للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التطبيع بين الرؤية الإسرائيلية ومتغيرات الواقع]

محمد أبو رمان

كان مفهوم «المقاطعة» هو المعتمد على النطاق الرسمي العربي سابقاً، لكن بعد توقيع بعض الدول العربية معاهدات سلام مع إسرائيل، وإقامة الكثير من هذه الدول علاقات علنية أو سرية مع الكيان الصهيوني، تبنّت القوى السياسية في العالم العربي ـ المعارِضة لمعاهدات السلام ـ مصطلح «مقاومة التطبيع» لبناء سد منيع ضد الاختراق الصهيوني للمجتمعات العربية، وتحديد العلاقات مع إسرائيل في الإطار الرسمي العربي فقط، وهو الأمر الذي نقل جزءاً رئيساً من المدافعة من حيز العلاقة بين الحكومات العربية وإسرائيل إلى مدافعة بين الحكومات التي وقعت الاتفاقيات، وبين القوى السياسية الشعبية الفاعلة، كما ترتب على ذلك تحول جزء كبير من عملية التطبيع إلى الطابع السري في حالة من التواطؤ بين بعض الحكومات العربية وإسرائيل.

على الجانب الآخر فقد مرت الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية لعملية التطبيع في عدة مراحل تاريخية، كانت كل منها تشكل انعكاساً لطبيعة الظروف التاريخية ـ السياسية وموازين القوى القائمة؛ ففي حين كان التطبيع قبل اتفاق كامب ديفيد ١٩٧٨م «سرياً» مع بعض الأطراف العربية، والهدف منه إحداث اختراق داخل النخب السياسية العربية، فإن اتفاق كامب ديفيد يشكل مرحلة انتقالية دخل فيها التطبيع الرسمي مع إسرائيل المرحلة العلنية، لكنه بقي تطبيعاً محدوداً وسلاماً بارداً، وفي الثمانينيات كانت النظرة الإسرائيلية للتطبيع تتمثل في الجانب الاقتصادي، أما التسعينيات؛ فقد ظهرت معالم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تبناه حزب العمل الإسرائيلي، في حين عاد الزخم والدفع الدولي باتجاه التطبيع اليوم من خلال تواطؤ رسمي عربي لإرضاء الولايات المتحدة، ولتخفيف الضغوط للقيام بإصلاحات داخلية. إلا أن الرؤية الإسرائيلية ـ الأمريكية للتطبيع اليوم تقوم على تغيير البنية الثقافية العربية لتصبح مهيأة لتقبل الهيمنة الإسرائيلية، بينما تتمثل خطورة التطبيع مع إسرائيل ـ في هذه الفترة الحرجة ـ في أنه يستند إلى تعزيز وتفعيل التناقضات السياسية والثقافية العربية، وهو الأمر الذي يجعل من هذه التناقضات حاكماً في العلاقات العربية ـ العربية، ويتخذ من إسرائيل حليفاً وصديقاً للعديد من الأطراف التي ستطغى خلافاتها مع الدول الأخرى على خلافاتها مع إسرائيل.

ü كامب ديفيد مفتاح التطبيع العلني:

على الرغم من قيام علاقات سرية عربية ـ إسرائيلية قبيل وبعد قيام الكيان الصهيوني، بل وفي ذروة الصراع بين الطرفين إلاّ أن معاهدة كامب ديفيد الموقعة بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨م تمثل المفتاح الرئيس الذي بدأت معه محاولات التطبيع العلنية الرسمية، وتضمنت المعاهدة إقامة علاقات طبيعية وودية بين الطرفين، لكن «خبرة كامب ديفيد» لم تكن مشجعة لقادة إسرائيل؛ إذ بقيت حالة الممانعة قائمة في المجتمع المصري ضد تطبيع العلاقات، وبقي المزاج الشعبي معادياً لإسرائيل، وهو الأمر الذي دفع إلى مناقشة الموضوع بجدية داخل الكيان الصهيوني وصوغ رؤى ومقاربة للتغلب على هذه الحالة التي وصفت بـ «السلام البارد» . من هنا بدأ الحديث داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية الأمريكية والإسرائيلية عن عملية بناء الثقة المتبادلة بين الشعوب العربية والإسرائيليين، واستعار السياسي والكاتب الأمريكي المخضرم (سنايدرز) مصطلح «الجدران الأخرى» ـ من خطاب للسادات ـ ويقصد بها الجدران النفسية والثقافية والذهنية التي تمنع كلا الطرفين من تقبل الآخر والثقة به، ووفقاً لهذه الرؤية: بدون هدم هذه الجدران فلن يكون للسلام استقرار في الشرق الأوسط.

انطلاقاً من الإدراك السابق سعت مؤسسات صهيونية وأمريكية لدراسة سبل تطبيع العلاقات بين الشعوب العربية وإسرائيل، حتى لا يبقى الأمر في إطار علاقات مع دول محدودة علناً ومع العديد من الحكومات سراً. في هذا السياق نشر ثلاثة أكاديميين إسرائيليين عام ١٩٨٣م بحثاً بعنوان «اقتصاديات صنع السلام» ، وخلاصته أن التفاعلات الاقتصادية: كالتجارة، والاستثمار، وحركة البشر، والبضائع، والخدمات تشكل المضمون الملموس للسلام، وبدون ذلك سيبقى السلام خاوياً وحالة هشة، في الإمكان تهميشها بسهولة. والهدف من إقامة العلاقات الاقتصادية: هو نقل العلاقات بين الطرفين من «نظام التهديد» إلى «نظام التبادل» أو من «توازن الرعب» إلى «توازن الازدهار» ، ولحق بهذا البحث جملة من دراسات وأبحاث صدر أغلبها عن صندوق «آرمند همر» للتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط (وهو مؤسسة تابعة لجامعة تل أبيب، تأسست على أثر اتفاقية كامب ديفيد) ، وقد انطلقت كل تلك الدراسات والأبحاث من تصور واحد وهو أن «الاقتصاد» يمثل حجر الأساس لأي مشروع سلام مستقر ودائم بين العرب وإسرائيل، وأن العمل والأرباح والمصالح المتبادلة على أرض الواقع ستشكل دافعاً حيوياً لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمحيط العربي.

ü التطبيع والشرق الأوسط الجديد:

لقد عبّرت الدراسات السابقة عن جوهر الرؤية الإسرائيلية للتطبيع في مرحلة الثمانينيات من القرن المنصرم؛ إذ بدأت عملية التمهيد لاتفاقيات السلام المحتملة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، إلا أن هذه الرؤية تطورت مع بداية عقد التسعينيات؛ إذ شهد النظام الإقليمي العربي تصدعاً كبيراً جرّاء حرب الخليج الأولى عام١٩٩٠م، وتبدت حالة الضعف هذه في ولوج دول الطوق العربي إلى مفاوضات السلام من خلال بوابة مدريد عام ١٩٩١م، والتي تمخضت عن معاهدات جديدة: أوسلو ١٩٩٣م مع منظمة التحرير الفلسطينية، ووادي عربة ١٩٩٤م مع الأردن، وتضمنت كلا المعاهدتين بنوداً خاصة بتطبيع العلاقات من خلال التنسيق والتعاون الأمني والاقتصادي وإزالة الحواجز التي تحول دون تحقيق عملية التطبيع. لقد كانت الفائدة الرئيسة لإسرائيل من خبرة «كامب ديفيد» هي أن القيمة الحقيقية لمعاهدات السلام تتمثل بتطبيع العلاقات مع الشعوب العربية.

انعكس تطور الرؤية الإسرائيلية للتطبيع من خلال المشروع الذي نضج في مراكز ومؤسسات حزب العمل الإسرائيلي، وساهمت في تطويره مؤسسات اقتصادية وفكرية أمريكية، وتبنته العديد من الدول العربية؛ وقد انتقلت فكرة التطبيع من إقامة علاقات اقتصادية إلى مشروع كامل يقوم على إقامة نظام إقليمي يؤدي إلى إدماج إسرائيل بالمنطقة، ويستند إلى مجموعة كبيرة من التفاعلات والنشاطات المتشابكة والمصالح المشتركة. في هذا السياق صدرت وثيقة عن جامعة هارفارد (١٩٩٣م) تتبنى إقامة عدة مشاريع تساهم في تطوير وتوثيق العلاقات بين الجانبين العربي والإسرائيلي كمشروع إقامة ما يشبه الـ «ريفييرا» على البحر الأحمر، وإقامة مشروع البحرين والعديد من مشاريع البنية التحتية.

ويمكن قراءة الصيغة الناجزة للمشروع الإقليمي للسلام والتطبيع في دراسة شمعون بيريس بعنوان «الشرق الأوسط الجديد» التي تقدم معالم هذا النظام الإقليمي، والذي يمر بمراحل تبدأ بإقامة شبكة علاقات متكاملة وبنية تحتية قوية بين الأردن وإسرائيل وفلسطين، ومن ثم توسعة دائرة العلاقات لتشمل مختلف الدول العربية، ويستند هذا المشروع «الطموح» إلى فرضية رئيسة وهي أن إقامة هذه العلاقات والمصالح هي الرابط الرئيس بين البشر في الدول العربية وإسرائيل، وهو الأمر الذي يجعل من أي محاولة لتخريب السلام تقابل بالرفض والمقاومة من قِبَل الأعداد الكبيرة من البشر المرتبطين بهذه المشاريع المشتركة، ووفقاً لهذه الرؤية فإن مصدر التهديد لكل من إسرائيل والدول العربية سيتمثل بالقوى والدول المعادية للسلام، وتقوم رؤية (بيريس) على الانتقال من مفهوم إسرائيل الكبرى «جغرافياً» إلى «إسرائيل العظمى» من خلال الهيمنة على المنطقة العربية؛ إذ يعتقد (بيريس) أنه يمثل تفوق العقل الصهيوني على العقل العربي، وهو الأمر الذي للأسف انجرَّ وراءه العديد من القادة والمثقفين العرب، فنادوا بالاستفادة من الحداثة والتفوق الإسرائيلي، في هذا السياق يعتبر (بيريس) أن التكامل الاقتصادي بين إسرائيل والدول العربية المحيطة يقوم على أن إسرائيل تمتلك العقل والإبداع والخليج يمتلك المال ومصر والعرب الآخرون يمتلكون الأيدي العاملة.

كان «الشرق الأوسط الجديد» يهدف إلى بناء روافع كبيرة ومتينة للتطبيع من خلال خطوات رئيسة؛ أولها الاعتراف بإسرائيل والقبول بها في المنطقة، وإنشاء شبكة علاقات تحمي السلام، بما في ذلك إقامة تعاون أمني واسع النطاق. وعلى الرغم من نجاح بيريس وحزبه في خلق قناعات عامة ـ حتى داخل الأوساط العربية المؤيدة لعملية التسوية والتطبيع ـ فإن مصدر التهديد والخطر الرئيس يتمثل بالقوى والدول الرافضة للتسوية السلمية بصيغتها القائمة، وفي مقدمة هذه القوى الحركات الإسلامية. إلا أن تغاضي بيريس عن القوى المتطرفة الإسرائيلية لم يكن عملياً؛ إذ سرعان ما اغتال أحد المتطرفين زعيم حزب العمل ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، وهو الأمر الذي دفع بيريس نفسه ـ بعد أن تولى رئاسة الوزراء ـ إلى المماطلة بتنفيذ اتفاق أوسلو، والتباطؤ في الخطوات والاستحقاقات المترتبة على الجانب الإسرائيلي إلى أن جمدت عملية السلام، وتبخرت تدريجياً طموحات بيريس وحزبه والديمقراطيين الأمريكيين والحكومات العربية المتحمسة لأفكار الشرق الأوسط الجديد، ثم بدأت عملية الانتكاس الحقيقي مع وصول الليكود إلى الحكم، ولم يسعف رجوع باراك وحزب العمل إلى السلطة ـ مرة أخرى ـ عملية السلام إلى أن عاد شارون، ودفع بالعملية السلمية إلى مربع إعادة النظر في الاتفاقيات التي وقعت، وتجميد استحقاقاتها على الجانب الإسرائيلي.

خلال ذلك مرت عملية التطبيع بسنين عجاف؛ إذ تعالى الصوت العربي الرافض للتسوية، والمطالب بدعم الانتفاضة وازدادت قوة حركة ممانعة التطبيع، وتوارى المطبعون العرب عن الأنظار. إلا أن عملية التطبيع السرية بدعم من الحكومات العربية بقيت مستمرة، وظل الجانب الرسمي العربي في العديد من الدول، خاصة مصر والأردن مصرّاً على التطبيع ولو سراً، كما وُقعت اتفاقيات اقتصادية وتجارية شكلت معبراً غير معلن للبضائع والمنتجات الإسرائيلية إلى المحيط العربي، وقد شهد التطبيع السري ازدهاراً غير مسبوق في الفترة التي تلت سقوط بغداد، وهو الأمر الذي يؤشر إلى أن السياسة الإسرائيلية بخصوص التطبيع كانت تتجه إلى أن يكون جزءاً كبيراً منه سرياً في السنوات الأخيرة. ويمكن في هذا السياق الاطلاع على بعض الأرقام التي تبين حجم التطبيع على الجانب الأردني في فترة التراجع في مسار التسوية، على الرغم من القرار الرسمي العربي بتجميد العلاقات مع إسرائيل؛ فقد نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية (الصادرة ١/٤/٢٠٠٤م) أن هناك شركات إسرائيلية تعمل على تحويل البضائع الإسرائيلية إلى معبر الشيخ حسين ومنه لشركات أردنية تتولى بدورها تصديرها إلى العراق ـ بعد أن تكون قد أزالت أية إشارة إلى مصدر البضائع الحقيقي ـ وتدّعي الصحيفة أنه تم تحويل ما يقارب ٤٠ مليون دولار بهذه الطريقة عام ٢٠٠٣م، كما أنّ هناك ما بين ٧٠ إلى ١٠٠ شركة إسرائيلية تسوق منتجاتها في السوق المدنية العراقية، كما تشير إحصائيات (معهد التصدير الإسرائيلي) إلى أن الصادرات الإسرائيلية إلى الدول العربية ارتفعت في الأشهر التسعة الأولى من عام ٢٠٠٤م بنسبة ٥٣%، في نفسها الفترة ارتفعت إلى الأردن بنسبة ٦٣% لتبلغ ١٠٠.٧ مليون دولار، أما دول الخليج؛ فقد ارتفعت الصادرات الإسرائيلية إليها بنسبة ١٤٣%.

وسواء كان في المعلومات التي قدمها (معهد التصدير الإسرائيلي) مبالغة أم لا؛ فإن ما يدعو للأسف أنّه من الصعوبة إغفال عمليات التطبيع السري الجارية على قدم وساق في كثير من الدول العربية، ولم يمنع استمرار هذه العمليات التوقف في مسيرة السلام، في حين يشير خالد الناشف (الباحث الفلسطيني) في دراسته المتميزة «الاختراق الصهيوني للعراق» (منشورات اتحاد الكتاب العرب عام ٢٠٠٥م) إلى جزء كبير من عمليات الاختراق الصهيوني للعراق، والتي ارتبطت بمختلف جوانب الحياة الاقتصادية والثقافية والأمنية.

ü تحالف المحافظين الجدد والليكود والتطبيع المطلوب:

لقد وصلت عملية السلام إلى طريق مسدود مع مفاوضات (كامب ديفيد ٢) ؛ وودع كلينتون البيت الأبيض بخيبة أمل كبيرة لعدم قدرته على إرغام عرفات على القبول بعرض باراك، وهو الأمر الذي دفع بالتسوية مرة أخرى إلى الوراء، ثم جاء المحافظون الجدد إلى البيت الأبيض، وتمثلت سياستهم تجاه الشرق الأوسط ـ في البداية ـ بما وصفه (محمد خالد الأزعر) بسياسة «الانغماس الحذر» ، والتي تقوم على انتقاد أساسي، وجهته المؤسسات البحثية والكُتَّاب المؤيدون للمحافظين الجدد لسياسة إدارة كلينتون لتورطها بتفاصيل المفاوضات، وعدم قدرتها على إقناع الأطراف الرئيسة بالوصول إلى الحل النهائي، وهو الأمر الذي أضعف من هيبة واحترام أمريكا في الشرق الأوسط، ولذلك امتنعت الإدارة الجديدة عن الولوج إلى التفاصيل والاكتفاء بالإدارة العامة للعملية، إلا أن هذه السياسة سرعان ما تلاشت مع أحداث أيلول ٢٠٠١م، والتي أعادت الجميع مرة أخرى إلى التفكير في القضية الفلسطينية وبسبل حلها، لكن الحل الأمريكي ارتبط ـ هذه المرة ـ بتغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة لصالح الكيان الصهيوني؛ لخلق شروط جديدة تدفع بالفلسطينيين والعرب للقبول بشروط أقل من السابق.

استُؤنِفت محادثات السلام مرة أخرى بعد سقوط بغداد وعلى أثر وفاة عرفات، ودخل الفلسطينيون المفاوضات بشروط أصعب من السابق في ظل ضغوط أمريكية شديدة على الحكومات العربية؛ لإجراء إصلاحات داخلية، وهو الأمر الذي حاولت كثير من الدول العربية الهروب منه من خلال تقديم تنازلات في مجال التطبيع مع إسرائيل سعياً إلى تخفيف الضغوط الداخلية عليها. وفي هذا السياق من انهيار النظام الإقليمي العربي يمكن أن تقرأ المبادرة الأردنية لتفعيل عملية السلام التي قدمت إلى قمة الجزائر الأخيرة، ويمكن أن تُفهم ـ كذلك ـ تصريحات سيلفان شالوم ـ وزير الخارجية الإسرائيلي ـ بأن الفترة القريبة القادمة ستشهد تطبيعاً بين إسرائيل وبين عشرة دول عربية، ويبدو أن الرائد لا يكذب أهله.

في حين أن التطبيع المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً اليوم له مقتضيات مختلفة عن مشروع بيريس ـ وإن كان هناك اشتراك كبير في الأهداف ـ فهناك قناعة لدى الجانبين الإسرائيلي والأميركي بأن من يقف في وجه التطبيع هي القوى الإسلامية التي تحشد الرأي العام، وتعبئ الشارع ضد التطبيع، وتجعل المطبعين نُخُباً معزولة داخل المجتمعات العربية؛ لذلك فلا بد في البداية من إصلاح ثقافي وتعليمي يمنع توظيف الإسلام في مقاومة التطبيع، ويلغي مصادر العداء في الكتب المدرسية، ويقوم هذا الجانب على خلق قناعات بثقافة الهزيمة بدعوى عدم القدرة على مواجهة المشروع الصهيوني والأمريكي، وعبثية الدخول في المواجهة.

كما يستند التطبيع الثقافي على الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية ومجتمعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة. أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام ١٩٩٣م إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل في حين بدأت مشاركة الأردن فيه بعد التوقيع على اتفاق السلام مع إسرائيل عام ١٩٩٤م.

من جانب آخر يقوم التطبيع الحالي على دفع وضغط أمريكي على الدول العربية للمضي قدماً بمشروع التطبيع وإقامة العلاقات مع إسرائيل، سعياً لاستثمار الفرصة التاريخية التي يترنح بها النظام العربي تحت وطأة انقساماته وأزماته البنيوية وأوضاعه الاقتصادية، والسياسية الهشة.

في المحصلة؛ لا يمكن إنكار تحقيق اختراقات إسرائيلية في المجتمعات العربية بتواطؤ من العديد من الحكومات، بشكل كبير منذ سقوط بغداد، ولا يمكن ـ كذلك ـ تجاهل موازين القوى، والشروط التي تدفع بالقوى العربية والإسلامية المقاومة للتطبيع إلى الخلف؛ لكن بالتأكيد فإن أي اختراق أو نجاح لن يكون إلا مؤقتاً أو سطحياً؛ لأنك تستطيع تغيير السياسات في أي لحظة لكن من الصعوبة بمكان تغيير الثقافات إلا من خلال عملية متراكمة ومتدرجة. أما إذا ارتبطت هذه الثقافة بدين وتاريخ ومشاعر، وقوى ثقافية واجتماعية، وبقيمة العدل فإن هذه الثقافة ستكون راسخة ثابتة فيمكن قمعها لفترة معينة، لكن لا يمكن إلغاؤها مهما كان الاختلال بموازين القوى.

(*) كاتب أردني، مدير الدراسات في صحيفة الغد اليومية