للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مشكلة القراءة وأهمية معالجتها]

أ. د. عبد الكريم بكار

كانت طبيعة العقل في الماضي غامضة إلى حد بعيد، وكانت من ثم علاقته بالثقافة والخبرة أيضاً غامضة. وقد تبين اليوم أن العقل الأول الوهبي ليس أكثر من وسيلة إدراك وتحليل، وأن علاقته بالمعرفة والخبرة هي تماماً مثل علاقة العين بالنور؛ فكما أن العين لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور، كذلك العقل لا يستطيع إصدار أحكام راشدة من غير قدر حَسن من المعلومات حول ما نريد التحدث فيه. إذا فكرنا في أمر من غير معرفة ولا خبرة، فإننا نكون أقرب إلى من يخضّ الماء يبتغي منه الزبد! وسيكون في إمكان العقل دائماً أن يطرح الفروض، وأن يطلق التخمينات، لكن فروضه عند انحسار العلم تكون شكلية، وبعيدة عن ملامسة جوهر المشكلة. هذا يعني أن الأزمة الفكرية على أي مستوى وفي كل مجال كثيراً ما تكون صدى للأزمة الثقافية. لا يعني هذا بالطبع أن توفير قدر كبير من المعلومات والمفاهيم يجعلنا نفكر تلقائياً بطريقة صحيحة؛ إذ إن توفير المعلومات شرط ـ جوهري جداً ـ يترتب على عدمه العدم، ولا يترتب على وجوده وجود ولا عدم لذاته ـ كما يقول الأصوليون ـ. مهما وفرنا من المعرفة فإنه ستظل هناك فراغات تحتاج إلى فك. وقد جرت العادة أن نحاول ملأها عن طريق القياس والتعليل والخبرة في الأمور المناظرة لما نقوم بمعالجته. المطلوب من المعرفة لفهم جيد مثل المطلوب من المال سيظل دائماً أقل من المعروض، الغريب في الأمر أننا لم نقم ببذل الحد الأدنى من الجهد المطلوب والممكن لمعالجة مشكلة الإعراض الجماعي والشباب عن القراءة ومصاحبة الكتاب. إنني أعتقد أن هذه المشكلة لا تقل في خطورتها عن مشكلة البطالة، أو التدخين، أو المخدرات، أو الطلاق. وإنما أقول هذا القول للاعتبارات الآتية:

١ ـ لا يمكن فهم مرامي الإسلام الحضارية والتفاعل مع أطره ومفاهيمه من غير علم جيد وخلفية فكرية وثقافية راقية. وهذ ما يفسر انبعاث الصحوة الإسلامية في المدن والمراكز الحضرية دون البوادي والأرياف على نحو أساسي.

٢ ـ يشكِّل العلم اليوم المدخل الوحيد للتقدم التقني، والذي من جهته يشكِّل الطريق إلى امتلاك المال والقوة والمنعة. وأمتنا في حاجة ماسة إلى هذا اليوم.

٣ ـ العلم يغيّر نوعية الحياة، ويهذب النفوس، ويجعل تربية الأبناء والتعامل مع الناس أقرب إلى السواء. وهو إن كان لا يؤدي إلى التدين والالتزام على نحو مباشر إلا أنه يولِّد حساسيات خاصة من شأنها الحث على البحث عن المصير الإنساني وعن المثل والقيم الرفيعة.

لهذا فإني أرى أن علينا أن نوجِد الأطر التي تساعد على تعليم القراءة الجيدة، وتوفير الكتاب، وأن نرسي في البيوت والمدارس تقاليد ثقافية تجعل من التعليم مدى الحياة ومن السلوك الاجتماعي على أساس المعطيات المعرفية ـ شيئاً حاضراً في الوعي ومجسَّداً في الحركة اليومية.

وإن للإعلام بوسائله المتعددة دوراً أساسياً في هذا الشأن. إنه لا تنمية اقتصادية من غير تنمية فكرية. ولا تنمية فكرية من غير تنمية ثقافية، وإننا لن نحصل على أي شيء من ذلك من غير نقلة نوعية على صعيد الوعي، وعلى صعيد الهمة والاهتمام.