للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الثقة بالأشخاص ضلال]

د. عبد العزيز بن عبد اللطيف

ما قال أبو الوفاء ابن عقيل هذه العبارة إلا عن دراية ومعرفة بطرائق المخالفين من المتكلمة والمتصوفة؛ فقد جرّب «الكلام» وخَبَر «التصوف» ، فقال: «أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخاً يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يُعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير -صلى الله عليه وسلم-، اللهَ اللهَ؛ الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع» (١) .

ورحم الله إمام دار الهجرة مالك بن أنس القائل: «ليس أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-» .

والناظر إلى حالنا يلحظ أن الاسترسال في العاطفة والانسياق في محبة أشخاص أوقع ـ وبلسان الحال ـ في غلو وتقديس لأولئك الأشخاص، كما أن بعضهم بلا قيد ولا زمام أعقبه بغي وعدوان كما هو مشاهد.

فإذا تعيّن علينا اتباع الحق والدليل فلا يسوغ العدول عنه لرأي إمام نحبّه، أو متبوع نجلّه، وفي المقابل لا نجعل من زلة العالم أو كبوة المتبوع مسوغاً لظلمه والنيل منه.

وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الوسطية بعبارة بليغة فقال: «إن الرجل العظيم في العلم والدين قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.

ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في برّه وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.

ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويُثاب ويُعاقب، ويحبّ من وجه، ويبغض من وجه» (٢) .

فالواجب أن نقبل الصواب من كل شخص، وأن نتجنب الباطل مهما كان قائله، فلقد كان الصحابي الجليل معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ لا يجلس مجلساً للذكر إلا قال حين يجلس: «واحذروا زيغة الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق فإن على الحق نوراً، فقالوا: وما يدرينا رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ قال: هي كلمة تنكرونها منه وتقولون: ما هذه؟ فلا يثنيكم؛ فإنه يوشك أن يفيء، ويراجع بعض ما تعرفون» (١) .

وأمر آخر ينبغي الاهتمام به ـ لا سيما في هذه الأيام ـ وهو ما قد يقع من مزالق وزلات لبعض المنتسبين للعلم الشرعي؛ فالواجب على سائر العلماء وطلاب العلم أن يعمدوا إلى مناصحة هؤلاء وتبيين الحق والصواب، وتذكيرهم بالوقوف بين يدي الجبار ـ جل جلاله ـ فلا بد من الاحتساب عليهم والأخذ على أيديهم، وكما قال ابن تيمية: «يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟» (٢) .

وما قد يمارسه بعض المنتقدين من قسوة و «إسقاط» لأولئك لا يجرنا إلى المداهنة أو التغاضي عن مآخذهم.

ومن الاحتساب أن يقال عن طائفة منهم ـ مثلاً ـ لا تأخذوا بفتاويهم في باب الولاء والبراء لما غلب على تلك الآراء من تفريط وإضاعة لهذا الأصل العظيم، وقد يُنتفع بفتاويهم في أمور أخرى، أو أن يقال: لا تأخذوا بفتاوى ـ طائفة أخرى ـ في موضوع الحكم والسياسة لما استحوذ على آرائهم من تقديس وتسويغ للولاة، ووضع الآصار والتشديد على الرعية، ويمكن أن يقال ـ تارة ثالثة ـ: لا تأخذوا بفتاوى فلان في المعاملات المصرفية؛ إما لتساهله في مسائل الربا، أو لتشديد ومنع لا يستند إلى دليل.

وهذا الشأن مسلك قال به أئمة السلف؛ حيث قال الأوزاعي: «من أخذ بقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في الصرف، وبقول أهل المدينة في الغناء فقد جمع الشر كله» (٣) .

وقال عبد الله بن المبارك: «لا تأخذوا عن أهل مكة في الصرف شيئاً، ولا عن أهل المدينة في الغناء شيئاً» (٤) .

وذلك أن أهل الكوفة عُرفوا بإباحة النبيذ ـ من غير العنب مما يسكر كغيره ـ كما أن أهل مكة أجازوا الصرف؛ فمنهم من أجاز ربا الفضل، كما عُرف بعض أهل المدينة بالترخص في الغناء.

أحسب أن هذا «التبعض» يحصل به التوسط والعدل، فيُنتفع بحسنات القوم، وتُجتنب عثراتهم.

وأمر ثالث من الأهمية بمكان وهو مراعاة قاعدة المصالح والمفاسد، ومعرفة مراتب الانحراف والشرور وتفاوت الأحوال؛ فقد تجد ـ مثلاً ـ من يتصدر منبراً إعلامياً كالقنوات الفضائية، أو منبراً دعوياً كالمساجد والمؤسسات وقد يتكلم في مسائل دينية برأيه دون أثارة من علم أو دليل، فيعقب ذلك شرور ومفاسد، وقد ينتفع به أقوام تمكّن منهم الجهل وغاب عنهم العلم، فهؤلاء الأقوام حصل لهم خير وصواب لا ينفك عن شوائب، ولا شك أن هذا الصواب المقترن بما يعكر عليه خير من باطل لا صواب فيه.. وأما من أغناهم الله ـ تعالى ـ عن تلك المنابر والمواقع؛ لأجل ما في برامجهم من خير محض وصواب لا تشوبه تلك الشوائب فهم في عافية.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوكُ الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدَث لعدم القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً؛ فإذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدلَ عن ذلك يخرج عن النور بالكلية» (٥) .

ويقول في ـ موضع آخر ـ: «وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على أيديهم خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة قد يسمعها قوم فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذباً» (٦) .

ويقول أيضاً: «والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة.. ليقدِّم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده» (٧) .

فنسأل الله - تعالى - أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن نقول الحق في الغضب والرضا. وبالله التوفيق.


(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(١) درء تعارض العقل والنقل، ٨ / ٦٧.
(٢) منهاج السنة النبوية، ٤/ ٤٣.
(١) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، ١/ ٢٣٢.
(٢) إعلام الموقعين، ٤/ ٢١٧.
(٣) الاستقامة، لابن تيمية، ١/٢٧٤.
(٤) شرح السنة للبربهاري، ص ٥٢.
(٥) مجموع الفتاوى، ١٠/٣٦٤، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم، ٢/ ٦١٦ ـ ٦١٩.
(٦) مجموع الفتاوى، ١٣/٩٥.
(٧) جامع الرسائل، ٢/ ٣٠٥.