للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

علماء معاصرون

[الشيخ محمد الخضر حسين]

(١٢٩٣-١٣٧٣) هـ

أحمد عبد العزيز أبو عامر

يحفل تاريخنا الإسلامي في القديم والحديث بنماذج مشرفة للعلماء الذين

ضربوا المثل الأعلى في الفضل والعلم والجهاد، وكثير من هؤلاء مغمورون،

وقليل من الناس من يعرفهم.

وسأحاول في هذه المقالة عرض حياة علم من هؤلاء العلماء الأعلام، وسترى

فيه أخي القارئ، نموذجاً للصبر على العلم والتحصيل والتبليغ والجهاد والمواقف

الجريئة. فما أحوجنا لأمثاله من العلماء العاملين الذين هم بحق ورثة الأنبياء.

هو: محمد الخضر حسين الذي ينتسب إلى أسرة عريقة في العلم والشرف،

حيث تعود أسرته إلى البيت العمري في بلدة (طولقة) جنوب الجزائر، وقد رحل

والده إلى (نفطة) من بلاد الجريد بتونس بصحبة صهره (مصطفى بن عزوز) حينما

دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر، ومما يدل على عراقة أسرته في العلم أن منها جده (مصطفى بن عزوز) وأبو جده لأمه (محمد بن عزوز) ، من أفاضل علماء

تونس، وخاله (محمد المكي) من كبار العلماء وكان موضع الإجلال في الخلافة

العثمانية.

وسنتتبع حياة عالمنا في مراحل ثلاث:

الأولى: في تونس: حيث ولد الشيخ بنفطة عام ١٢٩٣، وعلى أرضها درج

ونشأ، وهو - كأي عالم مسلم - تبدأ حياته في أجواء البيت المسلم، والأسرة

المسلمة، ثم أخذ العلم في نفطة وكان لا يتعدى مبادئ علوم الدين ووسائلها، وقد

ذكر أن والدته قد لقنته مع إخوانه (الكفراوي) في النحو و (السفطي) في الفقه

المالكي، وفي عام ١٣٠٦ انتقل مع أسرته إلى العاصمة، فتعلم بالابتدائي، وحفظ

القرآن مما خوله الانتظام بجامع الزيتونة فجد واجتهد وثابر على مواصلة العلم،

حتى صار مثار إعجاب أساتذته وعارفيه، حيث درس على أستاذه (سالم أبو

حاجب) صحيح البخاري، وعنه أخذ ميوله الإصلاحية وأخذ التفسير عن أستاذيه

(عمر بن الشيخ) و (محمد النجار) ، وفي عام ١٣١٦ نال شهادة (التطويع) التي

تخول حاملها إلقاء الدروس في الزيتونة تطوعاً وكانت هذه الطريقة درباً للظفر

بالمناصب العلمية وميداناً للخبرة والتدريب على مهنة التعليم، فعظمت مكانته في

نفوس زملائه، وذاع صيته في البلاد حتى صار من قادة الفكر وذوي النفوذ،

وأعجب به طلبة الزيتونة وكانت الحركة الفكرية هناك في حاجة لإبراز نشرة

دورية تنطق بلسانها، ولم يكن يوجد آنذاك بتونس سوى الصحف. فقام بإنشاء مجلته (السعادة العظمى) فنالت إعجاب العلماء والأدباء وساء بعضهم صدورها لما

اتسمت به من نزعة الحرية في النقد واحترام التفكير السليم، ولتأييدها فتح باب

الاجتهاد حيث قال الشيخ عنه في مقدمة العدد الأول:

(.. إن دعوى أن باب الاجتهاد قد أغلق دعوى لا تسمع إلا إذا أيدها دليل

يوازن في قوته الدليل الذي فتح به باب الاجتهاد) .

وكان منهج المجلة كما جاء في المقدمة أيضاً يتمثل في:

١- افتتاحية لكل عدد تحث على المحافظة على مجدنا وتاريخنا.

٢- تعرض لعيون المباحث العلمية.

٣- ما يكون مرقاة لصناعة الشعر والنثر.

٤- الأخلاق كيف تنحرف وبم تستقيم.

٥- الأسئلة والمقترحات.

٦- الخاتمة ومسائل شتى.

وهكذا صدرت هذه المجلة فملأت فراغاً كبيراً في ميدان الثقافة

الإسلامية وتسابق العلماء والكتاب للمشاركة فيها حتى أغلقها المستعمر الفرنسي

حينما تعرض لهجومها عام ١٣٢٢ هـ أي بعد مضي عام واحد فقط على صدورها، فاتجهت إلى الشيخ الجمعيات الرسمية وغيرها للاشتراك في أعمالها، ثم تولى قضاء (بنزرت) عام ١٣٢٣ مع الخطابة والتدريس بجامعها، وحدثت اشتباكات بين المواطنين المستعمر، فتطور الأمر، وأعلنت الأحكام العرفية وعطلت الصحف، وسجن أو نفي معظم ذوي الشأن من القادة والمفكرين فأصبحت كل حركة تبدو من الطلاب محمولة عليه. فنظر إليه المسؤولون شذراً، خصوصاً بعد إضراب الطلاب عن التعليم. وفي هذا الجو المكهرب والمحبوك بالمؤامرات دفع به الضيق إلى طلب حياته الفكرية والعملية في خارج تونس، خصوصاً وأنه من أنصار (الجامعة الإسلامية) الذين يؤمنون بخدمة الإسلام خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان.

فقام بعدة سفرات متوالية بادئاً بالجزائر عام ١٣٢٧ لإلقاء المحاضرات

والدروس فلقي ترحيباً من علمائها، وكانت هذه الرحلة بداية جديدة شرع بعدها في

إعداد نفسه وأفكاره الإصلاحية. ثم عاد إلى تونس لمزاولة التدريس. واشترك في

مناظرة للتدريس من الدرجة الأولى، فحرم من النجاح فحز ذلك في نفسه لسيطرة

روح المحاباة على الحياة العلمية في بلده.

وفي عام ١٣٢٩ وجهت إليه تهمة بث العداء للغرب، ولاسيما فرنسا، فيمم

وجهه صوب الشرق، وزار كثيراً من بلدانه، وزار خاله في الآستانة ولعل هذه

الرحلة لاكتشاف أي محل منها يلقي فيه عصا الترحال. ثم عاد لتونس فلم يطب له

المقام والمستعمر من ورائه.

المرحلة الثانية: عدم الاستقرار:

وصل دمشق عام ١٣٣٠ مع أسرته ومن ضمنها أخواه العالمان المكي وزين

العابدين، فعين الشيخ (محمد الخضر حسين) مدرساً بالمدرسة السلطانية، وألقى في

جامع بني أمية دروساً قدّره العلماء عليها، وتوثقت بينه وبين علماء الشام الصلة

وبخاصة الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي، ولما كانت آنذاك سكة الحديد الحجازية

سالكة إلى المدينة المنورة زار المسجد النبوي عام ١٣٣١ وله في هذه الرحلة قصيدة

مطلعها:

أحييك والآماق ترسل مدمعاً ... كأني أحدو بالسلام مودعاً

وفي هذه الفترة شده الحنين إلى تونس الخضراء، فزارها وله في ديوانه

ذكريات في الصفحات ٢٦، ١٣٤.

وكان الشيخ دائماً ما يدعو للإخاء بين العرب وإخوانهم الأتراك حينما بدأت

النعرة القومية تفرقهم. وقد ذهب إلى الآستانة، ولقي وزير الحربية (أنور باشا)

فاختير محرراً للقلم العربي هناك فعرف دخيلة الدولة، فأصيب بخيبة أمل للواقع

المؤلم الذي لمسه ورآه رؤيا العين، فنجد روحه الكبيرة تتمزق وهي ترى دولة

الخلافة تحتضر وقال في قصيدة (بكاء على مجد ضائع) :

... أدمى فؤادي أن أرى ال ... أقلام ترسف في قيود

وأرى سياسة أمتي ... في قبضة الخصم العنيد

وفي عام ١٣٣٣ هـ أرسله (أنور باشا) إلى برلين في مهمة رسمية، ولعلها

للمشاركة في بث الدعاية في صفوف المغاربة والتونسيين داخل الجيش الفرنسي

والأسرى في ألمانيا لحملهم على النضال ضد فرنسا، أو التطوع في الحركات

الجهادية. وظل هناك تسعة أشهر أتقن فيها اللغة الألمانية وقام بمهمته أحسن قيام،

وقد نقل لنا من رحلته هذه نماذج طيبة مما يحسن اقتباسه، لما فيه من الحث على

العلم والجد والسمو. نجدها مفرقة في كتبه ففي كتاب (الهداية الإسلامية)

ص١٥٥، ١٦٤، ١٧٥، وفي كتابه (دراسات في الشريعة) ص ١٣٥، ولما عاد للآستانة وجد خاله قد مات فضاقت به البلد، وعاد إلى دمشق، فاعتقله (جمال باشا) عام ١٣٣٤ بتهمة علمه بالحركات السرية المعادية للأتراك، ومكث في السجن سنة وأربعة أشهر برئت بعدها ساحته، وأطلق سراحه فعاد للآستانة فأرسل في مهمة أخرى لألمانيا. ثم عاد إلى دمشق، وتولى التدريس بثلاثة معاهد هي: (المدرسة السلطانية - المدرسة العسكرية - المدرسة العثمانية) ثم نزح عن دمشق التي أحبها حينما أصدر ضده حكم غيابي بالإعدام - لما قام به ضد فرنسا من نشاطات في رحلاته لأوربا - وذلك بعد دخول المستعمر الفرنسي إلى سورية، وكان أمله أن يعود إلى تونس، ولكن إرادة الله شاءت أن تكون مصر هي مطافه الأخير، وبهذا تتم المرحلة الثانية.

المرحلة الثالثة: مصر:

وقد وصلها عام ١٣٣٩ فوجد بها صفوة من أصدقائه الذين تعرف عليهم

بدمشق ومنهم: (محب الدين الخطيب) ونظراً لمكانته العلمية والأدبية اشتغل بالكتابة

والتحرير، وكان العلامة (أحمد تيمور) من أول من قدر الشيخ في علمه وأدبه.

فساعده وتوطدت العلاقة بينهما. ثم كسبته دار الكتب المصرية. مع نشاطه في

الدروس والمحاضرات وقدم للأزهر ممتحناً أمام لجنة من العلماء اكتشفت آفاق علمه، فاعجبت به أيما إعجاب فنال على أثر ذلك (العالمية) فأصبح من كبار الأساتذة في

كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة، وفي عام ١٣٤٤ أصدر كتاب

(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) رد فيه على الشيخ (علي عبد الرزاق) فيما

افتراه على الإسلام من دعوته المشبوهة للفصل بين الدين والدولة، وفي عام

١٣٤٥ أصدر كتابه (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) رداً على طه حسين فيما

زعمه في قضية انتحال الشعر الجاهلي وما ضمنه من افتراءات ضد القرآن الكريم. وفي عام ١٣٤٦ هـ شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وفي السنة نفسها

أسس جمعية (الهداية الإسلامية) والتي كانت تهدف للقيام بما يرشد إليه الدين

الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق

الإسلام ومقاومة مفتريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها،

وفي عام ١٣٤٩ هـ صدرت مجلة (نور الإسلام - الأزهر حالياً) وتولى رئاسة

تحريرها فترة طويلة. وفي عام ١٣٥١ منح الجنسية المصرية ثم صار عضواً

بالمجمع اللغوي. ثم تولى رئاسة تحرير مجلة (لواء الإسلام) مدة. وفي عام ١٣٧٠

تقدم بطلب عضوية جمعية كبار العلماء فنالها ببحثه (القياس في اللغة) وفي ٢١/١٢

/١٣٧١ هـ تولى مشيخة الأزهر وفي ذهنه رسالة طالما تمنى قيام الأزهر بها،

وتحمل هذا العبء بصبر وجد وفي عهده أرسل وعاظ من الأزهر إلى السودان

ولاسيما جنوبه، وكان يصدر رأي الإسلام في المواقف الحاسمة، وعمل على

اتصال الأزهر بالمجتمع واستمر على هذا المنوال، ولما لم يكن للأزهر ما أراد

أبى إلا الاستقالة.

ولابد من ختم هذا المقالة بذكر بعض من المواقف الجريئة التي تدل على

شجاعته، وأنه لا يخشى في قول الحق لومة لائم شأنه شأن غيره من علماء السلف

الذين صدعوا بالحق في وجه الطغيان في كل زمان ومكان.

١- حينما كان في تونس لم تمنعه وظيفته من القيام بواجبه في الدعوة

والإصلاح بالرغم من أن الاستعمار ينيخ بكلكله على البلاد، فقد ألقى في نادي

(قدماء مدرسة الصادقية) عام ١٣٢٤ محاضرته (الحرية في الإسلام) والتي قال فيها:

(إن الأمة التي بليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها

بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد وننفي عنها لقب الحرية) .

ثم بيّن حقيقتي الشورى والمساواة، ثم تحدث عن حق الناس في حفظ الأموال

والأعراض والدماء والدين وخطاب الأمراء. ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد وهذه

المحاضرة من دراساته التي تدل على شجاعته وعلى نزعته المبكرة للحرية

المسؤولة وفهمه لمنهج الإسلام فهماً راقياً سليماً.

٢- وفي عام ١٣٢٦ عرضت عليه السلطة المستعمرة الاشتراك في المحكمة

المختلطة التي يكون أحد طرفيها أجنبياً. فرفض أن يكون قاضياً أو مستشاراً في

ظل الاستعمار. ولخدمة مصالحه وتحت إمرة قانون لا يحكم بما أنزل الله.

٣- ولا أزال أذكر ما قصه علينا أستاذ أزهري كان آنذاك طالباً في أصول

الدين إبان رئاسة الشيخ للأزهر، حين دعا أحد أعضاء مجلس الثورة إلى مساواة

الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك اتصل بهم وأنذرهم إن لم يتراجعوا عن

ما قيل فإنه سيلبس كفنه ويستنفر الشعب لزلزلة الحكومة لاعتدائها على حكم من

أحكام الله، فكان له ما أراد.

أواخر حياته:

واستمر الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- في أواخر حياته يلقي

المحاضرات ويمد المجلات والصحف بمقالاته ودراساته القيمة، بالرغم مما اعتراه

من كبر السن والحاجة إلى الراحة وهذا ليس غريباً عمن عرفنا مشوار حياته المليء

بالجد والاجتهاد والجهاد.

وكان أمله أن يرى الأمة متحدة ومتضامنة لتكون كما أراد الله خير أمة

أخرجت للناس، وحسبه أنه قدم الكثير مما لانجده عند الكثير من علماء هذا الزمان.

وفي عام ١٣٧٧ هـ انتقل إلي رحاب الله، ودفن في مقبرة أصدقائه آل

تيمور جزاه الله عن الإسلام خير الجزاء، ورحمه رحمة واسعة، وعفا الله عنا

وعنه، وأرجو أن يكون لنا لقاء آخر مع وقفات عند علم الشيخ وما طرحه من

أفكار في الدعوة والإصلاح.