للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حركات «التحرير» في ثوبها الجديد]

د. عبد العزيز كامل

التاريخ (الرسمي) الحديث أكثره تاريخ مزيف؛ فأبطاله المعاصرون أكثرهم من الأصنام المصنوعة في صور ثوار ملهمين، أو قادة مصلحين، أو جنرالات وضباط وُصِفوا بالأحرار مع أنهم لم يكونوا سوى حلفاء ثم خلفاء للاستعمار، بعد رحيل هذا الاستعمار شكليّاً ومرحليّاً عن بلاد المسلمين خلال عقود خلت. وقد جسد هؤلاء العملاء في وضوح مفضوح حقيقة التحالف السرمدي الدنس بين قوى الكفر الظاهر، وتكتلات النفاق المراوغ الذي يتقلب في ألوان الخداع والمكر محاولاً إخفاء حقيقته المعادية لله ولرسوله والمؤمنين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: ٩] .

ولم تكن حقبة الثورات والانقلابات التي عصفت بالمنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين تحت مسمى (حركات التحرير) إلا تعبيراً عن تذبذب هؤلاء في الولاء بين الأمة وأعدائها؛ فهم قد قاموا بثوراتهم، وأطلقوا حركاتهم، وأسسوا أحزابهم باسم تحرير الشعوب واسترداد السيادة ومقاومة المعتدين، ولكن هذا الظاهر الطاهر كان يخفي وراءه باطناً شائناً تمثل في قهر الشعوب وإضاعة مقدراتها وتمكين الأعداء منها، ومع ذلك ظل هؤلاء (التحرريون) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ} [النساء: ١٤٣] والآية ـ كما قال ابن كثير تتحدث عن قوم: «محيَّرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهراً أو باطناً، ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك؛ فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: ٢٠] (١) .

والمعروف أن الزعامات «التحررية» لم تزعم يوماً أنها تتبنى نهج الإسلام، بل إنها رفعت الرايات المناوئة له، وتبنت النظريات المتناقضة معه، حتى أوقعوا الناس معهم في حيرة بسبب التخبط في المناهج، ومحاولة إلصاق الباطل الذي يجيئون به مع الحق الذي جاء من عند الله، وقد وجدوا من المضللين من يلفق لهم خليطاً هجيناً ليصنعوا منه منهجاً وديناً {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: ١٤٣] ؛ فمرة يتحدثون عن الاشتراكية الإسلامية، ومرة عن الديمقراطية الإسلامية أو الإسلام الليبرالي، وأخيراً، يجري الحديث اليوم عن خداع جديد يتطلب مخادعين جدداً، تحت مسمى (الإسلام المدني الديمقراطي) على ما سيأتي بيانه.

إننا على أبواب عهد جديد تغلق فيه الحقبة الثورية الصاخبة القديمة للتحريريين القدامى الذين أوغلوا في إضاعة الأمة وإضعافها، لنلج في مرحلة جديدة «أبطالها» جيل جديد من فصيلة «التحريريين» ولكن بلا رايات ثورية، ولا شعارات نارية، ولا حناجر ولا خناجر، جيل جرى تجهيزه في دهاليز المخابرات وأوكار الجاسوسية يمثله فئام من عملاء باهتين مدجنين، يرضون بالقوادة بدل القيادة، ولا يأنفون من الانبطاح لذوي «السيادة» من اليهود والنصارى أو غيرهم.

أما مناسبة تسميتهم بـ (التحريريين) مع كل هذا؛ فلأنهم يتواءمون ويتلاءمون مع مشروعات وأطروحات مرحلة جديدة من خطط (التحرير) الأمريكي التي بدأت في أفغانستان، ثم انتقلت إلى العراق ليجري الترتيب بعد ذلك للمزيد من عمليات (التحرير) ، كـ «تحرير» سوريا و «تحرير» إيران، و «تحرير» لبنان، و «تحرير» السودان، وغير ذلك. إنها مرحلة جديدة من عهود «التحرير» تختلف جذريّاً عن مراحل الجعجعات النفاقية السابقة بإزالة الاستعمار، ومقاومة الاحتلال، والمقاومة من أجل الاستقلال، إنها مرحلة يدافع فيها «التحريريون» الجدد عن «حسنات» الأجنبي، و «مناقب» المحتل، و «فضائل» المستعمرين الجدد.

وإذا كان التحريريون القدامى قد خبروا على مدى عقود طويلة كيف يخدرون الأمة بشعارات التحرير الزائفة الكاذبة لتجد نفسها في النهاية في أسر التبعية والعبودية؛ فإن التحريريين الجدد يختصرون الطريق، فيبشرون الناس مقدماً بالعجز والإفلاس، وضرورة الاستسلام المبكر باسم الواقعية، وهم يبذلون جهدوهم من الآن لتوطين الهزيمة، وتطبيع المشاعر لـ «التعايش السلمي» مع الغزاة المجرمين.

` بين عهدين:

بالرغم من سطوع الحقيقة القائلة بأننا على أبواب عهد جديد من الممارسة النفاقية باسم التحرر، إلا أنني أقول إننا لم نَلِجْها بعدُ بشكل كامل، فلا زلنا نعيش في الفترة الانتقالية بين عهدي التحريريين القدامى والتحريريين الجدد؛ إذ لا تزال بقية من الثوريين والتحريريين القدامى تقاوم الفناء، وتستميت في استرضاء الأعداء بإحداث انقلابات فكرية جذرية موتورة، لا تقل في خفتها وسخافتها عن الانقلابات العسكرية الثورية التي كانوا يفاجئون الأمة بها بين آن وآخر.

ولأن هناك أجيالاً ناشئة قد نأت زمانياً أو مكانياً عن عهود التحريريين القدامى، فلا بد من استرجاع شيء من مسيرة هؤلاء القدامى الذين مارسوا الإفساد باسم الإصلاح، ورسخوا التبعية باسم التحرير.

إن نظرة عاجلة في تاريخ هؤلاء تنبئك بأنهم مسؤولون عن واقع الأمة الأليم اليوم، وما النكبات والنكسات المتوالية على أيديهم إلا أعراض لأمراض مزمنة مرضت بها قلوبهم، وأرادوا أن يمرضوا بها الناس، {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: ١٠] ، وتتلخص هذه الأمراض في سوء الظن بالله والكراهية لما أنزل الله وشدة العداوة لأولياء الله من المؤمنين الصادقين العاملين لنصرة الدين؛ وذلك في الوقت الذي يحسنون فيه الظن بالأعداء وما هم عليه من باطل وشر، كان دوماً يأسر قلوبهم حتى يبالغوا في تقليده ويتفننوا في استيراده أو استنساخه في ديار المسلمين، وهم مع كل هذا يستنكفون أن يُنسب المسلمون إلى الإسلام، بل يختلقون من دونه الروابط والمناهج الجاهلية: مرة باسم القومية العربية، وتارة باسم البعث العربي الاشتراكي، وطوراً باسم التقدميين أو الاشتراكيين أو اليساريين، والآن باسم الليبراليين أو التنويريين أو الحداثيين. وفي جميع الأحوال فهم كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١١ - ١٢] . لقد انتعشت تلك الحركات في ستينيات القرن المنصرم تحت ما يسمى بـ (ثورات التحرر) وكان على رأسها الحركات القومية التي تتمثل في ثلاث فصائل رئيسية هي: البعث العربي، والقوميون العرب، والناصريون. وقد تمكنت هذه الحركات من الوصول إلى السلطة مدعية أنها ستحرر شعوبها من آصار الاستعمار، فحكمت في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن والسودان، وبقيت معظم الدول الأخرى في أطر تتسم بالفردانية لا القومية، فكانت في الغالب لا تثور ولا تثير ولا تثار. أما التحريريون القدامى؛ فقد ابتكروا ثم احتكروا شعارات التثوير والتخدير مثل: «ثورة ثورة حتى النصر» ، «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ، «المعارك مستمرة حتى تحرير آخر شبر» .... «آخر بوصة» .. «آخر ذرة من التراب الوطني» .. «آخر حبة رمل من الأرض العربية» !! ولكن ذلك الـ «آخر» لم يأت في أول عهود الثوريين القدامى ولا في آخرها؛ فها هم يرحلون عن أسرَّة المرض أو كراسي الحكم، الواحد تلو الآخر، في وقت لا تجد فيه أقدس وأعز وأغلى أوطان العرب والمسلمين من يتحدث عن تحريرها، فضلاً عن العمل لإنقاذها.

صحيح أن التحريريين عاشوا فترة من الانتفاش والانتعاش لا تزيد عن عقد واحد من الزمن، إلا أن الهزائم بدأت تتوالى عليهم، بدءاً من هزيمة عام ١٩٦٧م التي كسرت كبرياء زعيم القوميين جمال عبد الناصر، الذي كان قد حاز زعامة شعبية جارفة امتدت من المحيط إلى الخليج بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦م. ولكن عبد الناصر سقط في حرب النكسة أمام (عصابات) اليهود التي توعد بإلقائها في البحر. وسقطت بسقوطه العديد من شعارات التحريريين، ثم توالى السقوط للأنظمة «التحرّرية» الأخرى؛ فما أن مات الزعيم كمداً من خذلان الشرق الشيوعي له، حتى ارتمى أبرز زملائه التحريريين في أحضان الغرب الرأسمالي، سالكين سياسة (الانفتاح) على كل ما هو غربي في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة. وقد سُبق ذلك بتتابع سقوط الثوريين في دول أخرى غير مصر عبر انقلابات واضطرابات سادت كلاً من اليمن والجزائر والسودان. أما ليبيا التي حاول زعيمها أن يتزعم مسيرة القومية العربية والناصرية معاً، فقد قام على القومية فانقلب عليها، وتنصل من الناصرية فابتعد عنها ونأى بليبيا عن العروبة بعد أن بَعُد بها عن تطبيق الإسلام الذي وعد به في أول عهده. وكان سقوط زعامة ليبيا للقومية العربية، قد سبقه بوقت غير طويل، سقوط قيادة البعث العراقي فكرياً قبل أن يسقط عملياً؛ حيث قَتَل صدام، فيمن قتل، آخر أمل بقيام وحدة عربية ـ ولو شكلية ـ بقيامه بالغزو المفاجئ للجارة الكويت، ولم تبق للقومية التي أسقطها الزعيم القومي صدام من صوت بعد ذلك السقوط، إلا في معقل قومي صغير ظل يعمل في سوريا باسم (البعث العربي السوري) وظل يردد في طنين بلا رنين طموحات التحرير والتغيير و (البعث) ، ولكن تحت مشاعر تبعث على الخجل أكثر مما تبعث على الأمل، لاستمرار الجولان في الأسر اليهودي نحو سبعة وثلاثين عاماً، تنادي البعثيين والقوميين والناصريين وكل الثوريين والتحريريين أن هلموا لإنقاذي؛ فأنا (الجولان) أخت القدس والضفة وقطاع غزة، ولكن لا حياة لمن تنادي.

` نتائج متوقعة لمقدمات واقعة:

لم يكن فشل التحريريين القدامى في مجابهة التحديات التي واجهت الأمة إلا تحصيل حاصل؛ فحركاتهم الثورية لم تمارس الثوران إلا على شعوبها، ولم يصرفها عن مواجهة تحديات الخارج المزعومة، إلا الانشغال بتحديات الداخل الموهومة.

وقد أثبتت الأيام أنه ما من حركة من تلك الحركات أو ثورة من تلك الثورات كانت ذات بأس إلا على قومها رغم دعاوى القومية، ولا كانت ذات جبروت إلا على مواطنيها، مع طنطنات الوطنية، أما الأعداء الحقيقيون فلم يكن أولئك الثوريون يمثلون أمامهم يوماً نموذجاً يبعث على الهيبة فضلاً عن الاحترام.

إن هناك أسباباً موضوعية أوصلت «مشروعات التحرير» إلى التحلل من استحقاقات التغيير الموعود والتحرير المنشود، وأهمها: أن تلك الحركات لم تحمل في الحقيقة مشروعاً حقيقياً للنهوض يليق بتاريخ الأمة وحضارتها ودينها الذي مهما ابتغت العزة بغيره أذلها الله، بل كان الثوريون يحملون خليطاً هجيناً مستهجناً من أفكار الكفار في الشرق الشيوعي، مطعمة بسقطات أصحاب الفلسفات في الغرب الصليبي. وفي ظل ذلك وقع التنافس بين الثوريين و «المحافظين» وأخذ أشكالاً عديدة من الصراع وصلت في بعض الأحيان إلى التآمر المتبادل مع قوى «أجنبية» لقلب الأنظمة وتصفية الحسابات، وكان هذا التآمر ـ ولا يزال ـ سبباً في استهانة ذلك الأجنبي بكلا الطرفين، وازدرائه بقومية تقوم على قيام كل قوم على إخوانهم.

كانت الأولوية في مهمات الأنظمة العربية الثورية، هي محاربة الأنظمة العربية غير الثورية، أو الأنظمة المحافظة التي كان الثوريون يدمغونها بالرجعية، وكانت تلك أيضاً لا تدخر وسعاً في دعم خصوم خصومها، لكي ينوبوا عنها في أدوار النكاية والتنكيل. وبينما كانت عقدة العقد عند الثوريين هي «تصدير الثورة» فقد كان جلها عند المحافظين هو احتكار الثروة. وبين نزق الثورة وجشع الثروة ضاعت الأرض وجاعت الشعوب وتفرقت الكلمة.

ولم يدخر «الوحدويون» من التحريريين أي جهد لتمزيق وحدة الأمة، أو ما تبقى من وحدتها؛ فعبد الناصر مثلاً نكَّل بالإسلاميين في مصر، ومع ذلك تمكن من التفرد بزعامة الساحة الشعبية العربية في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، وحاول أن يخطو خطوة على طريق ما كان يسمى بـ (الوحدة العربية) بإقامة كيان (الجمهورية العربية المتحدة) بين مصر وسوريا على أساس القومية الجاهلية العربية، ولكن جاءه من القوميين من يفسد خططه؛ فإذا بالبعث السوري (القومي) ينبعث مسرعاً في منازعته في زعامة القوم، فانسحب ذلك البعث من الوحدة مؤيداً الانفصال، بل بادر البعثيون السوريون إلى تسريح الضباط الموالين لعبد الناصر في الجيش السوري، وأعدموا بعضهم إثر حركة (جاسم علوان) في شهر يوليو/تموز ١٩٦٣م الذي قاد تمرداً عسكرياً وطلب من عبد الناصر الحماية، وتقرر بعد ذلك فرض الانفصال بين دعاة الوحدة والتحرر.

وما أن هُزم عبد الناصر بعد ذلك بأربع سنوات ـ أي في حرب النكسة ـ حتى انقلبت عليه بقية أخرى من القوميين العرب، وحمّلوه مسؤولية الهزيمة، بل تحول بعضهم من التوجه القومي إلى التوجه الماركسي، فتحولت مثلاً حركة القوميين العرب في اليمن الجنوبي إلى كيان ماركسي تمكن من إقامة دولة شيوعية في جنوب اليمن، فمثلت بذلك سابقة خطيرة في إخضاع شعب مسلم كريم لحكم عصابة من لئام الملحدين. وجرياً على عادة الثوريين المزمنة بتبادل تهم الخيانة؛ بادر المنشقون عن عبد الناصر من القوميين باتهامه بالخيانة بعد أن قَبِلَ بأول مبادرة سلام أمريكية مع اليهود، وهي مبادرة روجرز لعام ١٩٧٠م (١) .

ولم يكن مصير تيار الناصرية والقومية خارج مصر بأحسن منه في داخلها؛ فقد انقلب رفيق درب عبد الناصر على الناصرية والمعسكر الشرقي، ليختط لنفسه سبيلاً موالياً للغرب، عُرِف بـ «النهج الساداتي» وكان أبرز معالم ذلك النهج الجديد (في العهد الثاني للثورة القومية) هو خلع أردية القومية الجماعية، والمبالغة في لبس مسوح الوطنية الفردية التي انعزلت بها مصر سياسياً عن العرب والمسلمين، لتقترب من اليهود والغربيين ضمن أُطر معاهدات السلام المنفردة مع (العدو المصيري) ، الذي لم يجئ الوحدويون التحريريون الثوريون ـ للأسف ـ إلا بدعوى مواجهته تحت شعار (قومية المعركة) .

ولم تكن الوحدة العربية أسعد بالتحريريين في سوريا منها في مصر؛ فبعد انقلاب البعثيين في شهر فبراير/ شباط عام ١٩٦٦م، قام وزير الدفاع السوري آنذاك (حافظ الأسد) بحركة انقلابية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام ١٩٧٠م، أطاح فيها بزعامة حزب البعث القطرية التي كان على رأسها أمين الحافظ الذي لجأ إلى العراق طوال العهد البعثي ولم يُسمح له بالعودة إلى سوريا حتى بعد سقوط صدام حسين.

وانشق حزب البعث السوري أيضاً على حزب البعث العراقي بعد انشقاق البعثيين السوريين على أنفسهم، ثم انشق البعثيون العراقيون على أنفسهم، فقاد صدام حسين حركة انقلابية ضد رفاقه البعثيين وقتل منهم عدداً كبيراً، كان منهم قادة كبار من أعضاء القيادة القطرية في العراق، بل قتل صدام عدداً من أعضاء مجلس قيادة الثورة نفسه، وأمر بعض الرفاق بأن ينفذوا حكم الإعدام رمياً بالرصاص في رفاقهم الآخرين عام ١٩٧٩م، وقد كانت تهمة البعثيين العراقيين لزملائهم من البعثيين العراقيين الآخرين هي التآمر لحساب البعثيين السوريين.

أما رفاق التحرر والوحدة في اليمن، فلم يكونوا أقل سعياً في تفكيك عُرى الأمة؛ فرغم جعجعاتهم عن الوحدة القسرية المصيرية بين الأمة العربية لم يستطع أولئك (الأحرار) التحرر من نزعة الافتراق والتفرق؛ حتى إن فريقاً منهم اختلفوا في إحدى اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الحاكم، فلم يستطيعوا أن يديروا الحوار بينهم بالكلمات، أو حتى باللكمات؛ فما كان منهم إلا أن أداروا الحوار بينهم بالبنادق والرشاشات، حيث استطاعت الأقلية المعارضة من أعضاء اللجنة المركزية الاشتراكية تصفية شركائها، فقتلت أغلبيتهم في حوار ديمقراطي «تحرري» أسفر عن سقوط حصيلة كبيرة من القتلى.

` ملامح العهد التحرري الجديد:

إذا كنا لا نزال نعيش مرحلة انتقالية بين عهدي التحرريين القدامى والتحرريين الجدد القادمين مع مشاريع «التحرر» الأمريكية؛ فلا بد لنا من التعرف على ملامح العهد التحرري الجديد الذي سيسلم فيه قدامى التحرريين مفاتيح المسؤولية طوعاً أو كرهاً للجيل الجديد، الذي سيعيد أو سيساهم في إعادة الاحتلال وإضاعة ما تبقى من استقلال لصالح المشروعات الأمريكية المعلنة وغير المعلنة في منطقتنا العربية والإسلامية. فلم يعد خافياً أن للولايات المتحدة الأمريكية مشروعاً كبيراً للسيطرة على العالم، ولم يعد خافياً أن هذا المشروع يقوم على نوع من الشراكة والتعاون بين الصهيونيتين اليهودية والنصرانية، ولم يعد خافياً كذلك أن لهذا المشروع آلياته الاستراتيجية وبرامجه السياسية وطموحاته الاقتصادية وطروحاته الحضارية والدينية، ولم يعد خافياً أيضاً أن من وضعوا أسس مشروع السيطرة الأمريكية على العالم باسم (إمبراطورية القرن الأمريكي) قد اختاروا ديار العالم الإسلامي بعربه وعجمه لتكون منطلقاً لذلك المشروع، بعد أن أطلقوا على ذلك العالم الإسلامي اسم (الشرق الأوسط الكبير) ثم (الشرق الأوسع) !

لم يعد هذا ولا ذاك خافياً، أما الذي لا يزال خافياً؛ فهو الخطوات العملية التنفيذية لهذه المشروعات التسلطية من حيث توقيتاتها وطبيعتها المتفاوتة بين الغزو العسكري الخارجي، والانقلابات الداخلية (الديمقراطية) التي سيقودها من يسمون بـ (الإصلاحيين التحرريين) وفي كلتا الحالتين فإن الأمريكيين سيحتاجون إلى فريق متكامل من هؤلاء التحرريين الجدد ليكوّنوا حكومات على شاكلة حكومة «التحرير» الكرزاوية (١) ، وحكومة «التحرير» (العلاوية)

وكما كان الشأن في حكومات التحريريين القدامى؛ فإن مجموعاتهم لن تقتصر على العسكريين، بل سيكون بعض العملاء على شكل سياسيين أو مفكرين أو مثقفين أو حتى رجال دين، لا يجمعهم جميعاً إلا وصف الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين. ولأن الأمريكيين لن يستطيعوا الانطلاق في مشروعاتهم العالمية إلا من داخل عالمنا العربي والإسلامي؛ فقد كان لزاماً عليهم أن يجهزوا هذا الفريق من المتحررين من المبادئ لكي يعمل كـ «طابور خامس» (٢) تحت إمرة المستعمر الأمريكي الجديد.

مهمة الأمريكيين ومن معهم من اليهود في المرحلة القادمة أن يطبقوا المزيد من مشاريع «التحرير» ..! ومهمة المنافقين المتعاونين معهم والموالين لهم أن يقوموا على تنفيذ هذه المشاريع بالأمانة كلها لأعداء الأمة، والخيانة كلها لهذه الأمة.

لن يستطيع الأمريكيون والبريطانيون والإسرائيليون وغيرهم من أعداء الأمة أن يستكملوا مشروعاً واحداً إلا بمعاونة أولئك الخائنين أدعياء التحرر والتحديث، لن يستطيعوا إنجاز ما يريدون أو الباقي مما يريدون في أفغانستان أو العراق إلا بالتعاون معهم، ولن يستطيعوا الانتقال إلى ما يليهما من مشروعات لـ «التحرير» في كل من سوريا ولبنان والسودان وإيران وغيرها إلا بمساندتهم، ولن يجرؤوا على قطع أشواط أخرى في مشروع (الشرق الأوسط الكبير) أو (الشرق الأوسع) إلا بالتواطؤ معهم، ولن يتمكن اليهود من القفز خطوات أخرى في مشروع (إسرائيل الكبرى) إلا بحبل ممدود لهم من الأمريكان ومن هؤلاء المنافقين لأنهم. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} [آل عمران: ١١٢] وكل هذا يصب في النهاية لخدمة مشروع التسلط الصهيوني ـ اليهودي النصراني على العالم؛ فهل يتمكن أعداء الخارج من القفز إلى مآربهم على أكتاف أعداء الداخل كما كان يحدث كل مرة؟ إننا لا نستبعد ذلك؛ وخاصة أن أولئك المنافقين من الأعداء الباطنيين لهؤلاء الأعداء يبالغون في الإخلاص الظاهر من بما يجعلهم أكثر عداءً للمؤمنين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: ٤] .

إن مشروعاً جديداً من التآمر على الأمة بالتعاون ما بين الكفار والمنافقين يجري الآن تسويغه تمهيداً لتسويقه، ولا يمكن لمثل هذا المشروع أن يجد طريقه أو بعض طريقه إلى التنفيذ دون اتكاء كامل على فريق متكامل من أولئك المنافقين العلمانيين التحرريين المعادين للعقيدة والدين؛ فما هو هذا المشروع؟

` استراتيجية «التحرير» من العقيدة:

في سياق حربها المعلنة على العالم الإسلامي لم تستطع الولايات المتحدة أن تخفي الجانب الاعتقادي من تلك الحرب، فأخرجت مؤخراً إلى العلن أطروحات ومشروعات وبرامج تستهدف الدين بشكل مباشر، بعد أن كانت الحرب الدائرة تتدثر أحياناً بالأثواب الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية باسم حماية المصالح. وقد كشف في الآونة الأخيرة عن مشروع عدائي جديد يتحدث عنه تقرير تحت عنوان: (الإسلام المدني الديمقراطي.. الموارد والاستراتيجيات) والتقرير أو البرنامج أصدره قسم أبحاث الأمن الوطني في معهد راند (٣) ، في سانتامونيكا بولاية كاليفورنيا الأمريكية وبتمويل من مؤسسة (سميث ريتشارد سون) .

والتقرير عبارة عن استراتيجية جديدة ومبتكرة لإطالة أمد الحرب ضد الإسلام، وقد وضعته الباحثة الأمريكية (شريل بيرنارد) المتخصصة في قضايا ما يسمى بـ (تحرير المرأة) في العالم الإسلامي، وهي زوجة رجل المهمات القذرة (زلماي خليل زادة) الأفغاني الأصل، الأمريكي الجنسية، الذي هندس الساحة الأفغانية وهيأها لـ «التحرير» الأمريكي عن طريق ربط خيوط التحالف بين الأمريكيين وتحالف الشمال في أفغانستان، وهو الذي أنيطت به أيضاً مهمة التنسيق بين فصائل المعارضة العراقية العميلة والحكومة الأمريكية لتهيئة الأوضاع في عراق ما بعد صدام، وأنا شخصياً لا أستبعد أن يكون ذلك الزلماي القادم من (مزار الشريف) هو صاحب الدور الأساس في مشروع (الإسلام المدني الديمقراطي) . فما هي الأسس والمعالم التي يقوم عليها ويتسم بها ذلك المشروع؟ علماً بأن مؤسسة (راند) التي صدر عنها التقرير وثيقة الصلة بوزارة الدفاع الأمريكية التي أصبحت مرتعاً للمحافظين اليهود الجدد الذين يحكمون أمريكا اليوم.

إن التقرير يقوم على ما يلي:

` أمريكا ستظل ملتزمة بنشر قيمها في العالم بوجه عام والعالم الإسلامي بوجه خاص، ولا بد من جهات يمكن التعامل معها داخل البلدان الإسلامية على المدى الطويل.

` التعامل مع (الإسلام السياسي) غير ممكن، ولو بمفهوم التعاون التكتيكي القائم على المصالح.

` لا مناص من تأييد العلمانيين (المنافقين) في البلاد الإسلامية ضد المحافظين (الإسلاميين) .

` الإسلاميون الأصوليون المعارضون للديمقراطية و «القيم» الغربية يجب اعتبارهم أعداء، وبخاصة بعد ما أظهرته أحداث سبتمبر.

` مناصرة العلمانيين ضد الإسلامين تعني تأييد التفسير العلماني للإسلام، ومساعدة العلمانيين على تأسيس منابر لنشر آرائهم، وإبرازهم على أنهم هم من يمثل الإسلام العصري المقبول، أو الإسلام الديمقراطي، باعتبار أن الإسلام (التقليدي) نظام ديكتاتوري..!!

` العلمانيون أنفسهم ليسوا على درجة واحدة من الاستعداد للتعاون مع أمريكا؛ فهناك الوطنيون واليساريون الذين يرفضون التعاون، ولذا ينبغي التركيز على «أنصار الحداثة» .

` جوهر الصراع بين العالم الإسلامي والغرب، أصبح فكرياً؛ لأن الغرب يتفوق على الشرق الإسلامي في كل شيء، بينما لا ينازعونه المسلمون إلا في مجال الفكر والقيم.

` الحداثة هي ميدان المعركة، والحداثيون والعلمانيون هم عمادها، ومن خلالهم لا بد من وضع تفسير جديد للقرآن؛ بحيث يُستغنى بهذا التفسير عن النقد المباشر للقرآن.

` ولا بد من الاستعانة بالحداثيين والعلمانيين في إعادة تفسير السنَّة والأحاديث، بما يخدم مفاهيم الإسلام «المدني الديمقراطي» واعتبر التقرير هذا الأمر مهمة عسيرة جداً، وأطلق عليها (حرب الأحاديث) ؛ لأن المعركة الأساسية في المفاهيم ستكون حولها؛ فالأصوليون ـ كما يقول التقرير ـ يستطيعون أن يعارضوا كل تفسير يقدمه الحداثيون والعلمانيون للأحاديث، وسيتمكنون من جذب شريحة العامة وغير المثقفين إلى جانبهم، ولذلك سيحتدم الصراع.

` لا بد من استغلال احتدام هذا الصراع لإشغال كل من الفريقين بالآخر، بما يؤدي في النهاية إلى جو من البلبلة والتوتر الذي تمكِّن من ضرب الاتجاهات الأصولية في الصميم. ولا بد أيضاً من استغلال ممارسات التيار الجهادي لضرب الاتجاهات الأصولية بوجه عام بواسطة الحداثيين والعلمانيين.

` في أثناء المعركة بين الأصوليين والحداثيين ينبغي استخدام شريحة «التقليديين» ـ أي العامة ـ ضد الأصوليين، وجذبهم إلى جبهة العلمانيين، ويحذر التقرير من كسب الأصوليين لهذه الشريحة الواسعة البالغة التأثير، ويرى واضعوه أن شريحة التقليديين هي المجال الخصب الذي يعوَّل عليه لتحقيق أطروحة (الإسلام المدني الديمقراطي) ولا بد من دعم العلمانيين في عملية كسبهم وجذبهم.

` اقترح التقرير دعم وتشجيع بعض أصحاب المذاهب الإسلامية لمواجهة المذهب السني المتشدد، وفي مقدمة تلك المذاهب: التصوف والتشيع، واقترح أيضاً العمل على توسيع الهوة بين بعض المذاهب السنية نفسها في بعض البلدان باستغلال الخلاف بين الأحناف مثلاً وبقية المذاهب وبخاصة المذهب الحنبلي.

` يرى التقرير أن الصوفية هي المذهب الديني المرشح لكي يسد الفراغ الروحي عند من يريد سداد هذا الفراغ؛ لأن الصوفية بما لديها من طقوس شعرية وموسيقية وتأملات فلسفية، تمثل جسراً للخروج من «مستنقع» الفكر الوهابي الحنبلي..!

` معركة الجميع:

بهذا الشمول في توسيع دائرة الحرب الأمريكية على جوهر الوجود الإسلامي؛ يكون الأمريكيون قد حولوا تلك المعركة إلى مواجهة شاملة تستحق فعلاً أن تكون مقدمة لـ (صراع الحضارات) الذي بشروا العالم به منذ عقد مضى. وعندما ينتقل الأمريكيون بتلك الحرب إلى ساحة القرآن وميدان السنة مستخدمين المنافقين من العلمانيين والحداثيين ـ كما صرحوا بذلك ـ فإن نظرتنا نحن المسلمين إلى تلك المعركة لا بد أن تتخطى أيضاً ساحة الجهاد العسكري والسياسي إلى ساحة الجهاد الفكري والدعوي، حفاظاً على الأمة أن تجتاحها أعاصير التغيير الأمريكي القادم وراء أقنعة أدعياء التحرر الجديد. وهنا لن يكون النذير والنفير موجهاً إلى القادرين على منازلة الأعداء المغتصبين في الساحات المستباحة فقط، بل سيكون موجهاً إلى كل من له طاقة على إحقاق حق أو إزهاق باطل مما يتواطأ الكفار والمنافقون اليوم على رفع رايته وإقامة دولته.

فعلى الذين استوعبوا معاني جهاد المنافقين في آيات البقرة والنساء والتوبة وغيرها من سور القرآن أن يضموا جهدهم إلى جهد من استوعبوا معاني جهاد الكافرين في الآيات والسور نفسها؛ فوالله الذي لا إله غيره لن تتحقق الانتصارات العسكرية على الأعداء الظاهرين إلا بتحقيق الغلبة الفكرية والمنهجية على الأعداء المستترين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: ٤] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: ٧٣]


(١) تفسير ابن كثير (١/٥٦٨) .
(١) مبادرة روجرز هي: أول مبادرة أمريكية للسلام بين العرب واليهود، وقد قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية استجابة لطلب إسرائيل من أجل تخفيف خسائر الإسرائيليين الناجمة عن حرب الاستنزاف التي أعقبت حرب يونيو ١٩٦٧م، وسميت تلك المبادرة بذلك الاسم نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك وليام روجرز.
(١) قال الجنرال (تومي فرانكس) قائد العمليات العسكرية أثناء غزو العراق، إن المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه) اختارت حميد كرازاي لزعامة أفغانستان منذ عام ١٩٩٦م (أي قبل أحداث سبتمبر بخمس سنوات) وقد ذكر فرانكس هذه المعلومة ضمن كتابه الذي ألفه بعد تقاعده في شهر يوليو ٢٠٠٣م.
(٢) الطابور الخامس تعبير نشأ أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي اندلعت عام ١٩٣٦م واستمرت ثلاث سنوات، حيث كانت هناك أربعة طوابير عسكرية من الثوار تعمل تحت قيادة الجنرال فرانكو تسعى لدخول العاصمة مدريد، ولكن لم تستطع تلك الفرق توفير فرص النجاح في اقتحام العاصمة؛ حتى تم تشكيل طابور خامس من الجواسيس والعملاء يعمل في داخل مدريد، فاشتهر باسم الطابور الخامس.
(٣) معهد راند: هو معهد تابع لمؤسسة راند التي تأسست عام ١٩٤٨م، وهي مؤسسة ظاهرها النشاط الفكري، لكنها تتعامل مع القضايا العسكرية والمخابراتية التي تتعلق بالأمن القومي الأمريكي؛ ولذلك تمول وزارة الدفاع الكثير من أنشطتها، ولها عدد من الفروع في الدول الأوروبية والعربية، ولها فرع في قطر تعمل به الباحثة التي أعدت ذلك التقرير. ويذكر هنا أن مؤسسة راند هي التي وضعت مشروع توسيع حلف الناتو، ووضعت أسس الحرب العالمية الأمريكية على ما يسمى بالإرهاب