للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيف تختار موضوع الخطبة؟]

إبراهيم بن محمد الحقيل

يشتكي كثير من الخطباء من كيفية اختيار الموضوع، وبعضهم يُرجِع سبب ذلك إلى ندرة الموضوعات التي يمكن أن يتناولها الخطيب، وتناسب الكثير من الناس، ولا سيما أن الخطبة تتم كل أسبوع.

وأحسب أن السبب الرئيس لهذه النظرة عند الخطيب هي: قلة علمه، ومحدودية اطلاعه ومعلوماته، وضعف نظرته إلى واقع الناس. وإلا فإن الخطبة لو كانت تتكرر يومياً لما استطاع الخطيب أن يعالج جميع الموضوعات التي يحتاجها الناس في هذا العصر المتغير، الذي ضعفت فيه الديانة في قلوب الناس، وكثرت معها الفتن، فهم يحتاجون إلى تقوية إيمانهم، وترسيخ عقيدتهم، وما يُخلّ به من انحرافات من أقوال أو أفعال قد تناقضه بالكلية، أو تنقص كماله؛ فالناس يحتاجون إلى تصحيح عباداتهم، فأخطاء كثير منهم فيها كثيرة. يحتاجون إلى بيان الحكم الشرعي في كثير من المعاملات والعادات التي تتجدد باستمرار كثير من الصور، غير ما يفد إليهم من خارج مجتمعهم، ويحتاجون إلى الحث على مكارم الأخلاق والتنفير من مساوئها، وإلى ترقيق القلوب، والتذكير بالآخرة ... ، والموضوعات كثيرة جداً.

ويمكن تقسيم الجُمَعات إلى قسمين:

ü القسم الأول: جمعات توافق مناسبات مهمة: وهذه المناسبات على نوعين:

أ - مناسبات طارئة: كحدث يحصل في الحي أو البلد واشتهر وعرفه الناس؛ فهم ينتظرون من الخطيب رأياً فيما حدث، ومنها أيضاً قضايا المسلمين التي تشتعل بين حين وآخر: كقضايا فلسطين، والشيشان، وكوسوفا، ونحوها.

وينبغي للخطيب أن يعالج مثل هذه الموضوعات معالجة شرعية، تبين حجم القضية الحقيقي بلا مبالغة ولا تهوين، ومن ثم يبين موقف المسلم في هذه القضية، وما يجب عليه تجاهها، فلا يكفي مجرد عرضها.

ويلاحظ أن بعض الخطباء قد تطغى عليه الحماسة في ذلك؛ فيبالغ في الموضوع أو يكثر من تكراره، والحديث عنه على نمط واحد، وبأسلوب رتيب، وهذا فيه مفاسد منها:

١ - فقدانه المصداقية، ولا سيما إذا انكشفت مبالغاته للناس، ومن ثم يضعف أخذ الناس عنه، أو التأثر بما يقول؛ لأنهم عرفوا عنه المبالغة.

٢ - ملال الناس، وانصرافهم عن تلك القضية، وكما قيل: كثرة الإمساس تقلل الإحساس.

٣ - أن تركيزه على قضية معينة، وتكرار ذلك سيكون على حساب موضوعات وقضايا قد تكون لها أهمية مثل قضيته التي يكررها، وربما تكون أهم منها.

ب - مناسبات متكررة يتكرر الأعوام: كرمضان والحج وعاشوراء، والتحذير من البدع المحدثة ونحوها.

وهذه المناسبات مريحة عند كثير من الخطباء؛ إذ لا يحتاجون إلى إعداد خطب جديدة في موضوعاتها، ولربما حفظ الناس خطبهم فيها من كثرة ترديدها، وأصابهم الملال منها.

بيد أن هذه المناسبات تقلق من يهتموم بخطبهم، ويحبون التجديد في موضوعاتها، ويودن إفادة الناس بكل وسيلة ممكنة.

ولتلافي التكرار في كل عام يمكن تفتيت الموضوع الواحد إلى موضوعات عدة، في كل عام يطرق الخطيب منها موضوعاً، وأضرب مثلاً لذلك؛ فبالمثال تتضح الصورة:

درج الخطباء في ثالث جمعة من رمضان على الحديث عن غزوة بدر الكبرى (١) ، ويقدمون لها بمقدمة عن نصر الله ـ تعالى ـ لعباده، وكون رمضان شهراً للانتصارات والأمجاد، ويسردون عدداً من المعارك التي وقعت في رمضان: غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وفتح الأندلس ونحوها، ثم يخصصون الخطبة بكاملها عن غزوة بدر، وهكذا في كل عام.

ومن الممكن لتلافي التكرار جمع الغزوات والأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان، واختيار واحدة منها في كل عام للحديث المفصَّل عنها. ويمكن أيضاً تفتيت الغزوة الواحدة إلى عدة موضوعات، في كل عام يطرق جانباً جديداً منها.

فغزوة بدر مثلاً يمكن إنشاء خطب عدة منها، كل واحدة تتناول جانباً مختلفاً، فتتكون مجموعة من الخطب موضوعاتها كالتالي:

١ - سرد أحداث الغزوة كما في كتب السير، وهذا يعمله أكثر الخطباء كل عام.

٢ - وصف حال المسلمين قبل الغزوة (الهجرة ـ المطاردة ـ المحاصرة ـ الضعف ـ القلة ـ الخوف) .

وحالهم بعدها (ارتفاع معنوياتهم بالنصر، عز الإسلام، قوة المسلمين، رهبة اليهود والمنافقين) .

٣ - وصف حال الفريقين المتقابلين: حال المؤمنين: (الدعاء، الحماس للقتال، بوادر التضحية والفداء، التعلق بالله تعالى) .

حال المشركين: (الكبرياء، محادة الله ورسوله، الاعتداد بالنفس، الاغترار بالكثرة، ممارسة العصيان، شرب الخمر وغناء القينات، كما هو قول أبي جهل) .

٤ - تأييد الله ـ عز وجل ـ لعباده المؤمنين: (النعاس، المطر، قتال الملائكة معهم، وفيه عدة أحاديث صحيحة، الربط على قلوبهم، تقليل العدو في أعينهم) وخذلان الكافرين.

٥ - الحديث عن مصير المستكبرين حيال دعوة الأنبياء عليهم السلام، ويكون صرعى بدر من المشركين نموذجاً على ذلك بذكر مجمل سيرتهم الكفرية وعنادهم ثم ما جرى لهم، وفيه قصص مبكية من السيرة.

فهذه خمسة مواضيع، كل واحد منها يصلح أن يكون خطبة مستقلة، وهذه الموضوعات الخمسة في غزوة واحدة، ومن تدبر فيها أكثر استخراج موضوعات أخرى.

والكلام عن المولد النبوي مثلاً يمكن تقسيمه أيضاً إلى عدة موضوعات منها:

١ - بيان حقيقة محبة الرسول #، وأنها تكون باتباعه لا بالابتداع، مع تقرير وجوب محبته من خلال نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، وبيان العلاقة بين محبته وتطبيق سنته، وهذا موضوع ثري جداً يمكن صنع خطب عدة فيها.

٢ - تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي، وبيان أنه بدأ بعد القرون المفضلة في المئة الرابعة للهجرة على أيدي بني عبيد الباطنيين، وظل قرنين من الزمن لا يعرفه أهل السنة، حتى انتقل إليهم في المئة السادسة على يد شيخ صوفي استحسن هذه البدعة وتبناها، وبيان أن دوافع إحداث هذا الموضوع عند بني عبيد كانت فيما أحسب سياسية، ولم تكن بدافع محبة النبي # وآل بيته.

ومع أهمية هذا البيان التاريخي في كشف حقيقة هذه البدعة النكراء وتنفير الناس منها، فإنه قلّ أن سمعناه من خطبائنا ومحاضرينا.

٣ - ذكر المخالفات الشرعية في احتفالات المولد، من الغلو في الرسول # الذي قد يصل إلى حد الشرك، إلى الأناشيد والأهاجيز الصوفية، إلى سائر المنكرات الأخرى: كالاختلاط في بعضها، وكونها تنشد على أنغام الموسيقى أو الدفوف.

٤ - التنبيه على أن الاشتغال بالبدعة يشغل عن السنة، وجعل المولد مثلاً لذلك، فما يصرف فيه من جهد ووقت ومال قد يصرف عن كثير من السنن؛ بل ربما صرف عن الفرائض، وكثير ممن يحتفلون بتلك الموالد تظهر عليهم مخالفات شرعية، ويعلم من سيرة بعضهم تضييعه للفرائض فضلاً عن المندوبات.

٥ - أخذ جانب من سيرة النبي # في مولده أو بعثته أو غير ذلك، ثم التنبيه على بدعة الاحتفال بمثل هذه المناسبات، فهذه خمسة موضوعات كل واحد منها يصلح لأن يكون خطبة مستقلة.

والكلام عن عاشوراء ءأيضاً يمكن استخراج موضوعات عدة منه، ولا سيما أنه متعلق بقصة نجاة موسى ـ عليه السلام ـ وغرق فرعون. وهي أكثر القصص وروداً في القرآن، وفيها جوانب كثيرة يمكن أن تكون موضوعات، وفي نهاية كل خطبة منها يتم التنبيه على سُنِّية صيام يوم عاشوراء كذلك الحديث عن مراحل صوم عاشوراء، وأنه كان واجباً، ثم نُسخ الوجوب إلى السُّنِّية بعد فرض رمضان، ثم في آخر سنة قصد النبي # مخالفة اليهود، وأمر بصيام التاسع مع العاشر، وذكر فضل صيام هذا اليوم، وفضل شهر الله المحرم.

وهكذا يقال في بقية الموضوعات، تطرح من جوانب متعددة، كل جانب فيها يكون خطبة؛ مما يكون سبباً في إثراء المشروع الخطابي للأمة، وإفادة السامعين، والتجديد في الموضوعات التي يلقيها الخطيب.

ü القسم الثاني: جمعات لا توافق مناسبات معينة:

وهذه هي الأكثر، ويستطيع الخطيب أن يضع لها مخططاً يسير عليه، ويشتمل هذا المخطط على موضوعات عدة، وفي فنون مختلفة، ومن فوائد ذلك:

١ - عدم حيرته في اختيار موضوع الخطبة، ولا سيما إذا ضاق الوقت عليه.

٢ - نضج الموضوعات التي يطرحها، إذ قد يمرّ عليه شهور وهي تدور في مخيلته، وكلما حصل ما يفيده فيها من مطالعاته وقراءاته قيَّده، أو استذكره.

٣ - سهولة بحثه عدة موضوعات، إذا كانت في فن واحد، وتوفير كثير من الوقت؛ فمثلاً إذا كان في خطته خمسة موضوعات في العقيدة، فإن جلسته لبحث واحد منها كجلسته لبحثها كلها؛ إذ إن مصادرها واحدة، ومظانها متقاربة.

٤ - التنويع على المصلين وعدم إملالهم.

ويمكن تقسيم الموضوعات إلى أقسام كثيرة، يختار في كل جمعة منها قسماً للحديث عن موضوع من موضوعاته، ومن تلك الأقسام:

١ - العقيدة وما يتعلق بها: وفيها موضوعات كثيرة، وكل موضوع منها يمكن استخراج عدد من الخطب فيه. ومن طالع المطولات من كتب العقيدة تبين له ذلك.

٢ - العبادات: وهي أيضاً باب واسع، وليس المعنى سرد الأحكام أو الإفتاء، ولكن المقصود تصحيح بعض الأخطاء فيها، وبيان فضائلها، والحث على المهجور منها.. وهكذا.

٣ - المعاملات: وفيها موضوعات كثيرة أيضاً، ولا سيما أن كثيراً من صورها يتجدد.

٤ - نص من الكتاب أو السنة: فيختار آية أو سورة قصيرة أو حديثاً، ويذكر ما فيه من الفوائد مع ربطه بواقع الناس ومعاشهم، ولا يكون مجرد سرد للفوائد، وقد لاحظت أن لذلك أثراً عظيماً، حتى كأن الناس لأول مرة يستمعون إلى هذه السورة أو الآية، أو لأول مرة يسمعون هذا الحديث مع أنه مشهور، ولكن لأن فهمهم له كان خاطئاً، أو لأن الخطيب عرض لهم استنباطات جديدة، ومعان مفيدة لم يعلموها من قبل.

٥ - الأخلاق والآداب: وهي باب طويل عريض، وفيه كتب متخصصة كثيرة، متقدمة ومتأخرة.

٦ - من قصص القرآن والسنة: وهذا يمكن أن يلحق بفقرة (٤) ويمكن أن ينفصل عنها، ويكون هنا خاصاً بالقصص، وما سبق ذكره في غير القصص.

٧ - السِّيَر والتراجم: يختار شخصية بارزة، ويلقي الضوء على صاحبها، وأسباب بروزه واشتهاره، والاستفادة من أقواله وسيرته، سواء كان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أم من التابعين لهم بإحسان، أم من العلماء المشاهير قديماً وحديثاً.

٨ - السيرة النبوية ومعارك الإسلام: يختار حديثاً أو معركة يتحدث عنها أو عن جانب منها، ويستخرج من ذلك الدروس والعبر.

٩ - موضوعات فكرية: ويذكر فيه المستجدات من الأفكار والمصطلحات والأحداث وموقف الشرع منها: كالديمقراطية، والعلمانية والحداثة، والحضارة الغربية وموقف المسلم منها.

١٠ - الفتن والملاحم وأشراط الساعة: وكل فتنة أو ملحمة أو علامة من علامات الساعة الكبرى صالحة لأن تكون خطبة مستقلة، بل ربما أكثر من خطبة، لغزارة ما فيها من نصوص ومعلومات شرعية.

١١ - القيامة وأحوالها: وفيها من الموضوعات شيء كثير: الصراط، الميزان، البعث، الحساب، القنطرة، الحشر، الديوان..، كذلك: الجنة والنار، وفيهما موضوعات كثيرة: وصفهما، وصف أهلهما، أعمال أهلهما، الطريق الموصلة إليهما.

١٢ - المواعظ والرقائق: وهو باب واسع أيضاً.

هذه بعض الموضوعات الكلية، ويمكن تقسيم كل موضوع منها إلى موضوعات جزئية، في كل موضوع منها خطب كثيرة.

فالخطيب إذا عمل هذا التقسيم، ورتّبه في خطة محكمة؛ بحيث يتعرض في كل جمعة لموضوع من هذه الموضوعات استفاد الفوائد التي ذكرتها آنفاً، إضافة إلى أنه يعلِّم الناس مجمل الشريعة، ويطلعهم على ما يحتاجون إليه في معادهم ومعاشهم، ويريح نفسه بحصر ذهنه عن الاختيار في موضوع واحد بدل التشتت في موضوعات كثيرة.

والملاحظ أن كثيراً من الخطباء ممن لا يراعون مثل هذا التقسيم والتنظيم تنحصر خطبهم في موضوعات قليلة. ولربما أن بعضهم لم يتعرض لموضوع من هذه الموضوعات الكلية المهمة طيلة حياته الخطابية التي قد تمتد إلى عشرات السنوات، والسبب أن كثيراً من الموضوعات قد تغيب عن باله إذا لم يكن لديه خطة مكتوبة يسير عليها.

ومن الملاحظ أيضاً: أن كثيراً من الخطباء يطرح موضوعات عامة، لا يتأثر بها المصلون، ولا يتفاعلون معها، ولربما كانت معلوماتهم فيها أثرى من معلومات الخطيب؛ فمثلاً في الحديث عن القيامة وأحوالها تجد أن كثيراً من الخطباء يريدون استيعاب يوم القيامة بأحواله، وما يجري فيه في خطبة واحدة. وهذا غير ممكن، ويؤدي إلى التطويل والتشعب والمشقة على السامعين، كما يؤدي إلى العمومية والسطحية في الطرح، وضعف المعالجة كما هو مشاهد. فيوم القيامة كألف سنة مما تعدون كما هو نص القرآن؛ فكيف يريد الخطيب أن يختزل الحديث عن أحداث ألف سنة في نصف ساعة أو أقل؟! لكن لو قسم أحواله وأهواله، وخصّ كل حال منها بخطبة، لكان أعمق في طرحه ومعالجته، وأوسع في معلوماته، وأكثر فائدة وتأثيراً في السامعين، وهكذا يقال في بقية الموضوعات.

ü تتابع الخطب في موضوع واحد:

يحلو لبعض الخطباء التركيز على موضوع من الموضوعات العامة، وعمل خطب كثيرة فيه تطرح تباعاً لفترة تطول أحياناً وتمتد إلى سنوات، وتقصر أحياناً بحسب ما عنده من مادة علمية في الموضوع الذي يطرحه.

وكثير ممن يختطُّ هذه الطريقة ينوه في آخر الخطبة بأنه سيكمل بقية الموضوع في الخطبة التالية، ويرى أصحاب هذا المسلك أنه مفيد من جوانب عدة:

١ - تشويق السامعين إلى الجمعة القادمة.

٢ - ربط موضوعات الخطب بعضها ببعض.

٣ - أن طرح موضوع كلي بهذا التسلسل أنفع للناس، فتكون الخطبة درساً علمياً إضافة إلى كونها خطبة، وأعرف من الخطباء من حصر خطبه في التفسير فقط سنوات عدة قد تزيد على عشر سنوات، وغيره حصرها في السيرة النبوية وهكذا.

وبعضهم يأخذ جانباً معيناً: كموضوع تربية الأولاد، أو أشراط الساعة، أو نحو ذلك، ويخطب فيه عشر خطب متتابعة أو أكثر، ثم ينتقل إلى موضوع آخر.

ü خطأ الجمود على مواضيع معينة:

والذي يظهر لي أن الجمود على فن من الفنون: كالتفسير، أو السيرة، أو على موضوع من الموضوعات؛ بحيث تكون الخطب فيه متوالية ليس حسناً لما يلي:

١ - أنه غير مأثور عن النبي #، ولم أقف فيما اطلعت عليه من سنته أنه كان يقول لأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ: سنكمل في الخطبة القادمة، أو موضوع الخطبة القادمة كذا، أو كان يذكر موضوعات متوالية في فن واحد، بل المحفوظ من هديه # أنه يذكر ما يحتاج الناس إليه، وما يصلح شؤونهم، وهذا يكون متنوعاً في الغالب، لأن حاجات الناس مختلفة باختلاف أفهامهم واهتماماتهم وأعمالهم، قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض لهم أمر، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها» (١) .

وقد يُعْتَرَضُ على هذا بأن أساليب الخطبة ووسائلها، والطريقة التي يختارها الخطيب اجتهادية، وليست توقيفية حتى يشترط أن يكون كل شيء فيها مأثوراً، وهذا محتمل، ولا سيما أن الفقهاء ـ فيما أعلم ـ لم يشترطوا تجنب ذلك في الخطبة لما ذكروا أركان وشروط الجمعة والخطبة.

وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأن دواعي موجودة على عهد النبي # ولم يفعله، والقاعدة أن النبي # إذا ترك شيئاً مع توافر دواعي العمل به عُلم أنه قصد تركه، ولعل الأمر واسع في هذه المسألة، ولها حظ كبير من الاجتهاد والنظر.

٢ - أنه قد يؤدي إلى عكس ما أراده الخطيب من التشويق؛ لأنهم عرفوا الموضوع الذي سيخطب فيه سلفاً، والإنسان بطبعه يميل إلى اكتشاف المجهول، ويحب المفاجأة في مثل هذا الأمر.

٣ - أن هذه الطريقة تقيد الخطيب، وتجعله محصوراً في فن واحد على حساب فنون أخرى يحتاج الناس إليها.

٤ - أن ما يستجد من أحداث يُربك خطة هذا النوع من الخطباء، فإما أن يخطبوا عما استجد، ويقطعوا سلسلتهم المتصلة في موضوع واحد، وإما أن يُهمِلوا ما يحدث، وهذا غير مقبول عند السامعين.

٥ - أن من المصلين من لم يحضر الخطبة الماضية، وقد يكون فَهْمُ الخطبة الحاضرة مبنياً على حضور الماضية، فيقل انتفاع هؤلاء بالخطبة.

٦ - أن الخطيب قد يعرض له عارض من سفر أو مرض أو نحوه، فلا يستطيع الخطابة وإكمال الموضوع الذي ابتدأه فيكون الموضوع مبتوراً.

لهذه الأسباب وغيرها أرى أن تلك الطريقة ليست حسنة، خاصة في المساجد العامة التي في المدن، لكن لو كان المسجد خاصاً في مزرعة مثلاً أو قرية لا يحضر فيه غير أهلها؛ فإن كثيراً من الملاحظات المذكورة آنفاً قد ترتفع. ومع ذلك فلا أجد ميلاً لتلك الطريقة، لأن الخطبة ليست درساً، وبإمكان الخطيب أن يضع درساً في مسجده، وتكون خطبه فيما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم.

وما من موضوع يرى الخطيب أنه طويل ويريد تغطيته إلا ويستطيع تجزئته بطريقة أو أخرى؛ بحيث لا يحتاج إلى جعله موضوعات متتابعة.

وبكل حال فإن حرص الخطيب، وجدّه في اختيار موضوعات خطبه، واستفادته من الخطباء الآخرين سيعينه في هذا المجال كثيراً، كما أن اطلاع الخطيب، وغزارة علمه، واجتهاده في تحصيل العلم وطلبه، ومعرفته بأحوال الناس، وتلمس حاجاتهم، وقربه منهم، يجعله قريباً من قلوبهم، عارفاً بهمومهم، قادراً على معالجة مشاكلهم، في كل أسبوع يصعد درجات المنبر، ويخطب فيهم وهم له منصتون.

وإذا كان الخطيب كذلك فإن المصلين سيشتاقون إلى الجمعة، وينتظرون خطيبهم برغبة كبيرة، ويفرحون بإطلالته عليهم، مما يجعل الخطيب قريباً من مستمعيه، وهذا حقيق بأن يجعل الخطبة تؤتي ثمارها، وتظهر فائدتها التي شرعت من أجلها.


(*) رئيس تحرير مجلة (الجندي المسلم) .
(١) هذه حكاية للحال، ولا يعني ذلك عدم الحديث عن تلك الغزوة إلا في رمضان، بل ينبغي أن يكون الحديث عنها في رمضان وفي غيره بحسب الحاجة إلى الحديث عنها، وهكذا كل الغزوات والمناسبات الأخرى، لا يظهر لي مانع من الحديث عنها في أي وقت، ويراعى في ذلك حاجة الناس إلى الموضوع، ومن غير المناسب الحديث عن المناسبة في غير وقتها؛ كالحديث عن فضائل شهر رمضان في شهر شوال.
(١) زاد المعاد (١/٤٢٨