أفعاله ولو كانت حشرة أو طائراً. ولا تستغرب

ذكري لهما؛ فإنهما المثلان الأولان اللذان سأذكرهما؛ حيث أشاد الله بإرادتهما

الإصلاحية، فلا بأس أن تقتفي أثرهما في همة الإصلاح، وإياك واحتقار ذاتك

بقولك: (ومن أنا حتى أقود وأسود، وأصلح وأجدد؟) فإن هذا (ورع بارد)

كفاك الله شره.

* الموقف الأول:

تأمل وأنعم النظر في موقف النملة الإصلاحي في هذه الآيات الكريمة من

سورة النمل؛ بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ

الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا

النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً

مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ

أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ] (النمل: ١٧-١٩) .

ومن هذه الآيات الكريمة نستنبط عدة فوائد منها:

١ - أن هذه النملة مفردة، وقد ذكرها الله في كتابه بصيغة التنكير؛ فهي

نكرة في قومها كما هو ظاهر الآية؛ فليست ملكة أو وزيرة بل هي نملة من عوام

النمل.

٢ - هذه النملة أتت إلى قومها صارخة فيهم منذرة، قائلة: [يَا أَيُّهَا النَّمْلُ

ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ، فأخبرتهم بقرب

وقوع خطر سيحيق بهم ويقضي عليهم وهم لا يعلمون.

٣ - أن النملة لم تكتف بالإنذار بأن هناك خطراً سيداهم عشيرتها ثم تصمت

كما هو حال بعض المسلمين اليوم يعي أن عدوه سيأتيه فلا يكون حاله إلا أن يصيح

قائلاً: (احذروا الكفار؛ فإنهم قادمون) ، ثم يرجع إلى فراشه ويغط في نوم عميق

دون أي عمل يدفع به كيد الكفار.

إن هذه النملة لم تتقن فن الكلام فحسب، بل وضعت خطة لقومها، فقالت:

[ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ] ورأت أن المصلحة في كيفية درء المفسدة عن قومها بتبيين

طريق النجاة لهم حتى لا يضلوا فيقعوا في شباك الصيد، وتحت وطأة أقدام الجيش

القادم.

٤ - والمعتبر بحال النملة يجد أن عندها نسيج الولاء لقومها، ومحبتهم كما

تحب نفسها؛ فليست أنانية، بل تحب الخير لقومها، ولذا أنذرتهم جميعاً ولم تقل:

(دعهم يهلكوا وهذا جزاؤهم؛ لأنهم لم يهتموا بحراسة أنفسهم) كلاَّ؛ بل أنذرتهم

جميعاً، ولم تستثن أحداً.

٥ - ومن الفوائد أن هذه النملة لم تنتظر أن يأتي أحد من قومها أو ممن

يحرس وادي النمل ذاك، ويخبر النمل بأنه سيأتي جيش يحطمنا ويبيدنا، بل كانت

عندها روح المبادرة الذاتية، في المسارعة إلى إنقاذ قومها وإقصائهم عن مواطن

الهلاك.

٦ - عند قوله تعالى: [وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] وقفة قصيرة مع هذا الاعتذار

العجيب من هذه النملة الذكية؛ حيث ذكرت أن جند سليمان - عليه السلام - القادم

قد يهلك النمل، وهم لا يشعرون بأن تحت أقدامهم وادياً من أودية النمل؛ فهذا

الجيش لا يتعمد قتلنا، ولا يريد تحطيمنا عن قصد. فتأمل هذا التحذير ثم الاعتذار؛

فالنملة تعلم أن سليمان - عليه السلام - نبي رحيم، لا يحب الشر للخلق أو

يضمره لهم؛ فلنتأسَّ بها في اعتذارنا لمن أخطأ في حقنا وهو لا يقصد سواء بقول

أو بفعل، أو لم يشعر بخطئه ذاك.

٧ - وبالنسبة لتبسم سليمان - عليه السلام - فإما أنه تبسُّمٌ منه لهذه النملة

العجيبة التي خافت على قومها وأنذرتهم بخطر قد يداهمهم، وإما لاعتذارها لجند

سليمان بالثناء؛ فإن قولها: [وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] وصف لهم بالتقوى والتحفظ عن

مضرة الحيوان، وإما أنه تبسم لإدراكه ما قالت تلك النملة وهي نعمة من الله عز

وجل أنعم بها على سليمان - عليه السلام - وهي معرفته للغة الحيوان وفهمه

لكلامه، ولذلك أعقب سليمان - عليه السلام - ذلك التبسم بشكر نعمة الله عليه،

ومعرفة لحقه. (وما ذكرته للمراد بهذا التبسم فهو مجموع لتفسير أهل العلم لحقيقة

ذلك التبسم؛ والله أعلم) .

فانظر - أيها الأخ - إلى هذا الموقف ودقق النظر فيه لعلنا أن نتأسى به

ونعتبر، ونعلم أن على الفرد مسؤولية يجب القيام بها، وأنه يستطيع أن يقود أمة

كاملة بحسن تصرف وجميل تعبير.

ولو خرج المتأمل لهذه القصة بفائدة صحبة معلمي الخير لقومهم والمصلحين

لأمتهم والابتعاد عن رفقاء السوء، ومتربصي الشر والفتن لخرج بفائدة لا ينساها

طوال حياته، وقد قيل:

لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد

عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد

فإياك ومصاحبة البطالين، وأهل الزيغ والهوى والنفاق؛ فإنه سم ناقع،

وعلقم مر.

* الموقف الثاني:

وهذا موقف آخر أنقلك به إلى موجة أخرى من موجات الإصلاح وعمليات

التغيير لكي ترى أن من في قلبه شعلة إيمانية فلن تنطفئ عندما يرى الظلام المخيم

على أكثر أهل الأرض من الكفر والنفاق. وزبدة ذلك أن سليمان - عليه السلام -

حينما كان يتفقد الطير ولم يجد الهدهد قال بلهجة حادة: [مَا لِيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ

كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ]

(النمل: ٢٠-٢١) ، فجعل سليمان - عليه السلام - هذا العقاب للهدهد إما بالعذاب

الشديد أو الذبح المريع له، أو أن يأتي بخبر مبين، وبينما هو كذلك جاء الهدهد

وكان متأخراً لمهمة أحاط بها علماً ولم يعلمها سليمان - عليه السلام - فقد جاء من

سبأ بنبأ لا شك فيه.

ومن قوة ملاحظته لنبأ سبأ أنه وجد امرأة تملكهم ولعل هذا من استغرابه وأنها

أوتيت من كل شيء من الرخاء والترف والحياة المخملية، وفوق ذلك كله عرش

تجلس عليه.

والطامة الكبرى، والأصل الأصيل الذي أدى إلى تأخر الهدهد عن الحضور

مبكراً أنه رأى تلك الملكة وقومها يعبدون الشمس من دون الله، وهو شيء تأباه

العقول السليمة والفطر المستقيمة؛ فكأن تلك العبادة استوقفت ذلك الهدهد عن

الطيران والتبكير للمجيء في موعد تفقد سليمان - عليه السلام - لجنده.

ثم بين الهدهد عقيدته صادحاً بها أمام سليمان - عليه السلام - بقوله: [أَلاَّ

يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ]

(النمل: ٢٥) . ويا له من درس عظيم ألقاه هذا الهدهد في التوحيد لا يعلمه

كثير ممن ينتسب إلى الإسلام.

ومع ذلك كله قال سليمان - عليه السلام -: [سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ

الكَاذِبِينَ] (النمل: ٢٧) فابتلى الله الهدهد بعد تصديق سليمان - عليه السلام -

له؛ وذلك يشي - والعلم عند الله - أن صاحب الدعوة إلى توحيد الله لا بد أن يبتلى

في حياته، وأن دعوته تلك لن تمر دون تمحيص وابتلاء ليعلم الله الصادق من

الكاذب.

وبعد عدة مراسلات من سليمان - عليه السلام - لتلك الملكة، أقرت بوجود

الله وألوهيته على الخلق أجمعين، وأنه لا مستحق للعبادة قط إلا هو سبحانه؛ وذلك

بقولها: [وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (النمل: ٤٤) .

فتدبر - أيها اللبيب - فعل ذلك الهدهد الغيور على التوحيد، وارجع البصر

كرتين في تأمل موقف ذلك الطائر؛ فقد سرى بدمه حب (لا إله إلا الله) ودافعية

الدعوة إليها، والصبر على الابتلاء فيها؛ فأين نحن وغيرتنا على دين الله من

الهدهد؟

وتالله إنه لمشروع عظيم قام به هذا الطائر ليصلح الله به أمة كانت تعيش في

مستنقعات الكفر، وبيداء الضلالة، فإياك إياك أن يحمل هذا الطائر همَّ دين الله في

صدره أكثر منك أيها الموحد، وقد وصاك الإمام أبو معاذ الرازي - رحمه الله -

بذلك فقال: (لا يكن الهدهد أغير منك على التوحيد) .

ضربت لك هذين المثلين ليتضح لك أنه قد يصنع المواقفَ الجبارة حشرة أو

طائر؛ فما بالك بإنسان أعطاه الله جميع الصفات والقوة العقلية والجسدية، إنه

يستطيع بدون أدنى ريب أن يصنع الكثير، وأن يبدع الإبداع العظيم، ولو كان

مشلولاً أو أعمى، فإن عنده العقل وهو آلة التفكير ومصنع العمل.

وما أنت بالمستسيغ القعود ... ولو قيدوك بهذي الحفر

وهاك مثلاً ثالثاً لرجل من الصحابة - رضي الله عنهم - أنقذ الله على يديه

المسلمين من أزمة كادت أن تعصف بهم، وتوقعهم في أحلك الأمور وأصعب

المواقف.

* الموقف الثالث:

وهو موقف الصحابي الجليل: نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - فقد أسلم

في غزوة الأحزاب، التي صور الله حالة الصحابة فيها بالقرآن تصويراً واضحاً،

وكيف أن الكفار أحاطوا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام،

وجنده الأبرار إحاطة السوار بالمعصم، فقال تعالى: [إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ

أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا *

هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] (الأحزاب: ١٠-١١) .

وقد بانت في هذه الغزوة صورة المنافقين الكالحة، وصفاتهم القبيحة؛ حيث

قالوا: [مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً] (الأحزاب: ١٢) .

وفي معترك الأحداث التي اشتبكت فيها الأمور، واختلط فيها الحابل بالنابل،

صنع الله - تبارك اسمه - كما قال ابن القيم في زاد المعاد (٣/٢٧٣) أمراً من

عنده، خذل به العدو، وهزم جموعهم، وَفَلَّ حَدَّهُمْ، فكان مما هيأ الله من ذلك:

أن رجلاً من غطفان يقال له: نعيم بن مسعود بن عامر - رضي الله عنه - جاء

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله! إني قد أسلمت؛

فمرني بما شئت» .

ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقبل إسلام ذلك الصحابي

الجليل، ثم قال له بعد أن طلب منه نعيم بن مسعود أن يأمره بما شاء: «إنما أنت

رجل واحد؛ فخذِّلْ عنا ما استطعت؛ فإن الحرب خدعة» .

فألهم الله هذا الصحابي أن يفعل فعلة يسطرها له التأريخ في أنصع أوراقه،

وأجمل افتخاراته، وخلاصتها: أنه ذهب إلى اليهود وإلى قريش والقبائل التي

تمالأت على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأفسد كل طائفة على صاحبتها،

حتى جعلهم أعداءً، وفرَّق كلمتهم، وأضعف ثقة كل فئة بالأخرى، فتخاذلوا جميعاً

عن الحرب، ثم أرسل الله عليهم جنداً من جنده من الريح العاصفة، والملائكة

المرسلين فقوضت خيامهم، ولم تدع الريح قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً إلا قلعته،

وكفى الله المؤمنين القتال. فله الحمد [٣] .

وكان بداية غيث المسلمين بالنصر هي همة نعيم بن مسعود، رضي الله عنه؛

فقد أسلم، ثم فكر وقدر، فنِعْمَ ما قدر؛ فسلام الله عليه؛ فلم يكثر الكلام، بل

جعل الجوارح تتكلم وتعمل، وصح فيه قول الشاعر:

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مَذِقُ اللسان يقول ما لا يفعلُ

وإلى هنا أتوقف عن ذكر المواقف التي تثير همم الفطناء، وتاريخ المسلمين

مليء بمثل هذه المواقف الفردية العظيمة.

وكأنهم جميعاً يوصون بما قاله الأول:

وكن رجلاً من أتوا بعده ... يقولون مَرَّ وهذا الأثر

وللعلم فإني لم أذكر مواقف الأنبياء العظماء - عليهم الصلاة والسلام -

فمواقفهم كثيرة لا تحصر، ولكن خشية إن ضربت بهم مثلاً أن يقول أحد: ومن

نحن عند هؤلاء الأنبياء العظام؟! عليهم الصلاة والسلام.

لذا ضربت أقل ما نرى في هذا الوجود همة مثل النملة والهدهد، ثمَّ أحد

المواقف البشرية التي قام بها أحد الصحابة - رضي الله عنه - لعلها تقدح في

أنفسنا نسائم الإرادة، وليعلم المسلم سبب وجوده في الحياة؛ فلم يُخلق عبثاً، بل

خلق للعمل والعبادة والابتلاء والتمحيص ... فلا بد من استشعار المسؤولية الفردية

التي كلفه الله بها؛ فقد قال تعالى: [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]

(الحجر: ٩٢-٩٣) ، وقال: [وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (النحل: ٩٣)

وقال تعالى: [إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ

أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً] (مريم: ٩٣-٩٥) .

ثم إنه تعالى أوصانا بالعمل جميعاً، فقال: [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ

وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]

(التوبة: ١٠٥) ؛ فالعمل لهذا الدين مسؤولية الجميع.

أيا صاحِ هذا الركب قد سار مسرعاً ... ونحن قعود ما الذي أنت صانع؟

أترضى بأن تبقى المخلَّفَ بعدهم ... صريعَ الأماني والغرام ينازع

فـ[ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ] (ص: ٤٢) .

وما أجمل ما خطته يد ابن الجوزي حين كتب: (أول قدم في الطريق: بذل

الروح ... هذه الجادة؛ فأين السالك؟!!) [٤] .

وهناك ثمة تساؤلات يسألها المرء نفسه: (كيف العمل، وبماذا أبدأ، وكيف

أخطط؟) فأقول: انظر إلى هديه عليه الصلاة والسلام وسيرته في كيفية العمل

لهذا الدين، وتجميع الناس تحت عقيدة الإسلام، ومحاربة المناوئين لهذه العقيدة؛

ولذا دخل الناس في هذا الدين راضين مقتنعين، وحج معه صلى الله عليه وسلم في

حجة الوداع أكثر من مائة وعشرين ألف صحابي - رضي الله عنهم أجمعين -

وكل ذلك بعد توفيق الله من إرادة جبارة، وهمة وثابة ... [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ]

(الأنعام: ٩٠) .

لا تقل كيف ولا أين الوصول ... واتَّبع خير الملا ذاك الرسول

واقرأ سير المصلحين والقادة، واستفد من تجارب الباقين، واسأل الله أن

ينفع بك الإسلام، وتعلق بالله ولا تتعلق بأحد سواه.

ولا تلتفت هنا أو هناك ... ولا تتطلع لغير السماء

واسأله تعالى أن يجعلك مباركاً حيثما كنت؛ فقد كان هذا حال عيسى - عليه

الصلاة والسلام - حين قال: [وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ] (مريم: ٣١) .

فكن كالغيث أينما حل نفع.

وإن أول البداية هي أن تبدأ بنفسك؛ وفي المثل: احرص على إصلاح الذات

قبل إصلاح الذوات ... ومن قاد نفسه قاد العالم.

وانشط لدين الله لا تكن متكاسلاً ... واعمل على تحريك ما هو ساكن

فإن كان في نفسك كسل أو خمول، أو بدع وضلالات وشركيات، أو معاصٍ

وانحرافات، فابتعد عنها وغيِّر ما بنفسك من تلك النواقص؛ فلعل الله أن يغيِّر بك

حال المسلمين، وينفع بك في مواطن كثيرة تسعد بها إذا رأيتها مكتوبة في صحائف

عملك يوم القيامة و (حَرِّكْ تَرَ) .

لكن عليك بامتلاك الإرادة والهمة:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا

وأول الغيث قَطْرٌ؛ فكيف تطمح إلى العمل لهذا الدين ولم تتمكن الإرادة من

سويداء قلبك، ولم تعزم على استسهال المصاعب، وتيسير العويص..... فإن

كنت ذا همة فستقول قطعاً:

لأستسهلن الصعب أو أدركَ المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابرِ

وحذار من التسويف؛ فإنه رأس الأماني، وداء العمل، وقاتل الهمم، وحجة

المفلسين.

فلا تبق فعل الصالحات إلى غدٍ ... لعل غداً يأتي وأنت فقيدُ

بل ردد بكل قوة وعزم:

أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري

وصح في الآفاق:

سأنفق ريعان الشبيبة دائماً ... على طلب العلياء مع طلب الأجر

وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، ومن يعرف المقصود يحقر ما بذل، ومن

المقت إضاعة الوقت، ولكل جيل قيادته؛ فلنكن خير قادة لجيل الحاضر والمستقبل؛

وذلك كله بالتعاون والتكامل لا بالمطاحنة والتآكل، فالجاهلية المنظمة لا يقلبها إلا

إسلام منظم، ولتكن وحدتنا واجتماعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وتحت لواء

أهل السنة والجماعة، فوحدة صفنا تكون معهم لا مع غيرهم من أهل البدع

المنحرفين، أو الفرق الضالة.

وختاماً: ما أجمل كلام الإمام محمد الخضر حسين في كتابه الرائع (السنة

والبدعة) .. حين كتب: (وإنما يتحد المسلمون تحت راية من يحترمونه لعدله

واجتهاده في الحق جهاداً يطمس على أثر الباطل، وإنما يقيم أحكام الشريعة على

وجهها من يكون في لسانه حجة وفي يده قوة) [٥] .


(١) رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - باب: من الدين الفرار من الفتن.
(٢) أخرجه الترمذي بسند جيد.
(٣) اقرأ الخطة التي فعلها نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - مع أعداء المسلمين، في زاد المعاد (٣ /٢٧٣ - ٢٧٤) .
(٤) المدهش (ص ٢٩٩) .
(٥) السنة والبدعة، ص ٢٩.