للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عذابات البحر]

البويسفي محمد

اتجهتُ نحو الشمال، اخترقتُ جبال الريف، وصلتُ إلى طنجة، أمشي في شوارعها مطأطئ الرأس. كلما اقتربت من أوروبا، زادت معاناتي، أحس بشيء يجرني إلى الوراء، يحاول منعي من المضي، منظر غريب. كنت أتقدم إلى الأمام، لكن تفكيري، ووجداني بقيا مع الأهل، رفضا فراق الأحبة. أمشي في الطريق بين حشود من الناس في ازدحام الشارع، ولكنني رغم ذلك وحيد، غريب، خطواتي بطيئة، رجلي مثقلة علي.. في حيرة مع نفسي. وصلت إلى الشاطئ، على مشارف البحر التفت وها أنذا اللحظةَ أفارقها أرحل عنها، أتركها، صعب عليَّ ذلك؛ لا أطيقه.

أأرحل عن وطن فيه ولدت وكبرت، قضيت فيه أحلى الساعات بين الأهل والأحباب تحت رحمة الأب وعطف الأم الحنون؟ لماذا يا نفس تهجرين مجتمعاً تقاليده وعقائده تجري مجرى الدم في جسمك، عشت فيه حتى أصبح جزءاً منكِ وأصبحتِ جزءاً منه؟

ردت نفسي قائلة: أنا أيضاً لم أشأ هجران وطني، صحيح هو جزء مني؛ فأنا لم أُرد الانسلاخ عنه، لكنه أبى أن يحتضنني، أبى أن يوفر لي لقمة عيش، بخل عليَّ بعيش زهيد.

طرقت كل أبواب العمل، طرقت كل باب يمكنني من خلاله أن أوفر كسرة خبز.. للأسف لم أجد ولو باباً واحداً مفتوحاً في وجهي، أجلس بين أقراني وأصحابي أحسّ بالنقص؛ لأنني عاطل، أبي وأمي وإخوتي الصغار ينظرون إليَّ، فأقرأ في أعينهم الحاجة وواقع حالهم يقول لي: أنقذنا من غول الفقر.

وجدتُ حجتها أقوى من حجتي فاقتنعت بالرّحيل.

امتطيت القارب، تناولت مِجدافيه، وجَّهته قِبَل الشمال، واستدبرت الجنوب. كانت الشمس في مغربها تستعد لتودعنا، والليل يتأهب ليرخي سدوله ويغطينا بظلام قاتم.. غابت الشمس، وحلّ الظلام؛ لكن القمر وعلى خلاف عادته لم يظهر.

ركبت القارب وسرت فوق موجات البحر أشق طريقي نحو الحلم، شيئاً فشيئاً أبتعد عن الوطن، لم أعد أرى أضواء طنجة.. أصارع أمواج البحر مع ظلمات الليل الحالك.

يا للأسف! هاج البحر، أمواجه تتقاذفني، فأحاول السيطرة على القارب، وأُمسك جيداً بمجدافيه لكن دون جدوى. الأمر أعظم مما كنت أتوقع.. أصبحت في خطر حقيقي، حركات البحر غير عادية، شعرت بالموت يهاجمني من كل جانب وأنا أقاومه وحدي. يا إلهي! يا إلهي! وأخيراً تمكنت من رفع سبابتي نحو السماء فنطقت بالشهادتين، ليضمني البحر في أعماقه بين ذراعيه، ويقول لي: اضطررتُ لأمنعك من السير إلى الجحيم الذي احترق به أسلافك من الأندلسيين والأواخر من المهاجرين الذين هم الآن يحترقون.

قال لي: اسألني! أنا الذي شاهدت مآسي الأندلس، ومحاكم التفتيش، ولا زلت أشاهد معاناة المهاجرين في أوروبا وهم يكتوون بنار الوحدة والغربة، والعنصرية التي يمارسها المستكبرون في الأرض.

ويأبى البحر أن تتكرر مأساة الماضي.


الأدب الإسلامي وعدد خاص عن الرافعي

مجلة الأدب الإسلامي تواصل تألقها باهتماماتها المتوالية بتخليد عمالقة الأدب الإسلامي والتعريف بهم وبجهودهم وتوثيقها وتقويم الباحثين والدارسين لما كتبه هؤلاء العمالقة كالشيخ علي الطنطاوي، وأبو الحسن الندوي. ويأتي العدد (٤٣/٤٤) عن الأديب والشاعر المبدع مصطفى صادق الرافعي؛ حيث تم استكتاب العديد من الباحثين والدارسين عن الرجل وأدبه الرصين والمتميز في جودة الأسلوب والدفاع عن أسلوب وبلاغة القرآن والسنة، والأصالة والتجديد في أدبه وشخصيته ممثلة للأديب والناقد المسلم والمرأة في أدبه، وسيرته وآثاره، وأثر الإسلام في أدبه وشعره، وملامح القصة في أدبه، وغير ذلك من الدراسات المتميزة والتي جمعت خلاصة عشرات الكتب والدراسات المتميزة المؤلفة عنه، وأحسب أن هذا العدد يغني عن الكثير منها، ولا يغني ما كتب فيه عما ألف حوله لسبب واحد هو أن الدراسات والمقالات جاءت مركزة ومبسطة وقريبة المتناول. جزى الله العاملين على هذه المجلة خيراً حيال ما يقدمونه من جهود متميزة وأعمال مفيدة. وإلى المزيد من عطاءات الأدب الهادف.