للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مفاهيم إسلامية

الدين والدنيا

بقلم / محمد العبدة

وترى الدنيا انطوت في كسبه ... ليس منها ذرة في قلبه

(إقبال)

لا نبتعد كثيراً إذا قلنا إن الاختلال في توازن أمور الدين والدنيا كان ولا يزال

أحد الأسباب التي جعلت المسلمين يتعثرون في نهضتهم ويضعفون في الوصول إلى

أهدافهم.

إن كثيراً من المسلمين يحملون مفهوماً خاطئاً عن الدنيا أو عن التوازن بين

الدنيا والدين، فتراهم يطربون عندما يسمعون قصص الزهد غير الشرعي، وقص

الزهاد الذين يتركون الدنيا كلها، والواعظ الذي يذم الدنيا دائماً يقبل الناس عليه

ويسمعون منه، ويعجبون به.

لا شك أنها معادلة صعبة ودقيقة تلك التي تجمع بين الدنيا والدين، أو بين

الدنيا والآخرة، وأي خلل في فهم هذه المعادلة سيؤدي إلى أخطاء كبيرة وتقصير

عما يريده الله سبحانه وتعالى من المؤمنين من التمكن في الأرض وإعمارها بالعدل

ونشر الإسلام.

المفهوم الإسلامي للدنيا والدين:

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ

حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ] : (الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية

ودار رحبة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هين وثناء جميل،

والحسنة في الآخرة أعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر وتيسير

الحساب) (١) . وقال في الظلال: (إنهم يطلبون الحسنة في الدارين ولا يحددون

نوع الحسنة، وهذا التعليم الإلهي يحدد لمن يكون الاتجاه، ويقرر أنه من اتجه إلى

الله وأسلم له أمره، وترك له الخيرة فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة إن

الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا

ولكن يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها) (٢) .

فالدنيا في المفهوم الإسلامي الصحيح وسيلة وذريعة لتحصيل مقاصد الشريعة

(فالمقصد هو الدين ولكن لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية مرعية)

(٣) والكسب في الدنيا من الواجبات لأنه لا يستطيع الاستقلال بالعبادة إلا بتأمين

ضروريات حياته، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (٤) ، فإذا كانت الدنيا

بهذه المثابة وأنها منزل وممر لا موطن ومقر فالآخرة هي دار الجزاء، قال تعالى:

[فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ] إذا كانت كذلك (فالواجب الكشف عن

جهة انتظامها واختلالها، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها) (٥) ويقصد الماوردي:

بما أنها مطية للآخرة، فإنها إذا فسدت فربما أدى فسادها إلى إنقاص الدين. فإذا

وصلت الحال بأهلها إلى قلة الأمن وقلة الرزق أو التهارج والقتل والعيش الذليل

وتسلط الأعداء وقهرهم للمسلمين، فمن المؤكد أن هذه الأمور تضعف الدين كذلك

فلا يستطيع المسلم أن يقول: أنا أحفظ ديني وأدع الدنيا لمن هو راغب فيها أو

للكفار..

يقول الماوردي: (لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلاف أمورها لن

يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها، لأنه منها يستمد.. ومن فسدت

حاله مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة ولا لاستقامتها أثراً،

لأن الإنسان دنيا نفسه) (٦) .

ما ورد في القرآن حول الدنيا:

عندما يبتعد الناس عن منهج الأنبياء وعن اتباع الشرائع الإلهية، تصبح

الدنيا محورهم الأساسي، وهى آمالهم وموضع لذاتهم، ويصبحوا عبيداً لها. ولا

فكاك لهم من أسرها. يقول الأستاذ محمد قطب: (وكان الخلل في الجاهلية العربية

هو انفصال الدنيا في حس الناس عن الآخرة لعدم إيمانهم بالآخرة، وهو الآن

انفصال الدنيا في حس الناس عن الآخرة لاستصغارهم شأن الحياة الدنيا واحتقارها، ولأول وهلة يبدو هذا الأمر هو عين الإيمان) (٧) .

جاء القرآن الكريم ليصحح هذه الأوضاع ويضع المسلم على الجادة المستقيمة، فالدنيا ليست غاية وإنما وسيلة، ولا بد من إعمارها. ففي هذه الدنيا نعبد الله

ونتعلم ونجاهد. قال تعالى: [إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ

يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: ٥١) .

[ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]

[الأنبياء: ١٠٥]

[نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ] [فصلت: ٣١] .

[فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] [آل عمران: ١٤٨] .

[قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ] [الأعراف: ٣٢] .

وذكر الزينة في هذا المجال له دلالته الخاصة، إذ الزينة جمال والجمال شيء

زائد على الضرورة.

(وأما ما جاء في القرآن من ذم للدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح

المفرطين) (٨) كقوله تعالى: [ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ ولَهْوٌ] [الأنعام: ٣٢] .

وقوله تعالى: [واضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ

نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً]

[الكهف: ٤٥] .

فهي دعوة إلى عدم التعلق بالدنيا الفانية وأنها قصيرة لا تستحق أن تجعل غاية، كقوله سبحانه: [ورَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّوا بِهَا] [يونس: ٧] .

وقد بعث الله الأنبياء هداة للبشرية ولم يكن من منهجهم الإعراض عن عمارة

الدنيا، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: [واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ

قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً] وقوله تعالى على لسان صالح:

[وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ

الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] .

ما جاء في الأحاديث حول الدنيا:

وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»

فهي سجن بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من جنات، وجنة الكافر بالنسبة لما ينتظره

في الآخرة من العذاب. وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا ملعونة

ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه» فذكر الله وما والاه هو كل عمل خير يقصد

به إقامة الدين، وهذا مطلوب في الدنيا.

ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه

إنسان أو دابة إلا كان له صدقة» وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- العملية

من الدعوة والجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، أكبر دليل على هذا التوازن فلم يمنع

الصحابة اشتغالهم بالتجارة أو الزراعة من الجهاد والتعلم ونشر الإسلام.

أصناف الناس في مراعاة أمور الدنيا:

١-المنهمكون فيها وهم شر الدواب.

٢ - المبتعدون عنها غاية الابتعاد، وهذا مخالف للسنة الكونية والشرعية.

٣-صنف وسط وفوا الدارين حقهما وهم الأفضل، لأن بهم قوام أسباب الدنيا، وهذا الصنف هو الذي يتناولها ويراعي فيها ما يجب فيقتصر لنفسه على تناول

بلغته، ويجعل الباقي مصروفاً إلى ما دعي إليه من الجهاد والعلم والنفقة على

المحتاجين وكل أبواب الخير..

(يتبع)