للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السياسة الإيرانية حيال العراق وأبعادها الخطيرة]

عماد القيسي

لقد اتسمت السياسة الإيرانية، في تعاملها مع العراق والمناطق المجاورة بسمات ثابتة ومتعددة منذ نشوئها وإلى الوقت الحاضر؛ فهي عندما تكون ضعيفة تقاتل من اجل الحفاظ على هويتها الثقافية واللغوية والدينية ذات الصفات الخاصة. أما حينما تكون قوية فإنها تحاول الاستيلاء على العراق ودول الخليج العربي الأخرى. وقد حاولت إيران وتحاول جر المسلمين إلى نهجها، ومن ثم بسط هيمنتها على الدول المجاورة لها (١) .

وهذه الرغبة المحمومة في التوسع وبسط النفوذ ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، وهي ليست نهجاً انفعالياً ظرفياً آنياً أو ردة فعل إزاء حدث بعينه، بل ذلك ديدن كل الحكومات والولاة والملوك الذين تعاقبوا على حكم الدولة الإيرانية.

ومنذ استيلاء إسماعيل الصفوي على بغداد سنة ١٥٠٨م وفتكه الفتك الذريع بالعراقيين، وقتله العلماء والوجوه والأعيان، وتدنيسه المساجد والجوامع، ونبشه قبور الأئمة إلى أن نكص على عقبه مدحوراً، وقد كان يبغي ان يُلحق (العراق) بـ (فارس) ويُخضع العرب للفرس.

وسعى الشاه إلى استغلال الأوضاع القائمة لتحقيق مصالحه على حساب مصالح الأمة الإسلامية ووحدتها، فرسم سياسته التوسعية على اساس التحالف مع البرتغاليين في الخليج العربي تارة، وتحالف بعض ممن خلفه مع الإنكليز تارة أخرى بهدف التنسيق معهم ومع الدول المعادية للدولة العثمانية ودولة المماليك في مصر والشام لبسط سيطرته على بلاد الشام مقابل أن تكون مصر وفلسطين من نصيبهم.

ولم تختلف أهداف حملات نادر شاه عن غايات سلفه؛ حيث وجَّه أعظم حملاته على العراق، وألقى بثقله على بغداد بهدف التوسع وبسط سلطانه ومد نفوذه، ولم يحقق من ذلك سوى الانسحاق والتخلف والهزيمة النكراء.

- القاجاريون والبهلويون على النهج:

وجاءت بعده دولة القاجاريين التي كانت في غاية الضعف، وأطاح بعرشهم رئيس إصطبلات جيادهم (رضا البهلوي) وكان طاغية سفاحاً ذا أطماع واسعة وطموحات كبيرة، ونصب نفسه على عرش فارس سنة ١٩٢٦م وفي رأسه حلم أسلافه إزاء العراق (١) .

وأخذ يتطلع إلى مياه شط العرب والخليج العربي وفق تصور يمكنه من خلاله توسيع رقعة الإمبراطورية الفارسية وإعادة مجدها الغابر حتى ولو كان على حساب جيرانه، ووصى ولده محمد رضا وصيته المعروفة: «لقد حررتُ الشاطئ الشرقي، وعليك أن تحرر الشاطئ الغربي» .

ولو تتبعنا العلاقات الإيرانية العراقية فسنجد أن إيران لم تعترف بالدولة العراقية ابتداءاً حين تأسيسها سنة ١٩٢١م إلا في سنة ١٩٢٩م أي بعد ثماني سنوات وبعد مفاوضات ومساومات ومساعٍ قامت بها الحكومة البريطانية مساندة منها للحكومة الفارسية حينئذٍ في تلبية مطالبها المعقولة (حسب الوصف البريطاني) من العراق مقابل اعترافها بالعراق دولة مستقلة.

وقد أثار الشاه (رضا بهلوي) موضوع تعديل الحدود في شط العرب، وطلبت إيران أن يتنازل العراق عن جزء منه، فرفض العراق ذلك، واتخذت إيران من هذا الرفض حجة لإحداث الاضطرابات والهجمات على الحدود العراقية، وبدأت بقطع المياه المستخدمة في الشرب وري البساتين، وإقامة المخافر الحدودية داخل الأراضي العراقية.

وفي سنة ١٩٥٨م وبعد الإطاحة بالنظام الملكي العراقي وإعلان الحكم الجمهوري وانسحاب العراق من حلف بغداد بدأ حكام إيران يختلقون المشاكل للعراق من خلال اتخاذ إجراءات استفزازية وعدوانية على الحدود كالتوغل داخل الأراضي العراقية واستخدام القوة المسلحة في شط العرب، والتجاوز على مياه الأنهار المشتركة بين العراق وإيران متجاهلة في ذلك الأعراف الدولية والاتفاقات الثنائية، فاستولت على مياه وادي كنكير في مندلي، ومياه نهر كنجلي جم في زرباطية.

وكان أهم شعار رفعته الثورة الإيرانية هو «تصدير الثورة» إلى البلدان المجاورة، وكان الهدف الأساسي التي نهضت وسائل الإعلام الإيرانية بالدعوة إليه في حينها هو العراق، ورغم نشوب الحرب العراقية الإيرانية واستمرارها لسنوات طوال، والتي كان بالإمكان إيقافها سنة ١٩٨٢ حين استطاعت إيران أن تقف على الحدود الدولية بينها وبين العراق، ولكن التطرف والرغبة في تصدير أفكار الثورة الإيرانية وبسط نفوذها على العراق جعلا الإصرار الإيراني على استمرار الحرب يقف حائلاً دون ذلك أملاً في أن ينهار العراق والذي عملت ملايين دولارات الخليج والدعم الغربي العسكري على بقائه صامداً.

وبعد وفاة الخميني في سنة ١٩٨٩م وجدت إيران نفسها بعد فترة من المقاطعة الغربية لها أن سياسات تصدير الثورة لم تعد ذات جدوى، وانتقلت إلى سياسة أكثر دهاء ومكراً تحت قيادة هاشمي رفسنجاني تقوم على تصدير الثورة بطريقة سلمية متبعة أسلوب الحوار والتهدئة خلافاً لأسلوب العنف والإرهاب والتطرف.

وقد ألزم علماء إيران أنفسهم من خلال خطة وضعوها تقضي بحمل واجب خطير وثقيل ألا وهو تصدير الثورة بحلتها الجديدة، وحددوا لحكومتهم مهامها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب، ووصفوها بأنها حكومة مذهبية (٢) .

وتنطلق خطتهم من نقطة ارتكاز فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية بعيدة المدى ألا وهي أن السيطرة على دول الخليج والعراق تعني السيطرة على نصف العالم بسبب طبيعة الموارد الأولية المخزونة في باطن الأرض وكمياتها الهائلة في هذه البلدان من نفط وكبريت وحديد وزئبق أحمر ... إلخ، ووضعوا أسلوباً لتنفيذها بعد دراسة اجتماعية لطبيعة سكان المنطقة معتمدين فيها على تحسين علاقات إيران مع تلك الدول، ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وصولاً إلى قيام علاقات وثيقة وصداقة بين إيران وبين تلك الدول كهدف أساسي لبسط نفوذها رافعين شعار: «إن اسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد» .

ويهدفون من خلال وجود العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية ومد جسور الثقة بالتمهيد لهجرة عدد من الإيرانيين إلى هذه الدول، وهذا هو الهدف الأساسي والحيوي، ومن خلالهم يمكن إرسال عدد من العملاء والمدفوعين كمهاجرين ظاهراً، ولكنهم في الحقيقة من الرجال العاملين في النظام الإيراني (رجال مخابرات أو أمن أو عسكريين مدفوعين لتنفيذ مهمات خاصة) .

ومن ذلك أن شرطة دولة الإمارات العربية كشفت أن موضعاً لشركة المقاولات الإيرانية التي تعمل في الشارقة والفجيرة المخصص لسكنى موظفيها وعمالها قد انقلب إلى معسكر تدريب لعدد كبير من المتسللين الإيرانيين على الأسلحة الخفيفة، وقبل اكتشاف هذا المعسكر عثرت الشرطة في إمارة دبي على كميات كبيرة من الأسلحة مخبأة في مبنى المدرسة الإيرانية في هذه الإمارة، وقبضت الشرطة على ناظر المدرسة، واتضح أنه يعمل ضابطاً في المخابرات العسكرية الإيرانية٠

لقد بدأت ظاهرة تدفق عشرات الآلاف من الإيرانيين إلى العراق وتجنيس أعداد كبيرة منهم بأساليب مزورة تشكل قلقاً للمسؤولين العراقيين في ظل انفلات الوضع الأمني وانعدام الرقابة على الحدود بعد حل شرطتها، وقيام بعض الأحزاب السياسية العراقية الموالية لإيران بدفع مسلحين منها إلى الحدود مع إيران، وجعلت منهم شرطة للرقابة عليها يقومون بإدخال عشرات الآلاف من الإيرانيين إلى الأراضي العراقية من دون أن يحملوا وثائق سفر، وهذه الأحزاب التي تتمتع بنفوذ كبير في بعض المدن الجنوبية ومحافظتي النجف وكربلاء؛ حيث تقوم بمنح الجنسية العراقية لهؤلاء الإيرانيين باستخدام طرق وأساليب مزورة.

ويتضح أن هذه الخطة بأهدافها ومراحل تنفيذها تعتمد على إحداث تغييرات في التركيبة السكانية لتلك المناطق التي تعتبرها كهدف في سبيل تهيئة الأجواء والمناخ الملائم لبسط النفوذ الإيراني التوسعي، واعتماد (التقيَّة) أسلوباً للتعامل مع هذه الدول من خلال إظهار الود والسعي لتمتين أواصر الثقة، وتقوية العلاقات المتبادلة بكافة أشكالها بشكل ظاهر ومعلن لهذه العلاقة، وكهدف خفي هو لبسط النفوذ والتغلغل من خلال الغزو البشري تمهيداً لضم هذه الدول إلى إيران في وقت لاحق إن أستطاعوا.

وحددت الخطة مراحل مهمة في طريق التنفيذ تتضمن شراء الأراضي والبيوت والشقق، وإيجاد العمل ومتطلبات الحياة وإمكانياتها لأبناء مذهبهم المتسللين، وضرورة قيامهم بتوطيد الصداقة وبناء العلاقات الجيدة مع أصحاب رؤوس الأموال والموظفين الإداريين والأفراد الذين يتمتعون بنفوذ وافر في الدوائر الحكومية.

وإذا تتبعنا الأحداث التي وقعت في العراق في نهاية الثمانينيات وتعقيداتها والتي هيأت بيئةً مناسبة لمد النفوذ الإيراني في العراق، تعد وفق الاعتبارات التخطيطية والتنفيذية والميدانية - مثالية للغاية - ساعدت على ذلك الأخطاء الفادحة المتلاحقة والمتكررة التي ارتكبتها القيادة العراقية وتداعيات هذه الأخطاء على الواقع العراقي والعربي والإقليمي التي استطاعت الجهات الإيرانية المعنية من استخدامها وتوظيفها واستثمارها، والاستفادة من طابع السخط والحقد من قِبَل قطاعات مهمة على النظام السابق باتجاه يخدم مصالحها ويحقق غاياتها.

ففي الأحداث التي أعقبت غزو العراق للكويت في ٢/٨/١٩٩٠ طورت إيران، ضمن مبدأ التقيَّة السياسية وتنفيذاً لخطتها سالفة الذكر، علاقاتها مع العراق في شتى المجالات، ووصلت إلى درجة أن صدام حسين وثق بها واطمأن لمواقفها، وأمَّن لديها أحسن ما لدى القوة الجوية العراقية، في حينه، من طائرات، بل إن ثقته بإيران وما توطد من علاقة معها فاق كل علاقة مع أية دولة اخرى. وبعد أن نال التدمير والتخريب كل مفاصل البنى التحتية في القطر من جراء القصف الجوي الأمريكي الذي استمر شهراً ونصف الشهر قامت إيران بدفع مجاميع من الإيرانيين والعراقيين من أصول إيرانية، وبعض الأسرى من الجنود العراقيين الذين جندتهم إيران ضمن ما يسمى «فيلق بدر» وهو الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (الذي كان يرأسه محمد باقر الحكيم ويرأسه حالياً أخوه عبد العزيز الحكيم، والذي أنشأته إيران وسلحته ودربته، وبقي في ضيافتها ما يقرب من ربع قرن) والتي أعملت قتلاً وتخريباً وسرقةً وحرقاً للمؤسسات والدوائر الحكومية والأرشيف الحكومي وكل ما وقع أمامها وتجاوزته، أو لم تصل إليه القنابل والصواريخ الأمريكية، فأحدثوا دماراً هائلاً وفوضى عمت المحافظات الجنوبية في حوادث لم يشهد مثيلها التاريخ الحديث للعراق. بل وصل الأمر بهؤلاء المدفوعين من خلف الحدود ومن آزرهم ولف لفهم إلى قيامهم بتجريد الجنود العراقيين الذين هربوا من صحارى الكويت من هول القصف الجوي الأمريكي من سلاحهم وفي بعض الأحيان قتلهم.

والأنكى من ذلك إطلاق تسمية «الانتفاضة الشعبانية المباركة» على هذه الأحداث الدموية، وتأسيس حركة لاحقاً تسمى حركة ١٥ شعبان الإسلامية وهي واحدة من الواجهات المتعددة التي أنشأتها إيران، ودفعت بها إلى الساحة العراقية؛ وذلك يوضح أن إيران تتعامل بمساحة واسعة من الاختيارات التنفيذية العسكرية والسياسية والاقتصادية «وحسب طبيعة الظروف» جنباً إلى جنب مع الخيارات الإعلامية.

ورغم تقهقر هؤلاء واندحارهم وعودتهم من حيث أتوا واستعادة السيطرة المركزية للدولة في حينها على مقاليد الأمور، إلا أن إيران ساهمت وخلال فترة الحصار ودعمت المجاميع التي اتخذت من الأهوار موطئاً للتمرد بالخبرات العسكرية والأسلحة ودربتها على السلب والنهب والخطف، وكانت هذه المجاميع معروفة بوسائلها وأساليبها وكانت لها عمليات خطف وسلب واعتداءات مسلحة ضمن الأهوار والمناطق القريبة منها.

ومن جهة أخرى كان لإيران خلال فترة الحصار دور رئيسي في دعم أحد قطبي المعارضة الكردية الرئيسة في شمال العراق وإيوائه وتسليحه.

وزادت إيران من دعمها لما يسمى بالمعارضة العراقية الموجودة في الساحة الإيرانية. وما أن سقطت بغداد بأيدي قوات الاحتلال في ٩/٤/٢٠٠٣ حتى تكرر المشهد الدامي نفسه الذي حصل في عام ١٩٩١؛ حيث دفعت إيران لمجاميع من خلف الحدود محفزة الناس من حولها، وأعملت فيما تبقى من الأبنية الحكومية التي لم ينلها القصف الأمريكي حرقاً وتخريباً وسرقةً، وكررت حرق الأرشيف الحكومي الخاص بتثبيت الجنسية والأملاك، ونهبت المصارف والمعامل والمخازن، ولا ينكر الدور الذي لعبته بعض المرجعيات الدينية وبالأخص من الأصول الإيرانية في التشجيع على عمليات السرقة وتمرير شرعيتها من خلال إجازتها الاستحواذ على أموال الدولة، وفتواها غير العلنية من أن السرقة من الدولة حلال؛ لأن الدولة سُنِّية كافرة لزعمها معاداتها وحقدها على مذهب آل محمد -صلى الله عليه وسلم- حسب وصفة الاتهام الجاهزة لديهم ومن ثم فإنه يحق سرقتها.

إن حصول حالات السلب والنهب والتخريب والقتل من خلال مجاميع مدربة تدريباً جيداً ولمرتين خلال أربعة عشر عاماً مع استمرار حالات الاغتيالات لرموز المجتمع من أطباء وعلماء وأساتذة جامعيين وأُئمة مساجد، أحدثت شروخاً اجتماعيةً كبيرةً، ومزقت أستار الأمن الاجتماعي، وأحدثت جروحاً عميقة في بنية المجتمع العراقي. إن من يريد أن يبني لا يهدم؛ فكيف به إذ يتعمد مسح الذاكرة العراقية والتراث العراقي العربي الإسلامي الأصيل، وسرقة ثرواته.

وقد اعترف محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني السابق بالدور الإيراني في العراق في ختام أعمال مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بإمارة أبو ظبي بتاريخ ١٥/١/٢٠٠٤ بأن بلاده «قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق» ومؤكداً أنه «لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة» .

وفي سياق التجاذب واللعب على الحبال المشتركة والغزل الخفي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وتصفية الحسابات المعلقة بينهما هدد علي أكبر هاشمي رفسنجاني قائلاً: «إن لإيران دوراً مهماً وحاسماً في تشكيل مستقبل العراق. وإن الولايات المتحدة الآن عالقة بالوحل العراقي، وإنها تعلم علم اليقين إن إيران بمقدورها تأزيم مشاكل الأمريكيين بشكل أسود (ديفيد أجنا ثيوس - الواشنطن بوست نقلاً عن صحيفة المؤتمر بعددها ٤٦١ في ٢٨/٢/٢٠٠٤) وفي تاكيد آخر لما أوردناه سابقاً تؤكد الصحيفة أن إيران تملك طابوراً طويلاً من الأدوات التي تستطيع من خلالها التأثير في العراق؛ فالحرس الثوري الإيراني وضباط الاستخبارات الإيرانية كانوا يعملون في العراق منذ سنوات ولديهم شبكات عميقة ومقتدرة.

وصفوة القول: إن الإيرانيين لا يبدون مهتمين باستقرارالعراق أو من هو الذي سيحكمه، ولكن سياسة إيران هذه تعطي إشارات من خلال تعليقات رفسنجاني أو أبطحي أو غيرهما من أن إيران لديها الاستعداد الكامل لعقد صفقات. وقد سعت إيران من خلال تحركاتها داخل العراق إلى إبراز دورها الكبير الذي يمكن أن تلعبه في الساحة العراقية، وإظهار مقدرتها على تحريك الأحداث للتوصل إلى فرض قناعاتها على الإدارة الأمريكية بشكل غير مباشر من خلال إحراجها داخل الساحة العراقية. وهوتكتيك مرحلي تسعى من خلاله إيران إلى توظيف تداعيات الأحداث في خدمتها.

وتبدو الساحة العراقية هي المجال الأرحب للصراع على النفوذ وبيان القوة بين المحافظين والإصلاحيين في إيران حيث يميل كلا الطرفين إلى تأييد الحركات الشيعية العاملة في العراق؛ فالمحافظون يؤيدون (مقتدى الصدر) ويصفون حركته بالشجاعة، ودعوا إلى استمرارها حتى إنهاء الاحتلال في العراق. أما الإصلاحيون (الذين هزموا المحافظين في الانتخابات الإيرانية في فبراير الماضي) فإنهم يرغبون في سحب القوات الأمريكية في العراق إلى مستنقع لمنع واشنطن من التحوُّل إلى استهداف إيران؛ ولذلك جاءت دعوات الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني في خطبة الجمعة بأستمرار المقاومة في العراق.

وفي تصريح للرئيس الإيراني محمد خاتمي خلال لقائه أحد أعضاء (مجلس الحكم) بالتاكيد على تاييده لحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والمرجع الإيراني الجنسية (المقيم في النجف) علي السيستاني.

فالصراع بين عناصر الأحزاب والحركات السياسية والدينية الشيعية الموجودة على الساحة العراقية تديره وتحركه بتوجيه من الجهات الرسمية الإيرانية. والمرجعيات الدينية في قم والنجف تعد في غالبيتها، أدوات رئيسية بيدها لإدامة هذا الصراع وتحويل اتجاهاته، إلا استثناء محدداً من المرجعيات ذات الأصول العربية، وتنفذ أجندة إيرانية فارسية بحتة لا تمت إلى تشيع آل البيت بشكل من الأشكال، ولا تهمها الشيعة في العراق إلا بالقدر الذي يحرك الأحداث باتجاه مصالحها الإيرانية الفارسية. والأخطر من ذلك أنه يجري تحت علم وبصر وإدراك قوات الاحتلال.

وقد استغلت إيران بعضاً ممن هم داخل (مجلس الحكم) من الأصول الإيرانية أو ممن ضيفتهم لديها سنوات طوالاً، وبعض المرجعيات الدينية من الأصول الإيرانية من خلال اتخاذها مواقف معينة تتناغم مع السياسة الإيرانية، وأحرجت قوات الاحتلال أو حاولت أن تجرها إلى مواقف وإجراءات تخدم مصلحتها، أو تحاول من خلالها توظيفها وتأزيم المواقف لتهيئة الأرضية المناسبة لعقد صفقات مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث سخرت إيران رجالاتها المشار اليهم آنفاً ومن سايرها في الطلب من قوات الاحتلال والأمم المتحدة لغرض التعجيل بإجراء انتخابات عامة في القطر، وأيد دعوتها وساندتها فتوى للسيستاني، وضغطوا على الإدارة المدنية لقوات الاحتلال من خلال التصريحات والتلميحات الإعلامية والمظاهرات. وهذا الطلب لم يتأتَّ من فراغ، وإنما هيأت له من خلال قيامها بالتمهيد لأعداد هائلة من الإيرانيين بالتسلل إلى المدن العراقية الجنوبية أو قرب مراقد الأئمة في بغداد وسامراء والنجف وكربلاء، واستقرارهم فيها، وزوّرت لهم وثائق رسمية لإثبات عراقيتهم حتى يتمكنوا من دخول الانتخابات. وبإمكان أصوات هؤلاء، على فرض حصول الانتخابات، أن تحدث تحولاً مهماً فيها، لكنه غير حقيقي، ومخادع، ويعد تنفيذاً لمخطط إيران في رغبتها المحمومة لبسط نفوذها على العراق. ويعلم هؤلاء علم اليقين أن الانفلات الأمني والفوضى وأبواب الحدود المشرعة، التي لا رقيب عليها ولا حسيب وتداعيات هذه الأوضاع وإفرازاتها تحول دون إجراء انتخابات عادلة نزيهة بعيدة عن كل التاثيرات الداخلية والإملاءات الخارجية، تهدف إلى إرساء قواعد نظام ديمقراطي وفق ما يتمناه العراقيون ويحقق أحلامهم بعد طول معاناة.

يقول الخبير الفرنسي لويزيار: «إن ما يجري في العراق يناسب إيران وهي تعتبر أن كل ما يربحه الشيعة في البلد المجاور يصب في صالحها؛ ولذلك بدأت تساعد كل الأطراف الشيعية (وإن كانت علمانية) بمن فيهم إياد علاوي وأحمد الجلبي.

ومما يزيد المشهد على الساحة العراقية قتامة هو أن جل أعضاء (مجلس الحكم) يعانون من عقدة الحقد المطلق على النظام السابق، وقد تكون لهم مبرراتهم، وغذت هذا الحقد وجذرته العلاقات الوطيدة لبعضهم مع جهات أجنبية (إسرائيلية، أمريكية، إيرانية) وكان من إفرازات ذلك أنهم سعوا إلى اجتثاث النظام السابق بكل مفاصله وأدواته وسياساته ورموزه ووصل الأمر إلى الكفاءات الإدارية والعلمية والشخصيات المستقيمة النظيفة، والفنية، التي يشهد لها الجميع بالوطنية والإخلاص، وخلو يدها من المظالم، والتي يمكن الاستفادة منها في إعمار الوطن وإعادة بنائه. وهذا فعل يمثل ردة فعل عصبية آنية ظرفية هدمت الكثير من مرتكزات البناء وعمقت جروح وطننا.

وهذا المجلس، إلا من عصم ربي، متوزع الولاءات طائفياً وسياسياً وعرقياً. وعندما يكون التنادي لتلك العناوين الضيقة المحدودة، ويكون حسم الأمور فيه بترتيب التسويات وعقد الصفقات خلف الكواليس المغلقة كما حصل في تثبيت مواد الدستور؛ فإن مصلحة الوطن والعراقيين تغيب تماماً، وتُدرج في أسفل سلم الأولويات.

و (أعضاء) هذا (المجلس) متباينون في التاثير والحظوة والمكانة، بين من هم تكملة عدد ونصاب، وبين من يمتلكون جيشاً وقوات أمن وشرطة وعَلَماً خاصاً. بين من يجد صعوبة بالغة في تامين شرطي واحد لحمايته، وبين من تمشي خلفه وعن يمينه وشماله أساطيل السيارات الحديثة مدججة بالسلاح والعتاد والرجال لتوفير الحماية له وتامين مروره في المدن والقصبات. بين من لديه الأموال الطائلة التي جناها من استحواذه على أموال الدولة والسحت الحرام ينفقها بسخاء بالغ لشراء المواقف وتثبيت الولاءات وتعزيزها وتاسيس الأحزاب والجمعيات «الإنسانية» والصحف، وبين من يتطلع بفارغ الصبر وينتظر نهاية الشهر يرمق بنظره صوب قوات الاحتلال عسى أن تشفق عليه وتعجل بتسليمه مرتبه.

وبداهة أن هناك فرقاً كبيراً بين من يتكلم ويأوي إلى ركن شديد، وبين من يتكلم يتلفت يميناً وشمالاً يخشى أن لا يصل إلى بيته. إلا من جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ غايته وهدفه وهم أقل القليل؛ ولا نزكي على الله أحداً.

ولا تزال عيون العراقيين تتطلع إلى وقفة جادة مؤمنة مخلصة، وأيادٍ نظيفة تمد العون لها من إخوانهم المسلمين عرباً وغير عرب للتكاتف والتناصح والعمل المشترك؛ فإن المخططات التي وُضعت للمنطقة سواء من قوات الاحتلال أو «إسرائيل» أو إيران أو غيرها لم تستثن أحداً وتشمل المنطقة كلها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


(١) (أنتوني اج كورد سمان: الخليج والبحث عن استقرار استراتيجي، ترجمة مركز البحوث والمعلومات ١٩٧٤ ج٢ ص ٤-٧) .
(١) (محمد بهجة الأثري - ذرائع العصبيات العنصرية - ص ٢٨ وما بعدها) .
(٢) الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران، من منشورات رابطة أهل السنة، وسبق نشر خلاصتها في مجلة البيان العدد () .