للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إ صلاح التعليم وأزمة اللغة العربية في العالم الإسلامي]

(٢ــ٢)

د. فريد الأنصاري

تضمن القسم الأول من هذه الندوة في العدد السابق إجابات حول مقولة أن اللغة فكر، وظاهرة الضعف اللغوي والتدني في مستوى التعبير باللغة العربية، وأن المطالعة كادت تموت لدى الأجيال المعاصرة وما هي الوسائل المفيدة لعلاج هذه الآفة، وما هو دور اللغة في التكوين العلمي والعملية التربوية سلباً وإيجاباً، وقضايا التعريب، وتعليم العلوم الطبيعية وغيرها باللغة الأجنبية، وسياسة التعليم في فرض اللغة الأجنبية بدءاً من رياض الأطفال، وغير ذلك. وفي هذا العدد بقية الندوة. ـ البيان ـ

البيان: بغير معرفة الأسباب لا يمكن علاج الداء، حتى ولو تم تشخيصه، بل معرفة السبب جزء جوهري من التشخيص المتكامل، ومن هنا فإنه لا يمكن معرفة أدواء سياسات التعليم في العالم العربي والإسلامي، ولا القدرة على علاجها إلا بمعرفة طبيعة العلاقات المختلفة التي تربط الدول العربية بالآخر، يعني ضرورة معرفة طبيعة الولاء الخارجي، من حيث عمقه وحدوده. في نظركم كيف تتصورون برنامج التغيير من هذا الجانب خاصة؟ ومن يتحمل مسؤوليته من فعاليات الأمة وطاقاتها؟

- د. الوزاني: لقد سبق أن قلنا إن أغلب الأنظمة العربية والإسلامية موالية للغرب، والتغيير يتأتى بمحاربة الأمية، وتشجيع البحث العلمي، وتحسين الاقتصاد الداخلي، والإصلاح السياسي، ومحاربة الفساد الإداري.

- د. الدكير: التجديد سُنَّة الله في خلقه، يُوفق الله من يُحييها ممن أنعم عليهم، فهداهم للتي هي أقوم، ولا يقوم التجديد على التقليد؛ فإنه مباين له. بل إن التجديد بعث من بقيَّة باقية حية تُنفخ فيها روح فتجعلها خلقاً آخر أصوله ثابتة وفروعه في السماء، تؤتي أكلها حيناً بعد حين لمن فقه في دين الله. وأحسن التنزيل بأن راعى المقاصد، ولم يقعّد على القواعد؛ فالمثلث: (الدين، التعليم، اللغة) بعض من بعض، ثلاث مزايا ذوات علاقات تبادلية، لكن الأصالة للدين أولاً، وما عداه فروع تُردُّ إليه؛ فالدين منه يستمد، وعليه يعتمد، ثم التعليم، وهو بالعربية الصراط المستقيم إلى دين الله، وبغيرهما قد يكون دخَن، وهو يخفُّ ويشتد حسب ما أُشْرِبَتْهُ الألفاظ والمناهج من نسمات الوسائط؛ على أنه لا مانع في أن يُبدأ في مكانٍ باللغة، وفي زمان بالتعليم، لينتهي إلى الدين؛ فقد يسمو المفضول على الفاضل، وقد يُحَكَّمُ الفرع؛ ليظهر الأصل في أساسه ثابتاً. وهذا من تطبيب الحواس التي هي بريد إلى سلامة القلب أو العقل الذي ران عليه الرَّانُ أو الصدأ، مما لا ينجلي إلا بوسائل الآن.

والتغيير تجديد، وحقه ليؤتي أكله ـ في ظل الظروف المذكورة آنفاً ـ أن يكون تدريجياً، وبوسائل مناسبة للمراحل، عبر خطوط متوازية، وبخطوط متفاوتة، حسب اليسر والحاجة؛ فقد كان عمل الرسول # على اليسر، ونصح لنا بأن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل، علماً بأن العالم اليوم يُسْمَحُ فيه إلى حد معين بالتجارب، وتجارب التعليم الحُر في العالم الإسلامي مفيدة، (أي: ما يسمى في بعض البلاد بالتعليم الأهلي أو الخاص) إنها تجارب مهمة، وأحسنها مطية صالحة، ومنها ما يغري بالاتباع؛ لأن الخريجين أقوياء، وهم شامة بين الناس، والعبرة بالقليل النوعي القوي، لا بالكمِّ الكثير الغثائي.

البيان: لكن بالنسبة للدكتور اليوبي ـ باعتباره أحد الأطر التي واكبت قضية الإصلاح الجامعي بالمغرب على مستوى المسؤولية النقابية ـ أحب أن أسمع رأيه في إشكال إصلاح التعليم مركِّزاً بالأساس على واقع الجامعة: كيف ترون إمكان التجديد والإصلاح من هذه الناحية خاصة؟

- د. اليوبي: أرى أنه مع التطور المذهل الذي تشهده علوم المعلومات والاتصالات؛ قد أضحت تطبيقاتها أمراً واقعاً، ومفروضاً في كافة مناحي المعارف والتخصصات، كما أن غياب التفكير العلمي الدقيق من أجل التخطيط السليم، وإنجاز مشاريع تهم قضايا واستراتيجيات إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أعمال البيداغوجية؛ لهو مما يساهم في تردي الحاضر التربوي بالجامعة.

نذكر في هذا التشخيص البدهي والواقعي أن العمليات الأساسية في تداول المعرفة تجري راهناً عن طريق الاعتماد على التوظيف والاستخدام لأنواع التكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية. ولعل نجاح البيداغوجية الجامعية اليوم رهين بمدى تفاعلها مع عالم هذه التكنولوجيات، تفكيراً وتخطيطاً وتوظيفاً؛ وبوضع سياسة إصلاحية فعلية تنموية واقتصادية، في المؤسسة والإدارة أولاً؛ وفي البيداغوجيا ثانياً؛ إذ نحن في حاجة إلى مشاريع بيداغوجية مبنية على فحص الحاجات الواقعية، غير غافلة عن الانتماء الحضاري لأولئك الذين سيتولون العمل عليها وتطبيقها.

إننا نكاد نقرر هنا أن أي مشروع أو تخطيط بيداغوجي، يروم إصلاح التعليم، ولا يأخذ بعين الاعتبار العنصر البشري القائم على التنفيذ، ولا يراعي تحسين ظروف عمله، مآله الإخفاق؛ لأن العنصر البشري هو الفاعل والفعال والوسيط والبؤرة، مدرِّساً كان أو متعلماً أو إدارياً؛ وعليه فإن النظر إلى مشاكلنا البيداغوجية من منظور تكنولوجي معلوماتي، وإن كان يبرز قصوراً تزداد حدته؛ نظراً لعدم مواكبة البيداغوجيا سرعة وتيرة التقدم العلمي، وقلة نجاعة الاستفادة من التطور المستمر الذي تعرفه التكنولوجيا المعلوماتية؛ فإنه يجب أن لا يؤدي فقط إلى مجرد تشخيص الواقع، وفحص الوضع البيداغوجي بالجامعة؛ وإنما إلى بروز منطلقات جديدة لا تكتفي بالتوصيف والضبط، بل تعمل على تقديم بدائل وحلول عملية وتطبيقية. ومن جملة هذه المنطلقات:

- التركيز على الرفع من جودة تعليم اللغة العربية لأبنائها؛ إذ يعتبر تعليم اللغة من أهم مجالات التعلم؛ ذلك أن اللغة ـ كما أسلفنا ـ وسيلة الفرد في اكتسابه المعرفة، والحصول على المعلومات. وتعلم اللغة نافذة يطل منها المتعلم على ميادين الثقافة التي كتبت بتلك اللغة. واللغة العربية هي القناة الثابتة التي نتواصل بها على امتداد الزمان والمكان، وهي ذاكرتنا الجماعية، بها وفيها نُخَزِّنُ مفاهيمنا ونسجل قيمنا، وبها نحفظ رؤانا وحضارتنا، وهي بحاجة فعلاً إلى أن توضع لها رؤى وخطط تعليمية متجددة؛ للرفع من جودة تعليمها ونشرها وتداولها.

- التركيز على ضرورة تحسين طرق ومناهج تعليم العربية لغير أبنائها؛ ذلك أنها بحاجة إلى من يقدمها لهؤلاء على حقيقتها، وفي جودتها من دون تحريف ولا تشويه.

- ثم في ظل هذه الثورة لم تعد الجامعة تسعى إلى نقل المعرفة وحسب؛ فهي ليست هدفاً أولياً في الممارسات التعليمية، وإنما الأوْلى تطوير القدرات العملية التي تُعْتَمَدُ في الوصول إلى مصادر المعرفة من أصولها، واستثمارها في بناء مشاريع تنموية اقتصادية واجتماعية. والإبحار في محيط المعارف لا يجوز أن ينحصر في محاولة إيجاد الأجوبة، وإنما الأهم من ذلك تحريك الفكر لطرح الأسئلة. ذلك أن طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة عن طريق الوسائط التكنولوجية يُكسب المتعلم قدرة على التكيف وسرعة في التعلم، بحكم قابليته للتنقل والاطلاع الواسع الذي يوفره عالم التكنولوجيات. وهنا تكمن جسامة العمل البيداغوجي الجامعي؛ حيث لا يجوز أن ينحو منحى الثبات والاستقرار، بل التوجه نحو التنوع والتطور، وهو ما يتطلب وعياً من البيداغوجيين والمسؤولين على السواء؛ لتوفير ظروف التنويع، ووسائل التطوير، والحد من القيود التي تحد من مشاركة المتعلمين (تلاميذ وطلبة) في التعلم، وإسهامات الأساتذة في المشاريع البيداغوجية، وينتهون جميعهم إلى أن المسألة ليست بالدرجة الأولى في التعميم والانتشار؛ وإنما هي في القدرة والنوعية.

إن التعليم الجامعي مُعْنى حالياً بالمشاركة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويستفيد من استثمار التكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية في دعم المتعلمين لتغيير طرائق عملهم، ودفعهم نحو التفكير والفهم المبنيين على التفاعل المباشر والذكي مع المعرفة المعروضة. ومن هنا يدرك الجامعيون عموماً أن وظيفتهم ليست مقصورة على نقل المعارف والعلوم؛ وإنما تنصبُّ بالأساس على ضبط أهداف النقل وكيفياته، وطرقه ومناهجه، ومن ثم السعي لإكساب الفرد أقصى درجات المرونة، وسرعة التفكير، وقابلية التنقل بمعناه الواسع، والتنقل الجغرافي لتغير أماكن العمل والمعيشة، والتنقل الاجتماعي تحت فعل الحراك الاجتماعي المتوقع، والتنقل الفردي كنتيجة لانفجار المعرفة، وسرعة تغير المفاهيم (١) .

إن إصلاح التعليم بالجامعة المغربية يقول بضرورة الارتقاء بمهنة الفاعلين البيداغوجيين إلى درجة أكثر احتراماً ومسؤولية، وأن يكون التعليم بالجامعة أكثر عمقاً؛ وهذا يقضي أن يوضح للمدرسين ما الذي ينبغي أن يعرفوه ويفعلوه ويزاولوه؛ حتى ترتقي البيداغوجيا من مجرد كونها عملاً فردياً؛ إلى وضعها في مصاف العلوم المعرفية العلمية؛ وبما أن البيداغوجيا ممارسة وتجربة فإن ذلك مما يوجب تكامل التجارب وإفادة بعضها من بعض. والتكنولوجيا المعلوماتية تعتبر وسيطاً مهماً؛ للربط بين مختلف المدرسين بالجامعة.

البيان: لقد لوحظ أن حُمَّى ما سمي بـ (إصلاح التعليم) التي عصفت بالعالم الإسلامي أخيراً؛ كانت متزامنة مع حمى أخرى، هي المتعلقة بأطروحة تغيير مدونة الأسرة، وقضية المرأة؛ كما تجلى بالفعل في بعض الدول العربية ـ كيف تفسرون هذا التزامن: أهو محض مصادفة؛ أم أن هناك علاقةً ما بين البرنامجين؟

- د. الوزاني: لا شك أن المقصود بالبرنامجين معاً إنما هو ضرب مبادئ الإسلام في العمق، والتشكيك في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليصبح المسلم في مهب الريح، ضعيف الإرادة، مهيأً لتغيير فكره بسهولة.

- د. الدكير: نعم! هو كما قال فضيلة الدكتور الوزاني؛ ذلك أن إصلاح التعليم قضية ولا أبا حسن لها! وتغيير مدونة الأسرة رِدَّةٌ ولا أبا بكر لها! وهما كلمتا حق أريد بهما باطل، وتحريف للكلم عن بعض مواضعه للإجهاز على الإرث العلمي والعملي في العالم الإسلامي الذي يراد له أن يُحمل على كلمات خبيثات ما لها من قرار، بَلْهَ أن تثمر الثمار. ولعل العلاقة بين الْمَكْرَيْن الْمُبَيَّتَيْن لا تخفى إلا على عريض القفا النومان، وإلا على جاحد مكابر قد ألقى الحبل على الغارب؛ ذلك بأن العلاقة صارت إلى عالم المشاهدة، وقد جرت بها مختلف وسائل الإعلام، على تفاوت في التلطف والجهر.

- د. اليوبي: إصلاح التعليم والمدونة مخططان من أقوى مخططات الهيمنة والسيطرة، ويجب الإقرار أولاً أن هذا التزامن ليس من محض المصادفة، وإنما هو أمر مدروس ومخطط له: مرة علناً، ومرات سراً. والبرنامجان من أخطر ما يمكن أن يعصف بقيم ودعائم المجتمع؛ فكلاهما مرتبط بأعظم مكون من مكونات المجتمع: المؤسسة التعليمية، والأسرة؛ فإن هما فسدا فسد المجتمع كله، وهذا أمر في اعتقادي لا يحتاج إلى توضيح بقدر ما يحتاج إلى تنبيه واستنهاض.

وفي رأيي لا يجوز النظر إلى القضيتين نظرة واحدة؛ إذ الحقيقة أن نظمنا التربوية تحتاج إلى إصلاح وتغيير، وهذا أمر طبيعي. ولكن المهم في الأمر هو أن تصبح مؤسساتنا التعليمية والتربوية فاعلة ومنتجة. أما أن تتوالى عليها إصلاحات عقيمة تحتاج هي بدورها إلى إصلاح منذ ولادتها؛ فهو مما يجب التفكير فيه ملياً. ثم إن الإصلاح في المجال التربوي والتعليمي لا يجوز أن يقتصر على القضايا الفكرية، وإنما يجب أن تنكبَّ الدراسات على قضايا التكوين والإعداد؛ فالعنصر البشري هو ما ينبغي التفكير فيه أولاً وأخيراً، ومن دونه فكل مشروع إصلاح يحمل معه إشارات مشروع إصلاح آخر.

أما ما يتعلق بحمَّى تغيير مدونة الأسرة ـ بشكل خاص ـ ففي اعتقادي أن هذا الأمر أخطر بكثير؛ لأنه يعني خلخلة جوهر المجتمع الإسلامي وزلزلته من عمقه، وقد بدأت بالفعل تظهر علامات هذه الخلخلة من خلال العزوف الكثير عن الزواج، والهروب من مسؤولية تكوين (أسرة) . ثم الأخطر من هذا كله هو التراجع عن المحافظة على الأسر القائمة بالفعل، وعدم الرغبة في الاستمرار داخل الأسرة المبنية أصلاً، وقد نتج عن ذلك ارتفاع نسب الطلاق، والعزوف عن الزواج كلية، وتضاعف ظاهرة العنوسة، وهي علامات خطيرة ناتجة عن التغييرات التي مست مدونة الأسرة.

إن التفكير في إصلاح مدونة الأسرة ليس عيباً، ولكن العيب أن يتم ذلك جراء إملاءات خارجية لا تراعي القيم الدينية والثقافية للمجتمع المسلم. صحيح أن هناك مشاكل كثيرة، ولكن التفكير في حلها لا يجوز أن يؤدي إلى زعزعة نظام الأسرة بكامله، والعصف بروحه.

وأما علاقة البرنامجين فمن الضروري التذكير بأن محاولات الهيمنة والسيطرة على العالم الإسلامي قد أخذت أشكالا كثيرة ووسائل متعددة، والتركيز على مجالي التعليم والأسرة إنما وقع بعد دراسة استعمارية متفحصة وعميقة؛ خططت للتوصل إلى زعزعة كيان العالم الإسلامي وخلخلة بنيانه كله.

البيان: بناء على ما تقرر قَبْلُ مِنْ عُمْرَان اللغة بالمذهبيات المفهومية للحضارة المتكلمة بها؛ كيف تنظرون إلى معضلة ترجمة العلوم الاجتماعية والطبيعية وقضية المصطلح؟ وإلى أي حد يمكن ضمان نقل المفاهيم سليمة من المؤثرات الأيديولوجية والفلسفية؟ هذا من جهة.

ومن جهة ثانية فإنه رغم وجود مكتب تنسيق التعريب بالرباط، التابع للمنظمة العربية للثقافة والعلوم؛ فإننا نلحظ اختلاف التعبير الاصطلاحي وتضاربه بين كثير من الأقطار العربية عند وضع مصطلح جديد لما استُحدث من الآلات الصناعية، أو المفاهيم العلمية والعمرانية؛ فما شروط الوحدة اللغوية في نظركم؟ أعني في مجال التداول الاصطلاحي.

- د. الدكير: الترجمة تتعلق بالمترجِم أولاً، والمنقول له ثانياً، إنها تتعلق بالإنسان؛ فما غلب على الأول وأُشْرِبَهُ قلبُه جرى على لسانه، وخطه قلمه؛ على أن قلب الثاني ـ وهو المترجَم له أو المنقول له ـ قد ينكر ما يلقى إليه، ويلفظه بفطرته أو بعمله. ولا ينبغي أن تُغفل قيمة عمليات التصحيح والنقد، التي تكشف السموم، وتعري العيوب.

وأما الاصطلاح فهو فرع والتعريب فرع آخر، ووجود مكتب لتنسيق التعريب ـ وهو وحيد في ركن ركين، ولا يُلتفت إليه إلا قليلاً ـ عيب كبير؛ لكثرة الوارد، وضعف ذات اليد، فضلاً عن الأهواء والأدواء، وإعجاب كل معرِّب بكَلِمِهِ، ولا وحدة لغوية في مجال الاصطلاح وغيره إلا بالإيمان بضرورة الوحدة أولاً؛ هذه هي الجادة؛ فإن الإيمان بالشيء يأمر باللوازم التي يجب أن تؤخذ بقوة، وعلى بصيرة؛ ليولد المصطلح سوياً سليماً، ثم قد يتثقّفه أو يهذِّبه أولو الاجتهاد في العربية.

- د. الوزاني: لعل من سوء حظ مكتب تنسيق التعريب أنه وُجِدَ في المغرب! لأن أهل هذا البلد وأصحاب القرار منهم بالخصوص لا يعيرون اهتماماً للتعريب، وإلا فكيف نفسر إنشاء مكتب آخر في نفس المدينة خاص بالمغرب يحمل عنوان: «معهد التعريب والبحث العلمي» بدل التعاون مع مكتب التعريب التابع للجامعة العربية، وتعضيده ليقوى إنتاجه؟

وأظن أن ما قام به هذا المكتب منذ إنشائه إلى الآن كفيل بأن يجيب عن هذه الأسئلة التي وردت في هذه الندوة. أما فيما يتعلق بتعريب المصطلحات وتوحيدها؛ فقد نشر المكتب عشرات المعاجم، في شكل مشاريع لمختلف الفنون، ولا يحتاج إلا إلى مناقشتها من قِبَل المجامع اللغوية، والمتخصصين فيها للاتفاق حول صيغة واحدة، واعتمادها بصفة رسمية، ونشرها في معاجم خاصة، ولتكون مرجعاً للجميع. وبذلك نتلافى الاختلافات في شأنها.

والحل في نظري لمعالجة الإشكال بوجهيه المذكورَيْن هو تكتيل الجهود من جميع الجهات المختصة؛ لدعم مكتب تنسيق التعريب في مسيرته، وإحيائه من جديد؛ لاستثمار أعماله الغزيرة، ودعمه؛ وليواكب العصر ويساير المستجدات، ولا يعدم العالم العربي في هذه الخطة حلاً يرتاح له الغيورون على لغة القرآن الكريم.

- د. اليوبي: لا تنازع في أهمية الترجمة وقيمتها في نقل العلوم والمعارف، والتعرف على الثقافات وتجارب الآخرين. ولا شك في عدم إمكانية نقل المفاهيم سليمة بإطلاق من المؤثرات الأيديولوجية والفلسفية؛ لأن المصطلحات التي تعبر عن المفاهيم هي من ذات الفكر الذي أنتجها؛ فمن غير المنطقي أن تكون غيره. وقد تقرر تاريخياً أن الثقافة الغربية نقلت عن الثقافة العربية الإسلامية، وقد نقلت الثقافة العربية عن الثقافة اليونانية. لكن في رأيي لا يجوز اعتبار الترجمة معضلة من حيث هي، وإنما يجب التفكير في قيمة المنقول وحمولته؛ قصد التحكم في عملية نقله، وكيفية الاستفادة منه؛ وذلك قصد التمكن من تبادل المعلومات، وإقامة التواصل والتفاهم بصورة إيجابية.

ولا ضير في اختلاف التعبير الاصطلاحي بين الأقطار العربية، وإنما التضارب والتعارض في مؤدَّى المفاهيم الاصطلاحية هو ما يجب تلافيه؛ لأنه مربك فعلاً. وقد أنشأت الدول العربية (مكتب تنسيق التعريب) بالرباط لهذا الغرض. وقد قام ـ وما يزال ـ بجهود تنسيقية محمودة معروفة، ويبقى أن دوره يحتاج إلى إعطائه سلطة علمية يستطيع بها النفاذ إلى جميع الدول العربية لتحقيق الوحدة اللغوية على مستوى المصطلحات والمفاهيم.

ولقد أصبح مطلوباً الآن ـ أكثر من أي وقت مضى ـ من وزارات التعليم والتكوين والتربية في العالم العربي؛ أن تقوم بالتنسيق والتشاور في البرامج والمناهج وإعداد النظم التعليمية كلها؛ لإرساء دعائم الوحدة اللغوية وضبط مجال التداول الاصطلاحي.

ولقد أضحى الحديث عن المسألة اللغوية بالعالم العربي مصدر إزعاج وانزعاج؛ سبَّبَ تدافعاً بين فريقين: فإن كان الحديث عن قيمة اللغة العربية ورد الاعتبار لها؛ بكونها لغة القرآن ولغة الأمة الإسلامية، ووسيلة تواصلها وعنوان هويتها؛ انزعج له الحاقدون والناقمون على هذه الأمة. وإن كان الحديث عنها بكونها لغة لا تخدم العصر وأنها قادرة على مسايرة التطورات في المجالات العلمية المختلفة؛ كان ذلك الحديث مصدر إزعاج لأهلها الذين يرون في اللغة العربية قدرة وقوة تأتيها من داخلها. فالقضية إذن قضية ولاء لهذه الأمة أو براء منها.

البيان: ما الوسيلة الأنجع في نظركم لإعادة الاعتبار الحقيقي للغة العربية وهي لغة القرآن؛ لتمتين الأداء اللغوي لدى الجيل من جهة، وضمان الفهم السليم عن الله ورسوله من جهة ثانية؟

- د. الدكير: إن الوسيلة الأنجع لإعادة الاعتبار للعربية لغة القرآن هي القرآن الكريم؛ فقد أدب به ربُّنا ـ جل وعلا ـ رسولَه محمداً # فأحسن تأديبه، فجرى على لسانه جوامعُ الكَلِم؛ فضلاً من الله ونعمة.

على أن المجاهدة بالقرآن هي الجهاد؛ علماً أن الله هو الذي تكفل بحفظ القرآن، وحِفْظُ العربية مِن حِفْظِه؛ فإن الأمر بالشيء أمر بوسيلته. ومحاولة فهم القرآن وإعرابه وتفسيره تستوجب ضرورة العربية، وفي خير القرون ـ خير أسوة ـ نصح سلف الأمة: أنْ إذا لم تفهموا شيئاً من القرآن فالتمسوه في شعر الجاهلية؛ فإنه ديوان العرب.

أقول: لا بد من حفظ القرآن عن ظهر قلب؛ فالذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب. وإن هذه الأمة لتُغْبَطُ بأن احتياجاتها من العلم والدين في صدورها. فالحفظ يجعل اللسان رطباً بالذكر، والذكر يهدي للتدبر والتفكر، فتُدرَك الحاجات، وتُطلَب رويداً رويداً؛ وطلبها واجب، وهو إن كان كفائياً ـ وقد كادت تجعله عينياً ـ حتى إذا قام به البعض سقط عن الكل.

- د. الوزاني: نعم! هو كما قال فضيلة الدكتور الدكير، ولكن يمكن تفصيل ذلك في خطة مبرمجة على خطوات؛ فالوسيلة الأساسية هي التفكير في تعميم حفظ كتاب الله العزيز؛ فهو أساس اللغة العربية. وينفذ برنامج التكوين اللغوي اعتماداً على وسائل مساعدة، وهي كما يلي:

- التعاون مع منظمة «الإيسيسكو» التي من أهدافها الجليلة نشر اللغة العربية لغير الناطقين بها، والتدريب على طرق تدريسها.

- تبسيط دروس النحو، وحذف الأبواب التي لا تفيد كثيراً.

- تبسيط العربية بالنسبة للمبتدئين، بوضع معاجم متدرجة في عدد كلماتها، بدءاً من الكلمات السهلة الحسية، والمتداولة بكثرة، كالفطور والغداء مثلاً، وما شابه ذلك، ويراعى فيها اختيار مترادفة واحدة بدل مترادفتين، أو أكثر، كالجلوس والقعود، والفرس والحصان، وهلمَّ جراً، على أن يشتمل المعجم الأول على: ٢٠٠٠ كلمة مثلاً، والثاني على: ٤٠٠٠ ولا تؤخذ المفردات المستعملة في دروس التهجي وقصص الأطفال؛ إلا من هذا المعجم.

واختيار هذه الكلمات يخضع لطرق خاصة، كالتقاط الكلمات الفصيحة المتكررة، بوضع آلة التسجيل في الشوارع العمومية، وكذا من تعابير الإنشاء لتلاميذ الشهادة الابتدائية.

- استغلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة؛ لتوسيع مدارك الأطفال في اللغة العربية، وتصويب الخطأ في برنامج «قل ولا تقل» مثلاً.

- التفكير في شكل الكلمات، خصوصاً الأعلام، والكلمات التي تتطلب ذلك، كالمبني للمجهول مثلاً.

- فرض مادة اللغة العربية على كل طالب يتابع دراسته في أي كلية، أو معهد يعتمد اللغة الأجنبية.

- د. اليوبي: بداية، يجب الاعتراف بأن التقصير فينا وليس في لغتنا، وارتقاء اللغة رهين بدرجة الاعتناء بها، واستعمالها، وكذا الاعتزاز بها، وتطوير طرق نقلها وتقديمها للآخرين. وهنا تكمن مسؤولية الجميع: علماء، وباحثين، ومفكرين، ومجامع علمية ولغوية، ومؤسسات تعليمية وتربوية. وقد يتحقق ذلك بالأمور الآتية:

- الاهتمام باللغة العربية في البرامج التعليمية والمناهج التربوية، في مختلف وزارات التعليم بالبلاد العربية.

- السعي إلى توظيف اللغة العربية توظيفاً مقبولاً في الإدارات والمؤسسات العمومية.

- الارتقاء بالاستعمال اللغوي في الوسائل الإعلامية المسموعة والمكتوبة.

- الاهتمام بالقراءة باللغة العربية وتشجيع الإنتاج والإبداع العلميين المكتوبين باللغة العربية.

- ثم إن المؤسسات التعليمية والجامعة على الخصوص لها دور ريادي في هذا الباب؛ فهي لها من القدرة ما تستطيع رد هذا الاعتبار.

البيان: هل يمكن في نظركم تقريب العاميات العربية ـ بصورة ما ـ في الاستعمال الشعبي من اللغة الفصحى؟ وإذا كان ذلك ممكناً فما الوسائل الكفيلة بالنهوض به؟

- د. الوزاني: التفكير في تقريب العامية من الفصحى تفكير لا بأس به، ولكن أخوف ما نخاف منه هو إحلال العامية محل لغة القرآن بالتدريج حتى تصبح كاللغة اللاتينية المهجورة بعدما تفرقت اللهجات المنبثقة عنها إلى اللغات اللاتينية المعروفة، وبذلك نصبح بعيدين كل البعد عن فهم كتاب الله وتراثنا العظيم الذي نفخر به، وتصبح اللغات في البلدان العربية ـ لا قدر الله ـ متعددة مختلفة.

وأما التقريب من حيث المبدأ؛ فهو فكرة حسنة. ولنا في المسلسلات (المدبلجة) خير مثال ـ على الرغم مما فيها من عادات سيئة، بعيدة عن عاداتنا وعقائدنا ـ فالخطاب فيها يصل إلى الجميع بسرعة؛ بسبب بساطة العبارات، وسهولة الحوار، أو أدائه كأنه طبيعي؛ حيث يفهمه الجميع، على عكس ما نشاهده في بعض المسلسلات العربية الأخرى التي يتحاور أصحابها كأنهم يلقون خطباً.

وفي هذا الصدد يحسن بي أن أسوق ما يراه الدكتور أحمد أمين في كتابه «حياتي» قال: وكثيراً ما شغل ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحى ولا سيما من ناحية الإعراب، تحول دون انتشارها في جمهور الشعب، وخاصة إذا أردنا مكافحة الأمية وتعميم التعليم؛ فنحن لو أردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا إلى زمن طويل، ولم نتمكن من إجادة ذلك كما لم نتمكن إلى اليوم من إجادة تعليم المثقفين إياها؛ فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي، وأربع سنين في الجامعة، ثم لا يحسن أحدهم الكتابة والقراءة، وكثيراً ما يُلْحِنون في الإعراب، ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها، وفي محاضرة في المجمع اللغوي أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية، ننفيها من حرافيش الكلمات ـ على حد تعبير ابن خلدون ـ وتلتزم في آخر الكلمات الوقف من غير إعراب، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات، ولغة الكتابة للجمهور، ولا تكون اللغة الفصحى إلا لغة المثقفين ثقافة عالية، من طلبة الجامعة وأشباههم، وإلا الذين يريدون الأدب القديم ويستفيدون منه. وبهذا نكسب اللغة العامية والفصحى معاً. فاللغة الفصحى الآن لا تتعدى كثيراً من استعمال الكلمات اليومي، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت، وفي المعاملات من طبيعته أن يُكسب اللغة حياة أكثر من حياتها بين الدفاتر وفي الأوساط الخاصة، ويُكسب اللغة العامية رقياً يقربها من الفصحى، وهو يمكِّننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة، ويمكننا من تقديم غذاء أدبي لقوم لا يزالون محرومين منه إلى اليوم! (١) .

ولكن هذا الاقتراح لم يلق قبولاً كما قال.

- د. الدكير: يغلب على الظن أن العاميات أغلبها لهجات تفرعت عن لسان العربية، وتُنوسي الأصل وصار مهجوراً وهو الحق. والناظر في العامية بالبوادي والمداشر و (القصور الصحراوية) بالمغرب مثلاً؛ يجد كثيراً من الألفاظ تستعمل الاستعمال العربي الفصيح الذي عُرف في الشعر العربي قديماً، مما لا وجود له حتى في فصحى اليوم.

فالعامية وعاء خزان، يجب إحياؤه والعودة إليه ـ والعود أحمد ـ لكن يُصفّى مما علق به من شوائب؛ بسبب عوامل التعرية. فالعامية بحاجة إلى تخلية وتحلية؛ لتصبح صافية. ولقد عمل القرآن زمان نزوله على توحيد لهجات العرب، فأنزل الله ـ سبحانه ـ القرآن على سبعة أحرف، والأحرف: اللغات عند أغلب العلماء.

هذا وإن عاميات الدول العربية ولهجاتها، ليُعتنى بها اليوم في المعاهد والجامعات بالشرق والغرب؛ لحاجات في نفوس القوم، لكن كلٌّ يعمل على شاكلته، ولكل وجهة هو موليها، وإنما الأعمال بالنيات، والله من وراء القصد، نسأله ـ تعالى ـ أن يهدينا للتي هي أقوم، ويهيئ لنا من أمرنا رشداً.

- د. اليوبي: إن المسألة باختصار تتشكل كما يلي: فرغم الإقرار بحضور العاميات المتنوعة في البلاد العربية، ورغم جماليات بعض النصوص والإنتاجات التي قد تأتي بالعامية مكتوبة أو شفهية؛ فإن اللغة العربية الفصحى لا يجوز أن تعوض بالعامية؛ لأن الخطر لا ينحصر في كونه مسألة لغوية فحسب؛ وإنما يتعدى ذلك إلى كونه يمثل دعوة مغرضة ذات أبعاد سياسية مقيتة، أو استشراقية أو طائفية، ولا يخفى ما في ذلك من خطر على فقدان الذاكرة التي تجمع العرب والمسلمين عموماً تلك هي القضية في حقيقتها بلا مراء.

البيان: شَكَرَ الله للإخوة الأساتذة الفضلاء مشاركتَهم المتميزة والمفيدة في هذه الندوة ذات الإشكال المعقد؛ بما تبين من ارتباطاته المتعددة مع سائر أوجه النشاط الإنساني للمجتمع. ولا شك أن ضمن ما ورد من أجوبة ومناقشات وإثارة للخبايا ملامحَ واضحة لطبيعة الداء، وملامح أخرى لوصفة الدواء. وقد تبين أن مسألة اللغة العربية بالنسبة للأمة الإسلامية ليست ترفاً فكرياً يتناوله المفكرون المترفون؛ كلاّ، بل هي قضية وجود أو عدم. إن معنى إشكالها هو تمام المعادلة المشهورة: (إما أن نكون أو لا نكون) ومن هنا كان من الخطأ الجسيم أن تأتي دعوات للإصلاح هنا وهناك؛ وليس لها أدنى تصور للمسألة اللغوية في العالم العربي والإسلامي.

إن معنى ذلك أن علينا أن نفكر بجد في إعادة بناء جيل قيادي متكلم بالعربية الحقيقية، عربية القرآن، جيل قادر على بناء (الجملة القرآنية) ـ على حد تعبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ـ قادر على توظيفها واستعمالها والتواصل بها؛ من أجل إحسان ربط الصلة بالتراث العلمي والحضاري للأمة. إذْ بدون ذلك سيكون التَّبَيُّن والبيان ضعيفاً جداً؛ فتَبَيُّنُ مفاهيم التراث على حقيقتها، وتبيينها على أحسن وجوهها؛ هو من أكبر مهام تجديد الدين في النفس والمجتمع. ولا شك أن حل هذا الإشكال هو أول منطلقات العلم، ولا وجود لهذه الأمة إلا بعلم. ولا شك أن استصدار مشروع لذلك في ميدان التربية والتعليم، بهذا البلد أو ذاك؛ لهو من أكبر التحديات؛ ذلك، والله الهادي إلى الصواب والموفق إليه.


(*) مراسل مجلة البيان بالمغرب.
(١) نبيل علي، ٢٠٠: ١٤٢ ـ ١٤٣.
(١) حياتي: ص ٢٦٠، الطبعة الثانية، بيروت، ١٩٧١م.