للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حين تصنع الأحداث المنهج]

محمد الدويش

لا يستطيع الناس أن يعيشوا خارج واقعهم، ولا يمكن لمن يسعى بحركة إيجابية لبناء المجتمع وإصلاحه أن يتجاهل الواقع وتداعياته، ولا أن يعيش في إطار الماضي وحده.

وكما أن الأحداث وتغيرات الواقع تفرض علينا أن نعايشها ونعيها، فهي تكشف لنا كثيراً من الثغرات وجوانب الخلل في أدائنا البشري الذي لن يعصمه انتماؤنا للمنهج المعصوم في أصله.

وهي كذلك قد تنقلنا إلى واقع آخر له متغيرات غير تلك التي رسمنا خلالها بعض مواقفنا وأساليبنا مما يفرض علينا المراجعة.

وإن جمود بعض الناس إزاء متغيرات الواقع، وتحويلهم الوسائل إلى غايات، والمتغيرات إلى ثوابت، هذا الجمود لا يسوِّغ ما تفعله فئة أخرى.

لقد تعالت أصوات تدعو إلى مراجعة نصوص القرآن والسنة وثوابت الدين لتتلاءم مع ما نعيشه اليوم من متغيرات وكأن الواقع هو الذي يصنع الدين؟

نعم! إن كثيراً من هؤلاء يقرر في مبدأ حديثه ووسطه وخاتمته أن المُحْكَمَات لا جدال فيها ولا نقاش، لكن الواقع والممارسة كثيراً ما تتجاوز ذلك.

حين نقرأ القرآن ونصوص السنة؛ فإن آيات الجهاد والسيف واضحة جلية؛ فالجهاد ذروة سنام الإسلام، والطائفة المنصورة تقاتل في سبيل الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بُعِثَ بالسيف بين يدي الساعة كما بُعِثَ رحمة للعالمين، وهو نبي الملحمة كما أنه نبي المرحمة.

وكما أن أولئك الذين لا يرون من الدين إلا هذه النصوص، ويتجاهلون النصوص الأخرى يختزلون الدين، ويبدون صورة مشوهة له؛ فالآخرون الذين يغيبونها هم الآخرون يشوهون الدين.

وقل مثل ذلك في النصوص الواردة في الولاء والبراء، والواردة في افتراق الأمة وأهل البدع والأهواء، والواردة في التشبه بالكفار ... وهكذا.

إننا لا ننفي أن هناك من يسيء فهم كثير من هذه النصوص، ولا ننفي أن هناك من يسيء تطبيقها، وأن هناك من لا ينظر نظرة شاملة، لكن خطأ هؤلاء لا ينبغي أن يقودنا إلى تطرف وخطأ آخر.

إننا حَمَلَةُ دين جاء به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وحَمَلَةُ منهج قويم، وثِقَتُنا بمنهجنا وديننا ينبغي أن تتجاوز أزمات الواقع، ودينُنا ومنهجُنا ينبغي أن يُفهَم كما هو وكما جاء من عند الله، لا أن تكون مرجعيتنا في ذلك هي أزمات الواقع، فيغدو كل يوم لنا دين أو منهج.

وإنه لمن هوان الأمة أن يستخفَّها الذين لا يوقنون، فتسعى لمراجعة دينها وفق شعارات الغرب البراقة؛ الغرب الذي يتشدق بحقوق الإنسان والعدالة والمساواة وهو يسوم نخبة من شباب المسلمين سوء العذاب في أقفاص جوانتنامو متجاوزاً حقوق الحيوان فضلاً عن حقوق الإنسان؛ الغرب الذي يعدُّ العمل الخيري والإغاثي جريمة حين يصدر من أمة الإسلام؛ بينما مؤسسات التنصير والتشويه الغربي تفوق ميزانياتها وإمكاناتها كثيراً من دول المسلمين فضلاً عن مؤسساتهم.

الغرب الذي يتربع على ترسانات نووية كافية لإبادة العالم كله مرات عديدة، ويبيد دولاً للاشتباه في امتلاك أسلحة الدمار الشامل، ويتحدث عن الحرب الاستباقية بينما يخجل فئام من قومنا أن ندرِّس لأبنائنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاَّ إله إلا الله» (١) .

إننا بحاجة للحكمة والاتزان، وللوعي والهدوء، وبحاجة إلى أن نعيش واقعنا، لكن ذلك كله لا ينبغي أن يقودنا إلى أن يكون منهجنا إفرازاً للواقع الذي نعيشه فحسب.


(١) البخاري كتاب الإيمان، رقم ٢٤، ومسلم كتاب الإيمان، رقم ٣١.