للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شهادة من الأسر بعد الإضراب المفتوح عن الطعام]

عزل كفاريونا ... مدفن للأحياء

الشيخ: خضر عدنان

استجمعت جسدي وتناولت قلمي صبيحة بوم الجمعة الموافق ١٧/٩/٢٠٠٤م بعد انتهاء إضرابنا المفتوح عن الطعام في عزل كفاريونا يوم الأربعاء الموافق ١٥/٩/٢٠٠٤م. استيقظت وقد توزع الألم على جسدي. حالي كحال إخوتي هنا في العزل بعد إضراب مفتوح عن الطعام لمدة شهر. هنا في عزل كفاريونا، لا بل قل مدفن الأحياء. وحقيقة الأمر الْمُرَّة أن هنالك أحياء في مدفن خصص لهم لا للأموات؛ لكن المفارقة هنا أن المدفن هو العزل، وأن من فيه ـ بفضل الله ـ هم ممن يحيون بذكر الله، وأي حياة هي ولا نزكي على الله أحداً.

هنا وفي هذا المدفن الصهيوني (الإسرائيلي) يوجد ثمانية أنفار من أرض الرباط، فلسطين الأسيرة، لكل منهم قصة الم وأمل تختلج بها أضلعهم، أحدهم هو كاتب هذه السطور، ولكل ألم بداية هي بوابة هذا المدفن الغريب العجيب ليحيا ثمانيتنا بآلامنا وآمالنا في ثلاث زنازين ضيقة، لا بل قل ثلاثة قبور معتمة: قبراً جماعياً لأربعة أحياء، وقبرين في كل منهما أسيران من الأحياء.

ونبدأ التحدي من اليوم الأول لننير عتمة الزنزانة ـ أو قل القبر ـ بنور الإيمان وضياء البشارة بوعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين، وأول من بدأ هذا التحدي لقيد السجن والسجان في هذا العزل، لا بل قل مدفن الأحياء هم الإخوة: ناصر أبو خضير من القدس، وعماد الصفطاوي وعلي أبو جريدة ورياض عياد وثلاثتهم من غزة هاشم، وقد حُوِّلوا للاعتقال الإداري مع بداية انتفاضة الأقصى، ليمضي الصفطاوي تسعة شهور في هذا المدفن وحده رهن الاعتقال الإداري قبل أن يحول إلى سجن نفحة على ذمة قضية. ونقل عياد إلى عزل الرملة للإداريين وما زال هناك حتى الآن، أما أبو خضير فقد أطلق سراحه، ولا زال أبو جريدة هذا الأخ الصابر في عزل كفاريونا حتى الآن.

وما أن تناهى إلى مسامعنا خبر الإضراب المزمع البدء فيه حتى بدأنا مناقشة الأمر سوية عبر فتحات صغيرة في الأبواب المغلقة، وكان القرار: «على بركة الله سنضرب عن الطعام» ... كيف لا؟! والدوافع للإضراب في السجون كثيرة ولدينا هنا في «المدفن» أكثر: تفتيش عاري ... تمديد للاعتقال الإداري ... وتنكيل نازي ... منع للزيارة ... وعزل على عزل ... وإهمال طبي كما هو في حالة الأخ حسان عبد الرازق ... ومنع رفع الأذان، وحظر صلاة الجمعة والجماعة ... وإدخال الأغراض لنا ممنوع ... ورداءة في الأكل نوعاً وكمّاً ... والقائمة تطول وتطول.

نعيش في قسم العزل من هذا السجن وعلى مقربة منا يهود جنائيون من ذوي الأحكام المؤبدة والعالية وتجار المخدرات؛ حيث تدفعهم إدارة السجن إلى إزعاجنا بواسطة الطَّرْق على جدران الزنازين وإصدار الأصوات المزعجة. ولم تقف الأمور عند ذلك حتى قام متطرف يهودي برشق ثلاثة منا ـ إسماعيل شكشك، وجمال زينو، وعلي أبو جريدة ـ بالزيت المغلي والحار جداً، مما أدى إلى إصابتهم بحروق في الرأس والأطراف؛ وفوراً كان تسويغ الإدارة القمعية بأنه مجنون؛ دون تحريك لساكن أو تسكين لتحرك مجرم ... ولِمَ لا؟ وهي الشريك لذلك المتطرف في إجرامه وفعله الجبان.

وتؤكد لنا إدارة سجن كفاريونا، لا بل قل مدفن الأحياء، على منع رفع الأذان وكذلك صلاة الجمعة والجماعة. وتحدث زلزلة إذا ما رفع الأذان أو أقيمت صلاة الجماعة في «الفورة» ... وترى الإدارة القمعية وكأن الطير على رؤوسهم والرجفة حال أجسادهم الممتلئة حقداً ولؤماً.

ومع بدء معركة الأمعاء الخاوية والإرادات الصلبة في مواجهة عتمة الزنزانة في مدفن الأحياء.. كفاريونا.. سارعت وحوش الجلادين إلى زنازيننا الثلاث في ساعة مبكرة من اليوم الأول في الإضراب، فصادروا كل الأغراض و «الكانتينا» لا سيما السوائل والملح والسكر؛ والممنوع الأخطر هو «الترانزستور» الراديو الصغير؛ فهو وسيلتنا الوحيدة لمعرفة أخبار العالم الخارجي.. يبحثون في كل شيء حتى في الأحذية، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل أرغمونا على التفتيش العاري؛ ليحدث، إثر ذلك شجار بين أخيكم كاتب هذه السطور وضابط اللؤم، ولأعزل انفرادياً في زنزانة قذرة لمدة ثلاثة أيام.

وتتحرك الأفعى الأم وبناتها ويتقلبن، فتعلن الإدارة أنها ستكسر الإضراب بكل الطرق، فبدؤوا بعزل بعضنا عن بعض في زنازين انفرادية ... كلاً على حدة ... ولنمضي أياماً في تلك الزنازين مقيدي الأرجل ليلاً ونهاراً، نذهب بها إلى بيت الخلاء وإلى الطبيب وإلى المحامي كذلك، ولا مجال للاستحمام أو تغيير الملابس. ثلاثة أسابيع أمضيتها وأخي إسماعيل في التنقل من زنزانة لأخرى إلى أن جرى نقلي إلى عزل سجن «أوفك» وإسماعيل إلى عزل سجن «التلموند» ومنه إلى مشفى الرملة بعد تردي حالته الصحية ... كل ذلك القمع من اللئام لم يزدنا إلا اتحاداً وإصراراً على المضي بالإضراب حتى اليوم التاسع والعشرين من الإضراب؛ حيث قام من يسمى رئيس مصلحة السجون (يعقوف جانوت) بزيارتنا في إحدى الزنازين، ووصلنا إلى تفاهمات بخصوص العزل وتحسين الحالة المعيشية العامة، وعلى ذلك انتهى الإضراب.

وإلى حين خروجنا من عزل كفاريونا سنبقى ـ بإذن الله ـ نعيش ونحيا بروح ونور الإيمان وضياء البشارة بوعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين. ونحن هنا نحيا بهمة عالية؛ وذلك لما لهذا السجن من خصوصية ترفع فينا الهمم وتحيي فينا العزيمة ... ففي هذه الزنزانة ولنقل هذه المرة «الروضة» اعتقل شيخ المقاومة في فلسطين الشهيد الإمام احمد ياسين رحمه الله تعالى ... وفي تلك كانت كوكبة من أسرى المقاومة اللبنانية منهم الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج أبو علي الديراني حفظهما الله تعالى ... ومن تلك الزنزانة حدثت واحدة من أعقد عمليات الهروب من السجون الإسرائيلية؛ حيث حرر المجاهدان غسان مهداوي والزبن نفسيهما عام ١٩٩٧م وعلى بعد عشرات الأمتار من بوابة هذا السجن، لا بل قل بوابة «المدفن» . يقع مفترق بيت ليد هذا الموقع الذي شهد بدء حياة ثلاثة أنفار وأي أنفار هم! منهم الشهيدان أنور سكر وأخوه عبد الحميد شاكر اللذان كانا على موعد مع الشهادة في عملية بيت ليد الأولى عام ١٩٩٥م عروس العمليات الاستشهادية ... والثالث هو الشهيد عبد الفتاح راشد منفذ عملية بيت ليد الثانية عام ٢٠٠١م.

وسنبقى ـ بإذن الله ـ نحيا في العزل، لا، بل مدفن الأحياء حتى يكتب الله لنا من أمره يسراً، وسيبقى اللئام أمواتاً، وهم أموات.


(*) قيادي بحركة الجهاد الإسلامي.