للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشيخ عباسي مدني يكتب عن:]

حاجات النظام التربوي إلى الإصلاح

د. عباسي مدني

في العدد الماضي تحدث فضيلة الدكتور عباسي مدني عن أهداف إصلاح النظام التربوي، وأسباب تخلف النظم التربوية في العالم الإسلامي من وجهة نظر العلمانيين، وبيان فساد ما ذهبوا إليه، ثم بين أن العملية الإصلاحية عملية منهجية، وأن أي خطأ يرتكبه المصلحون في أي مرحلة من المراحل النظرية أو الإجرائية تترتب عليه عواقب ومشكلات ... وفي هذا العدد يُتم حديثه عن إصلاح النظام التربوي. ـ البيان ـ

- مراحل إعداد الخطة الإصلاحية:

إن إرادة الأمة هي أول ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند إعداد الخطة؛ لأن إرادة الأمة أساسية أيضاً في مرحلة تبنيها والعمل بها؛ إذ بدونها لا يتحقق أمر ذو بال من الإصلاح، ويصبح هذا الأخير تعسفاً واضطهاداً. وإذا كانت إرادة الأمة مرتبطة بالاختيار، فإنه لا اختيار بغير حرية؛ فالأمة الحرة هي التي تقرر مصيرها بنفسها؛ وذلك عندما تكون متحكمة في أمورها وتمارس مسؤولياتها وتقرر ما بدا لها أنه الأصلح والأفضل في ضوء قِيَمها: دينها وأخلاقها وفكرها الأصيل؛ لأن الإصلاح يبدأ قبل كل شيء من وعي الأمة لذاتها عندما تدرك بوضوح من هي وكيف هي؟ وماذا يجب أن تكون عليه؟ ومن ثمة فإن أسوأ الأخطاء وأعظم الجرائم التي يمكن أن تُرتكب في حق الأمم هي أن تُفرض البدائل الإصلاحية على الأمة فرضاً، وتُفسر على العمل بها قسراً، كالذي حدث للبلاد المستعمرة، وفي تركيا أيام مصطفى كمال وغيرها من الأقطار الإسلامية، والتي ما تزال الأمة تعاني من آثارها إلى اليوم؛ لأن العملية الإصلاحية هي عملية شرعية وأخلاقية؛ فهي عملية شرعية؛ لأنها تستلزم الاختيار وإرادة الأفضل والاقتناع بأنه كذلك باتفاق. وهي أخلاقية؛ لأنها تقوم على شعور الأمة بمسؤولياتها نحو ما تختاره أمام أجيالها المتعاقبة، وبالنسبة أيضاً إلى عقيدتها ورسالتها ودعوتها؛ كل ذلك عن طواعية واقتناع وتتبناه عن رضا وحرية؛ لأن الإرادة مرتبطة بالحرية؛ فلا إرادة لمن لا حرية له، وإلا فما الفرق بين الخطة الإصلاحية الشرعية، والخطة الاستعمارية القسرية؟ لأن القهر عدو للإرادة وسالب للحرية وخصم للأخلاق والشرعية، ومخرب للحضارة. فمنذ أن فقدت الشعوب الإسلامية حقها في اختيار نموذج الحياة في ضوء عقيدتها وأخلاقها وشريعتها وخبرتها التاريخية ومستقبلها توقفت على الإنتاج الحضاري؛ لأن هذا الأخير يحتاج إلى جهود مبدعة ولا إبداع بدون إرادة واعية، وبدون اقتناع، ولا اقتناع بدون حق وعدالة وحرية.

فاقتناع الأمة الإسلامية بسلامة دينها الحنيف وشريعته السمحة وأخلاقه الفاضلة، وعلمها بقدرته على ضمان سعادة الدارين الدنيا والآخرة في كل زمان ومكان جعلها بالضرورة ترفض ما عداه من البدائل والنماذج الإصلاحية والأخرى وإن فرضت عليها فرضاً وأجبرت عليها قسراً.

لذلك ساءت عواقب التغيير القسري، وخابت خططه إلا في ما أفسدته من أوضاع اجتماعية وثقافية وتربوية، وما أحدثته من تناقضات، وما بثته من اتجاهات وانحرافات وتشويه للمنظومات التربوية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. دليلنا على ذلك أن الفرض لبدائل الحداثة لم يحقق النهضة المرجوة، بل عمل على تزييفها وتحريف اتجاهها؛ والسبب في ذلك أن النهضة لا تحققها العزائم المحطمة والذكاء المجمد والعبقرية المغمورة والضمائر المخدرة. فالذي يعود إلى التاريخ يجد أن النهضة وليدة العزائم المحفزة والذكاء المتقد والعبقرية الملهمة والضمائر اليقظة والفكر الحر. لقد كان لانعدام مراعاة إرادة الأمة في الخطة الإصلاحية التربوية أن زادت المشكلات تعقيداً والأزمات تفاقماً وحدَّة، ولا يمكن لأي خطة إصلاحية أن تنجح ما لم تراعِ الشروط المنهجية كالعدالة ببعدها الشرعي والأخلاقي مروراً بالمرحلة المنهجية الإجرائية اللازمة حسب ما جاء عند علماء التربية المقارنة. ويرى «هولمس» وغيره من علماء هذا العلم أن الخطة الإصلاحية الناجحة تمر في الغالب على المراحل التالية:

أـ مرحلة الإعداد.

ب ـ مرحلة التبني.

ج ـ مرحلة التطبيق.

وتشمل عندهم كل مرحلة مجموعة من الإجراءات المنهجية؛ بحيث كل مرحلة تكتسب فيها الخطة الإصلاحية الخصائصَ المنهجية اللازمة. وأي تقصير او نقص أو خطأ يقع في المرحلة من هذه المراحل تنجم عنه عراقيل من شانها أنها تعوق السير الطبيعي للعملية الإصلاحية. ولأهمية هذا التقسيم الإجرائي للعملية الإصلاحية سنعمل على مراعاته مع إضافة مرحلة ما قبل الإعداد؛ وذلك نظراً لما يحدث من أخطاء ليس لها فقط انعكاسات على مرحلة الإعداد، بل تؤثر في كل المراحل اللاحقة أيضاً، وقد لا نكون مبالغين عندما نعتبرها مرحلة مصيرية للخطة الإصلاحية برمتها وفي كل مراحلها.

أ - مرحلة ما قبل الإعداد:

ونظراً لأهمية اختيار الأشخاص الفنيين الذين يُعِدُّون الخطة الإصلاحية إعداداً فنياً أولياً، ونظراً لتأثير هؤلاء في اتجاه الخطة ومفاهيمها وغاياتها ومراميها ... مهما كانت طريق الإعداد تبدو فنية صرفة؛ فإن مرحلة ما قبل الإعداد مرحلة أساسية لا بد فيها من مراعاة أمور كثيرة. من ذلك إدخال هذه المرحلة في نطاق الشرعية؛ فعند تعيين هيئة الإعداد: ما هي المعايير أو الطرق التي يتم على أساسها تعيين أفراد هذه الهيئة؟ لا شك أن ثمة معايير فنية تشترك فيها أغلب الهيئات التي يجب أن تكون في مستوى من المؤهل العلمي المتخصص. لكن التخصص سوف لا يكون ذا مجال واحد؛ فهناك الجانب الإداري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ... زيادة على ذلك مراعاة الشروط البيداغوجية المعقدة. ومن جهة أخرى فإنه لا بد من أن تكون هيئة الإعداد ممثلة لكل فئات المجتمع لتكون هي الأخرى شرعية، أو بمعنى آخر فإن الهيئة المكلفة بإعداد مشروع الخطة هي ذاتها يجب أن تكون ممثلة للأمة بأسرها تمثيلاً عادلاً وصادقاً. وأما إذا كانت المعايير التي تعين على أساسها هيئة الإعداد مجرد معايير فنية تقنية صرفة؛ فإن الأمة تكون حينئذ تحت سلطة التكنوقراطيين والبيروقراطيين، فتعطي لهؤلاء كل الصلاحيات الفنية والإدارية والسياسية وغيرها. ففي هذه الحالة يأتي المشروع حسب اتجاه هؤلاء البيروقراطيين والفنيين، فتقطع النظر عن رأي الأمة وإرادتها. وفي حالة ما إذا تعدّدت الطوائف والديانات والملل والنحل والإيديولوجيات، وكان التكنوقراطي من طائفة أو أخرى، أو اتجاه الخطة لصالح تلك التي ينتمي إليها التكنوقراطي، وفي هذه الحالة تصبح الخطة أبعد ما تكون عن الشرعية والعدل؛ ففي البلاد التي يقل فيها الوعي التربوي والسياسي تسند أمور إعداد الخطة الإصلاحية إلى أشخاص لا تتوفر فيهم الشروط المذكورة كالشرعية والعدالة والأمانة العلمية؛ عندئذ يتصرفون كما لو كان الأمر أمرهم هم وحدهم، وفي هذا الحال تسير الخطة من أول وهلة على غير الشرع، وتبدو أبعد ما تكون عن العدالة والفضيلة، فتنعدم الموضوعية، وتختل أدق القواعد الفنية، فتطغى الأهواء على العقول، وتجمح العاطفة بأصحابها، فيقعون في الشطط والتطرف سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا.

ففي مثل هذه الأمور العظيمة والمهام الخطيرة التي يتوقف عليها مصير أمة بأكملها، وترتبط به مصلحة الأجيال المتعاقبة، فلا بد من الموضوعية الكاملة والأمانة التامة والعدالة. إن الأمة التي وقعت تحت سيطرة البيروقراطيين التكنوقراطيين أمة محرومة من حرية القرار والعدالة الاجتماعية، فتصير شرذمة من الناس تتحكم في مصيرها وتعبث بآمال أبنائها ومستقبلها، ومن ثمة فإنه يمكن القول بأن مرحلة ما قبل الإعداد لا تقل أهمية عن التي تليها إذا لم تكن أحسم منها، وحتى تختار العناصر التي تشكل منها لجنة الإعداد على أساس العدالة يجب أن تتوفر الموضوعية والكفاءة والتمثيل، مبعدين الأهواء والعواطف والأغراض.

ولشدة تعقد الأمور لا بدّ أن تعين لجنة الإعداد على ضوء الشروط التالية:

أـ أن تكون لجنة الإعداد ممثلة للمجتمع أصدق تمثيل، فلا تكون لائكية (*) ، والمجتمع متدين، ولا تُشَكَّل من تشكيلة دينية واحدة، والمجتمع متعدد الديانات، ولا يجوز العكس.

ب ـ ألا تتألف اللجنة من خبراء أجانب يجهلون الحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والحضارية، أو يتجاهلونها لأمر ما.

ج ـ أن يكون اختيار الفنيين من مختلف التخصصات التربوية والثقافية والإدارية والسياسية لمختلف المؤسسات؛ على أن تكون تحت إشراف محكم يضمن تكاملها وتعاونها في إطار منهجي موحد.

د ـ أن تكون التخصصات في تنوعها ونوعيتها في المستوى المطلوب إلى جانب الشعور بالمسؤولية الأخلاقية.

هـ ـ أن توفر اللجنة الفنية كافة الشروط المنهجية والظروف المناسبة اللازمة لإعداد مثل هذه الخطة على أكمل الوجوه وأتمها.

مع العلم أن كل هذه الاحتياطات قد لا تكفي إلا إذا تدخلت الحكمة التي ترتفع إلى مستوى المسؤوليات التاريخية، وتتجاوز الاعتبارات الشخصية من الهوى والزيغ والشطط والضلال والتحيز والميل. معنى هذا أنه لا بد من لجنة حكماء للإشراف على عملية عن كثب، ووضع الأهداف الكبرى للسياسة التعليمية حتى تكون المنظومة التربوية في مستوى آمال أجيال الأمة المتعاقبة، وحسب متطلبات زمانهم الذي خُلقوا له، وقد يختلف كثيراً عن زماننا، وهذه من أعوص مشكلات السياسة التربوية في مرحلة الإعداد.

ب ـ مرحلة الإعداد:

من أهم مميزات هذه المرحلة معرفة أهم الأغراض الإصلاحية التي تتخذها العملية الإصلاحية هدفاً لها، ولذلك تعد الغائية من أهم الشروط المنهجية للعملية الإصلاحية التربوية؛ فهي التي تضفي على الإصلاح التربوي صفة الوعي والعمق والجدة والأصالة والفعالية؛ حيث تبرز العملية الإصلاحية في إطار منهجي متكامل، فلا تتعارض الوحدة والتنوع، ولا الجدة والأصالة، ولا الكمية والكيفية؛ إذ من المتطلبات المنهجية عند إعداد الخطة الإصلاحية معرفة ما انتهى إليه النظام التربوي من أوضاع لمختلف المؤسسات والمستويات من كل الجوانب الإيجابية والسلبية، ومعرفة الأسباب والعلل عن طريق التقويم الموضوعي الدقيق والتتبع الإجرائي للحياة التربوية.

إن التقويم التربوي لمستوى التحصيل في مختلف المستويات والمؤسسات يساعد دوماًِ على معرفة مستوى التطور التربوي للمنظومة التربوية، وكذلك الشأن بالنسبة إلى اختيار الوسائل الفنية التي تتم بواسطتها العملية التربوية؛ فإنه مطلوب دوماً للتأكيد من نجاعتها وسلامتها والعمل على تطويرها. ويدخل في هذا الإطار المعلم وظروفه النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى وظيفته ورتبته ودرايته ومدى مردودها على مستوى معيشته ومكانته في المجتمع. لعله ليس من نافلة القول ضرورة التركيز على الظروف التي تجري فيها العملية التربوية وطرق التعليم ومدة التمرين وطرق التصحيح والترسيخ للخبرات التربوية، وكذلك مدى العناية بشخصية المتعلم بصورة كلية، والفروق الفردية، ومدى قدرة المحتوى التربوي على تشجيع القدارت المختلفة والهمم والمواهب المتنوعة، وتوجيه الميول المختلفة، وإتقان الخبرات.

إن اختيار مدى القناعة الشخصية الإيمانية والخلقية والقيم الجمالية والفنية تساعد على التتبع الإجرائي لنمو الشخص بالطرق السوية للتأكد من سلامة ونجاعة العناية والرعاية في تهيئة الشروط البيئية اللازمة للنمو السوي لشخصية المتعلم؛ على أن هذا كله لا يكفي، بل لا بد من مقارنة مستوى التحصيل بمستوى الجهد المبذول لتحقيق النوعية التربوية المطلوبة. فإذا كنا قد عرفنا مقدار الجهد المبذول في مختلف المستويات الدنيا والعليا فإن هذه النتيجة لا تكون ذات دلالة إلا إذا ربطنا بين الحدين الأدنى والأقصى من الجهد وبين مردود كل منهما. فلتقدير قيمة النتائج بقيمة الجهود لا بد من هذه المقارنة؛ فإن كان المردود أكثر من الجهد علمنا أن الطريقة التي تم بها العمل التربوي ناجحة، وإن كان العكس أدركنا خطأ التوجيه؛ لأن الحكمة التربوية تقتضي توظيف الجهود أثناء العملية التربوية توظيفاً جيداً. ولئن قامت العملية التربوية على الجهد، ولن تقوم إلا عليه فإن توجيه الجهد يعد من أهم الوسائل التربوية التي على ضوئها تحدد النوعية التربوية. ومن ثم فإن العملية التربوية عملية منهجية بالدرجة الأولى وهادفة.

وحتى في هذا الحال من بذل الجهد الأقصى والوصول إلى أعلى النتائج بالنوعية التربوية المحلية لا يكفي ما لم يقارن المستوى المحلي بمستويات أخرى بنفس الستوى التعليمي لأرقى النظم التربوية في العالم. وهو ما يساعد إلى حد بعيد على تطوير العملية التربوية والوصول بها إلى المستوى الأعلى من النوعية التربوية العالمية المتفوقة. فإذا كانت معرفة الفروق الفردية تفيد المعلم عند وضع الخطة العلمية التربوية وإعدادها قبل التطبيق لتكييف المادة التربوية حسب متطلبات المواهب والقدرات والاستعدادات المختلفة؛ فإنه أيضاً بات من الضروري إدراك مستوى الخبرة النوعية عند أنجح النظم التربوية في العالم، وأسباب ذلك التفوق أو عكسه.

وهذه المعايير الفنية لكل جوانب العملية التربوية تساعد إلى حد ما على إدراك ما يمكن تعديله وتطويره، وتحقيق تلك المستويات من الخبرات الجدية دون أي مساس بما له علاقة بالشخصية التي لا بد للنظام ـ أي نظام تربوي ـ أن يحافظ عليها؛ لأنها تمثل جوهر أصالته.

أما التقنيات التربوية البيداغوجية فهي ليست وقفاً على أحد، بل تُعد القاسم المشترك بين مختلف النظم التربوية المتطورة؛ بحيث يمكن قياسها واختيارها وتعديلها وتطويرها دون حد ولا انقطاع. إنها نتيجة العبقرية التربوية على مستوى العالم كجهد مشترك بين الناس، وهذه المعايير الفنية التربوية هي التي بواسطتها نستطيع أن نعرف ما يمكن استعارته مما لا يجوز أخذه، ومما لا يكون مشاعاً بين الحضارات والنظم التربوية كالدين ومختلف القيم مما هو خاص بالأمة. فالمواد العلمية مثلاً والتقنية والخبرات التكنولوجية موجودة في كل المحتويات التربوية على الإطلاق باستثناء المؤسسات الدينية ومعاهد العلوم الإنسانية المختصة؛ فهي لا تحتاج في تخصصاتها إلى هذه المواد العلمية؛ باستثناء معهد علوم التربية الذي لا بد له من كل هذه العلوم والمعارف؛ لأنها تُكَوِّن المحتوى التربوي في جملته.

أما طرق مقارنتها فكثيرة تختلف باختلاف المناهج وطرق البحث في علوم التربية المقارنة والتي لا يسمح المقام بذكرها. وعلى الجملة فإن وضع رسم بياني لمستوى التحصيل أو النوعية التربوية ليس بالعسير، حيث يمكن أن تعطي صورة واضحة على الأوضاع التربوية المراد معرفتها كالرسم التالي:

معاهد مختصة بالبحث العلمي ي

معاهد مختصة ط

ما بعد الدكتوراه ح

ما بعد الجامعي ز

الجامعي ماجستير

وجامعي ليسانس هـ

ثانويء

تكميلي ج

ابتدائي ب

تقارن على هذا الأساس كل المواد العلمية في كل المستويات لمعرفة الفروق النوعية لمستوى التحصيل من مختلف النتائج في منظومات تربوية مختلفة.

ثم تأتي مرحلة المقارنة بين مختلف الرسوم البيانية حسب التدرج للقيم المحددة لكل من النوعية التربوية ومردودها في كل من المؤسسات التربوية والتقنية والحياة العملية في المعامل وغيرها كمردود في كل من المؤسسات التربوية والتقنية والحياة العملية في المعامل وغيرها كمردود للفرد والأمة؛ فمقارنة «أ» في الجزائر بـ «أ» في بلد كألمانيا الغربية واليابان أو غيرهما في مستوى التحصيل لنفس الدرجة والمستوى والمادة تكشف عن مجموعة من العوامل التي تتحكم في الظواهر التربوية، سواء أكانت تتعلق بالمحتوى أم الطرق ومختلف الوسائل البيداغوجية.

فإذا وجدنا مثلاً أن «أ» في ألمانيا يساوي مستوى التحصيل لـ «ب» أو «ج» في الجزائر أو اليابان، فإن هذا الفرق ذو دلالة في غاية الأهمية؛ لأن الفرق الكبير بين المستوى الواحد في مختلف البلدان أو النظم التربوية يعد مؤشراً خطيراً يساعد على تبيُّن الظواهر المراد دراستها؛ وهذه النتيجة إذا ساعدت على معرفة الفروق بين المنظومات التربوية فهي تساعد أيضاً على اكتشاف أسبابها وطرق معالجتها. وهذا ما يجعل الخطة الإصلاحية الجادة تتميز بالتحديد والدقة أبعد ما تكون عن الارتجال.

إن معرفة العوامل التي تتحكم في مستوى التحصيل في مؤسسة تربوية معينة ومنظومة ما في شروط ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية نتيجة لها شأنها في علوم التربية وغيرها من العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلوم السياسة والاقتصاد. وهكذا ترقى العلوم بدقة البحث والتحكم في الظواهر عن طريق التحكم في عواملها والقوانين التي لها الظواهر فضلاً عن تفسيرها. لكن الدراسة المقارنة لا تنتهي عند حد الكشف عن الفروق التي توجد بين المنظومات التربوية، بل تطمح إلى ما هو أهم من ذلك؛ أي تطمح إلى اختيار الحلول اختياراً واعياً مبنياً على بصيرة من الأمور وعلم بدقائق المسائل ومختلف أسرارها وتوقع نتائجها ... إلى غير ذلك مما يعطي الإصلاح صبغة غائية منهجية واضحة. فلا يكون الحل أسوأ من حال المشكل؛ لأن وراء كل حل خلفية إشكالية لا بدّ من معرفتها وإلا يصبح الإصلاح عبثاً لا غاية له. فإذا علمنا مثلاً أن مستوى التحصيل «ج» في الجزائر في مادة الرياضيات = مستوى التحصيل «ب» في ألمانيا أو سويسرا، ورحنا نرفع مستوى المحتوى التربوي في مادة الرياضيات أو بحسب مستوى «أ» و «ب» في ألمانيا وسويسرا دون أن نفكر في العوامل الأخرى ذات العلاقة المباشرة وتغيرها؛ كالمعلم ومستواه الثقافي والتربوي والبيداغوجي؛ فإن مجرد تغيير المحتوى التربوي لا يفيد شيئاً، بل قد يزيد المشكلة تعقيداً؛ فالمعلم الذي لم يكن له نصيب من الرياضيات غير نصيب الثقافة العامة لا يستطيع أن يتقن تدريسها كالمعلم الألماني المتخصّص بالإضافة إلى المدة الطويلة التي يقضيها في الإعداد والتربص التربوي في دور المعلمين المتطورة.

مع العلم أن الدراسات المقارنة بينت أن بعض النظم التربوية قد وصلت في تطور مؤسساتها إلى وضع برامج تخصصية للمتعلمين المتفوقين من الصفوف الابتدائية. ولكي يشجعوا القدرات التي قد يقضى عليها في المعهد إذا لم تجد العناية منذ المراحل المبكرة الأولى من التعليم يخصصون لهؤلاء الموهوبين عناية فائقة؛ فما أكثر الموهوبين الذين ضاعوا بسبب سوء حظهم في المرحلة الابتدائية التي لم يصادفوا فيها معلماً في المستوى المطلوب.

وهكذا الشأن في كل المستويات ومختلف مجالات المعرفة والتكنولوجية؛ فضحايا التخلف البيداغوجي الذين يترسبون في مختلف مستويات التعليم خسارة لا تقدر بثمن. وإن ما نضعه من مواهب ثرية ما أحوجنا إليها لبناء حضارتنا لا يعرف لها حد.

فالدراسة التي عالجت موضوع التسرب التربوي في كثير من النظم التربوية تبين بوضوح مقدار جناية النظم التربوية الفاشلة على نسبة عالية من الأجيال.

ومن جهة أخرى فإن النظم التي وسعت آفاق التربية، وأثْرَت محتوياتها بالتنوع، وطورت طرقها ووسائلها، وأعطت المعلمين ما يستحقونه من جدية التكوين وفائق الاحترام الأدبي والمادي، وحسنت الظروف الاجتماعية المدرسية، وفتحت الأبواب أمام المبادرات التربوية والمواهب المختلفة، لم تقض فقط على ظاهرة التسرب بل استطاعت أن تحصل على نتائج تربوية غير متوقعة.

إن من أهم النتائج التي توصل إليها علم النفس الحديث أن القدرات العقلية التي يتمتع بها الإنسان السوي لا حد لها؛ على أنها تحتاج إلى البيئة التربوية التي تكون في مستوى ثقافي يبرر المواهب، ويلهم العبقرية، ويشجع على أن تساهم بصفة أكثر فعالية ونجاعة في الرقي الحضاري الشامل.

فالدراسة الدقيقة للوضع التربوي للمنظومة سواء من الناحية النظرية أم العملية تصبح شرطاً من شروط الوعي والغائية الإصلاحية التربوية لضمان التطور السليم باستمرار؛ فبدونها لا يستطيع المصلح أن يعرف ما يجب تغييره وما يجب الإبقاء عليه. وعلى الجملة فإن التقنيات البيداغوجية ووسائلها، والعلوم والتكنولوجيا إنتاج للعبقرية البشرية المشتركة بين سائر الأمم دون تمييز أو فروق، ومن يدّعي غير ذلك فلا يستطيع أن يكذب التاريخ؛ إذ لم توجد حضارة في التاريخ بدأت من الصفر، بل كل واحدة انطلقت من حيث انتهت سابقتها. فإن كان للأواخر حظ المواصلة في تقرير الأصول وتطوير الفنون وتوسيع آفاق المعرفة على اختلاف ميادينها، فإن للأوائل على الأواخر فضل السبق وشرف البدء؛ فتاريخ الفكر ـ لا شك ـ يذكر لكل أمة فضلها، ويسجل لكل جيل جهوده، وما تميزت به عبقرية الإنسان في كل عصر ومصر.

على أن بعض المؤرخين بدافع العنصرية ينكرون جهود بعض الأمم المساهمة في البناء الحضاري الإنساني: فلا يعترفون بما أنتجته أمة من الأمم، كنكران بعض مؤرخي الفلسفة والعلوم والتربية لما بذلته الأمة الإسلامية وما نبغ فيها من علماء وعباقرة نابهين ومجتهدين في كل ميادين المعرفة لولاها ما عرفت الحضارة الحالية هذا التطور؛ مع العلم أن إنكارهم هذا لا يستطيع أن يغير من الحقيقة التاريخية شيئاً؛ فهذا إنتاجهم، وهذه آثارهم في من جاء بعدهم من مفكرين وعلماء ستبقى حجة على المنكرين ودليلاً على المزيفين لتاريخ الفكر والعلوم والفنون، ولئن خدعوا أنفسهم فلن يخدعوا التاريخ. يقول شوقي:

اخْدَعِ الأحياء ما شئتَ فلن

تجد التاريخ في المنخدعين

فبدافع التعصب يدعي بعضٌ أن شعوباً أذكى من شعوب، وأن العبقرية الفذّة هي للإنسان الأوروبي دون غيره؛ فهذا ادّعاء لا دليل له؛ فما أتى به علم النفس، وما جاء في تاريخ الحضارات لا يترك لهذا القول أي سند يذكر أو دليل مقنع. إن تفاوت الناس بحكم الفروق الفردية من أنواع الذكاء ودرجاته حسب الشروط البيولوجية والبيئية لا علاقة له باللون أو العنصر أو الجنس. فإن ما وهبه الله للإنسان في كل جنس وكل جيل من استعدادات وقدرات ومواهب تفوق الحصر وتتجاوز حدود إمكانيات التربية، ومهما حاولت هذه الأخيرة أن ترقى إلى مستوى تحصيل للمتعلمين؛ فإن ذلك ليس أبداً نقصاً في الفطرة، وإنما هي نقص في العناية والرعاية والتربية والتكوين؛ فالتربية مدعوة إلى أن تسمو إلى العدالة، وأن تنشد الخير للجميع دون ميز أو فرق أو تعصب، فتتخذ الحكمة ضالتها، والهدي دليلها، والحق والحقيقة غاية لها.

ونظراً لتزايد تعقد الحضارة ونمو مطالبها وخاصة حاجتها إلى أرقى المواهب والخبرات؛ فإن الإنسانية أحوج ما تكون إلى أجود تربية للموهوبين والعبقريات التي لا تخلو منها فطرة بشرية سليمة في كل أمة؛ بقطع النظر عن اللون أو العنصر أو الجنس أو الطبقة، بالإضافة إلى لزوم العناية بالعاديين حتى لا تكون العناية بفئة على حساب الأخرى حسب مقتضيات العدالة كما أسلفنا، دون أن ننسى المتخلفين أولي صعوبات التحصيل والمعوقين.

ولعلّ ظهور مؤسسات تربوية عالمية كاليونسكو والإسيسكو دليل قاطع على النضج التربوي والوعي الإنساني اللذين بفضلهما يمكن القضاء على النزعة العنصرية العرقية، وظاهرة الحرمان التربوي المجحف الذي لا يزال يسيطر على عالم العنصرية والاستعمار.

إن الحرية حق لكل إنسان، وواجب على كل أمة من الأمم، بل هي حق إنساني يتجاوز كل الاعتبارات العرقية والعنصرية.

فتبادل الخبرات التقنية والعلمية والوسائل التكنولوجية هي من علامات النضج الثقافي والحضاري والوعي التربوي الإنساني، ولكن في حدود ما يمكن أن يكون فيه تبادل الخبرات بين الأمم، دون أن يكون متبوعاً بعقدة النقص والميل إلى التقليد والاتكالية أو عقدة الاستعلاء؛ لأن الإعجاب بالآخرين قد تنشأ عنه عقدة الشعور بالنقص، كما أن الإعجاب بالنفس يتولد عنه الغرور، وكلاهما آفة للعلم.

وفي الجملة: إن تداخل شؤون الثقافة والحضارة يجعل المصلح الاجتماعي والتربوي مضظراً إلى مراعاة كل العلاقات والأبعاد التي لها ارتباط بالعملية الإصلاحية وهو يعد الخطة الإصلاحية. ومن ثمة فلا بد من تحديد أهم العوامل وضبطها في مرحلة الإعداد مما يجعل تبنيها من طرف الأمة أيسر وأقرب.

ج ـ مرحلة التبني:

فإذا كانت المراحل الإجرائية للعملية الإصلاحية عادلة؛ فإن ذلك يتطلب أن تعقب مرحلةَ الإعداد للمشروع مرحلةٌ أخرى تفرضها طبيعة العدالة الاجتماعية بمعناها الشامل، ويعتبر الأستاذ «هولمس» هذه المرحلة من المراحل الهامة التي لا يتوقف عليها مصير الخطة الإصلاحية فحسب، بل يتوقف عليها أيضاً مصير التربية برمتها.

إن عرض المشروع الإصلاحي على الأمة على اختلاف فئاتها حق من حقوقها، وفرصة ثمينة لجلب انتباهها إلى مختلف القضايا التربوية التي يرتبط بها مصيرها، وعليها تبني آمالها، وتحقق ازدهارها ورقيها؛ فمن حق كل مواطن أن يناقش بكل حرية كل بنود المشروع، وأن يقترح ما يبدو له أنه الأصلح والأصوب والأفيد. بالإضافة إلى جعل الأوضاع التربوية موضع إعادة النظر وإخضاعها للملاحظة والنقد والدراسة والتقويم، وعرض الحلول وإفساح المجال إلى انتقائها واصطفائها على بصيرة من الأمر، وقياسها واختيارها على ضوء المعطيات التاريخية، فلا تكون غريبة عنه ولا بعيدة، ثم يهيَّأ المناخ الاجتماعي والثقافي والظروف الاقتصادية والسياسية المناسبة. زد على ذلك أن عرض الخطة الإصلاحية على الأمة يساعد على تحفيزها وإعدادها للعمل بها عن طريق مشاركاتها في المناقشة في مرحلة التبني؛ فتبدي رأيها من جهة وتقتنع بمبررات الإصلاح التربوية، فتتبناها عن رَغَب لا يشوبه رهب.

ومن ثمة فإن عرض المشروع على الأمة ضرورة تشريعية منهجية إجرائية تستلزمها طبيعة العدالة الاجتماعية، كما تستلزمها حاجة الخطة الإصلاحية إلى مساهمة الأمة في تحقيقها، ولهذا الغرض يطلب توفير الشروط التالية:

أـ حق الأمة في اختيار البديل التربوي لتشعر بمسؤوليتها نحو الخطة الإصلاحية المعروضة، ويمارس حقوقها في تقرير مصيرها بنفسها كنتيجة من نتائج حريتها وبُعد من أبعادها.

ب ـ إعداد الأمة للمساهمة في مرحلة التطبيق، ورفع وعيها التربوي كأهم عامل من عوامل الإصلاح التربوي.

ج ـ اعتبار العدالة الاجتماعية حقاً من حقوق الأمة، ومبدأ من المبادئ الأساسية للخطة الإصلاحية تذوب أمامه كل الفورق، ويعمل على تحقيق التكامل الاجتماعي.

د ـ إلقاء الأضواء على السلبيات والإيجابيات التي تشكل الحياة التربوية، بما في ذلك المؤسسات والمنظومات التربوية برمتها.

هـ ـ نقد المفاهيم التربوية والمناهج والطرق والسياسة التربوية بأجمعها، والإحاطة بكل ما له علاقة بالتربية والثقافة؛ مع العناية التامة بمختلف المسائل التربوية والوعي اللازم، واتباع الخطة الإصلاحية للواقع ولجميع المعطيات الموضوعية التاريخية واختيارها قصد تكييفها بقدر ما يحقق للخطة من النجاح في مرحلة التطبيق.

فإذا تحققت هذه الشروط في مختلف المراحل، وبعرض الموضوع على الأمة بحرية وجدية؛ فإن مرحلة التطبيق سوف لا تكون صعبة. ومما يساعد على سير الأمور سيرها الطبيعي أن تأخذ مرحلة الإعداد والتبني ما تستحقه كل مرحلة من العناية والجدية والشرعية والمنهجية؛ على أن طرق التبني كثيراً ما تختلف باختلاف النظم السياسية، ولذلك فإنه لا داعي لتحديدها.


(*) رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر.
(*) لائكية: علمانية.