للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البكاء على البابا الكاثوليك!!

أ. د. محمد يحيى

انشغلت العديد من الهيئات والشخصيات الإسلامية بإصدار بيانات النعي لبابا الفاتيكان السابق (جون بول الثاني) ، ووصل بعضها في ذلك إلى حد المبالغة الممقوتة والإسراف في إظهار مشاعر الأسى الألم، وربما يفتقر ذلك إذا عرفنا أن مبعثه تهافت تلك الهيئات الناعية على إظهار مدى تسامحها، في أعين الغرب الذي أصبح الآن يرفع عصا الاتهامات بالتطرف والتشدد على كل المسلمين

ويفرض على كل من يتحدث باسم الإسلام، أو يرفع لواءه بالحق أو بالباطل، أن يدافع عن نفسه طيلة الوقت، ويتفنن في إظهار أنه غير متشدد أو متطرف، حتى ولو وصل في ذلك إلى حد السخف والمبالغة، ومما يلاحظ أن هؤلاء الناعين للبابا على الجانب الإسلامي سارعوا في طي نعيهم، وبيانات الأسف إلى نقل وتكرار ما قيل في الغرب عن هذا البابا أنه رجل السلام والمحبة، وداعية التآلف بين الشعوب، وحامل همّ الإنسانية، والمبشر بالحوار بين الأديان، ناسين أو متناسين أن البابا كان هو الداعي الأكبر للتنصير بين المسلمين، وحتى بين أبناء الطوائف المسيحية نفسها؛ حيث اشتركت بعض الكنائس الأرثوذكسية في شرق أوروبا في أن الكنيسة الكاثوليكية تسعى لتحويل أتباعها من مذهبهم إلى المذهب الكاثوليكي، كما استغل أجواء الفوضى والدمار التي تسببها الحروب والكوارث الإنسانية؛ لكي يعمل على إخراج المسلمين من دينهم وهم وسط أمواج من المحن والبلاء والفقر، بل ويعمل على استغلال ضرب الحكومات العلمانية في الدول الإسلامية للدعوة الإسلامية، ويزكي هذه النشاطات لكي ينتزع المسلمين من عقيدتهم، وليس في هذا التنصير المفروض بقوة السلاح وقوة القمع والاستعمار، واستغلال المحن وأي شيء يلمح إلى محبة الإنسانية والحوار مع الآخر وهو ما لا يدعو إلى الافتخار من جانب المسلمين.

وهكذا فإن الذين دبَّجوا بيانات النعي المذكورة كشفوا عن طابع الزيف والاصطناع والمجاملة فيها عندما لم يكلفوا أنفسهم عناء محاولة وضع أي تقييم موضوعي لهذا البابا وأفكاره وأعماله، بل سارعوا إلى نقل وتكرار الدعاية عنه من تمجيد مسرف بين أبناء جلدته في الغرب، وهم محقون في تفاخرهم به، حتى إلى حد الغلو والمبالغة؛ لأنه خدم مصالحهم وأهدافهم بجانب مصالح كنيسته وديانته، لكن لا يحق للمسلمين الذين وقعت عليهم عواقب أفكار وسياسات البابا أن يصدروا أو تصدر باسمهم بيانات النعي تحمل تمجيد هذا البابا، وتصفه بأوصاف؛ بينما كانت أعماله ضد الإسلام هي على النقيض منها تماماً. خذ من تلك الأوصاف مثلاً: الحديث عن البابا بوصفة رجلاً للسلام العالمي، والمحبة بين الشعوب؛ بينما كان البابا وكنيسته الفاعل الأساس والوحيد في فصل تيمور الشرقية في أكبر بلد إسلامي في العالم وهو إندونيسيا! ومن المحزن والمضحك في الوقت نفسه وفي آن واحد أن إندونيسيا وفي إطار حملة التزلف والتودد إلى الغرب، سارعت إلى الإعلان عن رغبتها في طرح اسم أحد الكرادلة في الكنيسة الكاثوليكية بإندونيسيا ليكون هو خليفة البابا، ونسي المسؤولون هناك أن هذه الكنيسة هي التي قسمت بلادهم، وشجعت على الانفصال لأحد أغنى أقاليمها، وجيشت العالم ضدها، كما نسي المسؤولون هناك إن إندونيسيا ليست بلداً نصرانياً، وأن الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية كذلك، لم تنشأ هناك إلا في ركاب الاستعمار الهولندي، ومعه النفوذ الغربي؛ فهي ليست ظاهرة أصيلة في ذلك البلد، بل وافدة تحت ظروف أقل ما يقال فيها إنها ظروف القهر، واستغلال معاناة الشعوب. هذا هو نصيب البابا الراحل وكنيسته من ناحية العمل على السلام والمحبة، وبخاصة في العالم الإسلامي وهو رصيد يضاف إلى أعماله الأخرى المشهورة في زعزعة الأنظمة والحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية وصولاً إلى إسقاط الكتلة الشرقية أوالسوفييتية، بما فتح الباب لضمها إلى الكتلة الغربية، ووضعها تحت السيطرة الاستعمارية الأمريكية، وأوجد معاناة إنسانية هائلة، وفتح الباب كذلك لقوى التعصب والإرهاب الصليبي لتعربد هناك، وتدمر الوجود الإسلامي في آسيا الوسطى وحتى البلقان، ويمتد نصيب وإسهام البابا في «دنيا السلام والمحبة» إلى قارة أمريكا الجنوبية والوسطى؛ حيث تمادى تيار الفكر المناصر لقضايا الشعوب في وجه النهب والسلب الاستعماري، وهو التيار الذي يعرف باسم (لاهوت التحرير) ، مما أدى إلى قيام أنظمة متسلطة قمعية عملت على ضرب الحركات الشعبية، وأفسحت المجال أمام النفوذ الأمريكي المباشر للدخول إلى تلك البلدان، وإخضاعها لصالح وغايات الولايات المتحدة.

ومن المفارقة أن هذا الضرب من جانب البابا لتيار لاهوت التحرير أدى إلى تدفق البعثات التنصيرية الأمريكية إلى بلدان أمريكا الجنوبية والوسطى؛ حيث أخذت تتعدى على أتباع الكنائس الأخرى لجذبهم إلى الطائفة الكاثوليكية، وذكرت أنباء في الإعلام الغربي في معرض تحليل وفاة البابا إلى أنه في السنوات العشر الأخيرة تمكنت تلك الجماعات، والكنائس التنصيرية الأمريكية والبروتستانتية في اجتذاب حوالي أربعة وعشرين مليون كاثوليكي إلى صفوفها.

أما عن الحوار النصراني الإسلامي الذي ذكرت بيانات النص في الجانب الإسلامي على أنه من مآثر البابا الراحل، وإنجازاته فهو كما أثبتت الأحداث لم يكن أكثر من مجرد تحرك دعائي هدفه وضع المسلمين موضع الدفاع والتراجع، وإلهاؤهم عن أي محاولة تصدٍّ لهذه الهجمة أو نشر عقيدتهم ودعوتهم. بل تجاوز الأمر هذا الحد حينما تحول هذا الحوار المزعوم إلى وسيلة لإدخال وفرض مفاهيم نصرانية كنسية على العقيدة الإسلامية، وتجنيد عدد من الداخلين إلى هذا الحوار من الطرف الإسلامي، ليصبحوا دعاة للصليبية في الوسط الإسلامي. وكان ملحوظاً أن هذه المجموعة بالذات من المنحازين إلى الطروحات الصليبية من أعلى الأصوات تباكياً على البابا الراحل، وتذكيراً بأمجاده المزعومة، ودعوة إلى مواصلة ذلك الحوار الذي استفادوا هم بالذات منه مادياً ومعنوياً، ومما يؤسف له أن الفترة الماضية شهدت وفاة العديد من أعلام الفقه والفكر الإسلامي، ومنهم أئمة أعلام، ولكن لم يتحرك كثير من وسائل الإعلام المحلي ولا كثير من الحكومات ولا النخب إلى مجرد ذكر أخبار وفاتهم ولا نقل نعيهم أو التذكير بأمجادهم ومآثرهم العلمية، لكن هذه الأعمال كانت تصب في صالح الإسلام، وهو ما لا يحب أحد أن يذكره ولا تصب في صالح الصليبية الغربية التي يبدو أن الجميع الآن يعمل في خدمتها إلى حد المشاركة بأعلى أصوات النواح والعويل والبكاء في مآتمها.


(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب جامعة القاهرة.