للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدكتور وليد قصاب في حوار مع البيان]

حاوره: محمود حسين عيسى

هناك من يحاول إلغاء المرجعية الإسلامية في العلوم الإنسانية!

الأديب الدكتور وليد قصّاب أستاذ الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، شاعر وقاص وناقد من أكثر من ربع قرن، وله ما يقارب خمسة وثلاثين كتاباً في الشعر والقصة ودراسات في الأدب واللغة وتحقيق التراث، وقد التقته البيان أخيراً، ليلقي الضوء على كثير من قضايا الأدب، فكان هذا الحوار.

البيان: لماذا الدعوة إلى الأدب الإسلامي؟ وما مسوغاتها؟

- لأن الأدب الإسلامي، عدا عن أنه الأصل الذي يمثل هويتنا الفكرية؛ فإن هنالك ـ في هذا العصر بالذات ـ من يحاول إلغاء المرجعية الإسلامية عن جميع العلوم الإنسانية، ومنها الأدب، ذلك النشاط المؤثر الفعّال، وهو لا يجد غضاضة أن يصبغها بأية صبغة إلا الصبغة الإسلامية. إن المحاولات اليوم جادة ـ على أيدي طوائف كثيرة ـ لإبعاد الأدب عن العقيدة، بل عن الحياة والمجتمع والرسالة، وهذا لم يحصل في يوم من الأيام، لم يكن رأي أو فكر يقدّم بين يدي الإسلام، ولذلك لم يجد علماؤنا المتقدمون حاجة أن يسموا نشاطاً معرفياً ما بأنه «إسلامي» ؛ لأنه كان كذلك حقاً، لم يكن أحد يتحدى هذه الصفة أصلاً، أو يحاول إقصاءها، أما الآن فقد ظهرت عندنا مذاهب أدبية غريبة ـ مستوردة من شرق ومن غرب ـ تلغي الإسلام وتعاديه، وتعده تخلفاً وانحطاطاً: كالوجودية، والواقعية الاشتراكية، والمدارس الحداثية المختلفة، وغيرها.

البيان: ولكن كثيرين يهاجمون الأدب الإسلامي، ولا يعترفون به أليس كذلك؟

- بلى صدقت! يواجه الأدب الإسلامي حرباً شعواء يشنها عليه العلمانيون والحداثيون والجاهلون بحقيقته ورسالته، ولكن المستقبل لهذا الأدب الجاد الرصين الذي يمثل عقيدة الأمة وهويتها الفكرية وذوقها، وهو جزء من الصحوة الإسلامية المتنامية، أو قل ـ إن شئت ـ إنه المعادل الجمالي للصحوة الإسلامية المعاصرة، وهو أدب المستقبل مثلما أن الإسلام هو دين المستقبل كما بشر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار» .

لكن المعوقات في وجه هذا الأدب كثيرة ومتعددة نسأل الله أن يعين دعاته والحاملين رسالته النبيلة على تجاوزها، حتى يرسخوا أقدام هذا الأدب، ويقدموه البديل لتصحيح ما اعتور الأدب العربي الحديث من انحراف وتغريب.

البيان: ذكرت أن هنالك معوقات تقف في وجه الأدب الإسلامي؛ ما أبرز هذه المعوقات؟

- المعوقات كثيرة، منها ضعف منابره الإعلامية، وضعف موقعه على شبكة الإنترنت المنتشرة الفعالة. ومنها معوقات تعود إليه هو في حد ذاته متمثلاً ذلك ـ بشكل خاص ـ في قصور في فهمه؛ إذ لا يزال قوم من مبدعيه ونقاده يضيِّقون آفاقه، فيحصرونه في موضوعات معينة، كالحديث عن الجهاد، وفلسطين، وأفغانستان، ومسائل عبادية، وهذا كله ـ من غير شك ـ أدب إسلامي، ولكن قصر الأدب عليها وحدها يقصّ من أجنحة انطلاقه؛ إذ هو أوسع من ذلك وأرحب، وكلُّ تجربة مهما كان نوعها: سياسية، أو اجتماعية، أو عاطفية، أو ذاتية تصلح موضوعاً للأدب الإسلامي ما دام المبدع يقدّم عنها رؤية الإسلام وتصوره.

كما أن بعض النماذج الضعيفة فيه ـ وهي على كلٍّ فيه أقل منها في الأدب الآخر ـ تسيء إليه، وتقلل تأثيره، وتعيق انطلاقته. زد على ذلك قلة الإمكانات المتاحة لرابطته العالمية.

البيان: يتردد بعض دعاة الأدب الإسلامي في الانفتاح على الآخر، والأخذ منه، خوف الذّوبان فيه، ما رأيك؟

- الانفتاح على الآخر ضرورة لا بد منها، وهو سنة من سنن الله في الكون {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] ، والانفتاح على الآخر ـ في المنظور الإسلامي ـ لتبليغه رسالتك، والاستفادة مما عنده إن كان حكمة، وأنت اليوم لا تستطيع الانعزال والتقوقع أصلاً؛ فقد تحول العالم إلى قرية كونية واحدة، وانفتحت الثقافات بعضها على بعض، ولكن عليك أن تعرف باستمرار ماذا تأخذ وماذا تدع، وأنت لن تعرف ذلك إلا إذا حدّدت هويتك، ليكون في يدك معيار تزن به الأمور، وهذا الميزان بالنسبة لنا هو الإسلام؛ فما اتفق معه أخذناه، بل حرصنا عليه، وعددناه الحكمة الشاردة التي نحن مأمورون بالبحث عنها، ولكن ما خالف عقيدتنا انتبذناه ـ مهما كان مصدره ـ من غير استحياء ولا توارٍ، مدركين أنه باطلٌ لن يحمل لنا الخير.

البيان: تعاني الثقافة العربية والمثقفون في العالم العربي من مظاهر متعددة تحمل على الإحباط، ما رأيك؟

- صدقت. ما أكثر المحبطات والمثبطات، ولعل أمضّ إحباط يحسه المثقف هو تقهقر دور الثقافة في هذا المجتمع الاستهلاكي المادي المريض، وعدم تقدير العلم والعلماء، حتى أصبح لاعب الكرة، وهزازة البطن، والمهرّج، أرفع شأناً من كل أديب أو مثقف أو عالم.

وزيادة على هذا الخلل في التركيبة الاجتماعية، ساهم بعض المثقفين في تظليم صورة الثقافة والمثقفين؛ وذلك بتحول بعضهم إلى أبواق للسلطة تنطق باسمها، وتسوغ ظلمها، وعدم مصداقية بعضهم الآخر؛ إذ {يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: ٢٢٦] ، ويتملقون الكبراء وأصحاب النفوذ، ويتاجرون بالكلمة، وبعضٌ آخر فقد البوصلة التي يمشي على هديها، فهو يتبنى آراء من شرق أو غرب لا تمت إلى هذه الأمة، ولا تعبر عن همومها؛ إنه يغرد خارج سرب الأمة. ولكن المثقف الحقيقي الصادق المؤمن لا يزال صاحب دور فعّال؛ فهو الرائد الذي لا يكذب أهله، وكلمته ضاربة في أعماق الأرض، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

البيان: يتحدث الدارسون عن خلل في النقد العربي الحديث بسبب تماهيه في النقد الغربي. ما رأيك؟ وأين يقع نقدنا من خريطة هذا الثاني؟

- لا يوجد عندنا اليوم شيء اسمه النقد العربي الحديث، هنالك اجتهادات عند بعض الدارسين الأصلاء لما تكتمل لإنشاء نظرية نقدية عربية، ولكن التيار الكاسح هو تيار التغريب، يكاد نقدنا الحديث يكون نسخة من النقد الغربي، يتعاطى مناهجه، ويستخدم إجراءاته، ومن هنا تقع المفارقة المضحكة، مفارقة من يرتدي ثياباً ليست له، وهذه النظريات الغربية ـ زيادة على كونها نتاج حضارة أخرى تختلف في تصوراتها عن عقيدتنا وفكرنا ـ مليئة بالنقائض والفجوات، وهي متغيرة باستمرار، سليلة فكر جموح لا يؤمن بثوابت، يثور بعضها على بعض، ويلعن بعضها بعضاً. إن المذاهب النقدية الحداثية من بنيوية وأسلوبية وتفكيكية ونصية، تسفّه كل ما تقدمها من النقد، وتحول النص إلى عالم مغلق مستقل عن أي عالم خارجي، وفي الوقت الذي تدعي فيه أنها تريد (إضاءة) هذا النص من (الداخل) لم تستطع أن تحقق ذلك، بل اتسمت بالغموض والفوضى، وصارت أشبه بالطلاسم، حتى ما يكاد يفهم المتخصصون أنفسهم ماذا يكتب نقاد هذه الأيام؟ ولم يستطع أي مبدع أو متلق أن يستفيد شيئاً من هذا النقد المطلسم.

البيان: ما أبرز عيوب النقد الحديث في رأيك؟

- لعل أبرز المآخذ على النقد الحديث إسرافه في «علمنة» النقد، وتعامله مع الأدب كما يتعامل العلماء مع الظواهر العلمية في مختبراتهم ومعاملهم، وقد امتد هذا التأثير السلبي إلى مصطلحات النقد وآلياته، على شكل جداول وإحصائيات وإحداثيات رياضية لا معنى لها.

ثم إن هذا النقد الغربي المستورد من أبرز عيوبه أحادية النظرة. أطالت البنيوية مثلاً الكلام على سلطة النص وحده، وقطعت هذا النص عن كل مؤثر آخر، ثم جاءت التفكيكية فنقضت ما قالته البنيوية، متحدثة عن سلطة القارئ وحده، فهو الذي يؤوِّل النص كيف يشاء، تأويلات غير متناهية، كل تأويل يهدم ما قبله، فلا ثقة ولا مصداقية لأية قراءة، حتى كأن النص واللغة معاً يصبحان موضع شك.

وهكذا يبدو النقد الغربي الحديث الذي نتفاخر باستيراده ـ بما يشوبه من فوضى واضطراب ـ كالكرنفال كما يقول باختين.

البيان: كيف تؤسَّس نظرية النقد العربي الحديث؟

- لا بد أن يتأسس النقد العربي من داخله، من داخل الفكر العربي نفسه، من طبيعة الأدب العربي الأصيلة، وطبيعة لغته العربية، وأسلوبها في التعبير والأداء، وعندنا من الآراء النقدية والبلاغية التراثية ما يبهر ويدهش، ولكن الدارس الحديث لا بد أن يُعنى باستخراجها، بدل أن يعتمد اعتماداً كلياً على النقد الغربي، وعليه أن يطعِّمها بالنظرات الحديثة المناسبة لهوية الأدب العربي وطبيعته الفنية، عليه أن يأخذ ما يصلح، وأن يقدّم لنا منهجاً نقدياً، يقوم على التكامل، يتعامل مع النص من جميع وجوهه: شكلاً ومضموناً، وعاطفة وخيالاً، منهجاً لا ينظر إلى النص ـ كما تفعل البنيوية مثلاً ـ على أنه عالم مغلق مستقل، لا علاقة له بتاريخ ولا مجتمع ولا دين ولا أخلاق، ولا وظيفة له، أو غير ذلك مما تسميه المناهج الحداثية بـ «الخارج» الذي لا فائدة منه.

البيان: أخيراً، دكتور قصّاب، باعتبار أنك شاعر معروف، ولك عدد من المجموعات الشعرية، ما موقع الشعر اليوم، وما سبب قلة إقبال الجمهور العربي عليه؟

- لم يعد الشعر يحظى اليوم لا عندنا ولا عند الأمم الأخرى بما كان يحظى به من المكانة القديمة، بسبب طغيان الحياة المادية فيه، ونوع الثقافة التي تسود المجتمع، وهي ثقافة استهلاكية ضحلة، تقوم على المرئي والمسموع أكثر مما تقوم على المقروء، وتقوم على المتعة والتسلية أكبر مما تقوم عى الفائدة والجدية.

ولكن جزءاً رئيساً ـ في رأيي ـ من أزمة الشعر العربي الحديث، وزهد القارئ العربي فيه، يعود إلى ما دخل هذا الشعر ـ ولا سيما عند المشهورين ذائعي الصيت ـ من تغريب كثير باعد بينه وبين المتلقي، وهو تغريب يطول اليوم ـ عند الحداثيين المهيمنين على ساحته ـ جذوره الأصيلة، وقيمه الراسخة، نسفت فيه الموسيقى، واللغة، والمعنى، والوظيفة، وساده الغموض والركاكة والفوضى، وتسوّره الكثيرون، وصار ـ في غيبة المعايير التي حرصت الحداثة على نسفها ـ مطية ذلولاً لا تتأبى على أحد، وهذا أغلب ما تحفل به الصحف والمجلات، فانصرف الجمهور عنه انصرافاً واضحاً. ولكن الشعر الأصيل ـ وهو على كثرته مغيّب معتّم عليه ـ ما يزال له حضور عند الجمهور العربي، وهو الأمل المنشود لكي تعود لشعرنا العربي أصالته وحظوته ودوره الفاعل المؤثر.